الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[14] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الآية 73 إلى قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} الآية 74
تاريخ النشر: ٠٩ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 3000
مرات الإستماع: 3195

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۝ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة التوبة:73، 74].

أمر تعالى رسوله ﷺ بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة.

وقال ابن مسعود في قوله تعالى: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ قال: بيده، فإن لم يستطع فليَكْفهِرّ في وجهه.

وقال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم.

وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف، واغلظ على المنافقين بالكلام، وهو مجاهدتهم، وعن مقاتل، والربيع مثله.

وقال الحسن وقتادة: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم، وقد يقال: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا، وتارة بهذا بحسب الأحوال، والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ هذه الأقوال التي ذكرها بما يتصل بالمنافقين إنما اختلفت بناء على أن النبي ﷺ لم يحصل منه مقاتلة، بل ولا قتل لأحد من المنافقين كما هو معلوم في هديه وسيرته ﷺ في التعامل معهم، فقوله: وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [سورة الفرقان:52] يعني القرآن فهذا كله واقع منه -عليه الصلاة والسلام، ولا إشكال في هذا. 

ولم يختلف السلف في هذا الجزء من تفسير الآية، وإنما الكلام في وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، فقال ابن مسعود: جَاهِدِ الْكُفَّارَ، قال بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه، جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ يجاهد النبي ﷺ المنافقين بيده، بعضهم فسره بإقامة الحدود عليهم. 

وبعضهم قال: إن الذين كانوا يقارفون ما يوجب الحد إنما كان يقع ذلك من المنافقين، وهذا غير صحيح، والنبي ﷺ أخبر عن المرأة التي زنت وعن توبتها العظيمة أنها لو قسمت بين أربعين من أهل المدينة لوسعتهم، وقالوا: وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها[1]؟!

فمجاهدة المنافقين هنا يقول ابن مسعود: فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه ذكر هذا بعد الجهاديْن: جهاد المنافقين، وجهاد الكافرين، بالنسبة للكفار الكافر المحارب يجاهد باليد، لكن الكافر غير المحارب هل المسلم مطالب بأن يكفهر في وجهه؟ وهل كان النبي ﷺ يكفهر في وجوه الكافرين؟

الجواب: لا، ويبقى الكلام في المنافق قال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم، معلوم أن المنافقين تجري عليهم أحكام الظاهر يعني يعاملون بحسب ما أظهروا يعاملون معاملة المسلمين، فإذا ظهر منهم شيء فإنهم يعاملون بمقتضاه، إن ظهر منه ردة وثبت ذلك عليه فإنه يقتل، كمن سب النبي ﷺ، أو سب الله -تبارك وتعالى- أو نحو ذلك إذا ثبت ذلك عليه فيجاهد بإقامة الحد عليه، وإن سُمع منه منكر من المنكرات فإنه ينكر ذلك عليه، وهذا من المجاهدة.

فأهل النفاق وهكذا أصحاب البدع الغليظة وأشباه هؤلاء يغلظ عليهم إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، يعني كان المسلمون فيهم قوة، وأهل السنة فيهم ظهور، فهذا الأصل، واغلظ عليهم بزجرهم وردعهم، وهكذا الذين يظهرون المنكرات، ويتبجحون بها، يعلنون بها لا يرعوون فإن هؤلاء ينكر عليهم، ويغلظ عليهم بزجرهم وردعهم عن ما هم فيه من الغيّ، هذا هو الأصل.

ولكن إذا لم يمكن ذلك لضعفٍ لدى أهل الحق فإن هذه الشريعة فيها عزائم ورخص فينتقل بعد ذلك إلى الرخص، وابن جرير -رحمه الله- كان يرى أن الآية على ظاهرها جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ أنه لا فرق بين الجهادين، وأن المنافقين يجاهَدون كما يجاهد الكفار إذا أظهروا كفرهم الذي أبطنوه، هم يخفون الكفر ويظهرون الإسلام، فإذا أظهروا كفرهم فإنهم يجاهدون كما يجاهد الكفار، لكنهم إذا تنصلوا من ذلك وأنكروه كما كان عبدالله بن أبيّ يقول: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8] ثم حينما يسأل يحلف أنه ما قال! فإذا كان كذلك فإنه يترك لا يقتل، وهذا مما يدخل في معنى الآية أنهم يقتلون إلى آخره، إذا أظهروا كفرهم. 

ولكن هدي النبي ﷺ هو الذي يبين معاني القرآن فالله يأمره أن يجاهد الكفار والمنافقين، أما جهادهم بالقرآن فلا شك أن الطائفتين يدخلون في هذا، ويبقى لكل طائفة من المجاهدة نصيب، فالكفار يجاهدون بالسيف، والمنافقون لم يكن هدي النبي ﷺ أن يقتلهم أو أن يقاتلهم، وإنما كان يكلهم إلى ظواهرهم، فالإنكار عليهم والزجر والغلظة على كل ذلك مطلوب، قال: قال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم، فالذي حدا بهؤلاء العلماء -رحمهم الله- إلى القول بهذا هو ما عُرف من هديه ﷺ في التعامل مع المنافقين قال: وقال الحسن وقتادة: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم، هذا جزء من مجاهدتهم وليس ذلك فحسب.

وقد يقال: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال؛ لأنه تارة يؤاخذهم بهذا، وتارة بهذا بحسب الأحوال يعني كل ذلك من الجهاد بإقامة الحد وبالإنكار وإقامة الحجج والرد على فِراهم وما أشبه هذا، هذا كله من مجاهدتهم يبقى جهاد واحد هو الذي لم يقع، وهو قتالهم بل لم يقتلهم النبي ﷺ وفرْقٌ بين القتل والقتال، فلم يقتلهم؛ لئلا يقول الناس: إن محمداً ﷺ كان يقتل أصحابه، وحتى أولائك الذين أطلعه الله على نفاقهم تركهم!!.

قال "الأموي" في مغازيه: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه عن جده قال: وكان ممن تخلف من المنافقين، ونزل فيه القرآن منهم ممن كان مع النبي   ﷺ: الجُلاس بن سُوَيد بن الصامت، وكان على أم عُمَير بن سعد، وكان عمير في حِجره، فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين، قال الجلاس: والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد فقال: والله -يا جلاس- إنك لأحب الناس إليّ، وأحسنهم عندي بلاء، وأعزهم عليّ أن يصله شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتُها لتفضحَنِّي ولئن كتمتُها لتُهلكنِّي، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى، فمشى إلى رسول الله ﷺ، فذكر له ما قال الجلاس، فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى أتى النبي ﷺ، فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد، ولقد كذب عليّ، فأنزل الله ، فيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ إلى آخر الآية[2]، فوقّفه رسول الله ﷺ عليها، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته، ونزع فأحسن النزوع.

هذه الرواية جاءت من طرق متعددة، ومما ورد في هذا أن رجلاً سمع النبي ﷺ يخطب فقال: إن كان ما يقول هذا حقاً فنحن كذا وكذا، يعني هذه الكلمة التي قالها، فنزلت الآية، وهي رواية تتقوى بمجموع طرقها، وجاءت روايات أخرى في هذا المعنى، فهذا إذا كان يمكن أن يكون الحديث فيه عن قضية واحدة تارة سمي فيها القائل، وتارة لم يسمّ، -وهذا لا يخلو من بُعد عن التأمل لألفاظ الروايات، وقد يكون ذلك من زمان متقارب فيقال: إنها نزلت بعد هذه المواقف جميعاً إذا كان الزمان متقارباً، وإذا كانت هذه بينها تباعد فيمكن أن يقال: إن الآية نزلت أكثر من مرة، مرة في هذا ومرة في غيرها.

وروى الإمام أبو جعفر بن جرير -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس -ا- قال: كان رسول الله ﷺ جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان، فإذا جاء فلا تكلموه[3].

في بعض الروايات في ظل حجرة.

فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق.

رجل أزرق العرب تطلق الأزرق أحياناً على أزرق العينين، وأحياناً يطلق الأزرق على من كان لونه يخالطه السواد، بخلاف الاصطلاح الآن الموجود عند بعض الناس، يقولون: مثل هذا أخضر -الذي فيه سواد خفيف، ويقال: ومن كان شديد السواد يقولون له: أزرق، لكن هذا اصطلاح حادث أزرق يعني شديد السواد هذا موجود يعبر به في بعض النواحي، ولكنه اصطلاح حادث.

فدعاه رسول الله ﷺ فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟، فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا الآية.

وقوله: وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ، قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد وذلك أنه هم بقتل ابن امرأته حين قال: لأخبرن رسول الله ﷺ.

الجزء الذي في الآية السابقة لم يتكلم عليه لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة:66]، وعرفنا أن المنافقين ما كانوا مؤمنين، وإنما المقصود بعد إيمانكم الذي أظهرتموه، وهنا قال: وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وهذه توضح المراد بالإيمان في الآية السابقة، فالمعنى الذي أظهروه هو إسلام الظاهر قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات:14] فكل هذا محمول على هذا المعنى -والله تعالى أعلم: أنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ أي إسلام الظاهر.

وقوله: هم بقتل ابن امرأته يعني عمير بن سعد الذي مضى في الرواية السابقة، لكن هذا يحتاج إلى إثبات، ولا أعلم رواية صحيحة في هذا، وأسباب النزول موقوفة على النقل والسماع ولا مجال للاجتهاد فيها، وإذا كانت الرواية لا تصح -يعني في أنه هم بقتله- فلا يقال: إن هذا هو سبب النزول.

وقيل: في عبد الله بن أبيّ هم بقتل رسول الله ﷺ.

وهذا أيضاً لا يعرف في رواية صحيحة.

و قال السدي: نزلت في أناس أرادوا أن يُتوِّجوا عبد الله بن أُبيّ وإن لم يرض رسول الله ﷺ.

كل هذه مراسيل، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن أكثر المرويات الواردة في أسباب النزول هي من قبيل المراسيل، لا تصح.

وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي ﷺ وهو في غزوة تبوك، في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الآية، وذلك بيّن فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة عن حذيفة بن اليمان -ا- قال: كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله ﷺ أقود به، وعمار يسوق الناقة -أو أنا أسوقه، وعمار يقوده- حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها، قال: فانتهرهم فأنبهتُ رسول الله ﷺ بهم فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله ﷺ: هل عرفتم القوم؟، قلنا: لا يا رسول الله، قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الرِّكاب، قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟، قلنا: لا، قال: أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة، فيلقوه منها، قلنا: يا رسول الله، أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: لا، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال: اللهم ارمهم بالدُّبَيْلة، قلنا: يا رسول الله، وما الدُّبَيلة؟ قال: شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك[4].

قوله: وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ كون هذا هو سبب النزول كما ترون الرواية ليس فيها شيء من هذا، يحتمل أن يكون هذا هو السبب أنهم هموا بأذى رسول الله ﷺ في غزوة تبوك بمزاحمة ناقته حتى يسقط من العقبة، لكن ليس عندنا رواية صحيحة في أن هذا هو سبب نزول الآية.

حدثنا أبو الطفيل قال: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس.

من أهل العقبة ليس المقصود بيعة العقبة، وإنما هؤلاء الذين هموا بمزاحمة النبي ﷺ في العقبة في الطريق إلى تبوك.

فقال: أنشدك بالله، كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك، قال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعذرَ ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله ﷺ، ولا علمنا بما أراد القوم، وقد كان في حَرَّة فمشى، فقال: إن الماء قليل، فلا يسبقني إليه أحد، فوجد قوما قد سبقوه، فلعنهم يومئذ.

وما رواه مسلم أيضا عن عمار بن ياسر -ا- قال: أخبرني حذيفة عن النبي ﷺ أنه قال: في أصحابي اثنا عشر منافقا، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط: ثمانية تكفيكهم الدُّبَيْلة: سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم[5].

ولهذا كان حذيفة يقال له: "صاحب السر، الذي لا يعلمه غيره" أي: من تعيين جماعة من المنافقين، وهم هؤلاء، قد أطلعه عليهم رسول الله ﷺ دون غيره، والله أعلم.

وقوله: وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي: وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سفارته، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله لما جاء به، كما قال ﷺ للأنصار: ألم أجدكم ضُلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئًا قالوا: "الله ورسوله أمن"[6].

هؤلاء من المنافقين، بعضهم يقول: إن بعض من نزلت فيه هذه الآية كان له دية فأعطاه النبي ﷺ فأغناه الله بذلك، وهذا لا يحصر بهذا المعنى، وإنما أغناهم الله بما فتح الله عليهم من الفتوح، وما حصل ببعثته ﷺ مِن غناهم بعد الفقر الذي كان هو الغالب على أحياء العرب، ففتح الله قريظة والنضير وخيبر وما شابه ذلك، فصار هؤلاء -كما تجري عليهم أحكام المسلمين في الظاهر- يأخذون من الغنيمة إذا شاركوا في المعركة، ويأتيهم ما يأتيهم من الأموال والصدقات وغير ذلك فصاروا أغنياء بعد أن كانوا عالة ألم أجدكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟ قال: وعالة فأغناكم الله بي؟، وهؤلاء من المنافقين عامتهم كانوا في المدينة إلا ممن حولهم من الأعراب، فحصل لهم الغنى بما فتح الله به على المسلمين، وقوله: وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ هذا كقوله -تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ [سورة المائدة:59] الآية، وكقوله في أصحاب الأخدود: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [سورة البروج:8] فإيمانهم هو سبب نقمتهم وهذا ليس بعيب، وليس فيه ما يوجب النقمة، وذلك كقول الشاعر:

ولا عيبَ فيهم غيرَ أنّ سيوفَهم بهنّ فُلولٌ من قِراع الكتائبِ

فهذا الذي يسميه البلاغيون: المدح بما يشبه الذم، وهذه الآيات ترجع إلى هذا المعنى، وإن كان ذلك عند المنافقين بغيضاً مكروهاً، فالشاهد أن المؤمنين لم يصدر منهم، ولا من رسول الله ﷺ ما يوجب هذا النقمة من المنافقين، بل صدر منهم عكس ذلك، وهو أنه حصل لهؤلاء المنافقين الغنى وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ كما قال النبي ﷺ لما قيل له: إن ابن جميل قد منع صدقته، قال: ما يَنقمُ ابنُ جميل إلا أن أغناه الله من فضله، يعني كان الواجب عليه أن يشكر وأن يخرج زكاة ماله.

وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب كما قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ... الآية [سورة البروج:8].

ثم دعاهم الله -تبارك وتعالى- إلى التوبة فقال: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أي: وإن يستمروا على طريقهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا أي: بالقتل والهم والغم، والآخرة أي: بالعذاب والنكال والهوان والصغار، وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي: وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم، ولا يُحصِّل لهم خيراً، ولا يدفع عنهم شراً.

هنا فسر العذاب في الدنيا بالهم والغم، ولم يفسره بغير هذا كالقتل مثلاً، أو المقاتلة؛ لأن ذلك لم يقع لهم، والله وعْدُه حق وصدق، وهم قد تولوا فلم يقع عليهم القتل، ففسر العذاب في الدنيا بما يحصل لهم من النقص في الأموال، وما يحصل لهم من العلل والأوجاع في الأبدان، وما يحصل لهم من الغم بسبب ما يفقدونه في هذه الدنيا من الأولاد وغير ذلك من المتع التي يتحسرون على فواتها، والله أعلم.

  1. رواه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، برقم (1696).
  2. رواه عبد الرزاق في المصنف، كتاب العقول، باب قسامة الخطأ، برقم (18303).
  3. جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (14/363)، برقم (16973).
  4. دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، للإمام أبو بكر البيهقي (5/261).
  5. رواه مسلم، في بداية كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2779).
  6. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، برقم (4075)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه، برقم (1061).

مواد ذات صلة