بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنـَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن ْيَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [سورة القصص:62-67].
يقول تعالى مخبرًا عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة، حيث يناديهم فيقول: أَيْنَ شُرَكَائي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، يعني: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا، من الأصنام والأنداد، هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ وهذا على سبيل التقريع والتهديد، كما قال: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:94].
وقوله: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يعني: من الشياطين والمَرَدَة والدعاة إلى الكفر، رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ، فشهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم، ثم تبرءوا من عبادتهم، كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [سورة مريم:81، 82]، وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:5، 6].
وقال الخليل لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [سورة العنكبوت:25]، وقال الله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ... إلى قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:166، 167]، ولهذا قال: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ أي: ليخلصوكم مما أنتم فيه، كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَأي: وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول في قوله -تبارك وتعالى: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يعني من الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر، فهذا جمعٌ من الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بين أقوال السلف في هذه الآية، فبعض أهل العلم يقول: هم الشياطين الذين أضلوهم، وبعضهم يقول: هم الدعاة إلى الكفر الذين قادوهم وأغروهم وأغووهم بالكفر بالله فهذان قولان، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- جمع بينهما.
وابن جرير -رحمه الله- فسر ذلك بالشياطين، فهؤلاء جميعًا شاركوا في إغوائهم يعني شياطين الإنس وشياطين الجن، فهم الذين زينوا لهم الكفر بالله والضلال والانحراف عن الصراط المستقيم، فيتبرءون منهم يوم القيامة ولهذا يقولون: رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ [سورة فصلت:29]، وهم يتمنون الانتقام من هؤلاء، فهذا الجمع من الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جيد، وأولى -والله تعالى أعلم- من ترجيح أحد القولين.
وقوله: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ يقول: "شهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم ثم تبرءوا من عبادتهم"، وأتى بشواهد كعادته -رحمه الله- ففسر القرآن بالقرآن، وقوله ثم تبرءوا من عبادتهم مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ يعني أنهم كانوا يعبدون أهواءهم، فلقد اتخذوا الأهواء آلهة، اتخذوا هواهم إلها يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى- وهذا باعتبار أن "ما" نافية مَا كَانُوا إِيَّانَا، فهم ينفون ذلك أصلا يقولون: ما كانوا يعبدوننا، إذاً عبدوا أهواءهم، اتبعوا أهواءهم، هذا معنى.
وتحتمل الآية أن تكون "ما" مصدرية، يعني تبرأنا إليك من عبادتهم، فتحتمل هذا وهذا، والمتبادر -والله تعالى أعلم- والأقرب إلى السياق أنها نافية، والشواهد التي ذكرها ابن كثير -رحمه الله- في هذا المعنى قد لا تكون قاطعة في حمل الآية على أحد المعنيين، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [سورة مريم:82] سيكفرون بعبادتهم فهذه في العبادة، يكفرون بالعبادة، فإذا قالوا: مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ فهذا كفر منهم بعبادتهم، تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ تبرأنا إليك من عبادتهم، وإذا قلنا: إن "ما" مصدرية فأيضاً كل ذلك تبرؤٌ من عبادتهم.
وهكذا في قوله: وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:5، 6]، فإذا قالوا: إنهم ما عبدونا فهذا كفر منهم بعبادتهم، وإذا قالوا: تبرأنا إليك من عبادتهم فهذا أيضا كفر منهم بعبادتهم، وهكذا في سائر الآيات، والله تعالى أعلم.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول في قوله -تعالى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعـَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ فَوَدُّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا، يتمنون الهداية في الدنيا، يقول كقوله: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا هذا المعنى هو الذي اختاره أيضاً كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- تمنوا لو أنهم حققوا الهداية في الدار الدنيا، وبعض أهل العلم يقول: إن المعنى لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لأنجاهم ذلك ولم يروا العذاب، لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ وأن هناك مقدراً محذوفاً، لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لنفعهم ولأنجاهم، لما حصل لهم هذا الذي رأوه من العذاب، هكذا قال بعض أهل العلم كالزجاج -رحمه الله.
وبعضهم يقول: هناك تقدير وهو: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لما عبدوهم، أو لما دعوهم، وبعضهم يقول: إن التقدير لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لعلموا أن العذاب حق، وبعضهم يقول:لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لوجهٍ من الوجوه التي يدفعون بها عن أنفسهم العذاب لفعلوا، ولو يجدون مخرجا وطريقا يتخلصون فيه من عذاب الله -تبارك وتعالى- لفعلوا، لكن هذا لا يخلو من بُعد -والله تعالى أعلم.
وقيل غير هذا كما يقول بعضهم: قد آن لهم أن يهتدوا لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ، فانظر في هذا كله وفي قول ابن كثير -رحمه الله: "فوَدُّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا"، وهذا لا يبعد -والله تعالى أعلم، ويحتمل أن يكون المعنى غير هذا وهو لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لعرفوا أن ما جاءت به الرسل حق ومن ذلك عبادة الله وتوحيده الذي دُعوا إليه، وما أخبروا به من الحساب والعقاب والجزاء والجنة والنار، لو أنهم كانوا يهتدون، لكنهم أدركوا هذا وعاينوا الحقائق بعد فوات الأوان، والله المستعان.
وقوله: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ النداء الأول عن سؤال التوحيد، وهذا فيه إثبات النبوات: ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم؟ وكيف كان حالكم معهم؟ وهذا كما يُسأل العبد في قبره: مَنْ ربك؟ ومَنْ نبيك؟ وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأما الكافر فيقول: هاه..هاه، لا أدري[1]؛ ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت؛ لأن مَنْ كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا، ولهذا قال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ.
وقال مجاهد: فعميت عليهم الحجج، فهم لا يتساءلون بالأنساب.
وقوله: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أي: في الدنيا، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي: يوم القيامة، و"عسى" من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومَنّه لا محالة.
قوله -تبارك وتعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ، قال مجاهد: فعميت عليهم الحجج، أصله فعموا عن الأنباء، الناس هم الذين يعمون، ولكن يعبر بذلك مبالغة فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ تقول: عميت عليه الأخبار، عمي عليه الخبر، عمّى النبي ﷺ على قريش الخبر، يعني عام الفتح، عمِى عليه الخبر يعني لم يظهر له ولم يهتدِ إليه، والذي عمِي هو في الواقع الإنسان، وهذا استعمال عربي معروف، والقرآن نزل بلغة العرب فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ، فعموا عن الأنباء، العمى أصابهم ولكنه عكس ذلك مبالغة وقال: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ ما قال عميت عليهم الحجج مثلا والبراهين؛ لأن هذه الأشياء التي يتشبثون بها، ويتمسكون بها هي ليست من قبيل الحجج ولا البراهين، إنما سماها أنباء، والأنباء هي الأخبار وإن كانت تطلق على الخبر الذي له خطب وشأن، يعني أخص من مطلق الخبر فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يعني غابت عنهم الحجج، وذهبت واضمحلت فهم لا يتساءلون.
وقوله: فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، أي في الدنيا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي: يوم القيامة، و"عسى" من الله موجبة، كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره، أي متحققة الوقوع؛ لأن أصل معنى عسى أنها تفيد الترجي تقول: عسى أن ينزل المطر، عسى أن يقدم زيد، عسى أن أُفلح في هذا الاختبار وما شابه ذلك، يكون ذلك للترجي، وإنما يحصل الترجي من الذي لا يعلم عواقب الأمور فيكون منه الترجي، أما الله -تبارك وتعالى- فهو عالم بما كان وما يكون، لا يخفى عليه خافية ، فإذا جاءت هذه اللفظة في كلام الله -تبارك وتعالى- من قوله وخبره فإن ذلك لا يُحمل على الترجي، فالترجي لا يكون من الله فأمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن، فإذا صدرت من الله في كلامه لا على سبيل الحكاية عن قول أحد من الناس فإن ذلك يكون بمعنى الشيء المتحقق، معنى واجبة، يعني واجبة التحقق والوقوع.
لكن حينما يذكر الله ذلك عن أحد كقوله مثلا: عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي يعني سواء السبيل فهو يترجى، لكن إذا قال الله : عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً [سورة الممتحنة:7] فهذا للوجوب بمعنى أنه سيتحقق، وحصل هذا، فقد كان أبو سفيان من أشد أعداء النبي ﷺ، وحاربه ثم بعد ذلك تحول إلى الإيمان، وهكذا كبار المشركين عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو العامري، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، والبقية التي بقيت بعد بدر، ونجوا من القتل، كبار المشركين كثير من هؤلاء آمن فتغيرت حاله، وصار يجاهد في سبيل الله، وأبو سفيان هو أول من قاتل المرتدين في مقدمه من اليمن لما مات النبي ﷺ وهو في الطريق، فارتد من ارتد من العرب فلقي ذا الخمار في طريقه وكان قد ارتد عن الإسلام فقاتله، وسهيل بن عمرو هو الذي ثبّت أهل مكة وذكرهم بتأخر إسلامهم وحذرهم من التراجع والردة.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة القصص:68-70].
يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب فقال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ أي: ما يشاء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده، ومرجعها إليه.
وقوله: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ نفي -على أصح القولين، كقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36].
يعني وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، يخلق ما يشاء ويختار مما خلق ما يشاء، يختار لولايته كما يقول ابن جرير، يختار للإيمان، للهداية، يختار من البشر كما يقول ابن القيم -رحمه الله- ما شاء، اختار الرسل، اختار كنانة من ولد إسماعيل مثلاً، واختار قريشًا من كنانة، واختار من قريش بني هاشم، واختار النبي ﷺ من بني هاشم وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ خلق هؤلاء جميعا، واختار هذا الاختيار، وهكذا أيضا اختار من الملائكة رسلا، واختار أيضًا من الناس أهل الإيمان، واختار الرسل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من بين سائر الناس، واختار الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من الأنبياء، واختار أولي العزم من الرسل، واختار محمدًا ﷺ وفضله على سائر الأنبياء والمرسلين.
وهكذا يختار من البقاع: اختار مكة، واختار مِنى، وعرفة ومزدلفة، وكل ذلك قد اختاره الله -تبارك وتعالى- من بين سائر البقاع بأعمال ومقامات وعبادات شريفة، وهكذا أيضا اختار المدينة مهاجَراً لنبيه ﷺ واختار بيت المقدس على غيره من البقاع وما إلى ذلك، فله الخلق وحده، وله الاختيار وحده، ليس لأحد أن يعقب على حكمه.
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القرآن عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:31، 32]، يعني النبوة نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهـُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة الزخرف:32] فهذا كله لله ليس لأحد مع الله اختيار، هذا المعنى فهو اختيار بعد الخلق.
وهنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول في: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ إن "ما" نافية، وهذا هو الصحيح، يعني أنه لما أثبت الاختيار وحده دون ما سواه نفى أن يكون لهم الخيرة، مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، ما كان لهم الاختيار، وبعضهم يقول: إن "ما" هذه موصولة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ الذي فيه الخيرة، ويختار الذي فيه الخيرة هذا القول فيه ضعف -والله تعالى أعلم.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- له كلام في هذا المعنى في أكثر من كتاب نقتصر على واحد منها، حيث قال -رحمه الله: "وليس المراد هاهنا بالاختيار الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار، وهو سبحانه كذلك، ولكن ليس المراد بالاختيار هاهنا: الاجتباء والاصطفاء فهو اختيار بعد الخلق، والاختيار العام اختيار قبل الخلق فهو أعم وأسبق وهذا أخص وهو متأخر، فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق، وأصح القولين أن الوقف التام على قوله: وَيَخْتَارُ ويكون مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ نفيا أي: ليس هذا الاختيار إليهم بل هو إلى الخالق وحده، فكما أنه المنفرد بالخلق فهو المنفرد بالاختيار منه، فليس لأحد أن يخلق، ولا أن يختار سواه، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحالِّ رضاه وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه، وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل إلى أن ما في قوله تعالى: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ موصولة وهي مفعول "ويختار" أي: ويختار الذي لهم الخيرة، وهذا باطل من وجوه:
أحدها: أن الصلة حينئذ تخلو من العائد؛ لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم كان والخبر "لهم"، فيصير المعنى: ويختار الأمر الذي كان الخيرة لهم، وهذا التركيب محال من القول، فإن قيل: يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفاً ويكون التقدير: ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه، أي: ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره، قيل: هذا يفسد من وجه آخر وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد، فإنه إنما يحذف مجرورا إذا جر بحرفٍ جُر الموصولُ بمثله مع اتحاد المعنى، نحو قوله تعالى: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [سورة المؤمنون:33]، ونظائره، ولا يجوز أن يقال: جاءني الذي مررت، ورأيت الذي رغبت ونحوه.
الثاني: أنه لو أريد هذا المعنى لنصب الخيرة، وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول، فكأنه يقول: ويختار ما كان لهم الخيرة أي: الذي كان هو عين الخيرة لهم، وهذا لم يقرأ به أحد ألبته، مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير.
الثالث: أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار وإرادتهم أن تكون الخيرة لهم، ثم ينفي هذا سبحانه عنهم، ويبين تفرده هو بالاختيار، كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القرآن عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بـَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة الزخرف:31، 32]، فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه، وأخبر أن ذلك ليس إليهم، بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومُدد آجالهم، وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح، وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وقسم بينهم معايشهم، ودرجات التفضيل، فهو القاسم ذلك وحده لا غيره"[2] ا.هـ.
فهذا كلام ابن القيم -رحمه الله- يراجَع، فيرى أن "ما" نافية، وأن الوقف يكون تاماً على قوله: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ يعني مما يخلق، ثم نفى وقال: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.
ثم قال: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ أي: يعلم ما تكن الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [سورة الرعد:10].
وقوله: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ أي: هو المنفرد بالإلهية، فلا معبود سواه، كما لا رب يخلق ويختار سواه لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ أي: في جميع ما يفعله هو المحمود عليه، لعدله وحكمته وَلَهُ الْحُكْمُ أي: الذي لا معقب له، لقهره وغلبته وحكمته ورحمته، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: جميعكم يوم القيامة فيجزي كل عامل بعمله، من خير وشر، ولا يخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال.
قوله -تبارك وتعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ يعني: أنه محمود في الدنيا وهو محمود في الآخرة، له الحكم، قدم المعمول على عامله في إفادة الحصر والاختصاص، يعني: له الحكم وحده دون ما سواه، وهذا الحكم يشمل الحكم القدري الكوني، وهذا المناسب هنا للسياق لقوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ، ويدخل فيه أيضا الحكم الشرعي لأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يحكم ويشرع، وليس ذلك لأحد من المخلوقين. أمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّـهُ [سورة الشورى:21]، وقال: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [سورة الكهف:26] في أوائل الكهف، فهذا في الإشراك في حكمه على سبيل النفي والخبر، وعلى سبيل النهي في آخرها وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110].
قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة القصص:71-73].
يقول تعالى ممتنًا على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار، اللذيْن لا قوَامَ لهم بدونهما، وبيّن أنه لو جعلَ الليلَ دائمًا عليهم سرمدًا إلى يوم القيامة لأضرّ ذلك بهم، ولسئمته النفوس وانحصرت منه، ولهذا قال تعالى: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أي: تبصرون به وتستأنسون بسببه، أَفَلا تَسْمَعُونَ.
ثم أخبر أنه لو جعل النهار سرمدًا دائمًا مستمرًّا إلى يوم القيامة لأضرَّ ذلك بهم، ولتعبت الأبدان وكلَّت من كثرة الحركات والأشغال؛ ولهذا قال: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أي: تستريحون من حركاتكم وأشغالكم، أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ أي: بكم جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أي: خلق هذا وهذا لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي: في الليل، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: في النهار بالأسفار والترحال، والحركات والأشغال، وهذا من باب اللف والنشر.
قوله -تبارك وتعالى- هنا سَرْمَدًا السرمد في كلام العرب هو الشيء الدائم المستمر، سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِأي: دائمًا متصلًا لا يزول ولا يتحول، وقوله هنا -وتأمل الآية: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ.
في الأولى قال: أَفَلا تَسْمَعُونَ، وفي الثانية قال: أَفَلا تُبْصِرُونَ ووجه التفريق بينهما أنه قال هنا: أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّـهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامـَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ اللَّـهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ وفي النهار ذكر الإبصار، فسلطان البصر في النهار، وسلطان السمع في الليل، يعني في الليل لا يكون سلطان البصر، وإنما السمع، وفي النهار قال: أَفَلا تُبْصِرُونَ، كما قال في آخر السجدة: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [سورة السجدة:26]، فهم ما أدركوا تلك القرون، وإنما يسمعون أخبارهم أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا وفيما يتعلق بالبصر قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُم ْأَفَلَا يُبْصِرُونَ [سورة السجدة:27] هذه أشياء يشاهدونها في حروثهم وأرضهم وما أشبه ذلك.
وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عند قوله: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله"، الحافظ -رحمه الله- يقول: وهذا من باب اللف والنشر، واللف والنشر أن يأتي بالكلام مجملا ثم بعد ذلك يكون مفصلا، وهو على نوعين: لف ونشر مرتب كهذا المثال، ولف ونشر مشوش يعني يكون فيه تقديم وتأخير فهنا جعل الله الليل والنهار قال: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ فقوله: لِتَسْكُنُوا فِيهِ عائد إلى الليل، وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ عائد إلى النهار، فجاء حكم كل واحد منهما مرتباً بحسب ذكره قبلُ، هذا اسمه لف ونشر مرتب، ذكر الليل والنهار ثم ذكر حكم كل واحد منهما، فجاء بهذه الأحكام مرتبة كترتيب ما قبلها.
وقد يكون مشوشا، وقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكـْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة آل عمران:106]، جاء بالأحكام بعدهما على غير الترتيب الأول تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ لو كان مرتبا لكان ذكر أولاً حكم وحال الذين ابيضت وجوههم ثم ذكر الذين اسودت وجوههم، وهكذا تجد في القرآن هذا وهذا.
وقوله: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار، أو بالنهار استدركه بالليل، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [سورة الفرقان:62]، والآيات في هذا كثيرة.
وأيضا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ من أجل أن تشكروا الله على هذا الإفضال والإنعام حيث جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ [سورة يونس:67]، فيه يكون السكون والظلام فيكون محلا للراحة، وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ليكون محلا للحركة والانتقال وطلب الرزق وما أشبه ذلك، لتقلّب الخلق تقلب العباد في مصالحهم ومعايشهم وأرزاقهم، فهذا كله من نعمه على عباده التي تستوجب شكر المنعِم .
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [سورة القصص:74، 75].
وهذا أيضا نداء ثانٍ على سبيل التقريع والتوبيخ لِمَنْ عبد مع الله إلهًا آخر، يناديهم الرب -تبارك وتعالى- على رءوس الأشهاد فيقول: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي: في الدار الدنيا.
يعني هو نداء ثانٍ باعتبار المعنى، فالنداء الأول كان عن الشركاء، والنداء الثاني مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ وهنا قال: وهذا نداء ثانٍ، أيضا عن الشركاء.
قوله: "يعني رسولا" كما قال الله : فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [سورة النساء:41] فهذا مما يفسر بالقرآن، والنبي ﷺ فهم هذا وبكى -عليه الصلاة والسلام- لما قرأها عليه ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه[3]، فالشهيد هنا يفسر بالرسول، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم يقول: الشهيد يعني المقصود به العُدول من كل أمة يشهدون.
وهنا في هذا المقام -والله تعالى أعلم- مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ فهو واحد يشهد عليهم وهو رسولهم، وإن كانت هذه الأمة شاهدة على سائر الأمم، وأيضا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143]، فالرسل يشهدون على أقوامهم.
فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ أي: على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء، فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي: لا إله غيره، أي: فلم ينطقوا ولم يحيروا جوابا، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أي: ذهبوا فلم ينفعوهم.
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الـْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [سورة القصص:76، 77].
عن ابن عباس قال: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، قال: كان ابن عمه، وهكذا قال إبراهيم النَّخعي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وسماك بن حرب، وقتادة، ومالك بن دينار، وابن جُرَيْج، وغيرهم: أنه كان ابن عم موسى .
قال ابن جُرَيْج: هو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث.
يعني ابن عمه، وهذا الذي قال به كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير -رحمه الله، ومبنى ذلك كله على أخبار بني إسرائيل، وبعضهم يقول: ابن خالته، وبعضهم يقول: كان عمَّه لأنه أخ لعمران، وهذا كله لا دليل عليه، وقول الله -تبارك وتعالى: كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى يعني من بني إسرائيل ولم يكن من الفراعنة، كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وبغيه عليهم: بعضهم يقول: بكفره ونفاقه تحول وتغيرت حاله لما أعطي من هذه الأموال والكنوز فحصل له الطغيان والبغي، فتجاوز حده وحصل منه عدوان، فبعضهم يقول: بكفره، وبعضهم يقول: فَبَغَى عَلَيْهِمْ كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم وآذاهم.
وبعضهم يقول: فَبَغَى عَلَيْهِمْ كما يقول ابن جرير -رحمه الله- وهو ظاهر القرآن -والله تعالى أعلم: إن المقصود فَبَغَى عَلَيْهِمْ يعني حصل منه ظلم وتعدٍّ وطغيان فحصل منه أذية، فتجبر وتكبر عليهم، تغير عليهم صار إلى حال من السوء والترفع والطغيان على قومه، فَبَغَى عَلَيْهِمْ فكلمة البغي لا تدل على مجرد الكبر وحده، وإنما فيها معنى زائد، فالبغي فيه عدوان واصلٌ إلى الآخرين، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [سورة النحل:90] فالبغي من جملة المنكر لكن هو منكر واصل إلى الآخرين فيه أذية للناس، وهنا قال: فَبَغَى عَلَيْهِمْ لكن لا يقال: إن بغيه عليهم هو بمجرد قوله: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي كما يقول بعض المفسرين، وبغى على بني إسرائيل، بغى على قومه إذاً حصل منه عدوان على قومه.
الكنوز ليست مجرد الأموال، أو الأموال مطلقا يقال لها: كنوز، والأصل أن ذلك يقال: للأموال المدخرة، ويطلق كثيرا على الأموال المدفونة تحت الأرض، فالأموال المدخرة يقال لها: كنوز فمعنى ذلك أن الأموال الظاهرة كالإبل والغنم والزروع والحروث وما أشبه ذلك لا يقال لها: كنوز إلا على سبيل التوسع في الكلام.
أي ليُثقِلُ حملُها الفئامَ من الناس لكثرتها لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ تنوء: يعني إذا قام متثاقلا للشيء يقال: ناء به، وبعضهم يقول: يدل على ميلان، قام مائلا متثاقلا في الشيء، فتنوء بالعصبة: يثقل على العصبة، والعصبة الجماعة من الناس يتعصب بعضهم لبعض، بعضهم يقول: من الثلاثة إلى العشرة، وبعضهم يقول: من الخمسة إلى العشرة، وبعضهم يقول: من العشرة إلى الخمسة عشر، وبعضهم يقول: إلى العشرين، وبعضهم يوصل ذلك إلى الأربعين، وبعضهم يقول غير ذلك، ما اتفقوا فيه على معنى، -والله تعالى أعلم، فالمقصود أن الجماعة من الناس ينوءون بها، يُثقلُهم حملُ هذه المفاتيح.
"أغر محجّلا ستين بغلا" هكذا عند ابن جرير وابن أبي حاتم، وأكثر الكتب التي خرجت هذا الأثر على ستين بغلا، وفي الدر المنثور، وبعض من ينقل عنه مثل الشوكاني في فتح القدير سبعين بغلا نقلته من أخبار بني إسرائيل، بل وقيل غير ذلك -والله أعلم.
مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ المفاتح: بعضهم يقول: هو جمع مِفتح بالكسر، جمع مِفتح يعني: مفتاح، فيكون ذلك بمعنى أن المفاتيح لكثرتها وهذا يدل على كثرة الخزائن، وما فيها من الكنوز، المفاتيح لكثرتها تنوء بالعصبة أولي القوة، يعني يثقل حملها على الجماعة من الناس، فإذا كان كذلك فما جاء هنا من أن المفاتيح تحمل على ستين بغلاً فهذا فيه مبالغة -والله تعالى أعلم.
يعني إذا كان يحملها الجماعة من الناس كم من الجماعة من الثلاثة إلى العشرة أو من الخمسة إلى العشرة أو من العشرة إلى الخمسة عشر أو من العشرة إلى العشرين أو يقال: إنهم أربعون أو خمسون، فحينما يثقل عليهم حمل المفاتيح تحمل على ستين بغلاً لا يخلو هذا من مبالغة -والله تعالى أعلم، كما هو حاصل في كثير من الأخبار الإسرائيلية.
لكن بعضهم يقول: هو جمع مِفتح، والمقصود به الخزانة، ولهذا قال طائفة من أهل العلم وعزاه الواحدي لأكثر المفسرين واختاره الزجاج أن المقصود بذلك الخزائن، مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ جمع مِفتح يعني خزائنه لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ، أنها الكنوز هذه لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ، فخزائنه تنوء بالعصبة أولي القوة، ولعل الأول أقرب -والله تعالى أعلم، وهو أن ذلك يرجع إلى المفاتيح جمع مفتح، وبذلك يكون ذكر المفاتح هنا يشعر بضخامة هذه الكنوز، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ.
لكن لو كانت الخزائن تنوء بالعصبة أولي القوة فهذا قد يكون حاصلاً لكثير من الناس أن خزائن الأموال تنوء بالعصبة أولي القوة، عبد الرحمن بن عوف -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- يذكر في ترجمته أنه لما توفي قُطع الذهب بالفئوس بين الورثة، فهذه أشياء كثيرة من الأموال فكون الخزائن تنوء بالعصبة هذا أمر يحصل، يعني في كل عصر لأناس من أهل الثراء، لكن بهذه الصورة أن المفاتيح تنوء بالعصبة تثقل بالعصبة فكيف بالخزائن والكنوز، والله تعالى أعلم.
كثير من عبارات المفسرين التي يُفسَّر بها هذا، واختلفت أقوال العلماء في المقصود بالفرِح في قوله: لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ هل المقصود به ذلك السرور الذي يكون في النفس؟ هل هذا مذموم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ سرور النفس وبهجتها؟ أو أن المقصود به البطر مثلا؟
فالذين فسروه بالبطر أو الكبر أو الخيلاء أو نحو ذلك من العبارات هو من قبيل التفسير باللازم، وليس ذلك هو معنى الفرِح في كلام العرب، ولكن ذلك لا يراد به على سبيل الذم كل فرِح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ؛ لأن الفرَح ثلاثة أنواع: نوع يحبه الله وهو الفرح بالهداية، والفرح بانتصار الإسلام، والفرح بفضل الله ورحمته قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58]، وقال الله -تبارك وتعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ... إلى قوله: يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّـهِ [سورة الروم:1-5]، فهذا أمر يؤجر عليه الإنسان، والله يحبه، فالفرح بهذه الرحمة من هداية ونصر للدين ونحو ذلك.
والنوع الثاني: وهو الفرح المباح كأن يكسب الإنسان في تجارة أو يتخرج من دراسة أو يحصل له شيء من الأمور السارة يتزوج، يرزق بولد فيفرح بهذا، فهذا لا إشكال فيه، وهذا فرح مباح.
والنوع الثالث: وهو الفرح المحرم الذي جاء ذكره هنا على سبيل الذم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وهو الفرح الذي يحمل صاحبه على الأشر والبطر والتعاظم والخيلاء وما أشبه ذلك فهذا فرح مذموم كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، فلربما حمل الثراء الإنسان على شيء من الترفع، والزهو، والتكبر على عباد الله -تبارك وتعالى- فهذا لا زال الناس يقولون عن مثله: فلان فرِحٌ بنفسه، أي مغتر، متعاظم، فيه زهو، فيه كبر فهذا فرَح مذموم، لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ؛ لأنه خرج بهذه الصفة فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ خرج متعاظما في حال من الزهو والخيلاء والكبر، أعجبته نفسه وماله فقيل له ذلك، قال له الصالحون من قومه من بني إسرائيل: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وأكثر ما يقوله السلف هو من قبيل التفسير باللازم لا تبطر وما أشبه ذلك.
هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فتأخذ من ذلك مما أحل الله لك من التمتع بالطيبات من المآكل والمشارب والمناكح وما أشبه ذلك، وبهذا قال الحسن وقتادة، وأكثر المفسرين يقولون: ولا تنس نصيبك من الدنيا فتتزود به لآخرتك، بخلاف قول ابن كثير -رحمه الله، يعني أن تعمل في دنياك لآخرتك، فإن نصيب الإنسان من الدنيا قالوا: هو العمل الصالح هذا العمر الذي هو الأنفاس التي تخرج ولا تعود، والدقائق والثواني والساعات والأيام والشهور والسنوات هذا هو رأس مال الإنسان، وهذا هو نصيبه فيستغل ذلك ويعمل فيه بطاعة الله -تبارك وتعالى، ويتجر حتى لا يقدم على الله إقدام المفاليس، أكثر المفسرين يقولون هذا، وبهذا يقول ابن جرير -رحمه الله- والزجاج وجماعة كثيرة.
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ سخِّرْ هذا المال والعطاء لطلب ما عند الله وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فتصرف الأوقات والجهود والأعمال بطلب مرضاة الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة، هذا قول أكثر المفسرين، والناس كثيراً ما يذكرون هذه الآية محتجين بها على من يرونه يجتهد في طاعة الله بعض الاجتهاد فيثبطونه ويقعدونه عن ذلك بقولهم: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فجعلوا ذلك أصلا حتى على المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- وقال: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ هذا هو الأصل وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا جعلوا القضية معكوسة، فجعلوا الدنيا وإحراز ما جمعه الإنسان فيها والتوسع في طلبها والتهافت عليها والاشتغال بحطامها وتعلق القلب بها إلى الممات وتحول ذلك إلى غاية جعلوه أصلا وجعلوا عبادة الله فرعاً تُعطى فضول الأوقات مع حالة من تفرق القلب وتشوه الذهن مع ما قد يخالط تلك العبادات من نيات فاسدة تشوبها، مع التقصير في القيام بها كما ينبغي، كما أمر الله -تبارك وتعالى- كل ذلك ويحتج بهذه الآية وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فعلى القولين الآية لا حجة فيها على ما يذكرون، والله تعالى أعلم.
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ يعني: أحسن إلى خلقه مطلقا مثلا أو أحسِن بهذا المال الذي أعطاك الله كما يقول ابن جرير -رحمه الله، والمعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- أوسع من هذا كله، ولعله أقرب -والله تعالى أعلم، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أحسن مطلقا، أحسن مع الله، والإحسان مع الله أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأحسِن إلى خلق الله بمالك وغير ذلك مما يحصل به الإحسان، وأول ذلك بالنسبة للمخلوقين هما الوالدان، كما قال الله : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة النساء:36] فيدخل فيه الصلات المالية، ويدخل فيه الإحسان بالمعاشرة والمخالطة، ويدخل فيه الإحسان بالقول والمخاطبة والكلام.
وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ أي: لا تكنْ همتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض، وتسيء إلى خلق الله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [سورة القصص:78].
يقول تعالى مخبرًا عن جواب قارون لقومه، حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي: أنا لا أفتقر إلى ما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه، ولمحبته لي، فتقديره: إنما أُعطيته لعلم الله فيّ أني أهل له.
يعني: عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي على علم من الله باستحقاقي لهذا المال لفضل عندي.
هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو المعنى الذي قال به كثير من المفسرين، ومنهم ابن جرير -رحمه الله: على علم من الله بي أني استحق ذلك، على فضل علم عندي، علمَه الله مني فرضي بذلك عني وفضلني بهذا المال على سائر الناس، وهذا الذي قال به الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ورد على قول من قال: عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي أن الله أعطاني هذا المال على علم مني بوجوه المكاسب وطرق تحصيل المال، يعني بذكائي ومهارتي وحذقي، فجحد نعمة الله عليه، فهذا كله كفر بالنعمة، وعلى التفسيرين يكون كفره أشد، الذي يقول: أنا أوتيته لمعرفتي بوجوه المكاسب وحذقي وخبرتي ودرايتي بالاقتصاد، وهذا قال به جماعة من المفسرين عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي: المعرفة بوجوه الكسب.
يعني الآن يقول: إن هذه قرينة تدل على هذا التفسير، ويقول: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي: أن الله علم استحقاقي لهذا ففضلني به، فهذا لمنزلتي عنده -تبارك وتعالى، فيقول: إن الله رد عليه بأنه قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه، فلو كان العطاء يدل على الرضا وأن هذا الإنسان يستحق هذا العطاء، وأن ذلك يدل على التفضيل لمَا أهلك الله قبله مِن القرون مَن هو أشد منه قوة وأكثر جمعا، فهذه تكون قرينة على هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله، وذكره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
يعني يدل على أن هذا التفضيل بالمال دليل على محبة الله للإنسان، ولهذا يقولون: كيف يكون الكفار كفاراً ومع ذلك تنزل عليهم أمطار، وبلادهم ما شاء الله خضراء جميلة، وجوهم جميل، ونحن في جدب، وفي كل شهر أو أقل نصلي استسقاء، والأرض حتى لو نزل المطر لا تكاد تنبت، فهذا الذي يقول هذا الكلام ما عرف الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، ولو عرف ذلك لما حصل له مثل هذا التعجب.
فهذا قارون من قوم موسى أعطي من الكنوز مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ هذه الكنوز ما أعطيها موسى -عليه الصلاة والسلام- ولا هارون -صلى الله عليهما وسلم، فلا يأتي أناس من الأغبياء في زمانهم ويقولون: كيف يكون هذا منافقاً وكافراً وقد أعطي من هذه الكنوز؛ لأن العبرة ليست بهذا، ولهذا انظر ما فعل الله به، فهو عدو لله مُحادٌّ له، فهذا العطاء هو استدراج أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56] فهذا لا يدل على رضا الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء.
قال: وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي: لا يُسألون لكثرة ذنوبهم فيلقوا في النار مباشرة لكثرة ذنوبهم وظهورها كما يقول قتادة، فلكثرتها لا يحتاج إلى سؤال، وإنما مباشرة يلقون في النار وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم يقول: لا يسألون يعني سؤال استعتاب وإلا فقد ورد السؤال في مواضع أخرى من القرآن مثل وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ [سورة الصافات:24]، فهذا سؤال تبكيت لا ينتظر منه الجواب الذي يحصل فيه العذر للإنسان فيُسمع ويقبل ذلك منه، ليس هذا المراد.
وهناك فرق بين سؤال الاستعتاب وسؤال التبكيت، فسؤال الاستعتاب تنتظر منه الجواب من أجل أن تعذره لعل له عذراً، وأما سؤال التبكيتفهو لمزيد الألم، ولاينتظر فيه سماع المعاذير، ولا ينتظر فيه الجواب أصلا وإنما يراد إسماعه فقط هذا السؤال لتبكيته، وبعضهم يقول كما يقول مجاهد -رحمه الله: لا تسألهم الملائكة؛ لأنها تعرفهم بسيماهم، يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [سورة الرحمن:41]، فهم سود الوجوه، زرق العيون، لكن هذا لا يخلو من بعد -والله أعلم.
فهذه الآية: وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ فلم يقل: ولا يُسأل عنهم، ولا قال: لا يَسأل عنهم، وإنما قال: وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ، وبعضهم يقول: وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ يعني ذنوب أولائك الذين غبروا وأهلكهم الله من الأمم الخالية لا يُسأل عنهم أهلُ الإجرام من هذه الأمة، لا يُسألون عن ذنوب أولائك الذين أهلكهم الله لأنهم أشد من قارون، لا يُسأل عنهم وعن ذنوبهم أهلُ الإجرام من هذه الأمة، يعني لو كان الفعل غير مبني للمجهول -حتى تتضح- يكون هكذا: ولا يسأل اللهُ عن ذنوب أولائك المجرمين، لا يَسأل المجرمين من هذه الأمة عن ذنوب أولائك الغابرين، فالمعنى يحتاج إلى شرح حتى يفهم، ومثل هذا العسر في فهمه يدل على بعده، وأنه ليس هو المتبادر من ظاهر القرآن، والله تعالى أعلم.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ [سورة القصص:79، 80].
يقول تعالى مخبرًا عن قارون: إنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجمل باهر، من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه، فلما رآه مَنْ يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زُخرفها وزينتها، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي، قالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي: ذو حظ وافر من الدنيا. فلما سمع مقالتهم أهلُ العلم النافع قالوا لهم: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أي: جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون.
كما في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرءوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة:17][4].
وقوله: وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَقال السدي: وما يلقى الجنة إلا الصابرون. كأنه جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم.
هم يقولون: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا يعني الجنة التي يثيب الله بها عباده المؤمنين، وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ الصابرون على طاعته وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة، ويكون هذا من بقية كلامهم.
فالمعنى الأول وَلا يُلَقَّاهَا أن هذا من كلامهم، وهم يقولون: ولا يُلقَّى هذا الثواب -هذه الجنة- إلا الصابرون، عاتبوهم وقالوا لهم هذا الكلام.
كلام ابن جرير جاء به بالمعنى، وهذه ليست عبارة ابن جرير تماما، ولكن جاء بما حاصله ما ذكر هنا: ولا يلقَّى هذه الكلمة إلا الصابرون، يعني عن طلب زينة الحياة الدنيا، فيكون هذا من كلام الله يعني هم قالوا لهم: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا انتهى، قالوا لهم هذا الكلام، والله -تبارك وتعالى- عقب ذلك بقوله: وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ما يلقى هذه الكلمة وهذا الفهم وهذا النظر والإدراك الصحيح في الأمور ومعرفة حقائق الأشياء إلا الصابرون، فالذين يغترون بظاهر الحياة الدنيا وتستميلهم بهجتها ونضارتها هؤلاء يندفعون في مثل هذه المقامات، ويتمنون لو حصل لهم مثل هذا الذي حصل لقارون وأشباه قارون، فهؤلاء يقولون لهم: لا تغتروا فما عند الله خير.
قال الله: وَلا يُلَقَّاهَا هذه الكلمة يعني التي تحوي هذا الفهم إِلا الصَّابِرُونَ، عن زينة الحياة الدنيا والاشتغال بها عن الآخرة ناس عرفوا حقيقة الدنيا فأعطوها قدرها وحجمها ولم يغتروا بها فهي متاع الغرور، هذه البغال كلها تموت والثياب كلها تبلى وتفنى، والكنوز عما قريب لا يبقى منها شيء، فلا يستطيع أحد أن يأتي بشيء من أموال قارون ولو شعرة، ذهبت وانتهت، وأين الذي جمعه أهل الثراء والمال في القرون السابقة؟ وأين قصورهم؟ يجتهدون وينفقون الأموال الطائلة من أجل حفر كثبان ضخمة أحيانا حتى يحصلوا على بعض الأعمدة يرونها أو جَرّة مك سورة يجدونها أو شيء من هذا القبيل، يقولون: إنها بقايا لبعض الغابرين، أين العرَض الكثير الذي كانوا يتمتعون به، ويغتر به من يغتر، وتمتد نفوسهم قبل أنظارهم إليه؟
لهذا كان بعض السلف إذا رأى أُبهة ورأى أهل الدنيا والعرِض صرف نظره، ولربما أنكر على من يقف ويتفرج وينظر يقول: إنما صنعوا ذلك من أجل أن تنظروا إليه، فلا تلتفت إليه، لا تنظر إليه، فهذا عرض زائل ينبغي أن يعطى الحجم الذي يليق به، عما قليل كل هذا يتلاشى، والمراكب والسيارات الفارهة بعد مدة تجدها تعرض بأقل الأثمان، ولا يلتفت إليها أحد، يسومها المفاليس، كما قال بعضهم عن ناقته:
وقد هُزِلتْ حتى بدا من هُزالها |
يوم كانت نفيسة ما أحد يتجرأ أن يسومها، أما حين صارت ضعيفة هزيلة ظهرت كُلاها صار كل مفلس يقول: بكم الناقة، فهكذا هذه السيارة الفخمة الضخمة التي إذا مرت وقفت لربما كثير من السيارات حتى تمر، والذي يركب مركبا ضعيفا لربما هذا يلجئه إلى الرصيف وهذا يزجره، وكل هذا من ضعف العقول، وإلا فعما قريب يتلاشى ذلك كله، هذا الجسد المترف المنعم الذي يأكل أحسن المآكل يكون طعاما للدود، وتذهب نضارته وبشاشته، وهذه الأموال وهذا العرَض، البيت يصير قديماً خرباً، والمراكب كذلك، والفرش كذلك وكل شيء يبلى، كل شيء هالك إلا وجه الله .
وقوله: "وجعَلَه من كلام الله وإخباره بذلك" وَلا يُلَقَّاهَا تلك الكلمة، وبعضهم يقول: المقصود الأعمال الصالحة، ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا يعني الأعمال الصالحة.
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِن ْدُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانـَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [سورة القصص:81، 82].
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته، وفخره على قومه وبغيه عليهم، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض، كما ثبت في الصحيح -عند البخاري- عن سالم أن أباه حدثه: أن رسول الله ﷺ قال: بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة[5].
ثم رواه عن سالم عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، نحوه.
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: بينا رجل فيمَنْ كان قبلكم، خرج في بُرْدَيْن أخضرين يختال فيهما، أمر الله الأرض فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة[6]، تفرد به أحمد، وإسناده حسن.
وقوله: فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ أي: ما أغنى عنه مالُه، وما جَمَعه، ولا خدمه ولا حشمه، ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله، ولا كان هو في نفسه منتصرًا لنفسه، فلا ناصر له لا من نفسه، ولا من غيره.
يعني ما نفعه أعوانه ولا دفعوا عنه، وما استطاع هو أن يدفع عن نفسه بأس الله، فإذا جاء بأس الله -تبارك وتعالى- بأي طريق كان فإن ذلك لا مرد له، كما قال الله -تبارك وتعالى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [سورة الحشر:2] أي: بنو النضير في حصونهم المنيعة التي ما كانوا يتوقعون أن يخرجوا منها، بل ما كان أهل الإيمان يتوقعون أن يُقدَر عليهم بسبب هذه المنعة، مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا فذلك يكون إما بتسليط جنده عليهم بأمور لا تخطر على البال من الرياح، أو إلقاء الرعب في القلوب، أو بتسليط الناس أو غير هذا، فالله -تبارك وتعالى- له جنود السماوات والأرض، فإذا جاء بأسه فإنه لا يرد عن القوم المجرمين، الظالمين.
والله يُرِي الناس العبر والآيات في كل زمان، والناس في هذه الأوقات يشاهدون من آيات الله في هذا أموراً باهرة، شاهدَ الناسُ ما جرى في العراق، وما حصل لرجل كان من أكثر الناس ظلماً وطغيانا وجبروتاً وتعاظماً، ولا تسأل عن فساده وإفساده ومحاربته لدين الله -تبارك وتعالى- فرأى الناس فيه آية، كيف تحولت تلك العظمة والجبروت والبطش إلى صغار وذل وهوان.
والناس في هذه الأيام يشاهدون فصولا مذهلة مما جرى في تونس من قِبَل رجل لربما لا يتجاسر الناس على مجرد السلام عليه هيبة وتعظيما؛ لما له من وقع في نفوسهم ومهابة وتعاظم وما إلى ذلك، لم يـُبقِ لهم -نسأل الله العافية- لا ديناً ولا دنيا، عاث في الأرض فساداً ثم بعد ذلك لما جاء بأس الله انظروا كيف تحول إلى مهانة وصغار وذل، والعالم كله يشاهد ذلك -نسأل الله العافية- هذا خزي في الدنيا، يشاهده الصغير والكبير، والعدو والصديق إن وُجد صديق، فالعالم كله يشاهد ذلك لحظة بلحظة بتفاصيله، وهو حديث الناس لا يمكن أن يُغطى ويستر أبداً، فإذا كان الإنسان بهذه المثابة، خزيٌ لا يندر أن يوجد مثله في القرون السابقة، ولربما يعرف خبرَ الإنسان مَن حوله، يعرفه أهل بلده، لكن اليوم بهذا الإعلام الكل يتفرج، ولربما من كان بعيدا يرى ما لا يرى القريب عن طريق الإعلام، يرون أكثر مما كان يشاهده الناس في البلد الذي وجد فيها ذلك الأمر، ويستوي من كان في أقصى المشرق مع غيره في معرفة تفاصيل ذلك كله، فهذا خزي في الدنيا -نسأل الله العافية.
فلا أحد يتمنى مثل هذه الحالة، لكن قبل ذلك لربما يغتبط الواحد لو أنه من هؤلاء البسطاء من مجرد نظرة أُتيحت له، فضلا عن أن يحصل له سلام أو ابتسامة أو كلمة لربما يفخر بها ويعتز، ويصيبه ما يصيبه من الزهو والفرح المذموم، ثم من يتمنى هذه الحال، وهذا خزي -نسأل الله العافية.
وهكذا قارون في البداية خرج بهذه الأُبهة ثم صار حاله إلى ما قص الله -تبارك وتعالى، وأهل الإيمان يدركون حقائق الأمور ولا يخفى عليهم ذلك قبل أن تقع تلك العواقب السيئة لهؤلاء؛ لأنهم ينظرون ويقيسون، ويعتبرون بالمقاييس الشرعية، فيزنون الأشياء بميزانها الصحيح، فلا يحصل لهم بسبب هذه المظاهر التي لربما تستهوي كثيراً من الناس فيحصل لهم اغترار فيغيّب ذلك عنهم حقائق الأمور، لكن كثير من الناس الذين ينظرون بنظر سطحي لا يدركون كثيرا من ذلك إلا بعد مدة، بعدما يولي الشيء ويدبر، عندها يعرفون ويتبينون، والله المستعان.
وهذا ثبت موقوفا عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- ورفْعُه لا يخلو من ضعف لكن له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال من جهة الرأي، والله تعالى أعلم.
لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا أي: لولا لُطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا، كما خسف به، لأنا وَددْنا أن نكون مثله.
وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ يعنون: أنه كان كافرًا، ولا يفلح الكافر عند الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد اختلف النحاة في معنى قوله تعالى هاهنا: وَيْكَأَنَّ، فقال بعضهم: معناها: "ويلك اعلم أن"، ولكن خُفّفت فقيل: "ويك"، ودلَّ فتح "أن" على حذف "اعلم".
وقيل: معناها: ويكأن، أي: ألم تر أن. قاله قتادة، وقيل: معناها "وي كأن"، ففصلها وجعل حرف "وي" للتعجب أو للتنبيه، و"كأن" بمعنى "أظن وأحسب".
هذه فيها كلام كثير للنحاة والمفسرين، فالنحاس يقول: أحسن ما قيل في معنى وَيْكَأَنَّ ما قاله الخليل الفراهيدي وسيبويه ويونس والكسائي وهم من كبار الأئمة في النحو واللغة: إن القوم تنبهوا لما رأوا خسفاً به، تنبهوا فقالوا: ويك كما يقول المتندم: وي، ثم قال: كأن يعني أنها مفصولة، فبعضهم يقول: إنها مفصولة وي، كما يقوله المتندم، يقولون تقول: وي، ثم تبتدئ تقول: كأن على اختلاف بين النحاة في الكاف هذه.
وبعضهم يقول: إن الكاف هذه للتعليل دخلت على أن، وبعضهم يقول: هي كلمة تقرير، ويكأن، كلمة كما يقوله الفراء، كما تقول: أما ترى صنع الله هذا؟ مثل من يقول: ألم ترَ؟ بمعنى ألم تعلم؟ وبعضهم يقول: هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ ألا إن الله يبسط الرزق، وبعضهم يقول: أصلها ويلك فأسقطت اللام ويكأن، وبعضهم يقول: معناها أعلمُ أن الله.
وبعضهم يقول: هي بلغة حمير بمعنى رحمة وهذا بعيد، وإن قال به إمام كابن قتيبة، وبعضهم يقول: هي كلمة تفجع، كما يقول الكسائي: تدل على التفجع، وابن جرير يقول: هي بمعنى ألم تعلم؟ والجوهري يقول: هي كلمة تعجب وي كأن، كأنها -والله أعلم- إلى التعجب أقرب، وي كأن، تدخل على كأن الخفيفة والثقيلة، كأنْ وكأنّ، ولا زال الناس يقولون: وي في حالة التعجب.
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب المسألة في القبر وعذاب القبر، برقم (4753)، وأحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1676).
- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام ابن القيم الجوزيه (1/ 35).
- إشارة إلى حديث ابن مسعود في الصحيحين أن النبي ﷺ قال له: اقرأ عليّ القرآن، قلت: -أي ابن مسعود- آقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب من أحب أن يسمع القرآن من غيره، برقم (4762)، واللفظ له، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظ للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر، برقم (800).
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3072)، ومسلم، في بداية كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم (2824).
- رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [سورة الكهف:9]، برقم (3297).
- رواه أحمد في المسند، برقم (11355)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف، لضعف النضر بن إسماعيل، وعطية: وهو ابن سعد الكوفي، وقال الألباني: صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (2914).
- رواه أحمد في المسند، برقم (3672)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لضعف الصباح بن محمد، وهو ابن أبي حازم البجلي، قال العقيلي: في حديثه وهم، ويرفع الموقوف، وضعفه الحافظ في "التقريب"، وقال الذهبي في الميزان (2/ 306) رفع حديثين هما من قول عبد الله. قلنا: هما هذا والذي قبله، فالصحيح أنه موقوف، كما ذكر الدارقطني، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبان بن إسحاق، فقد أخرج له الترمذي، وهو ثقة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2714).