الجمعة 30 / ربيع الأوّل / 1446 - 04 / أكتوبر 2024
[9] تابع قوله تعالى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم } الآية20 إلى قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} الآية 21
تاريخ النشر: ٠٩ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 7166
مرات الإستماع: 5028

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يقول المصنف -رحمه الله:

شرع -تبارك وتعالى- في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشاً، أي: مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، والسماء بناء وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [سورة الأنبياء:32].

أوَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء [سورة النمل:60]: والمراد به السحاب ها هنا في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقاً لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن.

ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة غافر:64].

ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبده وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَْ [سورة البقرة:64].

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال، قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك.. [1]الحديث.

وكذا حديث معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً... [2]الحديث.

وفي الحديث الآخر: لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان [3].

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قوله -تبارك وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء [سورة البقرة:22]، مع قوله: وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [سورة الأنبياء:32] دليل على أن السماء سقف محفوظ ومحسوس، خلافاً لما يزعمه بعض أهل الفلك من المعاصرين، حيث يقولون: إن السماء ليست جسماً محسوساً وسقفاً كما هو مقرر في القرآن، وإنما يقولون: إن هذه السماء هي عبارة عن غازات..، وما أشبه ذلك مما يقولونه في هذا المقام، بحيث إنه ليس هناك سقف محيط بالعالم.

وعلى كل حال هذا تكذيب بما جاء في القرآن.

وقوله -تبارك وتعالى: وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء [سورة البقرة:22] المقصود به العلو، فيصدق على السحاب، فكل ما علا فهو سماء، وبالتالي فهذا المطر النازل من السحاب هو نازل من السماء.

فكلام أهل العلم في مصدر هذا المطر -أي: من أين يأتي- كثير، وذلك لا يمنع أن يكون متركباً من أبخرة تتصاعد من مياه البحار وغيرها، أي: تصعد إلى أعلى ثم تتكثف... إلى آخره، ثم تنـزل، فالله يجعل هذه السنة في خلقه، فينزل لهم بها المطر، وقد يكون له مصدر آخر مع هذا، والله على كل شيء قدير، لكن هذا أمر مشاهد، والعلم عند الله .

 وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى.

هذه قضية لا تحتاج إلى تقرير، يعني وجود الصانع أظهر من كل شيء.

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

لذلك لما مر الرازي مع كوكبة من تلامذته بامرأة عجوز فهالها ما رأت من هذا التجمهر على هذا الرجل، والحفاوة به فسألت من هذا؟ فقالوا: هذا الذي يعرف على وجود الله ألف دليل، فقالت: لو لم يكن في قلبه ألف شك لما عرف ألف دليل.

يعني أن هذه القضية لا تحتاج إلى استدلال لظهوره فهو أمر معلوم بالفطر، أمر بيِّن ظاهر أظهر من كل شيء، فلا حاجة إلى العناء في تقريره والاستدلال عليه، فقد كان المشركون وهم على شركهم يقرون بوجوده وصنعه سبحانه، قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة العنكبوت:61].

وبالتالي فإن المتكلمين من أمثال الرازي يبذلون جهداً كبيراً وعناء طويلاً في تقرير هذه القضية -وجود الصانع- فإن انتقلوا منها انتقلوا إلى تقرير توحيد الربوبية، وهذه من آفات علم الكلام، حيث إنهم يجادلون ويطيلون في تقرير القضايا البدهية التي لا ينازع فيها أحد.

وهذا الكلام قد تحتاج إليه مع ملحد، وذلك نادر؛ لأن طوائف أهل الإشراك يقرون بوجود الله لكنهم يجعلون معه شريكاً، فتحتاج إلى مناقشتهم في توحيد العبادة. لكن هؤلاء يناقشون في البدهيات، ولذلك ومقدماتهم سقيمة، فالقرآن الكريم لا يتحدث عن قضية وجود الله مثلاً، ولا يتحدث عن تقرير توحيد الربوبية إلا ليدلل به على توحيد الألوهية، أما أهل الكلام فإن المقدمات عندهم لا تتأتى بأن الله هو الخالق، إذن يجب أن يكون هو المعبود وحده لا شريك له. والصواب ليس كذلك، بل أثبت المقدمة الأولى أن الله هو الخالق، ثم أثبت بعد ذلك أنه المستحق وحده للعبادة.

فانظر كم يحصل بسبب هذا من التطويل من غير فائدة، وهذا هو أحد الفروق بين الأدلة الكلامية المنطقية الفلسفية وطرائق أهل الكلام في الاستدلال، وطريقة القرآن في تقرير قضايا الاعتقاد، هذا واحد من هذه الفروق، وبهذا نعرف ما جره علم الكلام على العقيدة الإسلامية وعلى الأمة من مفاسد وجدل عقيم لا طائل تحته، فاشتغلوا بالقيل والقال، والجدل في المسلمات، وتقرير الثوابت بأطول الأدلة، والتطويل في المقامات التي لا تحتاج إلى تقرير أصلاً، فكثر كلامهم وشغبهم والتمسوا الاعتراضات والقوادح وحاولوا الجواب عنها فشككوا في المسلمات.

هذا هو الذي حصل، ولذلك تجدون مثل الجهم بن صفوان لما قابل طائفة من السمنية وقالوا له: تقر بأن لك رباً؟ قال: نعم، قالوا: هل وجدت له حساً؟ قال: لا، قالوا: هل سمعت له صوتاً؟ قال: لا، قالوا: هل شممت له رائحة؟ قال: لا، إلى أن قالوا له: كيف إذن تدعي أن لك رباً ولم تدركه بحواسك؟

فبقي شاكاً لا يصلي أربعين يوماً، ثم خرج عليهم بكلام أشبه ما يكون بكلام النصارى -كما قال الإمام أحمد -رحمه الله- وغيره- في الرد على الزنادقة والجهمية، حيث جاءهم فقال لهم: تقول بأن لك روحاً، قال: نعم، قال: هل وجدت لها صوتاً، قال: لا، وجدت ريحاً؟ قال: لا، قال: إذن: كيف تقول بأن لك روحاً؟ وظن أنه حاجَّهم في هذا، وهو يقول: بأن الله مثل الروح، فصار أعظم من قول النصارى بأن المسيح هو روح الله وأنه حل في المسيح، فهو يقول بأن الله مثل الروح يحل ويتجلى في هذه المخلوقات.

وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى.

مع أن القرآن ساقها لا لتقرير وجود الصانع، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21]، جاء بها من أجل العبادة،اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21]، وهم ما استدلوا بها حتى على توحيد الربوبية الذي هو مسلَّم وما سيقت بتقريره، لكنه أشار إلى هذا، وهو أمر يقرون به أنه هو الرب وحده، فإذن ينبغي أن يكون المعبود وحده، فذهب الرازي إلى ما قبل قبل ذلك، وهو وجود الصانع، ثم بعد ذلك تأتي مرتبة أخرى وهي أنه الرب، فهو يريد أن يثبت أنه موجود، والآية ما جاءت لهذا.

فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال:...

شوف الآن الفرق بين هذا وبين الجهم بن صفوان، على كثرة من تبع الجهم بن صفوان من أهل خراسان، وفي البصرة من أتباع عمرو بن عبيد، وغير هؤلاء من المعتزلة الذين يزعمون أنهم أصحاب عقول، حيث انكفأ كثير منهم خلف هذا الرجل المبطل، وتتعجب في ذلك الزمان -في زمان التابعين- مع وجود علماء مثل الجبال وقرب العهد من شمس النبوة، كيف توجد عقول تفكر بهذه الطريقة وتتبع مثل هذا الرجل على جهله وغباوته وظهور فساد عقله، فكيف بزمانك هذا الذي لا ننتظر فيه إلا الدجال؟

فهذا أمر في غاية العجب، فلو أن الإنسان تأمل في التاريخ وظهور الفرق، كيف وجدت هذه الألوف المؤلفة، الذين تبعوها وصاروا يموتون دونها، ويتحمسون لها، ثم تقوم الخلافة على فراخ هؤلاء الجهمية وهم المعتزلة، ويمتحنون الناس؟

نعجب كيف وجدت مثل هذه الأشياء في ذلك الزمان؟ فكيف بزماننا هذا؟ نستغرب إذا انحرف الناس وحادوا عن الجادة.

كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله، إن البعرة ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!

فمن تأمل هذه السموات بارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار، والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقَرَّ ويسكن ساكنوها، مع اختلاف أشكالها وألوانها، كما قال الله تعالى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ۝ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [سورة فاطر:27-28].

وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنباتات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربية والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم، وإحسانه إليهم، وبره بهم، لا إله غيره، ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب.

والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.

على كل حال هذه الطريقة هي الشائعة في القرآن، وذلك أن يستدل بهذه المخلوقات والكائنات والأجرام العلوية والسفلية على وحدانية الله  وصفاته، يستدل بهذه المشاهدات وما يقع في هذا الكون على المعبود  فيُتعرف عليه -تبارك وتعالى- بآثاره وخلقه.

والطريقة الثانية وهي طريقة الخاصة، وهي الاستدلال، أي التعرف على ما يجري في الكون بناء على المعرفة بالله .

يعني أن يجعل معرفته بالله وأسمائه وصفاته طريقاً إلى معرفة ما يقع ويجري في هذا العالم.

وشتان بين الطريقتين، فالطريقة الأولى هي الشائعة الكثيرة، وهي التي تناسب عامة الخلق، تقول: الأثر يدل على المسير، وهذه الأكوان والأفلاك العظيمة في جريها ودقة خلقها وعظمتها تدل على عظمة الخالق وعلى علمه وعظيم سلطانه، وتدل على قدرة تامة وغنى مطلق، وملك لا يقادر قدره، وما إلى ذلك من المعاني، وتستدل بما ترى من هذه الخلائق التي تأتيها أرزاقها في قعر البحار على أن الله رحيم وأنه رزاق وأنه بصير وأنه خبير يعلم دقائق الأشياء والخفيات، وأنه لطيف بعباده وما أشبه هذا.

الطريقة الثانية: هي طريقة خديجة -ا- لما جاءها النبي ﷺ مذعوراً فقالت بناء على ما عرفت من أوصاف الله الكاملة، قالت: "كلا، والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف" إلى آخر ما ذكرت.

فهي بناء على ما عرفت من أوصاف الله وكماله استنبطت وعرفت أن ما وقع للنبي ﷺ ليس أمراً مخوفاً يتبعه ويلحقه من جرائه الضرر، فقالت: لا، فمثلك لا يخاف، ولا يلحقه المكروه؛ لأنك بهذه المثابة والله لا يضيع أولياءه.

هذه طريقة موجودة، ولكنه لا يتوصل إليها إلا من كملت معرفته وبلغ مرتبة اليقين، فهو ليس عنده شك ولا تردد ولا ريبة، بل إيمانه جازم ثابت، فهذا يستطيع أن يتعرف على كثير من الأمور الواقعة، ويحكم عليها بناء على معرفته بالله ، فيعرف أن صنع هؤلاء إلى بوار، وأن كيد هؤلاء لا يفلح، وأن العاقبة ستكون لهؤلاء، وأن إدالة هؤلاء على هؤلاء مؤقتة ولن تدوم، وإنما هي كما قال الله وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [سورة محمد: 4]، فهو يعرف هذه الأشياء، ويعرف من أين أتي، ومن أين وقع في هذه الورطة، وكيف يكون المخرج منها، وكل ذلك بناء على معرفته بالمعبود .

فمن وصل إلى هذه المرتبة فإنه قد وصل إلى مرتبة من مراتب الإيمان العالية، وهي أهل اليقين، أهل البصر، أهل المعرفة الصحيحة بالله .

فهذه مراتب خواص أهل العبودية، ولذلك لا تجد هذه الطريقة الثانية مطروقة كثيراً في القرآن أو في الكتب؛ لأن المناسب لعامة الخلق، هي الطريقة الأولى.

يقول الله تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:23-24].

ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطباً للكافرين، وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا: يعني محمداً ﷺ فأتوا بسورة من مثل ما جاء به....

تحدثنا في بداية التفسير الذي كان في يوم الجمعة عن مقاصد القرآن والموضوعات الأساسية التي جاء لتقريرها، وقلنا: من ذلك قضية التوحيد بأنواعه الثلاثة، ومن ذلك قضية الوحي والرسالة والنبوة، وذكرناه في موضوعات سورة البقرة والقضايا التي جاءت لتقريرها.

فهنا ذكر قضية التوحيد: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [سورة البقرة:21]، ثم انتقل منها إلى قضية الوحي، وإثبات نبوة محمد ﷺ بالمعجزة، وهي هذا القرآن.

قال تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ: والريب، هنا فسره بالشك، وقلنا: إن هذا التفسير بما يقاربه، وإلا فإن الريب كما مضى في أول السورة هو شك مع قلق وتردد، وليس مجرد الشك، يقال له: ريب، وإنما إذا حصل معه شيء من القلق والتردد، يقال له: ريب، يعني أنه أخص من الشك.

ثم شرع  تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطباً للكافرين: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَاَ يعني محمداً ﷺ فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارِضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك.

قال ابن عباس -ا: شُهَدَاءكُم: أعوانكم.

نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَاَ: لفظ التنزيل نزلنا يدل على التدريج، بخلاف ما لو قال: أنزلنا، وهذا مما يستدل به على أن القرآن نزل منجماً؛ فإن التفعيل يدل على التكثير، فهو يدل هنا على التدرج في النزول، أي: نزل شيئاً بعد شيء.

فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ: هنا تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة، وقد تحداهم في مواضع من القرآن تارة أن يأتوا بقرآن مثل هذا القرآن، وبكتاب مثل هذا الكتاب، كما تحداهم أن يأتوا بعشر سور كما في سورة هود، وتحداهم أن يأتوا بسورة كما هنا وكما في سورة يونس.

ولذلك يقال بأن القرآن يحصل إعجازه بأقصر سورة، وأقصر سورة ثلاث آيات كسورة الكوثر. وذهب جماعة من أهل العلم -وهو قول متجه- إلى أن ذلك يحصل أيضاً بما يعادل أقصر سورة، يعني آية أو جزء من آية مثل آية الدين التي هي أطول من سورة الكوثر بأضعاف، فيحصل الإعجاز بآية أو بجزء من آية تعادل أقصر سورة.

أما الكلمة الواحدة من حيث هي، فإنها ليس فيها إعجاز، ولكن وضعها في موضعها لا شك أنه مع التركيب والسياق في غاية الإحكام والدقة بحيث كما قال بعض أهل الإعجاز: لو فتشت القواميس والمعاجم ولغة العرب لم تجد أبداً كلمة تقع موقعها بجرسها وسياقها ودلالتها الأصلية والخادمة، أي لا تجد شيئاً يؤدي نفس المعاني ونفس الإيقاع والتأثير في السمع، ويمثلون على هذا بأمثلة، كقوله -تبارك وتعالى: إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [سورة الأنبياء:78].

فكلمة نَفَشَت قد لا تعرف معناها بالضبط، ولكن مجرد ما تسمعها يحصل لك فهم لا يمكن أن تؤديه لفظة أخرى تقوم مقامها، ولذلك لو قلت: إذ انتشرت فيه غنم القوم، فإنها لا تؤدي نفس المعنى الذي تؤديه عبارة إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، والأمثلة على ذلك كثيرة.

يقول تعالى: وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم: قال ابن عباس: أعوانكم، وقال السُّدي عن أبي مالك: شركاءكم أي: قوماً آخرين يساعدونكم على ذلك، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم.

وقال مجاهد: وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم: قال: ناس يشهدون به، يعني حكام الفصحاء.

الشهداء: جمع شهيد، الشهيد والشاهد، شهود وشهداء، وهذه اللفظة الشهود والشاهد تأتي مقولة عمن حضر، تقول: فلان شهد الوقعة يعني من حضر، يقال: وقد شهد بدراً، يعني حضر بدراً، فتأتي بمعنى الحضور، وتأتي هذه اللفظة بمعنى الشاهد الذي يؤدي الشهادة، وتأتي بمعنى المعاون.

وهنا قال الله تعالى: وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم: المقصود الأعوان، ومن هنا فسره بعض السلف بالآلهة؛ لأنهم عادة يطلبون المدد منهم، أي: هاتوا أعوانكم من أجل أن تأتوا بقرآن مثل هذا.

وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم: أي أعوانكم ومن هنا يمكن أن يقال آلهتكم كما قال بعض السلف، أي: وادعوا آلهتكم، أو ادعوا من شئتم ليحضر ذلك، أو ادعوا شهداءكم أي: الشهود على أن هذا مثل القرآن، ومن هنا قال من قال: ناس يشهدون به، يعني حكام الفصحاء.

حكام الفصحاء كانوا في السابق في أسواقهم كسوق عكاظ في الجاهلية لهم منتديات أدبية، فيأتي الشعراء والخطباء والأدباء ويلقون القصائد والخطب، وكان لديهم لجنة ممن برع في هذا الباب أمثال امرئ القيس -وتعرفون أخبار هؤلاء في التاريخ وكيف يحصل مغاضبات أحياناً في تلك المجالس لما تفضل في تلك الأسواق قصيدة على قصيدة فيغضب ويهجو الحكم- وهذه اللجنة بمثابة طاقم التحكيم، يسمعون القصيدة ويسمعون، فيحكمون أن هذه أفضل من هذه، وينتقونها، فانتقوا السبع المعلقات وعلقوها على الكعبة؛ باعتبار أنها من روائع الشعر العربي، فهنا وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم: يعني الشهود الذين يشهدون بأن هذا مثل القرآن.

فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم: أي من يشهدون لكم بذلك، أو ادعوا أعوانكم كآلهتكم التي تستعينون بها، أو ادعوا من يحضر، ادعوا شهداءكم، وادعوا أعوانكم.

يقول الله تعالى:قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88] يعني لو كان بعضهم لبعض مظاهراً ومعاوناً ومؤيداً ومناصراً ومقوياً ما يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهنا بسورة واحدة.

وقد تحداهم الله تعالى بهذا فعجزوا وما استطاعوا، حتى الذين حاولوا صاروا أضحوكة في التاريخ؛ لأن العقلاء منهم كفوا ومزقوا الأوراق التي حاولوا كتابتها، والذين تجرؤوا صاروا سبة وأضحوكة يضحك منهم الناس.

انظر إلى هذه الترهات والنماذج من هذه المحاولات المضحكة لمسيلمة الكذاب، الذي كلما ذُكر، ذكر الكذب معه، حيث يقول في قرآنه: والليل الأضخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، وما انتهكت أسيد من مُحرَّم.

ما هذا الكلام، هل هذه فصاحة وبلاغة، هل هذا قرآن، ماذا تحت هذا الكلام من معاني يمكن أن تستنبط؟ لا شيء من ذلك، بل هذا كله كذب وزور.

اجتمع مسيلمة الكذاب مع سجاح بنت الحارث وتزوجها، وهي أيضاًً كانت تدعي النبوة، فقالت له: ما أوحي إليك؟

فقال: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ما بين صفاق وحشا.

فقالت: وماذا بعد ذلك؟

قال: أوحي إليَّ: إن الله خلق النساء أفواجاً، وجعل لهن أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً نتاجاً.

فقالت هذه التي تدعي النبوة: أشهد أنك نبي، فتزوجته، وحق فيهما قول الله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [سورة النــور:26]، فلا غرابة من ذلك.

ولما قدم على أبي بكر وفد مسيلمة في حروب الردة، أو لما جيء ببعضهم فقال: أسمعوني ما يقول صاحبكم، فذكروا له الفيل وما الفيل وما  أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل، وذيل قصير، ومما قالوه عنه: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، واللاقمات لقماً، قال: أشهد أن هذا لم يخرج من إل، ومعنى من إل يعني من إله أو من ربٍّ، كما قال تعالى: لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [سورة التوبة:10] أي لا يرقبون فيكم الله ولا العهد.

قال لهم أبو بكر: ويحكم، إن هذا الكلام لم يخرج من إل، فأين كان يذهب بكم؟ أي: أين عقولكم؟ ومع ذلك كانوا يقولون: إن كذاب اليمامة أحب إلينا من صادقي مضر، وتصرفهم هذا خلافاً لابن المقفع الأديب المعروف، الذي قيل له: ابن المقفع لأنه ضرب على ظهر يده حتى تقفعت وذلك لما ادعى النبوة، أو ادعى أنه يأتيه مثل هذا القرآن، فحاول وكتب أشياء ومزقها، ومر على صبي يقرأ قوله تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة هود:44]، فرجع ومحا كل ما كتب، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض وما هو بكلام البشر، ما استطاع.

وكذلك المتنبي لما بلغ ذروة في الشعر اغتر بنفسه فحاول وادعى كما قيل النبوة فترة -ولذلك قيل له المتنبي- وحاول أن يكتب قرآناً، فكان كلما كتب ورقة مزقها.

وحتى الذي كتبه ابن المقفع أول ما كتبه إنما أخذه من كتابين من حكم فارس وغير ذلك، يقال لأحدهما الدُّرة وللآخر التليمية، فهو جاء بالعبارات من هذين الكتابين حيث لفقها ونمقها ولم يأت بها من عند نفسه فاستحيا ولم يظهرها.

وهذا رجل آخر يقال له: يحيى بن حكم الغزال في الأندلس كان من البلغاء توفي سنة 250هـ، حاول فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها وما استطاع.

يقول: اعترتني منه خشية ورقة حملتني على التوبة والإنابة.

وهكذا كل من حاول فإن محاولته باءت بالفشل، وإذا أردتم أن تعرفوا شيئاً من هذا فانظروا في كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، فقد تكلم فيه على قضايا منها: أنه جاء بقصيدة يضرب بها المثل عند العرب في الإعجاز، وهي قصيدة مطلعها: قفا نبكي.

هذه مطلع قصيدة بليغة جداً لامرئ القيس، فإذا قيل: قفا نبكي، فهم يقصدون هذه القصيدة التي هي عندهم من أبلغ أشعار العرب.

أخذها الباقلاني وحللها، حيث جاء بالقضايا البلاغية، والاستعمالات بأنواعها من جناس ومجاز وطباق وغير ذلك، وبقي يحللها ويحلل المعاني التي تضمنتها ويأتي بأشياء من القرآن ويقول: أنظر هذه، وأنظر هذه، وكان رجلاً يدرك الإعجاز، فجعل هذه القصيدة لا تساوي شيئاً يذكر أمام إعجاز القرآن، ومن أراد الاطلاع على هذه المسألة فعليه بكتابه إعجاز القرآن.

نسأل الله التوفيق والسداد والثبات، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين..

 
  1. أخرجه البخاري في كتاب: الأدب – باب: قتل الولد خشية أن يأكل معه (5655) (ج 5/ص 2236)، ومسلم في كتاب: الإيمان – باب: كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (86) (ج 1/ص 86).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد – باب: ما جاء في دعاء النبي ﷺ أمته إلى توحيد الله -تبارك وتعالى- (6938) (ج 6/ص 2685).
  3. أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب – باب: لا يقال: خبثت نفسي (4980) (ج 2/ص 713)، وأحمد (23395) (ج 5/ص 394)، وصححه الألباني في المشكاة برقم (4778).

مواد ذات صلة