الثلاثاء 24 / جمادى الأولى / 1446 - 26 / نوفمبر 2024
[117] من قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا} الآية 276 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الآية 282
تاريخ النشر: ٢١ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 4254
مرات الإستماع: 2550

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ۝ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:276- 277].

يخبر تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة، كما قال تعالى: قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [سورة المائدة:100]، وقال تعالى: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [سورة الأنفال:37]، وقال: وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ الآية [سورة الروم:39].

وقال ابن جرير في قوله: يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا: وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود -: عن النبي ﷺ أنه قال: الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قلٍّ[1]، رواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما كان مقصود هذا المرابي هو تكثير ماله بأي طريق من حلال أو حرام، عاقبه الله بنقيض قصده بأن أصاب ماله بالمحق، والمحق: الإبطال، أي أن الله أبطل ماله وأذهبه، وإن كثر فإن كثرته لا تغني عن صاحبه شيئاً لأنه منزوع البركة، وهذا المرابي إذا تصدق فلا تقبل صدقته، وكذا لو حج أو بنى مسجداً بهذا المال، فإنه لا يؤجر على صنيعه؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وهذا المال سيئ من كسب سيئ، وفي المقابل ...

وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ أي ينميها، وقيل: يربيها، كما روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فُلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل [2]، وقد رواه مسلم في الزكاة.

والصدقة وإن كانت في ظاهرها نقص من المال، إلا أن عزاء المتصدق فيما أخبر عنه نبيه ﷺ بقوله: ما نقص مال عبد من صدقة[3]، فيبارك الله سبحانه للمتصدق في ماله، ويربي له صدقته حتى تصبح أمثال الجبال.

وقوله: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ أي لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.

هذا وجه حسن فيما يتعلق ببيان وجه المناسبة بين خاتمة الآية وبين موضوعها، فهذه الآية لما كانت تتحدث عن هذا الإنسان المرابي الذي لم يرض بما أعطاه الله من كسب حلال، فكفر نعمة الله عليه، وصار يطلب ما لا يحل له كسبه، جعل الله هذا جزاءه وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فهو كفَّار بفعله، مكتسب للآثام، متقحم على حدود الله بالباطل.

ثم قال تعالى مادحاً للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مخبراً عما أعد لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:277].

لما وصف الله سبحانه المرابين وحالهم ومالهم، عرج على ذكر من يقابلهم، وهم أهل العبودية والإحسان والإفضال والطاعة لله ، كأنه يريد القول: إن هؤلاء في طرف وأولئك في طرف آخر، وشتان ما بينهما.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ۝ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة البقرة:278-281]

يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، ناهياً لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون، وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رءوس الأموال بعد هذا الإنذار، إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك.

سبق الكلام على صور تعاطي الربا قبل بلوغ الخطاب وبعد بلوغه، وما يجوز منها وما يحرم، وفصلنا في ذلك بما يغني عن إعادتها.

وأما قوله سبحانه: إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فهذا أسلوب معروف في كلام العرب، يقصد به التحضيض والتحريض على الامتثال للفعل، تقول: إن كنت ابن الكرام فافعل كذا، بمعنى أنك تحرضه وتحثه علي أمر معين، وأمثلته عديدة في القرآن الكريم.

وقد ذكر زيد بن أسلم، وابن جريج، ومقاتل بن حيان، والسدي أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم رباً في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام، فكتب في ذلك عتاب ابن أَسِيد نائب مكة إلى رسول الله ﷺ، فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله ﷺ إليه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم، وهذا تهديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار.

هذه الرواية من المراسيل فيها ضعف، لكنها إذا جاءت من أكثر من وجه، فقد تنجبر وتتقوى بذلك.

قال ابن جريج: قال ابن عباس -ا: فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله.

وعنه قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ.

ويمكن أن يكون هذا من باب الإعلام لهم بالحرب كما قال سبحانه: فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء [سورة الأنبياء:109] بمعنى أعلمتكم، والأذان: هو الإعلام، وهذا لا يخالف ما أورده ابن كثير في معنى الآية، إذ المراد أنه إعلام أكيد لا مرية فيه أن الذي يفعل الربا محارب لله ، ولذلك لم تتضافر الآثار في التنفير والتشنيع من معصية مثل ما تضافرت في آكل الربا، وهذا يدل على عظم هذا الذنب وفداحة عاقبته، إضافة إلى ما ورد فيه من الوعيد واللعن للمتعامل به قال رسول الله ﷺ: لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء[4].

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ فمن كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.

ثم قال تعالى: وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ أي بأخذ الزيادة، وَلاَ تُظْلَمُونَ أي بوضع رءوس الأموال أيضاً، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه.

وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن الأحوص قال: خطب رسول الله ﷺ في حجة الوداع فقال: ألا إن كل رباً كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول رباً موضوع ربا العباس بن عبد المطلب، موضوع كله[5].

وقوله: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:280] يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاءً، فقال: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، ثم يندب إلى الوضع عنه، ويعِد على ذلك الخير والثواب الجزيل فقال: وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين.

أو بعضه فهو خير وأفضل لكم، فقد ثبت في الصحيحين أن كعب بن مالك : كان له على عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي دين فلقيه، فلزمه، فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما، فمر بهما النبي ﷺ فقال: يا كعب. وأشار بيده كأنه يقول النصف، فأخذ نصف ما عليه وترك نصفا[6].

روى الإمام أحمد عن سليمان بن بريد عن أبيه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة، قال: ثم سمعته يقول: من أنظر معسراً فله بكل يوم مثلاه صدقة، قلت: سمعتك يا رسول الله ﷺ، تقول: من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة، ثم سمعتك تقول: من أنظر معسراً فله بكل يوم مثلاه صدقة، قال: له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة[7].

فإذا استيقن المؤمن مثل هذا هانت عليه الدنيا، ولم يفعل ما يفعله أهل الجاهلية من ظنهم أن أموالهم منحبسة في أيدي غرمائهم، لا يستطيعون التصرف فيها، ولا يجدون سبيلاً إلى تعويض ما فاتهم إلا بأخذ ذلك المال السحت.

وروى أحمد عن محمد بن كعب القرظي أن أبا قتادة كان له دين على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي، فسأله عنه، فقال: نعم هو في البيت يأكل خزيرة، فناداه فقال: يا فلان اخرج، فقد أُخبرت أنك ها هنا، فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر، وليس عندي شيء، قال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة[8]، ورواه مسلم في صحيحه.

وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: أتي الله بعبد من عبيده يوم القيامة، قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها -قالها ثلاث مرات- قال العبد عند آخرها: يا رب، إنك كنت أعطيتني فضل مال، وكنت رجلاً أُبايع الناس، وكان من خُلُقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر، وأنظر المعسر، قال: فيقول الله : أنا أحق من ييسر، ادخل الجنة[9].

وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه عن حذيفة، زاد مسلم: وعقبة بن عامر، وأبي مسعود البدري -ا: عن النبي ﷺ بنحوه.

قصد بقوله: "إن من خُلُقي الجواز" يعني التسهيل والتوسعة على الناس، فهذا ما يئول إليه معنى الجواز، وهذا الحديث يستدل به على أن الإنسان قد يعمل عملاً ليست له فيه نية ويؤجر عليه، وهذا عائد إلى مشيئة الله وإرادته وحكمه النافذ وحكمته الباهرة، فالرجل قال: "ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها"، ثم ذكر هذا الصنيع الذي كان يصنعه، فكان ذلك سبباً لمثل هذا الجزاء العظيم، والله أعلم.

ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته فقال: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة البقرة:281].

وقد روي أن هذه الآية، آخر آية نزلت من القرآن العظيم، وقد رواه النسائي عن عبد الله بن عباس -ا- قال: "آخر شيء نزل من القرآن وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ، وكذا رواه الضحاك، والعوفي عن ابن عباس.

اختلفت أقوال العلماء في آخر ما نزل من القرآن الكريم:

فقيل آخر ما نزل آية الربا، والمراد بها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا....

وقيل: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا....

وقيل: آخر ما نزل آية الديْن، وهي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ويجمع بين الروايات الثلاث بأن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، آية الربا، فآية وَاتَّقُواْ يَوْمًا...، فآية الدين؛ لأنها في قصة واحدة، إنما أخبر كل راوٍ عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح، وبهذا لا يقع التنافر بينهم.

وأما ما جاء من حديث ابن عباس أن آخر ما نزل إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] فيمكن أن يقال: إنها آخر سورة كاملة نزلت، يدل على ذلك ما جاء عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: تعلم أيّ آخر سورة نزلت جميعاً؟ قلت: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، قال: صدقت.

وأما القول بأنها سورة المائدة، فهذا المراد به في الأحكام خاصة، ولم ينسخ منها شيء.

وأما ما اشتهر عند كثير من الناس من أنها الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا... الآية [سورة المائدة:3] فهذا ليس بصحيح؛ إذ إن هذه الآية نزلت والنبي ﷺ في عرفة، وقد نزل بعدها آيات.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282].

هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم، وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.

يستدل بهذا الأثر على أن جبريل كان يسمع القرآن من الله مباشرةً، ولا يأخذه من بيت العزة أو من اللوح المحفوظ، وعلى هذا سار السلف –رضوان الله عليهم، أضف إلى ذلك الأحاديث التي وردت في بيان صفة تكلم الله بالوحي.

فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها؛ ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ.

كل معاملة كان أحد العوضين فيها في الذمة -يعني نسيئة- والآخر نقداً فهي دين، ويدخل في هذا أنواع كثيرة من المعاملات.

وبعض أهل العلم أخذ من الآية أن الدين لابد من تسمية الأجل فيه، ولكن هذا قد يقال في نوع من الدين يعرف بالسلم: وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد؛ وقد أمر النبي ﷺ أن يكون السلم منضبطاً في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم، لكن العلماء مختلفون في بعض صوره: فيما لو قال له: إلى الحصاد، فهل يعتبر تحديداً أم لا؟ الخلاف في هذا الباب هو في تحقيق المناط، عامة أهل العلم يقولون: إن الأجل في هذه الصورة غير مسمى؛ ومعلوم أن السلم لابد فيه من تحديد الأجل بنص حديث رسول الله ﷺ، وما دام موعد الحصاد غير معلوم، مما قد يكون مظنة لاختلاف الناس، ومدعاة للمُشَاحّة بينهم، فلذلك لم يجيزوا هذه الصورة.

وأما ما عدا السلم من السلف والدين فقد وقع الاختلاف بين المفسرين في وجوب كتابته، والذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري، وسبقه إليه جماعة من السلف أنهم يرون أن الكتابة واجبة عند المداينة، واستدلوا بظاهر قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ وحملوا الأمر في الآية على الوجوب، كما هو الظاهر المتبادر.

وعامة أهل العلم يرون أن كتابة الدين لا تجب، وحملوا الأمر في الآية على الندب والاستحباب، وجعلوا الصارف الذي صرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب في الآية ثلاثة أمور:

الأول: أن الله لما ذكر آية الدين عقب بعدها بقوله: وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ [سورة البقرة:283] قالوا: والرهن لا يجب أخذه بالإجماع، وإنما ذكر عوضاً عن الكتابة، والبدل يقوم مقام المبدل منه، ويأخذ حكمه، ولو كانت الكتابة واجبة لوجب العوض عنها وهو أخذ الرهن.

الثاني: أن الله أخبر في الآية بعدها أنه إذا حصل بين المتداينين وثوق ببعضهم، فإن ذلك يغنيهم عن كتابة الدين قال الله : فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ.

الثالث: قالوا: إن لصاحب الدين الحق في التصرف فيه، إسقاطاً ومطالبةً، وإنما أرشده الله إلى كتابته من أجل ألا يضيع، فإذا كان مخيراً في التصرف إمساكاً وإسقاطاً، فكيف يطالب بالكتابة على سبيل الإيجاب!، هذا بالإضافة إلى ما ذكره بعض أهل العلم من أنه يُفرق في الأمر بين العبادات والمعاملات، ففي العبادات أصل الأمر فيها للوجوب إلا لصارف، وفي المعاملات لا يكون للوجوب وإنما للندب والإرشاد والتعليم وما أشبه ذلك، وهو بهذا الإطلاق فيه نظر.

والذي أظنه والله أعلم أن يقال: إن القواعد أغلبية، ويكفي أن تنطبق على أكثر الجزئيات، فيكون ذلك لمًّا لشعَث الفروع المنتثرة التي يصعب حصرها والإحاطة بها على طالب العلم، مما يسهل عليه حفظها واستيعابها، وجمع أطرافها وشتاتها، ولذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر في الآية من باب الإرشاد بناءً على أن العادة الغالبة عند الناس أنهم إذا تداينوا إلى أجل مسمى كتبوا ما تداينوه بينهم، ولهذا لما قال الله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [سورة البقرة:189] قال بعض المفسرين: إنه أراد أنها مواقيت للناس في آجال الديون وعِدد النساء و...

والأمر في القرآن الكريم لم يأت في كل صوره للوجوب بدليل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [سورة البقرة:168]، وقوله: انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [سورة الأنعام:99]، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [سورة الحـج:36]، فهذه الآيات وإن أفهمت في ظاهرها الوجوب، إلا أن هناك صوارف ذكرها أهل العلم صرفت الحكم من الوجوب إلى غيره.

ومنها قوله ﷺ: ولا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول[10] كثير من أهل العلم كالحافظ ابن حجر –رحمه الله- حملوا الأمر في الحديث على أنه أدب ليس إلا، وإن كان ظاهره النهي ومعلوم أن النهي يقتضي التحريم، بخلاف الظاهرية ومن وافقهم فإنهم يرون أن هذا الأمر للتحريم.

فقصدي من هذا أن طالب العلم لا يستشكل مثل هذه الأشياء، ولا يجعل ورود مثل هذه الأمور قدحاً في القاعدة العامة التي تنص أن القواعد أغلبية.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. رواه- رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (3754) (1 / 395)، قال شعيب الأرنؤوط: صحيح.
  2. رواه- رواه البخاري في كتاب الزكاة – باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب برقم (1344) (2 / 511).
  3. رواه- رواه الترمذي برقم (2325) (4 / 562)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5335).
  4. رواه- رواه مسلم في كتاب المساقاة – باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1589) (3 / 1219).
  5. رواه- رواه الترمذي في سننه بلفظ مقارب برقم (3087) (5 / 273)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13838).
  6. رواه- رواه البخاري في كتاب الخصومات –باب الملازمة برقم (2292) (2 / 853)، ومسلم في كتاب المساقاة –باب استحباب الوضع من الدين برقم (1558) (3 / 1192).
  7. رواه- رواه أحمد في مسنده برقم (23096) (5 / 360)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير سليمان بن بريدة فمن رجال مسلم.
  8. رواه- رواه مسلم في كتاب المساقاة – باب فضل إنظار المعسر برقم (1563) (3 / 1196) ولفظه من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه، وأحمد في مسنده برقم (22676) (5 / 308). قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
  9. رواه- رواه البخاري في كتاب البيوع – باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقاً فليطلبه في عفاف برقم (1971) (2 / 731)، ومسلم في كتاب المساقاة – باب فضل إنظار المعسر برقم (1560) (3 / 1194). ولفظهما مختلف.
  10. رواه- رواه البخاري في كتاب الوضوء – باب النهي عن الاستنجاء باليمين برقم (152) (1 / 69)، ومسلم في كتاب الطهارة – باب النهي عن الاستنجاء باليمين برقم (267) (1 / 225).

 

مواد ذات صلة