الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[9] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية 38 إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} الآية 42
تاريخ النشر: ٠٥ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 3170
مرات الإستماع: 4282

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ ۝ إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة التوبة:38، 39].

هذا شروع في عتاب من تخلَّف عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحَمَارّة القيظ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أي: تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار، أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ أي: ما لكم فعلتم هكذا أرضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة؟

ثم زهّد -تبارك وتعالى- في الدنيا، ورغب في الآخرة، فقال: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ كما قال الإمام أحمد عن المستَوْرِد أخي بني فِهْر قال: قال رسول الله ﷺ: ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل إصبعه هذه في اليم، فلينظر بما ترجع؟ وأشار بالسبابة[1]، انفرد بإخراجه مسلم[2].

وقال الثوري، عن الأعمش في الآية: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌقال: كزاد الراكب.

وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاةُ قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه فلما وُضع بين يديه نَظَر إليه فقال: أمَا لي من كَبِير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أفٍّ لكِ من دار، إن كان كثيرُك لقليل، وإن كان قليلك لقصير، وإن كنا منك لفي غرور.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ ما الذي يمنعكم إذا طلب منكم النفير في سبيل الله أي الجهاد؟ وهذا غالب ما ترد فيه هذه اللفظة من المعنى، كثيرًا ما يعبر في القرآن بـ"سبيل الله" ويراد به الجهاد، ومن أهل العلم من عممه بجميع المواضع، بل إن من أهل العلم من قال مفسرًا لقول النبي ﷺ: من صام يوما في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفا[3] قالوا: صام يومًا في سبيل أي في الجهاد، وهو تفسير له وجه من النظر معتبر.

وقوله: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ النفْر بمعنى الانتقال بسرعة من مكان لآخر لأمر يحدث، انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ قال: أي تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار، اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ اثاقلتم أصلها تثاقلتم وعدي بـ "إلى"؛ لأنه متضمن معنى الميل والإخلاد، ملتم إلى الأرض أخلدتم إلى الأرض، ومعلوم أن الفعل قد يضمن معنى الفعل فيعدى بتعديته، وهذا أبلغ وأكثر في المعاني، اثَّاقَلْتُمْ مضمن معنى الإخلاد والميل، فعدي بـ "إلى".

ثم توعد تعالى على ترك الجهاد فقال: إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا قال ابن عباس -ا: استنفر رسول الله ﷺ حيًّا من العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك الله عنهم القَطْر فكان عذابهم.

وهذه الرواية فيها ضعف على كل حال.

وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ أي: لنصرة نبيه وإقامة دينه، كما قال تعالى: وإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [سورة محمد:38].

ولا حاجة للاشتغال بتحديد هذا، يعني مثلًا في قوله: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثم قال: إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ أيضًا هنا لا حاجة للتكلف في البحث عن هؤلاء القوم هل هم فارس أو اليمن أو غير ذلك، وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ الله لم يحدد شيئًا فيأتي بآخرين يقومون بحمل أعباء الرسالة والجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى.

وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا أي: ولا تضروا الله شيئًا بتوليكم عن الجهاد، ونُكُولكم وتثاقلكم عنه.

يعني هذا نأخذ منه عبرة كبيرة وفائدة ومعنى، وهو أن من أدار ظهره عن دين الله وتلون وتغير في أوقات الفتن، أو في غير أوقات الفتن، أو أعرض عن الدعوة إلى الله وتركها بعد أن كان يحمل لواءها، أو غير ذلك فإنه لا يضر الله شيئًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا والله لا يزال يغرس لهذا الدين غرسًا، فكل من تولى وأعرض وترك فإن الله -تبارك وتعالى- غني عنه وعن عمله، ولا يضر الله شيئًا، والله يأتي بمن هو خير منه، وأنفع للناس، وإنما يضر الإنسان بهذه الأعمال والإخلاد نفسه، والدعوة إلى الله كل ذلك مما يدخل في عموم "في سبيل الله" وإن كان رأسه الجهاد، فـ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: الجهاد في سبيل الله، اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ فيعتبر من هذا، ويؤخذ منه أيضًا من تثاقل إلى الأرض، واشتغل بالعيال والكسب وما إلى ذلك عن دعوته، وعن تعليم الناس، وعن الاشتغال بإصلاح الأمة، ودعوة الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فمن أعرض فلا يضر إلا نفسه.

وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم.

قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم، والمناسب للسياق وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا [سورة الشمس:15]، فالإنسان قد يفعل الشيء ولكنه يراقب عقوبة، يتخوف من العواقب، وقد يمسك عن كثير مما يريده تخوفًا من العواقب، أما الله فهو على كل شيء قدير المُلك ملكه، والخلق خلقه يفعل ما يشاء، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.

إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[سورة التوبة:40].

يقول تعالى: إِلا تَنْصُرُوهُ أي: تنصروا رسوله، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه، كما تولى نصره إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ أي: عام الهجرة، لما همّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه، فخرج منهم هاربًا بصحبة صدِّيقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة -، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطُّلَّبُ الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيرا نحو المدينة، فجعل أبو بكر ، يجزع أن يَطَّلع عليهم أحد، فيخلص إلى الرسول، منهم أذى، فجعل النبيُّ ﷺ يُسَكِّنه ويَثبِّته ويقول: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟، كما روى الإمام أحمد عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي ﷺ، ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، قال: فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟[4]، أخرجاه في الصحيحين.

إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ فالنبي ﷺ هو الذي خرج، وأضيف الإخراج إليهم؛ لأنهم هم الذين تسببوا فيه، اضطروه إلى الخروج بتضييقهم عليه، ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ وهذا لا شك أنه من المناقب العظيمة لأبي بكر الصديق التي لا يلحقه بها أحد، - وأرضاه- ولعن من لعنه، وأبغض من أبغضه.

وعبر بالحزن في قوله: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، المعروف أن الحزن هو الغم من أمر فائت هذا المشهور، والخوف هو الغم من أمر مستقبل متوقع هذا هو المشهور في المعنى، ولذلك نفاه الله عن أهل الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62] لا يغتمون من أمر مضى، ولا يقلقون ويغتمون من أمر مستقبل، وهنا عبر بالحزن عن أمر مستقبل لا تَحْزَنْ بمعنى لا تخف، ولذلك حينما نقول: إن الحزن هو الغم من أمر مضى نقول غالبًا؛ لأنه في بعض المواضع يستعمل هذا مكان هذا، يستعمل الحزن مكان الخوف، والمعية هنا معية نصر وتأييد وحفظ، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [سورة طه:46] قالها الله لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام.

ولهذا قال تعالى: فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أي: تأييده ونصره عليه، وقيل: على أبي بكر.

الآن إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ هنا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ يحتمل أن يكون لأبي بكر أنزل عليه الطمأنينة ورباطة الجأش، وأمَنَةً، فحصل له السكون وذهب عنه الحزن أو الخوف، ذهب عنه الروع، ويحتمل أن يكون ذلك للنبي ﷺ، وهو الراجح؛ لأن القاعدة أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها فالآن انظر إِلا تَنْصُرُوهُ الضمير يرجع إلى النبي  ﷺ فقد نصر الله النبي ﷺ، إِذْ أَخْرَجَهُ النبي ﷺ: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ القائل هو النبي ﷺ لصاحبه، لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ يعني النبي ﷺ، ووَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا والذي أُيِّد بجنود لم تروها هو النبي ﷺ، فيحتج على أن الضمير يرجع إلى النبي ﷺ بأمرين:

 الأمر الأول: قاعدة أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها.

 الأمر الثاني: أنه قال بعده: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وهذا إنما يكون للنبي ﷺ فهو المؤيد بالملائكة.

ثم قال: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا أي: الملائكة، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا         

قال ابن عباس -ا: يعني كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا الشرك وكَلِمَةُ اللَّهِ هي: لا إله إلا الله.

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ، قال: سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل رياء، أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[5].

وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي: في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، لا يُضام من لاذ ببابه، واحتمى بالتمسك بخطابه، حَكِيمٌ في أقواله وأفعاله.

قال سفيان الثوري، عن أبيه، عن أبي الضحَى مسلم بن صَبيح: هذه الآية: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا أول ما نزل من سورة براءة.

وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حَضْرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرًا، فيقول: إني لا آثم، فأنزل الله: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا الآية.

رواية أبي الضحى من قبيل المرسل، وهو من أنواع الضعيف، والرواية الثانية في سبب النزول أيضًا لا تصح من جهة الإسناد -والله تعالى أعلم، وأقوال أهل العلم في قوله: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا متنوعة متعددة: 

فمنهم من يقول: انفروا في حال النشاط وفي حال الكسل، والميل إلى الدعة، والإخلاد إلى الأرض، وبعضهم يقول: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا يعني انفروا أصحاء ومرضى، وبعضهم يقول: شيوخًا وشبابًا، وبعضهم يقول: انفروا في حال فراغكم وفي حال شغلكم، يعني المشغول والفارغ الجميع ينفر، وبعضهم يُفهم من كلامه أن المراد انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا أنه الخفة والثقل يعني من ناحية البدن الثقيل، والخفيف كل هؤلاء يخرجون ولا يعتذر أحد بأنه بدين مثلًا أو نحو هذا. 

هكذا يفهم من بعض الأقوال أو المرويات إلى غير ذلك مما يقال في معنى انْفِرُوا جماعات وفرادى، انفروا في طلائع الجيوش خفافًا، وفي الجيش نفسه وهو الثقيل، انفروا في حال نشاطكم وإقبال نفوسكم، وفي حال تقاعسها، انفروا في حال الصحة والمرض، احتمال أن يكون هذا داخلًا فيها كما ذكر بعض السلف، فيكون ذلك قد خصص بقوله -تبارك وتعالى: لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ [سورة التوبة:91]، وبقوله: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [سورة النساء:95]، الذين هم مرضى بمرض مزمن فهؤلاء يعذرون، ولَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ [سورة النور:61]، كل هذه مخصصة لهذه الآية. 

فالراجح أن هذه الآيات ليست بناسخة، وإن قال بعض السلف بأن الآية التي عذر فيها المرضى ناسخة للآية، والراجح أنها مخصصة، ومن أهل العلم من قال: إن الذي نسخها هو قوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [سورة التوبة:122]، يعني على الأرجح أن التي تتفقه هي التي تنفر فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ بصحبة رسول الله ﷺ والتلقي عنه.

فالشاهد أن هذه الآية كانت تأمر بالنفير العام، والنبي ﷺ أمر الناس في غزوة تبوك بأن ينفروا ولا يتخلف عنها أحد، وما وقع للذين تخلفوا –الثلاثة- ثم بعد ذلك رُخص للناس، وخفف عنهم، فقال الله : وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فتنفر طآئفة وتبقى طائفة -والله تعالى أعلم.

وبعض أهل العلم يقول: إن الآية محكمة وليست منسوخة.

أمر الله تعالى بالنفير العام مع الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- عام غزوة تبوك، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وحَتَّم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المَنْشَط والمَكْرَه والعسر واليسر، فقال: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا.

وقال علي بن زيد، عن أنس، عن أبي طلحة: كهولا وشَبَابًا ما سمع الله عذر أحد.

كهولًا وشبانا، منفردين أو مجتمعين، أغنياء وفقراء، من له عيال، ومن ليس له عيال، الفرسان وغير الفرسان، يخرجون على أرجلهم، لكن في غزوة تبوك جاء أناس إلى النبي ﷺ يريدون أن يحملهم فقال: لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [سورة التوبة:92]، فالله نفى عنهم الحرج.

وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء [سورة التوبة:92، 93]، فالآية محمولة على جميع هذه المعاني التي ذكروها، فلا يخص معنىً دون معنى -والله تعالى أعلم، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- وطائفة من المحققين.

ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قُتل.

وفي رواية: قرأ أبو طلحة سورة براءة، فأتى على هذه الآية: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فقال: أرى ربنا يستنفرنا شيوخًا وشَبَابًا جهزوني يا بَنِيَّ، فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوت مع رسول الله حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها.

وقال السدي قوله: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا يقول: غنيًا وفقيرًا، وقويًا وضعيفًا فجاءه رجل يومئذ، زعموا أنه المقداد، وكان عظيما سمينًا، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فأبى فنزلت يومئذ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالافلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله، فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة التوبة:91].

هذه الرواية لا تصح.

قال ابن جرير: حدثني حيان بن زيد الشَّرْعِبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان واليا على حمص قِبَل الأُفسُوس، إلى الجراجمة فلقيت شيخًا كبيرًا هَمًّا.

بضم الهمزة الأُفسُوس هذا في الشام، وهو تابع لثغور طرسوس، ويقال: إن هذه البلدة هي بلده، يقال: إنها بلدة أصحاب الكهف.

قال ابن جرير: حدثني حيان بن زيد الشَّرْعِبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان واليا على حمص قِبَل الأُفسُوس، إلى الجراجمة فلقيت شيخًا كبيرًا هَمًّا، وقد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته، فيمن أغار، فأقبلت إليه، فقلت: يا عم، لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن أخي، استنفرنا الله خفافا وثقالا ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله .

كان بعض الصحابة فمن بعدهم يرون أن هذه الآية محكمة، وأنه لا يجوز لأحد أن يتخلف عن الجهاد، وهذا لا يخلو من إشكال، فلما كان المسلمون قلة كان الأمر عامًا لهم ولا يعذر أحد بالتخلف، ثم بعد ذلك لما كثروا رخص لهم أن يبقى بعضهم وأن ينفر بعضهم؛ ولذلك -كما هو معلوم- كان من سياسة عمر مثلًا في المدينة أنه يمسك أصحاب النبي ﷺ عنده فلا يكاد يرسل أحدًا إلى شيء من الثغور أو البلاد الأخرى، وإذا بعث أحدًا يبعث الواحد أو الاثنين أو نحو هذا. 

وكان عمر يستفيد منهم في المشاورة ونحو هذا، وأيضًا كانت له سياسة في ذلك، كان يتخوف أن يجتمع عليهم الناس في كل مصر من الأمصار، وهؤلاء يجتمعون على هذا وهؤلاء يجتمعون على هذا وهؤلاء يجتمعون على هذا ويتربون على يده، ثم بعد ذلك يحصل بسبب هذا في المستقبل شيء من التفرق، أو التنازع، كان يتخوف ذلك، ثم لما جاء عهد عثمان أذن لهم فتفرقوا في الأمصار، وعلى كل الصحابة بعد النبي ﷺ كان منهم من يبقى في المدينة ولا يخرج في الغزوات كما هو معلوم.

ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله، وبذل المُهج في مرضاته ومرضاة رسوله، فقال: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: هذا خير لكم في الدنيا والآخرة، ولأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنيكم الله أموال عدوكم في الدنيا، مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة، كما قال النبي ﷺ: وتَكفَّل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله نائلا ما نال من أجر أو غنيمة[6].

ولهذا قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:216].

ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد عن أنس؛ عن رسول الله ﷺ قال لرجل: أسلِم، قال: أجدني كارها، قال: أسلم وإن كنت كارها[7].

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[سورة التوبة:42].

يقول تعالى موبّخًا للذين تخلفوا عن النبي ﷺ في غزوة تبوك، وقعدوا بعدما استأذنوه في ذلك، مظهرين أنهم ذوو أعذار، ولم يكونوا كذلك، فقال: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا قال ابن عباس: غنيمة قريبة، وَسَفَرًا قَاصِدًا أي: قريبا أيضا، لاتَّبَعُوكَ أي: لكانوا جاءوا معك لذلك.

لَوْ كَانَ عَرَضًا العَرض ما يعرض من منافع الدنيا، لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا يعني غنيمة قريبة لا تحتاج إلى سفر ومشقة وعنت، وَسَفَرًا قَاصِدًا السفر القاصد فسر بالقريب، هذا الذي عليه الأكثر، ومنهم من نظر إلى هذه اللفظة باعتبار أن القصد يأتي بمعنى التوسط يعني سفرًا متوسطًا، لكن السياق يدل -والله أعلم- على أن المقصود وَسَفَرًا قَاصِدًا أي سفرًا قريبًا ليس بعيدًا كتبوك في شدة الحر وطيب الثمار.

وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي: المسافة إلى الشام، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي: لكم إذا رجعتم إليهم لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ أي: لو لم تكن لنا أعذار لخرجنا معكم، قال الله تعالى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ يعني بأيمانهم الكاذبة، ولا شك أن قعودهم أيضًا هو السبب لهلاكهم، يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فيحلفون كذبًا للنبي ﷺ فكانت أيمانهم هذه سببًا لاستمرائهم الباطل، كقوله -تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16] صدوا في أنفسهم، وصدوا غيرهم، فهذه الأيمان جعلتهم يستمرئون ما هم فيه من القعود عن طاعة الله ، والنفاق، ومحادة الله ورسوله ﷺ، والله أعلم.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (18008)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه المستورد بن شداد، فمن رجال مسلم، وروى له البخاري تعليقا.
  2. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2858).
  3. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الصوم في سبيل الله، برقم (2685)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق، برقم (1153).
  4. رواه أحمد في المسند، برقم (11)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والبخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة، برقم (4386)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب من فضائل أبي بكر الصديق ، برقم (2381).
  5. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (2655)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904).
  6. رواه البخاري عن أبي هريرة بلفظ: تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته، بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة، كتاب الخمس، باب قول النبي ﷺ: أحلت لكم الغنائم، برقم (2955)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876).
  7. رواه أحمد في المسند، برقم (12061)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1454).

مواد ذات صلة