بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال المصنف -رحمنا الله وإياه:
الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [سورة القصص:52-55].
يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمـَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [سورة آل عمران:199]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً [سورة الإسراء:107]، وقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى... إلى قوله: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:82، 83].
قال سعيد بن جبير: نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي ﷺ قرأ عليهم يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [سورة يس:1، 2] حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلموا، ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ يعني: من قبل هذا القرآن كنا مسلمين، أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ الآية، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا ذكر أن ذلك يرجع إلى القرآن هُم بِهِ أي: بالقرآن يؤمنون، والآيات التي أوردها في هذا تشهد لما قال، وكذلك القرينة في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ فالضمائر هنا ترجع إلى شيء واحد وهو القرآن.
وقوله: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ يعني من قبل القرآن، ومن أهل العلم من يقول: إن قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ أي: محمد ﷺ، ولا شك أن بين القولين ملازمة، فالقرآن إنما أوحي به إلى محمد ﷺ ولكن إذا أردنا التحديد فإن في الآية ما يدل على أن المراد القرآن، فذلك قرينة مرجحة إضافة إلى قاعدة أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، هذا أولى من أن يقال: إن الضمير الأول يرجع إلى النبي ﷺ، وبقية الضمائر ترجع إلى القرآن، بالإضافة إلى الآيات التي أوردها الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
قال الله تعالى: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا أي: هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم الثاني، ولهذا قال: بِمَا صَبَرُوا أي: على اتباع الحق، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس، وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة، فأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها فتزوجها[1].
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله ﷺ يوم الفتح، فقال قولاً حسناً جميلاً، وقال فيما قال: من أسلم من أهل الكتابيْن فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره وله ما لنا وعليه ما علينا[2].
هذه الآيات جاء في أسباب النزول أنها نازلة في عشرة من اليهود أتوا النبي ﷺ وآمنوا به، فعيرهم قومهم، وعابوهم، واستهزءوا بهم، فنزلت هذه الآيات، وأما ما ذكره هنا عن سعيد بن جبير -رحمه الله- من أنها نزلت في سبعين من القسيسين فهذا من قبيل المرسل، وهو نوع من الضعيف.
وقوله -تبارك وتعالى: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا يعني: يضاعف لهم الأجر فإيمانهم بكتابهم الأول، وإيمانهم بالنبي ﷺ، وما يحتف بذلك من الصبر العظيم الذي يتطلبه هذا المقام، فكان ذلك سبباً لمضاعفة الأجر، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: بِمَا صَبَرُوا "أي: علي اتباع الحق فإن تجشم مثل هذا شديد علي النفوس"؛ وذلك من جهة أن مفارقة المألوفات وما نشأ عليه الإنسان وتلقفه وتلقاه أمر يشق عليه، ومفارقة الدين أعظم من مفارقة الأهل والوطن والعشيرة، بالإضافة إلى أن مخالفة الناس لاشك أنها شاقة وتتطلب صبراً عظيماً إضافة إلى أمور أخرى لا تخفى على متأمل.
والشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله- في كتابه "التنكيل" في القسم المتعلق بالعقائد -الذي أفرد بعنوان: "القائد إلى تصحيح العقائد"- ذكر كلاماً نفيساً في هذا الموضوع خلاصته: يعني فيما يتعلق بالأهواء التي تكون في النفوس، ومفارقة الإنسان ما كان عليه، أبو طالب أبى أن يؤمن، خشي المسبّة والعيب، وأن يقال: ترك دين الآباء والأجداد، فيقول: إن مثل هذا له تعلق بهوى النفوس، وذلك أنه من جهةٍ يرى أن اتباع النبي ﷺ تغيير للدين، وذلك يعني ضمناً الاعتراف بأنه كان على باطل، وهذا أمر شاق، أضف إلى ذلك أن هذا يلزم منه أن يكون ما مضى من أيامه وحياته وسنيّ عمره على باطل، وأن ما كان يدعو إليه ويشتغل بنصرته، ويبذل من أجله كل مستطاع أن ذلك كان في نصرة الباطل، وأن ذلك يلزم منه أن قومه وأهله وعشيرته أنهم على باطل، فهذه لوازم.
فإذا وجد مع هذا هوًى آخر كأن يحسد هذا الذي بيَّن له الحق فإن ذلك يمنعه أيضاً كما قال الله : حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ اليهود، فهو حينما يذعن له، ويقر بما جاء به، فهذا إقرار له بالفضل، وهذا لا يحصل لكل النفوس، ولا تقوى عليه النفوس التي لم تروض فيصعب عليها غاية الصعوبة؛ لأنه يعتقد أن هذا أفضل منه، بل إن ذلك سيرجعه إلى الوراء كما يقال إلى المربع الأول؛ لأن الهوى من جهةٍ قد يحركه باعتبار أن له منزلة ومكانة عند قومه، أو أتباعاً فإذا أذعن وآمن بالحق طار ذلك وصار كالهباء، فيرجع إلى مقوماته الحقيقية مبتدئ مسلم جديد، كل الأوهام السابقة كاهن، قسيس، راهب إلى آخره كل ذلك ذهب، أتباع أموال تعطى له ولايات كل هذه ذهبت، رجع إلى حجمه الطبيعي، لا أتباع، ولا مناصب، ولا أموال، وإنما منزلته بقدر إيمانه، وبقدر ما يحسنه، فيحتاج أن يتفقه في الدين الجديد ويتعلم، وأن يروض نفسه على طاعة الله، وطاعة رسول الله ﷺ، وهذه أمور شاقة، وسيبدأ طريقاً جديداً الآن وطويلاً، فهو يقول: بعضهم أو منهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة فتذهب هذه الشهرة، وتذهب هذه المعيشة التي كانت في الباطل.
فالحاصل أن هذه من ألوان المشقات التي تحصل لمن أراد أن يتبع الحق ويترك ما كان عليه من الباطل، وكلامه جيد حري بالمراجعة والنظر والتأمل، وكان مما قال: يكون الإنسان أحياناً يقرر مسألة ويحررها تقريراً يعجبه ويظن أنه قد أحسن سبكها وحبكها والاحتجاج لها ثم بعد ذلك يبدو له أمر يقدح في بعض ما قال، فيشق ذلك عليه، فكيف لو كان هذا الوارد أو القادح جاء من غيره؟ كيف لو كان قد أعلن هذا القول ثم بعد ذلك جاء الاعتراض من غيره؟ كيف لو كان المعترض ممن يكرهه؟
فهذا صعب علي نفس الإنسان، فهؤلاء من أهل الكتاب مثلاً الأمر بالنسبة إليهم أصعب مما كان عليه أهل الإشراك؛ لأن أهل الكتاب قد تشبعوا من كونهم أهل كتاب، وأهل علم، وأهل معرفة في الدين، والمشركون إنما كانوا يتطفلون عليهم بتلمس الأسئلة، والمعارضات والمطالبات التي يطالبون بها النبي ﷺ، ودائما المقدمة: أنتم أهل كتاب أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، ثم بعد ذلك يذهب هذا جميعاً ويقرون لرجل من غيرهم رجل من العرب، وهم يحتقرون العرب، ويرون أنهم لا شيء أُمة جاهلة أمية أهل إشراك عبدة أوثان، ويذهب كل هذا التراث الضخم كل ذلك، فيتبعون هذا الرجل الأمي، وهم يعتقدون أنهم صفوة الله من خلقه، هذا أمر شاق على النفوس.
وكلما كانت المشقة في اتباع الحق أكثر من غير أن تتطلب لها قصداً كان الأجر أعظم، ومن هنا كان لهؤلاء الأجر مرتين، ولكن ذلك لا يختص بهم فهنا قول النبي ﷺ: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، وذكر الرجل من أهل الكتاب وقال: وعبد مملوك أدى حق الله، وحق مواليه، ورجل كان له أمة فأدبها إلى آخره، بقي غير هؤلاء، فإن ذكر الثلاثة لا يدل على الحصر، وقد دلت الأدلة على أن غيرهم يؤتون أجرهم مرتين مثل أزواج النبي ﷺ: وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [سورة الأحزاب:31]، وكما أنه ذكر في المقابل: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [سورة الأحزاب:30]، والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق فله أجران[3]، وهناك أعمال أخرى.
قوله: وَيَدْرَءُونَ يعنى يدفعون، بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ الحافظ -رحمه الله- فسرها بأن ذلك يتصل بالأخلاق فلا يقابلون الإساءة بمثلها، وهذا يشهد له ما جاء في كتاب الله -تبارك وتعالى- كقوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [سورة المؤمنون:96]، وكذلك وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة فصلت:34]، وما جاء من الحث على العفو والصبر والصفح وما إلى ذلك.
ومن أهل العلم من يقول: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أن المقصود بِالْحَسَنَةِ هنا الطاعة، والسَّيِّئَةَ المعصية، كما قال النبي ﷺ: وأتبع السيئة الحسنة تمحها[4]، فهم يدفعون السيئة بالحسنة كما قال الله -تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [سورة هود:114]، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله: أن المقصود بـالسَّيِّئَةَ المعصية وبِالْحَسَنَةِ الطاعة، وهذا تحتمله الآية.
وبعضهم يقول: السَّيِّئَةَ المعصية، وبِالْحَسَنَةِ التوبة، وهذا أخص مما قاله ابن جرير، ومن سبقه من السلف ، أخص يعني أولئك يقولون: "الحسنة" الطاعة، فيدخل فيه التوبة بلا شك، وهؤلاء يخصون ذلك بالتوبة والاستغفار من المعصية، وبعضهم: يخصص السيئة والحسنة بنوع من الطاعة، والمعصية، فيقول: إن السيئة هي الشرك، والحسنة هي التوحيد والإيمان، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ الإشراك، وهذا إذا قلنا بأن الحسنة هي الطاعة والسيئة هي المعصية فيصلح أن يكون هذا وما قبله أعني أن السَّيِّئَةَ المعصية، والتوبة هي الحسنة التوبة والاستغفار أن يكون ذلك من قبيل التفسير بالمثال، وإذا قررنا هذا المعني في الأصل وقلنا الحسنة هي الطاعة، والسيئة هي المعصية فيكون ما بعده من قبيل التفسير بالمثال كقول من يقول: إن الحسنة هي التوبة والاستغفار والسيئة هي المعصية، أو الحسنة هي التوحيد والسيئة هي الشرك، هذا لون مما يدخل تحت الحسنة، والسيئة فذكر أعظمها، فتصير الأقوال بعد ذلك منحصرة في قولين:
الأول: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يعني السيئة هي المعاملة السيئة والإساءة التي تصدر تجاههم من قبل الآخرين، والحسنة هي الإحسان إلى هؤلاء الناس، والعفو عنهم في مقابل إساءتهم ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
والقول الثاني: أن المقصود الطاعة والمعصية، ولعل الأول أقرب -والله تعالى أعلم؛ لأن شواهد القرآن تدل على الغالب في هذا الباب المتكرر وهو ما ذكرت من الحث على مقابلة السيئة بالحسنة، والمسيء بالإحسان، فالآيات التي ذكرها الله في هذا السياق أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنـَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، هذه تشبه الآيات التي ذكرها الله في الأخلاق مثل ما جاء في سورة الفرقان: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [سورة الفرقان:63]، وكذلك وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [سورة الفرقان:72] فهنا ذكر مثل هذه الأوصاف، والله تعالى أعلم.
إذا كانت "من" تبعيضية فيعني أنهم لا ينفقون كل ما رزقهم الله ، وإنما ينفقون منه، ويحتمل أن تكون بيانية، فإذا قيل: إنها تبعيضية كما في سورة البقرة وفي غيرها مواضع كثيرة في كتاب الله : وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فأهل العلم يتكلمون في هذه المسألة عند هذه الآيات في مسألة الإنفاق هل يشرع للإنسان أن ينفق ماله كله أو أنه ينفق بعضه؟
وهنا قال: وَمِمَّا فمدحم بهذا أنهم ينفقون "مما" إذا قلنا إنها تبعيضية، لم يمدحهم بإنفاق جميع المال، والرجل الذي جاء للنبي ﷺ بماله، قطعة من الذهب يريد أن يتصدق بها فأعرض عنه، ثم تعرض للنبي ﷺ نفسه، ثم أعرض عنه إلى أن أخذها كالمغضب أو نحو ذلك، وعلل ذلك بأن الرجل يأتي بماله كله ثم يتكفف الناس، وفي المقابل قبل النبي ﷺ من أبي بكر أن يتصدق بماله ثم قال: ما تركتَ لأهلك؟، قال: تركت لهم الله ورسوله ﷺ[5]، وقبل من عمر أن يأتي بنصف ماله[6]، ولما سأله سعد في مرضه الذي كان يظن أن يموت فيه قال له النبي ﷺ: الثلث والثلث كثير[7].
وأحسن ما قيل في هذا -والله تعالى أعلم- هو ما ذكره الشاطبي -رحمه الله- في "الموافقات" من أن ذلك يختلف باختلاف الناس فمن كان عنده من اليقين كما عند أبي بكر ونحوه ذلك بحيث إنه إذا أنفق ماله ثقته بالله عظيمة ولا ينظر إلى الناس، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم ولا يلتفت قلبه لهم فهذا لا إشكال أن ينفق ماله، ومن كان دون ذلك فلا يحسن منه، وإنما ينفق بعضه، والله تعالى أعلم.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ بعدما قال: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فإذا فُسرت السيئة بإساءة الناس إليهم كما قال: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ يعني بالسفه، ما هو إذا خاطبوهم وقالوا: يا فلان أين المكان الفلاني؟ أو سألوهم عن شيء أو نحو ذلك قالوا لهم: سَلامًا، ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود إذا خاطبوهم بالسفه بما لا يليق من الكلام قالوا لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ يعني اللغو الباطل، ويدخل فيه دخولاً أولياً ما فسرت الآية قبله به، وهو قوله: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ يعني يقابلون إساءة المسيء بالإحسان وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُسمعوا كلاماً لا يليق وُجه إليهم أعرضوا عنه كأنهم لم يسمعوه:
ولقد أمرُّ على السفيه يسبُّني | فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني |
وبعضهم لما سبه سفيه وشتمه لم يرد عليه فقال: إياك أعني، أي بهذا الشتم والسب فقال: وعنك أعرض، أو جاء ذلك بأسلوب الحصر يعني ما أعني غيرك بهذا الكلام، قال: وأنا ما أعرض عن غيرك، فهذه أخلاق عالية لأنك لا تستطيع أن تؤدب الناس وأن تربي كل أحد، فهؤلاء السفهاء الذين قد يحتف الإنسان ببعضهم حينما تعرض عنه يمر، وحينما تريد أن تقف معه لترد عليه أو تؤدبه أو لتعلمه أو نحو ذلك فإنك قد لا تسلم منه ولا من شره، هؤلاء مثل السباع تجوب فإذا تركته سلمت منه، ولكن إذا أردت أن تؤدب كل أحد من هؤلاء الذين تراهم في الطريق، وتراهم في كل مكان، وفي الأسواق وقد تلقوا تربية مختلفة، ويعيشون في بيئة أخرى لا يتورع من كلام، ولا من سباب، ولا من فعال قبيحة هي تربيته هكذا، ويرى أن هذا من الرجولة والشجاعة والمروءة، وأن هذه هي المكارم فمثل هذا لا تستطيع أن تقف معه، وإنما تُعرض لأنك لن تستطيع إذا دخلت الوحل أن تسلم من لوثته، لا تستطيع أبداً.
فهنا قال: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم، بل كما قال تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم يعنى هم أَعْرَضُوا عَنْهُ بمعنى لا يقف عند هذا اللغو ويبتعد وينأى بنفسه ولا يجلس في أماكن يقال فيها الباطل ويُستهزأ فيها بآيات الله ، ويزعم بعد ذلك أنه ينكرها بقلبه، هذا لا يجوز، وإنما يعرض عن هذا كله.
فهذا اللغو يدخل فيه إساءة المسيء، وما يصدر منه من باطل وكلام قبيح، ويدخل فيه ما يصدق عليه أنه لغو من ألوان الباطل فإنه لا يعاشر أهله، ولا يجالسهم، ولا يخالطهم حال لغوهم، يتنزه عن هذا، فهو من جهةٍ يبتعد عن إقرار المنكر بالجلوس مع أهله هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو تنزه وترفع عن الباطل، وكما قيل الطبع لص، الطبع سراق، ولا يستطيع أحد أن يقول: أنا لا أتأثر، فإن الإنسان قد يكون فيه شيء من الأخلاق والدماثة أو الحياء، ثم ما يلبث بعد معاشرة بعض أهل الفجور أن يكون مجترئاً لا يتورع، ولا يتنزه من شيء، تتغير طريقته في الكلام وأسلوبه في الخطاب باعتبار من يعاشرهم، وقد يحصل هذا أيضا بلون آخر من الجراءة، قد تصدر من بعض الخيرين -بعض الأخيار- فإن الناس يتفاوتون في هذا، يتفاوتون في ما هم عليه من ضبط اللسان.
فمن الناس من يتوسع في الكلام لربما يخوض في أمور يستحى من ذكرها في المجالس ونحو هذا، فيحصل توسع فما يلبث بعد مخالطتهم أن يهون عليه ذلك حتى يصير ذلك ديدناً له، وقد يكون ذلك بلون من الصلف والشدة في الكلام، وتجد هذا أيضاً للأسف الشديد حتى في القراءة، فقد يقرأ لعالم أو لبعض طلاب العلم في أسلوبه شيء من الصلف والشدة على المخالفين فتجد بعض العبارات غير لائقة، بل حتى العناوين.
عالم يكتب رداً على عالم آخر بكتاب يستحي الإنسان من ذكر اسمه، "العروج بالفروج" هذا عنوان كتاب لعالم، عالم!! في البداية أراد أن يتقرب إليه لعله يحصل على بعض الصلات؛ لأن ذاك عنده مال وثراء، متزوج من امرأة ثرية جداً، فلعله يحصل منه على بعض الصلات، وهذا الراغب صاحب بدعة على عقيدة ماتريدية، وذاك عقيدته عقيدة سلفية، فهو يريد أن يتقرب إليه، لعله يحصل له بعض الصلات، ذاك ما كان يردُّ عليه أصلا ولا علي خطاباته أبدا فغاظه فتسلط عليه بالردود، وكان أحد الكتب التي رد بها عليه بهذا العنوان "العروج بالفروج"، وهذا الكتاب أستحى أن يكون معروضاً في مكتبتي، فكيف استطاع أن يكتب هذا العنوان؟
وكتاب آخر بعنوان "الكلب العاوي" الرد على فلان كذا، الرد على عالم معاصر لا نتفق معه، ونختلف معه في أشياء كثيرة لكن ما وصلت الأمور إلى هذا الحد، والذي يقرأ مثل هذا يتأثر لابد، فالأسلوب مؤثر، والذي يقرأ مثلا للشاطبي كثيراً يظهر هذا في أسلوبه، قد يكون يصعب على المبتدئين فهم ما يقول، فأسلوب الشاطبي رفيع، لا يفهمه كل أحد، والذي يقرأ ويكثر من القراءة لشيخ الإسلام يظهر في أسلوبه أيضاً لا يفهمه كل أحد، والذي يقرأ في كتب الأدب يوجد في كلامه بعض العذوبة، والذي يقرأ في كتب الجفاء يظهر هذا في أسلوبه؛ لأنه قد يدخل عليه ذلك من باب الاقتداء، ما دام قالها فلان ما المانع أن نقولها ولا إشكال؟ فهذه مشكلة في القراءة، وعلى الإنسان أن ينتبه.
ولهذا قد يقرأ كثيراً لبعض العلماء مثل ابن حزم -رحمه الله- بطريقة مناقشة للأقوال والمخالفين فيتأثر بهذا، فإذا تكلم عن مالك وأحمد والشافعي -رحمهم الله- وأمثال هؤلاء تكلم بأسلوب لا يليق أبداً، ولهذا لا يحسن بطالب العلم في بداياته أن يقرأ مثل هذه الكتب؛ لأنه سيتأثر ولابد بمثل هذه الأشياء، فإذا ظهر له ريش وبدأ يحقق أو يؤلف تجد هذا في التعليقات وفي العبارات العنيفة التي توجه للعلماء، ونحن في غنى عن هذا كله، كلمة بدل كلمة، وكلام حسن، وكلام طيب يصل به المقصود يفهم به المراد ولا حاجة إلى الكلمة الصعبة، والكلمة الثقيلة مع الناس جميعا.
وقال هنا: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [سورة الفرقان:72]، وقال: وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، والسلام هنا ليس المقصود به سلام التحية، فربما كان يجلس معه في المجلس نفسه ويقول له: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وإنما المقصود به سلام المتاركة، فكأنه يقول: سلام عليك لا أجاريك فيما أنت فيه، وأمنة لك منى لن تسمع منى شيئاً تكرهه، كما قال أحد السلف لما قال له رجل: "والله لئن قلتَ كلمة لأردن عليك بعشر، فقال له: ولئن قلتَ كلمة -أو قال: إن قلتَ كلمة- فلن تسمع منى نصف كلمة"، أو نحو ذلك، يعني تقول: أرد عليك بعشرة؟ اطمئن أنا لن أرد عليك بنصف كلمة، والله المستعان.
ثم إنه قد يرد سؤال فهنا قال: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ بالرفع، وهناك قال: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63]، بالنصب، ما وجه ذلك في موضع بالرفع وموضع بالنصب؟ وأدق من هذا أن يقال: إن هنا ما ذكره الله على سبيل الحكاية، يعني الله -تبارك وتعالى- ذكر أوصافهم فقال: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، يحكي أخلاقهم، وأوصافهم حكاية، يصفهم بهذه الأوصاف، وهناك وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وهو تعليم منه لأهل الإيمان كيف تكون أخلاقهم وحالهم، فهذا في مقام التعليم، يعلمهم كيف يقولون وكيف يجيبون من أساء إليهم، وهنا في مقام الخبر وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، فهذا الفرق بين المقامين.
إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُوَاْ إِن نّتّبِعِ الْهُدَىَ مَعَكَ نُتَخَطّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رّزْقاً مّن لّدُنّا وَلَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة القصص:56-57].
يقول تعالى لرسوله ﷺ إنك يا محمد لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وقال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وهذه الآية أخص من هذا كله، فإنه قال: إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية.
وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله ﷺ، وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حباً شديداً طبعياً لا شرعياً، فلما حضرته الوفاة وحان أجله، دعاه رسول الله ﷺ إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فسبق القدر فيه واختطف من يده، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة التامة، قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه، وهو المسيب بن حزن المخزومي قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله ﷺ: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله ﷺ: يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله ﷺ: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، وأنزل في أبي طالب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أخرجاه من حديث الزهري[8].
وهذا نقل عليه الإجماعَ بعضُ أهل العلم كالزجاج وغيره أنها نازلة في أبي طالب، ولاشك أن المعنى والعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، فهذه الهداية المقصود بها الهداية التوفيقية، إِنَّكَ لا تَهْدِيلا توفق لا تدخل الهداية في القلوب وأما هداية الإرشاد فهي المثبتة للنبي ﷺ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52].
والمراد بقوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ يعني: من أحببته، وقوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ يعني أنك لا تهدي من أحببت هدايته، فقد يحب هداية فلان ولكنه لا يحبه، قد يحب هدايته لما فيه من البلاء والقوة والعزم والجد والعقل وما إلى ذلك، وهو لا يحبه، قد يكون بينهما خصومة وعداوة فهذا غير المعنى الأول إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ.
وإذا نظرنا إلى سبب النزول فإنه قد اجتمع فيه الأمران النبي ﷺ كان يحب أبا طالب، وكان يحب هدايته أيضاً، وهذه المحبة إذا قلنا: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ يعني أحببته فلا يشكل عليها ما يتعلق به من الولاء والبراء ومحبة الكافر، فهذه المحبة الطبيعية التي تكون بين الناس كمحبة الرجل لولده، الوالد لولده، ومحبة الولد لوالده، ومحبة الرجل لزوجته، وما إلى ذلك، ويتضح هذا بأن الله أباح التزوج من الكتابية مثلا وهي كافرة، وإذا تزوجها فغالباً أنه سيحبها فهذه المحبة غير الموالاة، فالموالاة قدر زائد على المحبة، فالكفار بجميع أصنافهم لا تجوز موالاتهم ولا مودتهم لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ... [سورة المجادلة:22] فذاك في الموادة وهي من الموالاة، وهناك فرق بين هذا وهذا، والله تعالى أعلم.
وقوله: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا يقول تعالى مخبرًا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله ﷺ: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أي: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا مَنْ حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، فقال الله تعالى مجيبا لهم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يعني: هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل؛ لأن الله جعلهم في بلد أمين، وحَرَمٍ معظّم آمن منذ وُضع، فكيف يكون هذا الحرم آمناً في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنًا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟
وقوله: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ أي: من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره، وكذلك المتاجر والأمتعة رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا أي: من عندنا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلهذا قالوا ما قالوا.
قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا التخطف هو الانتزاع بسرعة، يعني أن الناس سيرمون معاً قوساً واحدة ويعادوننا ويحاربوننا، ونكون هدفاً لهم نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا فالله -تبارك وتعالى- رد عليهم بهذا الرد البليغ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا، وهذا لا يختص بهؤلاء الذين خاطبهم الله بذلك، وإنما هو في كل زمان أن الله -تبارك وتعالى- جعل حرماً آمناً ويتخطف الناس من حوله؟! فاتباع الحق لا يزيد أهله إلا أمناً وقوة وثباتاً، والله -تبارك وتعالى- يدفع عنهم كيد عدوهم لا كما قد يتوهمه من قل يقينه وضعفت بصيرته أن اتباع الحق سيؤلب عليهم الأعداء فيتخطفون من أرضهم، فهذه القضية رد عليها القرآن، والأمور بيد الله -تبارك وتعالى، ونواصي الخلق بيده، وهم تحت قبضته فاتباع شرعه وطاعته وطاعة رسوله ﷺ هي سبب للتمكين، وليست سبباً للتخطف والهزيمة، فالله لا يخذل أولياءه، وعدهم بالنصر والظفر، والتمكين في الأرض، ووعْده حق لا يتخلف، ولكن ذلك قد يتخلف لوجود مانع أو لفقد شرط، والله المستعان.
وقوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، ثم قال: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ هذا يقال له: العموم الاستعمالي كما يسميه الشاطبي -رحمه الله، يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ، وهذا كقوله: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23]، و"كل" تعد من أقوى صيغ العموم، بل هي أقوى صيغ العموم مع أن ملكة سبأ ما كان عندها كل ما في الدنيا، وأقرب ذلك أنها لم تؤتَ ملك سليمان -عليه الصلاة والسلام، ولكن العرب تفهم من مثل هذا أنه إنما يتوجه لما يصلح لمثله، فأُوتيت من كل شيء مما يصلح لمثلها، ما يكون به إقامة ملكها.
وهنا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مما جرت العادة به، مما حول مكة من الطائف ونحوها، فالحرم جعله الله في أرض ليست محلا للزرع وإنما في وادٍ غير ذي زرع، وفي هذا حكمة ربما يتصل ذلك أو بعضه بالتجرد لله بالنية حيث يقصد الناس بلداً لا زرع فيه وليس محلا من المحال التي يطلبها الناس أو يقصدها الناس للبهجة وحسن منظرها أو نحو ذلك، وإنما هي جبال سوداء، يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مما جرت به العادة وإلا فكثير من الثمار في الدنيا لم تكن تجبى إليه في ذلك الوقت في مشارق الأرض ومغاربها، فهذا يفهم بهذا الاعتبار.
وكذلك قوله -تبارك وتعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [سورة الأحقاف:25] مع أنها لم تدمر الجبال ولا السماوات ولا الأرض، إنما تدمر كل شيء مما سيقت لتدميره، والعرب تفهم هذا، فيسمونه العموم الاستعمالي ولا حاجة لأن يقال: إنه مخصوص بالعقل أو بالحس أو نحو ذلك، ما في حاجة فتبقى العمومات على حالها، وذلك أقوى لأدلة الكتاب والسنة؛ لأنهم يقولون: إن المخصصات تضعف الدليل، تضعف العام إذا ورد عليه التخصيص، ومن ثَمّ فإن أهل الكلام يوهنون نصوص الوحي بجملة من الأمور هذا واحد منها، فلجئوا إلى العقل وقالوا: إنه المعتمد المعول عليه في الاعتقاد؛ لأن ذلك يعد من الدلائل القطعية، وإن العقائد لا يصح الاستدلال عليها بدليل ظني، والذي جعل نصوص الكتاب والسنة ظنية جملة من الأمور التي طعنوا بها في الأدلة هذا واحد منها، وتجد ذلك في كتب أصول الفقه كثيراً.
قوله -تبارك وتعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا البطر أصله الطغيان عند النعمة، وقوله: بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا بعضهم كالزجاج يقول: أي بطرت في معيشتها، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فلما حذفت "في" تعدى الفعل بنفسه بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً [سورة الأعراف:155]، يعنى اختار من قومه سبعين رجلاً، اختار موسى قومه، وبعضهم يقول: إن ذلك منصوب على التفسير، أي أنه تفسير لما قبله بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا كما في قوله -تبارك وتعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ [سورة البقرة:130]، فيكون ذلك تفسيراً لما قبله، هذا يقوله الفراء.
ولهذا قال: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا أي: دَثَرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم.
المراد بالقليل في قوله: لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا بعض المفسرين يقول: أي أنها صارت خرابًا خالية من السكان، فلم يُسكن منها إلا القليل بعدهم، يعني أن ذلك يرجع إلى المساكن التي لم تسكن إلا قليلاً من المساكن، هذا المعنى، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم يقول: المقصود بالقليل هو ما قد يحصل من سكنى بعض المارة المجتازين بها، فعابر السبيل –المسافر- ربما يستريح فيها بعض الوقت، لَمْ تُسْكَنْ يعني إلا مثل هذه الأوقات القليلة، وبعضهم يقول: لشؤمها أو لشؤم أهلها فإن من سكنها بعدهم لم يبقَ فيها إلا القليل، يعنى يهلك، وهذا بعيد.
والعرب قد تعبر بالقليل وتقصد به العدم، ولهذا تجد في كتاب الله في مواضع يذكر فيها مثل هذا الاستعمال، كقوله -تبارك وتعالى: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:16]، على خلاف في المراد بذلك التمتيع القليل فبعضهم يقول: لا يمتعون، لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ فإذا جاء القدَر انتهى، فلا تمتيع لهم، ولكن العرب قد تستعمل القليل وتريد به العدم، وتجد هذا في ذكر الله حينما يذكر الكافرين وأوصافهم ونحو ذلك في عقلهم أو في إيمانهم فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155]، فبعضهم يحمله على هذا المعنى، والله تعالى أعلم.
وقوله: وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ أي: رجعت خرابًا ليس فيها أحد.
ثم قال الله تعالى مخبرًا عن عدله، وأنه لا يهلك أحدًا ظالمًا له، وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم، ولهذا قال: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا وهي مكة رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا.
قال هنا: مكة حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا والرسول على قول ابن كثير -رحمه الله- هو النبي ﷺ؛ لأنه خص ذلك بمكة، حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا يعنى مكة، وهذا الذي قاله ابن جرير -رحمه الله- مع أن الآية أعم من ذلك في ظاهرها، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا [سورة القصص:59] فهذا عام في كل القرى، وهو يصدق على مكة، فيصلح أن يكون ذكر مكة من قبيل التفسير بالمثال؛ لأن الآية عامة، والمقصود بـ أُمِّهَا هي القرية الكبرى، يعني القرية في القرآن تطلق على مجمع السكان سواء كان كبيراً أو صغيراً، ليس كالاصطلاح اليوم القرية هي مجمع السكان الصغير مع العمران المحدود، والمدينة هي ما يكون أوسع من ذلك، وأم القرى هي القرية الأكبر أو المدينة الأكبر كما يقال الآن مثلاً: العاصمة.
رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، فيه دلالة على أن النبي الأمي، وهو محمد ﷺ، المبعوث من أم القرى، رسول إلى جميع القرى، من عرب وأعجام، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [سورة الشورى:7].
وقد يؤخذ من هذا فائدة في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- أن الجهود الدعوية وكبار العلماء وكبار المصلحين الأولى أن يكونوا في العواصم التي تكون مرجعا لغيرها فتبلغ دعوتهم الآفاق، وتبلغ ما لا تبلغه دعوة من غيرهم، وهذا أمر مشاهد إلى يومنا هذا، وهذا أمر له تعلق بأشياء أخرى نفسية، فإن أهل النواحي الأخرى والقرى والأرياف وما إلى ذلك ينظرون إلى أهل العواصم أهل العاصمة على أنهم أكثر تطورا وتمدنا، وتحضرا، ينظرون إليهم بشيء من الإكبار، كل شيء جاء من العاصمة فهو له بريق.
ولهذا تجد حتى في المحاكاة غالباً حينما تنظر إلى قضية التبرج مثلا عند النساء، واللباس، والتبذل فيه وما إلى ذلك، تجد أن النساء في زماننا هذا في الأرياف لربما يتبجحن بالسفور والتبرج بطريقة ممجوجة مخالفة للذوق كل ذلك لربما لمحاكاة أهل المدنية، وأهل المدن الكبار ونحو ذلك بطريقة لربما أولئك لا يجرءون عليها، فتجد هؤلاء أكثر سفوراً وتبرجاً فيما نسمع، وقد سمعت هذا كثيراً في نواحٍ أن ما يعانونه من التبذل في اللباس في الأعراس والمناسبات من النساء خلاعة، وتكشف أعظم مما يوجد في المدن الكبيرة، وذلك كأنه شعور بالنقص يحاولون تعويضه بهذه الطريقة، يظهرون بصورة ملفتة، وقل مثل ذلك في نظرة هؤلاء الناس من أهل النواحي والأرياف والقرى إلى من يأتي من العاصمة ينظرون إليه بأنه أكثر منهم تحضراً ومدنية، ولو كان في الواقع أقل منهم، ولو كان في الواقع في حال من الفقر والمسكنة والضعف، لكن هؤلاء أهل العاصمة! هذا موجود.
ومثل هذه الأشياء والدراسات يُحتاج إليها في الدعوة إلى الله والتعليم وما إلى ذلك، وإن كان هذا خارجاً عما نحن فيه ولكن بعض الأشياء لا بأس أن يُلفت النظر إليها تسأل أحياناً في بعض البلاد ما هي المعاهد والكليات والجامعات القوية التي يكون لمن تخرج منها أثر في بلادكم؟ لكن الملفت للنظر أن أول شيء عندهم هو العاصمة، الجامعات التي في العاصمة الناس الذين جاءوا من العاصمة، هؤلاء ينظر إليهم نظرة أخرى وهذا يعتز بالشهادة التي حصل عليها من العاصمة، بخلاف الشهادة التي أخذها من فرع، أو كلية في ناحية أخرى، لربما يكون ينظر إليها بشيء من الإغماض، فهو لا يراها ترقى إلى مستوى يفتخر ويعتز به.
وهكذا الذين يأتونهم من العاصمة من الدعاة وأهل العلم ونحو ذلك ينظرون إليهم بإكبار، فكيف بأم القرى مكة ومن يأتي منها، وهكذا؟ والناس ينظرون إلى من جاء من مكة أو المدنية على أنه ملك تنزل عليهم من فوق، من السماوات، وقد تسمع من يقول: أنتم ملائكة، كبار السن والشباب، وأنتم ملائكة جئتم إلينا، وتوجد معاهد كبيرة قد تضم ثلاثين ألف طالب، فيقولون: أرسلوا إلينا طالباً في الثانوية في الأجازة؛ ليرفع من معنوياتنا كثيراً، ونشعر أن واحداً من أحفاد الصحابة موجود بيننا، لا يدرس ولا يقدم شيئاً إطلاقاً أهم شيء يجلس معنا، ولا يقصدون بهذا التبرك وإنما لرفع المعنويات، ولو أقيمت دورة علمية لأحد العرب يأتيه الطلاب من كل ناحية، وقد يشترط فيقول: أريد من كل معهد مثلاً الأول والثاني أو الثلاثة الأوائل، أو أريد أبرز الدعاة، يقولون: لكن إذا كان أهل البلد لا يجتمع عليه الناس، ولو فعّلنا برامج وأقمنا دورات.
أما الذين يذهبون للفجور فهؤلاء يهدمون كثيرا ويسيئون إلى أنفسهم وإلى غيرهم، وإلى دينهم، لكن الناس يتصورن هذا: أننا أولاد الصحابة، والله المستعان، فقوله -تبارك وتعالى: حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا هذا مهم في تقديم الدعوة، وتقديم العلم، وتعليم الناس، وإقامة الجامعات والبرامج العلمية القوية التي تستهدف النخبة مثلاً الأولى بها أن تكون في العاصمة، قد تكون المصلحة في غير هذا، ولا يترك أهل النواحي، لا يقام لهم، لا جامعات، فحينما نريد أن نقيم برامج نوعية، أو كبار العلماء كبار الدعاة إلى الله الأولى أن يكونوا في العواصم يقصدهم الناس، ولكثرة من يرد إليها مع تنقلهم في غيرها، والله أعلم.
هذا مثل قضية بعث الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من أهل القرى لم يبعث من البوادي، والرسل -عليهم الصلاة والسلام- كلهم لم يكن فيهم أحد من أهل البادية، وإنما كانوا من أهل القرى، وهذا له تعلق بطبيعة الإنسان، وطبيعة التعامل، وما يحصل في البوادي من أثر البيئة ونحو ذلك ما قد يكون سبباً لتنفير الناس، والدعوة تحتاج إلى تألف وشيء من اللباقة، والله أعلم.
وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158]، وقال: لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [سورة الأنعام:19]، وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17]، وتمام الدليل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا... الآية [سورة الإسراء:58]، فأخبر أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة، وقد قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15].
فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى؛ لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها، وثبت في الصحيحين عنه -صلوات الله وسلامه عليه- أنه قال: بعثت إلى الأحمر والأسود[9]، ولهذا ختم به النبوة والرسالة، فلا نبي بعده ولا رسول، بل شرعُه باقٍ بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: أَفَلا يَعْقِلُونَ أي: أفلا يعقل مَنْ يقدم الدنيا على الآخرة؟.
وقوله: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ يقول: أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح أعماله من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة، كمَنْ هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده، فهو ممتع في الحياة الدنيا أيامًا قلائل، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ قال مجاهد، وقتادة: من المعذبين.
ثم قد قيل: إنها نزلت في رسول الله ﷺ وفي أبي جهل، وقيل: في حمزة وعلي وأبي جهل، وكلاهما عن مجاهد، والظاهر أنها عامة، وهذا كقوله تعالى إخبارا عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه، وهو في الدرجات وذاك في الدركات: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [سورة الصافات:57]، وقال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [سورة الصافات:158].
فقوله: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ليس المقصود للحساب أو للنشور أو نحو ذلك، وإنما للعذاب ولهذا فسرها ابن جرير -رحمه الله- بهذا: يعني المُشهَدين عذاب الله وأليم عقابه، لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ والقرآن يفسر بعضه بعضا، وهذه الآية -وكثير في كتاب الله تؤخذ منها أصول ثابتة كقوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا اتباع الحق لا يمكن أن يحصل معه التخطف، وكذلك هنا أيضا في قوله -تبارك وتعالى: ومَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هذا أصل عام.
وهذا قد يقال فيه: القواعد القرآنية أمور ثابتة مقررة من الله -تبارك وتعالى- لا تتخلف أحكامها، كل ما آتيناهم من هذا العرَض الزائل فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، والمتاع –كاسمه- يزول، يتمتع به الإنسان مدة ثم يزول، والعبرة في هذا ظاهرة، ولا يحتاج إلى تطويل مهما يسكن الإنسان، وخذوا هذه قاعدة في الحياة الدنيا: مهما يلبس من اللباس، ومهما يركب من المراكب، ومهما يسكن من القصور والدور الجميلة الأنيقة وما أشبه ذلك عما قليل تتحول بهجته، ويذهب رونقه، فلا يُلفت نظره، ولا يُشبع نهمته، وتتطلع نفسه إلى غيره، هذا في اللباس والمراكب، وفي المحال التي يألفها حتى أماكن العمل، أو قد يعمل في بناء فخم مَن قصده لربما يتصاغر نفسه، ويحصل في قلبه من المهابة لمَن بداخله ونحو ذلك، ولكن إذا اعتاده الإنسان وألفه لا يسترعي انتباهه.
وقد تنظر إلى لوحة جميلة تعجبك أو حزمة من الزهور أو نحو ذلك في حوض من الأحواض تعجبك وتأسرك حتى تشتريها وما هي إلا أيام ثم بعد ذلك لا تنظر إليها، ولربما علق الإنسان في بيته قصيدة أو أشياء تتعلق بالسيرة أو نحو ذلك في برواز تعب في إعدادها أو في جلبها أو في تزيينها أو نحو ذلك ثم بعد ذلك لا تُقرأ، ولا تلفت النظر وكأنها غير موجودة، ولكن أول ما وضعها هو يرمقها وينظر إليها وتشده، فهذه الأشياء لربما تمتد إليها النفس وينظر إليها الإنسان من قصور ونحو ذلك، ويظن أن أهلها يعيشون في حال من الغبطة، لا، ليس كذلك، وقد يغتبط الإنسان في أول الأيام لكن بعد هذا يألف ما يشاهده وتزهد فيه نفسه -وهذه قاعدة- ثم يزول ويذهب ويتلاشى.
وكل ما تجده من متاع بالٍ أو من مركبٍ لربما يترفع عنه الإنسان أو يأنف من ركوبه كان في يوم من الأيام يتطلع إليه كثير من الناس ولا يحصله إلا الواحد بعد الواحد حتى صار إلى حال يزهد فيه أقل الناس مالاً، وهذا أمر مشاهد، فلا يغتر الإنسان بما فيها ولا تشغله، ولهذا هذا المعنى الذي ذكره الله في قوله: أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
هذا أصل كبير في قياس الأمور فكثيراً ما يقول الناس: هؤلاء الكفار عندهم بلاد خضراء، وأجواء جميلة، وأمطار ونحن كل مره نستسقي، وأجواء صحراوية، وغبار، وجفاف وأرض قاحلة، حر شديد، وبرد شديد، وأولئك عندهم كل شيء والحياة عندهم مرتبة بكل شيء، قطارات بلا سائقين تمشي بدقة، وقطارات تحت الأرض، وقطارات تسير بسرعة عالية جداً كأنها طائرات، وكل شيء في الحياة مرتب ومنظم، وكل الخدمات بكل بساطة تصلك إلى بيتك، وعن طريق البريد تستطيع أن توصل في يوم واحد ما تريد، لا تحتاج أن تراجع دوائر حكومية، ولا تقف في طوابير، ولا تأخذ رقماً ولا تحتاج شيئاً من هذا إطلاقاً، حياة مرفهة، وكل شيء موفر لكن أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أهل الإيمان الله وعدهم بالآخرة كما قال النبي ﷺ لما ذكر له عمر فارس والروم وما هم فيه من النعيم، والنبي ﷺ ينام على حصير فيؤثر في جنبه: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟[11] أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فقد يتمتع الإنسان في هذه الحياة سبعين سنة بما فيها من المنغصات وظلمة القلب والصدر التي تعصف بهم فيلجئون إلى الموت والانتحار والقلق والكآبة على هذا الترفيه، والذين يعيشون في رفاهية لو وضعوا في بيئة صحراوية فإنه سيموت ربعهم من الحر، وثلاثة أرباعهم الباقية من الاكتئاب، فتستريح منهم البلاد والعباد أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنـْيَا، ثم تقابل الخمسين سنة أو السبعين سنة مع ما فيها من الأكدار والتنغيص وظلمة الصدر بنعيم بلا عد ولا انتهاء، وهناك شجرة في الجنة يسير الراكب تحت ظلها مائة عام لا يقطعها، فالكرة الأرضية بهذا المقياس ما تأتي ثمرة صغيرة معلقة في هذه الشجرة، والأمطار التي تنزل عليهم والبيوت التي يسكنونها، والطرق النظيفة الجميلة والقطارات إلى آخره بمقابل ما أعده الله لأهل الإيمان، وأصحابُ البصيرة ما ينخدعون بهذا إطلاقاً، وإنما ادخر الله لهم الآخرة، نعيم الجنة، وأولائك ينتظرهم شيء لا يمكن للعقل أن يتصوره، هذا التمتيع مثل العلف الذي يعطى للبهيمة وما تدري ماذا ينتظرها بعد أيام، والله المستعان.
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم من أهل الكتابين، برقم (2849)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، برقم (154).
- رواه أحمد في المسند، برقم (22234)، وقال محققوه: صحيح وهذا إسناد ضعيف.
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه، برقم (798).
- رواه الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في معاشرة الناس، برقم (1987)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند، برقم (21354)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير ميمون بن أبي شبيب، فقد روى له مسلم في المقدمة، وهو صدوق حسن الحديث، لكنه لم يسمع من أبي ذر كما قال أبو حاتم وغيره، ثم قد اختلف على سفيان -وهو الثوري- في إسناده كما يأتي"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (97).
- رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب الرخصة في ذلك، برقم (1678)، والترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في مناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كليهما، برقم (3675)، وقال الألباني: حسن، وهو على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في صحيح أبي داود برقم (1472).
- هو الحديث السابق.
- رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، برقم (2591)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1628).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير [سورة القصص، برقم (4494)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة ونسخ جواز الاستغفار للمشركين والدليل على أن من مات على الشرك فهو في أصحاب الجحيم ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل، برقم (24).
- رواه أحمد في المسند، برقم (14264)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2858).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير [سورة الطلاق، برقم (4629)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [سورة التحريم:4]، برقم (1479).