الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[111] من قوله تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 257 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الآية 258
تاريخ النشر: ١٠ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 3861
مرات الإستماع: 2378

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

روى ابن جرير عن ابن عباس -ا- قال: كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله : لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [سورة البقرة:256]،[1] وقد رواه أبو داود والنسائي.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه الرواية التي نسبت لابن جرير صحيحة صريحة في سبب نزول قوله: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وهي وإن نزلت لبيان واقع معين، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسبب النزول كما هو معلوم يوضح المعنى ويرتفع به الإشكال، فتبقى هذه الآية على ظاهرها وعمومها، فلا يُكرَه أحد على الدخول في الدين، امتثالاًً لأمر المشرع العظيم ، ولأنه لم يعهد عن النبي ﷺ في غزواته وحياته عمل شيء من ذلك، والله أعلم.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنس -: أن رسول الله ﷺ قال لرجل: أسلم قال: إني أجدني كارهاً، قال: وإن كنت كارهاً[2]، فإنه ثلاثي صحيح، ولكن ليس من هذا القبيل، فإنه لم يكرهه النبي ﷺ على الإسلام بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة، فقال له: أسلم، وإن كنت كارهاً، فإن الله سيرزقكم حسن النية والإخلاص.

المراد بالحديث الثلاثي الصحيح: هو الذي يكون بين المصنف وبين النبي ﷺ ثلاثة رواة -الصحابي والتابعي وتابع التابعي من أهل القرون المفضلة، وهذه الأحاديث مشهورة بثلاثية الإسناد أو ثلاثية مسند أحمد.

وقد ساق ابن كثير هذا الحديث ليؤكد أنه ليس حجة لأحد في تقرير جواز الإكراه على الدين، مستنداً في دعواه ومشروعيته على ذلك بحديث أنس؛ لأنه ليس من هذا الباب كما بينه، ثم هناك فرق بين أن تكون الكراهية منبعثة من نفس الإنسان على أمر دون أن يكره عليه، وبين إرغامه وإلزامه بأمر على سبيل الإكراه، وهذا ما يفهم خلافه من الحديث.

وقوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:256].

هذه الآية فيها تمثيل لأمر معنوي بصورة أمر حسي، فقد مثل الله الذي اعتصم بهدى الإيمان كمن تعلق وتمسك بعروة شيء وثيقةٍ لا تنكسر، يجني من وراء تمسكه بها مقصوده من النجاة، فيحظى ببلوغ المطلوب، وينجو من أليم المرهوب، فهذا تصوير للمعنويات بأمر حسي غاية في البلاغة والأسلوب، والله تعالى أعلم.

أي من خلع الأنداد والأوثان، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده، وشهد أنه لا إله إلا هو فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ [سورة البقرة:256]: أي فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريق المثلى، والصراط المستقيم.

هذه العبارة القصيرة على اختصارها جمعت كثيراً مما قاله السلف -.

ومعنى الطاغوت: فعلوت من طغى يطغى ويطغو، أي جاوز الحد، فهو اسم جنس لكل ما يعبد من دون الله ، وبعضهم يقول: إنه مصدر يطلق على الواحد وعلى الجمع، وعبارات السلف فيه كثيرة.

روى أبو قاسم البغوي عن حسان بن فائد العبسي قال: قال عمر -: إن الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال، يقاتل الشجاع عمن لا يعرف، ويفر الجبان من أمه، وإنّ كرم الرجل: دينه، وحسبه: خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً.

ومعنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان، قوي جداً، فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها.

وبعضهم يقول الطاغوت: الكاهن، وبعضهم يقول: الساحر، وبعضهم يقول: ما عبد من دون الله وهو راض بطبيعة الحال، والحقيقة أن الطاغوت يحتمل جميع ما ذكر، فكل من جاوز حده وطغى فهو طاغوت، فذو الطغيان الذي جاوز حده يقال له: طاغوت، والله أعلم.

وقوله: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا [سورة البقرة:256] أي: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب.

وهو الحبل الوثيق المحكم.

والوثقى: يمكن أن تكون من الوثاقة، وهو تصوير يقرب المعنى بصورة محسوسة، ففيه تشبيه، والمعنى أن من أراد الخلاص لنفسه فإنه يتمسك بشيء وثيق يعتصم به، وهذا الذي يؤمن بالله ، ويخلع الأنداد والأضداد ويكفر بجميع أنواع الطواغيت، الكبار والصغار، الأحياء والأموات، قد أخذ من النجاة المحققة بأوثق سبب، وقد سلك طريق الخلاص، فلا يلحقه هلكة ولا مكروه.

لاَ انفِصَامَ لَهَا فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد، ولهذا قال: فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

يقول معاذ بن جبل -: لاَ انفِصَامَ لَهَا أي لا انقطاع لها دون دخول الجنة، وهذا تفسير قريب من جهة المعنى.

والانفصام في اللغة: أي الانكسار من غير إبانة، ومع الإبانة يقال له: قصم، قال الشاعر:

إن الألى يسكن غور تهامة فكل كَعاب تترك الحجل أفصما
أفصما: يعني منكسراً، تكسر الحجل لضخامة ساقها، وفي بعض روايات البيت: تترك الحجل أقصما: أي منكسراً مع الإبانة، فيكون المعنى لاَ انفِصَامَ لَهَا يعني لا انكسار لها، فما دام قد اعتصم بطاعة الله فهو كالمتمسك بالوثيق من الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها، هذا معنى كلام ابن كثير، وذكره ابن جرير، وعليه عامة المحققين، وكلام السلف يدور حول هذا المعنى، إلا أنهم يعبرون عنه بعبارات قريبة لكنها تدور في فلكه. والله أعلم.
قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي: هو الإسلام.

هذا يسمى في التفسير خلاف التنوع.

وروى الإمام أحمد عن قيس بن عباد قال: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما، فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته، فلما استأنس قلت له: إن القوم لما دخلت قبل المسجد، قالوا: كذا وكذا، قال: سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لمَ: إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله ﷺ فقصصتها عليه، رأيت كأني في روضة خضراء، قال ابن عون: فذكر من خضرتها وسعتها، وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة فقيل لي: اصعد عليه، فقلت: لا أستطيع، فجاءني منصف، قال ابن عون: هو الوصيف، فرفع ثيابي من خلفي فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة، فقال: استمسك بالعروة فاستيقظت وإنها لفي يدي، فأتيت رسول الله ﷺ فقصصتها عليه فقال: أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، أنت على الإسلام حتى تموت، قال: وهو عبد الله بن سلام - وأرضاه[3]، أخرجاه في الصحيحين، وأخرجه البخاري من وجه آخر.

اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:257] يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدونهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك، أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:257]،

ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة، كما قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الأنعام:153]، وقال تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1]، وقال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ [سورة النحل:48] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتفرقه وتشعبه".

ليست الآية على ظاهرها كما يتوهم البعض فقوله سبحانه في الفريق الأول: يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [سورة البقرة:257] ليس المراد أنهم كانوا في الظلمات، وكذا قوله في حق الكافرين: يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257]، أنهم كانوا في النور، بل المراد كما نص عليه أهل التفسير أنه من كان على إيمان ثم خرج منه إلى الكفر، مثل من كان على الإسلام ثم ارتد، أو كان على النصرانية التي جاء بها عيسى قبل مبعث النبي ﷺ ثم صار مُثلثاًً، أو كان على التوحيد الذي جاء به عيسى ﷺ فلما بعث محمد -عليه الصلاة والسلام- بقي على نصرانيته ولم يؤمن برسول الله ﷺ فكَفر، فهؤلاء لا شك أن الشيطان أخرجهم من نور الهداية التي كانوا فيها إلى الظلمات. 

وهذا المعنى مال إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، وهذه كقوله -تبارك وتعالى- في أول سورة البقرة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَىِ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [سورة البقرة:175] ومعلوم أنهم لم يكونوا على الهدى حتى يستعيضوا به الضلالة، ولم يملكوا المغفرة حتى يستبدلوا عنها العذاب، بل إنهم لما اختاروا الكفر والضلالة على الإسلام صح إطلاق ذلك عليهم أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16].

إذاً فمعنى قوله سبحانه: يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257] أي يخرجونهم من نور الفطرة، ويصرفونهم عن دلائل الحق وبيناته، وبراهين الإسلام التي بعث بها رسله –عليهم الصلاة والسلام- إلى ظلمات الكفر والشُّبه والحيرة والضلال بجميع أنواعه.

وقوله سبحانه: يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ المراد أنه يخرجهم من ظلمات الكفر والشُّبه إلى نور الإسلام وبيناته وهداياته، سواء كان الإنسان عادماً لأصل ذلك، فلم يكن على الإسلام فهداه الله إليه، أو كان مسلماً فإن الله ينقله من هداية إلى هداية، ويبيّن له من براهين الحق ما يدفع عنه الشُّبه المضلة، كما قال -تبارك وتعالى- في سورة أخرى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة الأحزاب:43]

المراد أنه ينقلهم من هداية إلى هداية، ولهذا أُمر المسلمون بأن يقولوا في كل ركعة: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] والمعنى ثبّتنا وسددنا، والصراط متشعب وتفاصيله كثيرة جداً، لذا يحتاج الإنسان أن يعرف الحق، وبعده يحتاج الهداية إلي العمل، ثم يعرف وجوه المفاضلة بين الأعمال فيهدى ويسدد ليختار الأفضل ويوفق إليه، وتبقى له أخيراً الوسيلة في الثبات علي الطريق حتى الممات، فالإنسان بحاجة ملحة إلى وسائل الهداية ما دام أن تفاصيل الشريعة كثيرة، والخلاف بين أفراد الأمة على أوجه وأوسع أبوابه.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:258].

هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.

هذه الأسماء أعجمية لم تنقل عن النبي ﷺ، إنما يذكرها المؤرخون في مصادرهم المختلفة ومع هذا لم يتفقوا علي شيء منها، وتجد الاختلاف يحصل بينهم في التقديم والتأخير، أو تحديد الاسم أحياناً، وهذا قد يكون مرده إلى خطأ في الطباعة، أو من قبل الناسخ، أو بسبب المحقق والرواة النقلة، ولذلك لا يعول عليها في الإثبات أو النفي، والله أعلم.

والأول قول مجاهد وغيره، قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود عليهما السلام، وذو القرنين، والكافران نمرود، وبختنصر، والله أعلم.

ومعنى قوله: أَلَمْ تَرَ أي بقلبك يا محمد.

بمعنى أن الرؤية رؤية قلبية؛ لأن النبي ﷺ ما حضر ذلك ولا شاهده بعينه، فهي رؤية قلبية بمعنى: ألم تعلم؟ كما سبق.

إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أي: وجود ربه، وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38].

ظاهر قوله سبحانه: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي قد يشكل عليه ما جاء في الآية الأخرى، وهي قول الملأ لفرعون: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [سورة الأعراف:127]، فدلالتها واضحة في كون فرعون له آلهة أخرى، وكذا القراءة الأخرى غير المتواترة: ويذرك وإلهتك فإلهتك مصدر، والمصدر يقع على الفاعل والمفعول، ومعناها يحتمل أمرين:

الأول: ويذرك وعبادتك، أي لا يعبدك.

الثاني: أي فيختار لوناً آخر من العبادة يخالفك بها في الدين، ولكنها قراءة ليست متواترة، ولا تفسِّر القراءة المتواترة في هذا الموضع؛ لاختلافهما في المعنى.

والجواب على هذا الإشكال كما قال العلماء: إن فرعون ما دعاه إلى قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي إلا المكابرة في مقام الخصومة فقط، ويشهد له رد موسى عليه، وتقريره خلاف مقاله: قال لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [سورة الإسراء:102]. 

وهكذا فضح القرآن خُبْرَه في أكثر من آية، وجحوده واستكباره وأنفته من الحق قال الله : وَجَحَدُوا بِهَا أي فرعون وقومه جحدوا بالآيات الدالة على رسالة موسى وصدق دعوته وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14] وهذا هو المشهور عند أهل العلم.

وبعض أهل العلم قال: إنه كان يُعبّد الناس لنفسه وهو يعبد آلهة أخرى، ومن نظر في تاريخ الفراعنة يجد أنهم كانوا يعبدون من دون الله معبودات كثيرة، لكن الذي يظهر أنه كان لا يعتقد ذلك.

والمعلمي -رحمه الله- له كلام غريب في توجيه هذا في بعض كتبه، لم يوافقه أحد عليه، فالله أعلم.

وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك، ولهذا قال: أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ.

المعنى على كلام ابن كثير: لأن آتاه الله الملك، فتكون أن هنا تعليلية واختار هذا المعنى ابن جرير، وبعضهم يجعل المعنى: من أجل أن آتاه الله الملك، أي أن الملك أبطره وغره حتى تعاظم هذا التعاظم مما أداه إلى جحد الرب -تبارك وتعالى- جحداً كلياً.

وبعضهم يحملها على معنى آخر وهو أضعف من هذا بكثير فيقول: أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ أي أنه وضع هذا الكفر موضع الشكر، فبدلاً من أن يشكر الله على هذا الملك، كانت النتيجة أنه كفر كفراً شنيعاً فجحد المعبود ، ونصّب نفسه إلهاً، لكن فيه بعد، والله أعلم.

وكأنه طلب من إبراهيم دليلاً على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة؛ لأنها لم تحدث بنفسها، فلابد لها من موجد أوجدها، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له، فعند ذلك قال المحاج وهو النمرود: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قال قتادة، ومحمد بن إسحاق، والسدي وغير واحد: وذلك أنِّي أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة.

هذا قاله كثير من أهل العلم من السلف فمن بعدهم، والله يقول فيما أخبر عن بني إسرائيل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [سورة المائدة:32] والمعنى فمن خلص نفساً من الهلكة والموت، فذلك بمنزلة إحياء جميع النفوس، هذا هو المعنى المشهور.

والظاهر والله أعلم: أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت كما اقتدى به فرعون في قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي، ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة: فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت، فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إلهاً كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب.

هذا الذي عليه كثير من أهل العلم من المفسرين، وأهل الأصول خاصة عند كلامهم على قضايا الاحتجاج، ومن ألف في الجدل، ويسمون حجة إبراهيم على النمرود في طلب إتيان الشمس من المغرب انتقالاً، فهو لما طالبه بأمر ادعى قدرته عليه، انتقل معه إلى أمر أوضح وأكبر لا يستطيع المكابرة معه.

ورأى بعض أهل العلم فيها معنى آخر، وهو أن حجة إبراهيم على النمرود لا تعتبر من باب الانتقال، إنما هي من باب طرد الدليل، والمعنى أنك ما دمت بهذه المثابة تملك الإحياء والإماتة، وبيدك هذه القدرة الهائلة على التصرف في الكون كما زعمت، فنريد منك أن تغير نظامه فتأتي بالشمس من المغرب، فإبراهيم ﷺ لم يعرض عن الدليل الأول؛ لأنه كابر فيه، وإنما استمر معه بناء على دعوى النمرود، وهذا القول يحمل عليه تفسير ابن كثير، ومال إليه الحافظ ابن القيم.

والحقيقة أن من ألفوا في الجدل والحجج والمناظرة، وبعض من كتبوا في الأصول، يذكرون هذا في باب طرق الرد، وما يتصل بطرائق الجدل كالانتقال من البرهان الأدنى إلى البرهان الذي أعلى منه، يعني التدرج في المناظرة مع المخالف، ويأخذون هذا من أمور، منها هذا التدرج في المناظرة الذي وقع في هذه الآية، بناء على أن هذا من باب الانتقال، والإعراض عن دليل ساقه في مقام المناظرة إلى دليل آخر أكبر وأوضح منه، لا أنه تكملة للدليل الأول أو طرد له، والله أعلم.

فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت، أي أخرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة.

وبعض المفسرين -بناء على روايات إسرائيلية- يزعم أنه أراد القول: أنا الذي آتي بالشمس من المشرق، إلا أنه كان بالمجلس من هو أكبر منه سناً، فلو ادعى هذا لكذبوه؛ لأنهم كانوا يرونها تأتي من المشرق قبل أن يولد، فكيف هو الذي يأتي بها من المشرق؟! وهذا قول ليس فيه ما يمكن الوثوق به أو الرجوع إليه، فالله أعلم.

قال الله تعالى: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يلهمهم حجة ولا برهاناً، بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.

الآية وردت في مقام المناظرة والرد على أهل الضلال والاحتجاج عليهم، ولذا حسن أن يفسر نفي الهداية عنهم في خاتمتها بما أورده ابن كثير، أي أن الهداية يسلبها الله منهم في مقام المحاجة، فلا يكون لهم برهان ودليل يبطلون به دلائل الحق، أو يدحضون به حجة أهله. 

وتفسيرها بهذا لا يمنع من بقاء المعنى العام في كونهم لا يوفقون للهداية العامة هداية التوفيق والإرشاد إذا شاءت حكمة الرب وإرادته، ويحمل مراده من نفي الهداية عنهم على أهل الإصرار منهم على الظلم، أو ممن كتب الله عليهم الضلال والشقاء، ومضى عليهم سبق علم الله –تبارك وتعالى- في كونهم لا يحصل لهم هداية، والله أعلم.

وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين: إن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه، ويبيّن بطلان ما ادعاه نمرود في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة.

وقد ذكر السدي: أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم، فجرت بينهما هذه المناظرة.

وحكى السُّهيليُّ أن النُّمرود كان ملكاً على السَّواد، وكان ملكه الضحاك الذي يُعْرَفُ بالأزدهاق، وذلك أن النَّاس قحطوا على عهده، فجعلوا يمتارون من عنده الطعام، وكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأَل: مَنْ رَبُّكَ؟ فإن قال: أَنت، نال من الطعام، فأتاه إبراهيم فيمن أتاه، فقال له نمرود: من ربُّكَ؟، فقال له إبراهيم: ربيّ الّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ. فاشتغل بالمحاجَّة، ولم يعطه شيئاً، فرجع إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فمر على كثيبٍ من رَمْلٍ أعفر، فأخذ منه تطييباً لقلوبِ أهلِه إذا دخل عليهم، فلما أَتى أَهله، ووضع متاعه نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأَته، فصنعت له منه فقربته إليه، فقال: من أين هذا؟ قالت: مِن الطعام الذِي جئت به، فعرف أن الله تعالى رزقه فحمد اللهَ تعالى، وهذا كله من الإسرائيليات التي لا يعول عليها.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً ومزيداً إلى يوم الدين.

  1. رواه أبو داود برقم (2684) (3/11)، و- رواه النسائي في سننه الكبرى برقم (11049) (6/304)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2682).
  2. رواه أحمد في مسنده برقم (12891) (3/181)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  3. رواه البخاري بلفظ آخر في كتاب فضائل الصحابة –باب مناقب عبد الله بن سلام برقم (3602) (3/1387)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عبد الله بن سلام برقم (2484) (4/1930)، وهذه الرواية بلفظ أحمد رواها في مسنده برقم (23838) (5/452)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

مواد ذات صلة