الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[4] من قول الله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ} الآية 7 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا} الآية 11
تاريخ النشر: ٢٣ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 4507
مرات الإستماع: 2634

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ۝ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ۝ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:7-10].

قال سعيد بن جبير وقتادة: كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئاً فأنزل الله: لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ... الآية، أي: الجميع سواء في حكم الله -تعالى- يستوون في أصل الوراثة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر ما للرجال من نصيب في تركة الآباء والأقربين بقوله: لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ أعاد ذلك جميعاً في حق النساء، فقال سبحانه: وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ولعل من حكمة تكرار الصيغة نفسها هو تأكيد حق النساء في الميراث، وأنهن أصلٌ في ذلك ولسنَ تبعاً للرجال فيه.

وما ذكره الحافظ ابن كثير –رحمه الله- في تفسير الآية بقوله: "أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى يستوون في أصل الوراثة"، قصد أنهم سواء من حيث الأحقية، لا من حيث المقدار والنصيب، ومقتضى العدل أن يعطى كل ذي حق حقه، وأما المساواة المطلقة فهي ليست من العدل في شيء، فالمرأة بما يفرض لها من الميراث تعتبر مساوية للرجل في أصل القضية وهو أحقيتها في الميراث، أما في المقدار فلا، وذلك أن الرجل ينتظر النقص دائماً، بخلاف المرأة فهي ترتقب الزيادة دائماً، ومن مقتضى العدل أن لا يسوى بين مترقب النقص ومترقب الزيادة.

ولهذا لما قسّم الله المواريث وُجد ما عرف بحجب النقصان، فمثلاً الأم ترث من ولدها الثلث، لكن إن كان لهذا الولد إخوة فترث السدس كما قال سبحانه: فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11] فأنقص الأخوة من ميراثها مع أنهم لا يرثون، والعلة أن كثرة الإخوة تتطلب نفقات زائدة؛ لأجل ذلك قل نصيب الأم وصار في حظ الأب الذي عادة ما تلزمه مؤنة النفقة والكلفة على الأولاد.

وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو ولاء، فإنه لحمة كلحمة النسب.

وقد روى ابن مردويه عن جابر قال: جاءت أم كُجَّةَ إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنتين وقد مات أبوهما، وليس لهما شيء، فأنزل الله تعالى: لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ... الآية.

هذا الحديث فيه ضعف، وممن ضعفه الحافظ ابن حجر –رحمه الله.

وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر، والله أعلم.

من حديث جابر بن عبد الله في ابنتي سعد بن الربيع، والحديث يصل إلى درجة القبول.

وأما قوله سبحانه: نَصِيبًا مَّفْرُوضًا فالنصب فيه يمكن أن يكون على الحال، ويمكن أن يكون على الاختصاص أو المصدر، والله أعلم.

وقوله: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [سورة النساء:8] الآية، قيل المراد: وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث واليتامى والمساكين فليرضخ لهم من التركة نصيب.

هذا أشهر الأقوال، وهو المتبادر من السياق، وبعض أهل العلم يستشكل ما إذا كان الورثة أو بعضهم من القُصّر؛ لأنه لا يحق لأحد التصرف بأموال هؤلاء القُصّر، ولذلك فرق بعضهم بين ما إذا كان الورثة من القُصّر فلا يُعطِى ذوي القربى ممن ليس بوارث شيئاً ويقال لهم قولاً معروفاً، وما إذا كانوا من الكبار الراشدين فإنهم يعطون في وجودهم، وظاهر الآية لا يحتمل هذا التفريق.

وقال بعضهم: إن الذين يرضخ لهم ويعطون من التركة حال القسمة هم ذوو القرابات من غير الوارثين، وأما اليتامى والمساكين فيقال لهم قولاً معروفاً ولا يعطون شيئاً، ولا دليل علي هذا القول.

وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة غير منسوخة وإنما عنى بها الوصية لأولى قربى الموصي، وعني باليتامى والمساكين أن يقال لهم قول معروف، وهذا القول لا إشكال فيه، إذ ليس ثمَّة قُصّر يرد عليهم ما سبق، وانتصر له ابن جرير الطبري –رحمه الله، ولكن سياق الآيات ظاهر في المواريث وقسمة المواريث. والله أعلم بالصواب.

روى البخاري عن ابن عباس -ا: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ، قال: هي محكمة وليست بمنسوخة.

وروى ابن جرير عن ابن عباس -ا- قال: هي قائمة يعمل بها.

وقال الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية، قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم.

وهكذا روي عن ابن مسعود، وأبي موسى، وعبد الرحمن بن أبي بكر -، وأبي العالية، والشعبي، والحسن، وقال ابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومكحول، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ويحيى بن يعمر: إنها واجبة.

وقيل: هذا بالوصية يوصي به الميت، وقيل: بل هذه الآية منسوخة.

والقول بالنسخ بعيد؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وتحمل الآية كما ذكرنا على القرابة غير الوارثين، وقد جاءت الوصية للوالدين والأقربين مع كونهم من الورثة في قوله سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة:180]، ومعلوم أنه لا وصية لوارث، ولذا فكثير من أهل العلم يقولون: نسختها آية المواريث، أو قول النبي ﷺ: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث[1]، والصواب أن هذه الآية في الوالد غير الوارث إذا قام به مانع من موانع الإرث الثلاثة وهي: اختلاف الدين، القتل، الرق. والله أعلم.

قال العوفي: عن ابن عباس -ا: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ وهي قسمة الميراث.

وهكذا قال غير واحد، والمعنى على هذا: إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون، واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم يائسون لا شيء يعطون، فأمر الله تعالى وهو الرءوف الرحيم أن يُرضَخ لهم شيء من الوسط يكون براً بهم، وصدقةً عليهم، وإحساناً إليهم، وجبراً لكسرهم.

والقول المعروف: القول الحسن، وابن جرير -رحمه الله- يرى أن القول المعروف في الآية مختص باليتامى والمساكين، وأما العطاء فهو لقرابة الميت غير الوارثين، والصواب أن ظاهر الآية يفيد العموم، وأن القول المعروف مطلوب عند التعامل مع عموم المحتاجين لا يختص به إنسان دون آخر كما قال سبحانه: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى [سورة البقرة:263] فلا يعطيهم ويزجرهم، أو يبدي لهم الامتعاض، أو يستثقل حضورهم، فإن هذا مما قد تذهب معه الأجور. 

يقول سبحانه -مخاطباً عباده المؤمنين: لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [سورة البقرة:264]، والمن: التذكير بالعطية، والأذى: الزجر، الإغلاظ عليه،...، ولذا كان الاقتصار على الكلام الطيب والقول المعروف يغنى عن العطاء والبذل كما قال الله : وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا [سورة الإسراء:28] فعلى أشهر المعاني في تفسيرها إن لم يكن عندك شيء تعطيهم إياه، فقل لهم -يعني من العدة الحسنة- وما أشبه هذا فإنه يقوم مقام العطاء.

وقوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ [سورة النساء:9] الآية، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة، وهكذا قال مجاهد وغير واحد.

وقرينة هذا القول قوله سبحانه في آخر الآية: وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا.

وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده، قال: يا رسول الله، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي، قال: لا، قال: فالشطر، قال: لا قال: فالثلث، قال: الثلث، والثلث كثير، ثم قال رسول الله ﷺ: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس[2].

وقد أخذ العلماء من قول النبي ﷺ: الثلث والثلث كثير أحكاماً في أبواب متعددة، مثل الغبن، ما هو مقدار الغبن الذي يرد به البيع، هل هو النصف أو الثلث أو الربع؟، فمن قال بأنه الثلث، استدل بقوله ﷺ الثلث والثلث كثير.

وكذا أن الأفضل في الوصية ألا تبلغ الثلث، ولهذا جاء عن علي وابن عباس -ا- تحديدها بالربع، ودون الربع، وقالوا: إذا كان الثلث موصوفاً بالكثرة فالأفضل ما دونه، والله أعلم.

وقيل: المراد بالآية: فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ [سورة النساء:6].

بمعنى أن الخطاب في الآية متوجه للأوصياء.

حكاه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس -ا- وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً، أي: كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك فعامل الناس في ذرياتهم إذا وليتهم.

وهذه قرينة في الآية ترجح هذا القول، وبعض أهل العلم يرى أنها عامة، وأن الله يذكر هؤلاء الأوصياء في أموال اليتامى، ويذكر أولئك الذين يجورون في الوصية فيدخل فيها جميع الحالات، والله أعلم.

ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلماً فإنما يأكل في بطنه ناراً، ولهذا قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، أي: إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب، فإنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة.

النصب في قوله سبحانه: يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا يحتمل أمرين:

أن يكون النصب على المصدرية، أي أكل ظلم.

أن يكون النصب على الحالية أي ظالمين لهم، والقيد بقوله: ظلما يعد صفة معتبرة، بخلاف قوله سبحانه: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38]، وقوله سبحانه: وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:112]، فيعد صفة كاشفة.

وأما العقاب المنتظر للمتطاولين ظلماً وجوراً على أموال اليتامى فإنهم يوم القيامة: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا، وعبر بالنار؛ لأنها سبب لها من باب إطلاق المسبب على السبب.

وقد قرأ عاصم وابن عامر قوله سبحانه: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا، بضم الياء وَسَيُصْلَوْنَ سَعِيرًا والمعنى أي: يدخلونها، أو يحترقون فيها، وأصل مادة يصلون: مباشرة النار والاكتواء بلهيبها، تقول: اصطليت بالنار إذا تسخنت واستدفأت بها من البرد، أو نحو ذلك.

ويقال: صلاها إذا عرض عليها، تقول العرب: صليت اللحم بمعنى عرضته على النار، ومنه قوله : لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [سورة الليل:15] والقولان متلازمان.

والسعير: يطلق على الجمر الملتهب المشتعل، ويطلق أيضاً على شدة حر جهنم، فيقال له: سعير، والله أعلم بالصواب.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -: أن رسول الله ﷺ قال: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله وما هنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات[3].

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا [سورة النساء:11]

هذه الآية الكريمة، والتي بعدها، والآية التي هي خاتمة هذه السورة، هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك، ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك، قال ابن عيينة: إنما سَمّى الفرائضَ نصفَ العلم؛ لأنه يبتلى به الناس كلهم.

وقال بعضهم: لأن الأحكام التي تتصل بالإنسان منها ما يتصل به في حال الحياة، ومنها ما يتصل به بعد الموت، والفرائض هي من الأحكام المتصلة بالإنسان بعد الموت، فكانت نصف العلم بهذا الاعتبار، وهذا التعبير يمكن أن يعبر به لبيان أهمية الشيء ومنزلته، كما يقال في موت بعض أئمة العلم والراسخين فيه: مات اليوم نصف العلم؛ لبيان قدره في العلم وما يفوت العباد بسبب موته، كما قيل لعمر لما مات.

وروى البخاري عند تفسير هذه الآية عن جابر بن عبد الله -ا- قال: عادني رسول الله ﷺ وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي ﷺ لا أعقل شيئاً، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليّ فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله، فنزلت: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ وكذا رواه مسلم والنسائي ورواه الجماعة كلهم[4].

حديث آخر عن جابر في سبب نزول الآية، روى أحمد عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، قال: فقال: يقضي الله في ذلك، قال: فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عمهما فقال: أعط ابنتيْ سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك[5].

وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

آية المواريث هي قوله سبحانه: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ... ، وهذا الحديث سكت عنه الحافظ، وسكوته عن الحديث يعنى أنه ضعيف، وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله.

والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي.

وهي آية الكلالة: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ [سورة النساء:176].

فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ولم يكن له بنات وإنما كان يورث كلالة، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعاً للبخاري -رحمه الله- فإنه ذكره هاهنا، والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية، والله أعلم.

وقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ أي: يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى في التسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة، ومعاناة التجارة، والتكسب، وتجشم المشقة، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى.

وقد بيّن الله سبحانه العلة في التفاوت بين الذكر والأنثى في الآية الأخرى بقوله سبحانه: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ [سورة النساء:34]؛ فلأنه مطالب بالنفقة والتكسب و... كان هذا التفاضل، والله أعلم.

وأما الأولاد فجمع مضاف إلى المعرفة وهذا يدل على العموم، أي: كل ولد لكم، واستثنى أهل العلم أصنافاً من الناس لأوصاف معينة قامت بهم منعوا لأجلها من الميراث، وهم:

أولاد الأنبياء؛ لقوله ﷺ: لا نورث ما تركنا صدقة[6]، ولذلك لم يورثوا فاطمة -ا- لما جاءت لأبي بكر تطالب بنصيبها من الميراث.

والولد الكافر بالإجماع، لما جاء من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر[7]، وكذا القاتل، والرقيق أي: الولد إذا كان مسترقاً فإنه لا يملك، فهذه من موانع الإرث، والله أعلم.

وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده، حيث أوصى الوالدين بأولادهم فعلم أنه أرحم بهم منهم، كما جاء في الحديث الصحيح وقد رأى امرأة من السبي تدور على ولدها، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها، وأرضعته فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك قالوا: لا يا رسول الله، فقال: فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها[8].

مع أن عطف الأب وحنوه وحرصه على أبنائه هو جبلة جبله الله عليها، إلا أن الرب سبحانه مع ذلك يوصي الآباء بالأبناء إشارة على عظم رحمته سبحانه ولطفه، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن أرجى آية في كتاب الله آية الدين؛ لكثرة الاحتياط فيها لمال المسلم؛ لئلا يضيع، فما بالك بالمسلم الذي هو عند الله أعظم شأناً وحرمة من ماله، ولكن المشهور أن أرجى آية هي قوله سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [سورة الزمر:53].

وروى البخاري هاهنا عن ابن عباس -ا- قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع.

وهذه الآية ناسخة لما كان عليه الناس في أول الإسلام من التوارث بالهجرة، والولاء، والمعاقدة؛ لينتقل التوارث بعد ذلك فيصير في القرابات فحسب.

وقوله: فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، قال بعض الناس: قوله فوق، زائدة، وتقديره: فإن كن نساء اثنتين، كما في قوله: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ [سورة الأنفال:12]، وهذا غير مسلم لا هنا ولا هناك، فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه، وهذا ممتنع.

ما حمل القائلون على القول بأن كلمة فوق في الآية زائدة هو استشكالهم للمعنى، إذ يفهم من الآية لو أعملنا كلمة "فوق" أن الواحدة والثلاث والأكثر من الزوجات يرثن، وأما الاثنتان فلا، كما هو ظاهر الآية، مع أن المشهور أن الاثنتين فما زاد لهن الثلثان. 

لكن أهل العلم يقولون: إن التعبير بالزيادة في القران غير ملائم، وأن من مقتضى التأدب مع القرآن أنه لا يعبر بذلك، ولذلك يعبرون بالصلة في الزيادات، كزيادة ما، ولا في قوله سبحانه: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] ويجعلونها تأكيداً للقسم.

ومما يذكر في هذا المقام أن الزيادة لا تأتي في الأسماء والظروف وإنما تكون الزيادة في الحرف فحسب، كما هو متفق عليه بين أرباب هذا الفن، ولذا لا يسلم للقائلين بأن فوق في الآية زائدة لا في آية المواريث، ولا في سورة الأنفال عند قوله سبحانه: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ [سورة الأنفال:12] إذ ليس المعني اضربوا الأعناق، وإنما لفظة فوق لها معنى ذكرته العرب في أشعارها وكلامها، فإنهم يذكرون أن موضع الضرب للأعناق فوق الرقبة أو أعلى الرقبة أشفى وأنفى؛ لأن الضرب في هذا الموضع أسرع في قطع الرءوس وتطاير الجماجم. 

وهذا الأمر توجيه من الله ليعلم المقاتلة كيف وأين يضربون، ومثله قوله: وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12] حمله بعض المفسرين على البنان خاصة، فإن العدو إذا ضربت أطراف بنانه لم يستطع أن يمسك السيف، ولا الرمح، ولا الحربة، ولا يرمي بالسهم فتنشل حركته، وتتعطل من العضو منفعته، فهو درس لهم في فنون القتال وكيف يفتكون بعدوهم.

يقول صاحب المراقي:

............................ ولم يكن في الوحي حشو يقع

ولذلك قيل: إن زيادة المبنى زيادة في المعنى.

ثم قوله: فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، لو كان المراد ما قالوه، لقال: فلهما ثلث ما ترك.

مراد ابن كثير أن فَوْقَ لو كانت زائدة في الآية لما عقب بعدها بقوله: فَلَهُنَّ؛ لأن لهن تستعمل للجمع، ولقال: فلهما بالتثنية تأكيداً على زيادتها.

وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة.

المقصود بها آية الكلالة: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [سورة النساء:176]، وكذلك أخذ بعض أهل العلم كالشيخ الشنقيطي -رحمه الله- أن الاثنتين لهما الثلثان من آية أخرى وهي قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ باعتبار أن للأنثيين حال يكون حظهما الثلثين، وقد ثبت توريث البنتين الثلثين في السنة المطهرة.

فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين، وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بطريق الأولى، وقد تقدم.

وإنما كانت البنتان أولى من الأخوات؛ لأنهما أعلق قربة وأمس رحماً وألصق صلة وأقوى وشيجة بالميت من غيرهما، وهذا ما يعرف عند الأصوليين بفحوى الخطاب: وهو ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق كقوله تعالى: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ [سورة الإسراء:23] فدل تحريم التأفيف على تحريم الضرب من باب أولى، وبعض الأصوليين يسمي هذا النوع قياساً، وآخرون يسمونه مفهوم الموافقة الأولوي، وبعضهم يعبر عنه بغير ذلك، والله أعلم.

وقد تقدم في حديث جابر -: أن النبي ﷺ حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين، فدل الكتاب والسنة على ذلك.

وأيضاً فإنه قال: وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فلو كان للبنتين نصف لنص عليه أيضاً.

وفي القراءة الأخرى بالرفع: وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةٌ فَلَهَا النِّصْفُ باعتبار أن كان تامة والمعنى إن وجدت واحدة.

فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن الثنتين في حكم الثلاث، والله أعلم.

وهذا ما يسمى عند الأصوليين بمفهوم الشرط، والمعنى على مفهوم الشرط: فإن لم تكن واحدة أي: اثنتين فأكثر فلهن أكثر من النصف، وهذا المفهوم موافق لمقتضى الأدلة المثبتة لنصيب الثلثين للبنتين من التركة، ولقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك، وما خالف في المسألة إلا ابن عباس وثبت أنه تراجع عن قوله، وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم، ومفهوم الشرط عند الأصوليين أقوى من مفهوم الظرف الوارد في قوله سبحانه: فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [سورة النساء:11]، إذ المعنى على مفهوم الظرف فإن كن دون ذلك فلا يستحقان الثلثان، وهذا خلاف المراد.

فائدة: المفاهيم أنواع:

الأول: مفهوم النفي والاستثناء، مثاله: -لا إله إلا الله- وهو أعلاها، وبعضهم يعده من قبيل المنطوق.

يقول صاحب نظم منظومة مراقي السعود:

أعلاه لا يرشد إلا العلما فما لمنطوق بضعف انتمى

الثاني: مفهوم الشرط.

الثالث: مفهوم الصفة.

الرابع: مفهوم الظرف.

الخامس: مفهوم العدد، ويأتي في مؤخرتها.

السادس: مفهوم اللقب، وهو أضعفها ولا يحتج به، واليه أشار ناظم المراقي بقوله:

أضعفها اللقب وهْو ما أُبي من دونه نظم الكلام العربي

والمعنى أنه لا يستفاد من اللقب إلا انتظام الكلام ليعرف المراد.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. رواه الترمذي برقم (2121) (4/434)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (2600).
  2. رواه البخاري في كتاب الوصايا – باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس برقم (2591) (3/1006)، ومسلم في كتاب الوصية – باب الوصية بالثلث برقم (1628) (3/1250).
  3. رواه البخاري في كتاب الوصايا – باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10] برقم (2615) (3/11017)، ومسلم في كتاب الإيمان – باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (89) (1/92).
  4. رواه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة النساء برقم (4301) (4/166)، ومسلم في كتاب الفرائض – باب ميراث الكلالة برقم (1616) (3/1234).
  5. رواه الترمذي برقم (2092) (4/414)، وأحمد برقم (14840) (3/352)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2092).
  6. رواه البخاري في كتاب الفرائض – باب قول النبي ﷺ لا نورث ما تركنا صدقة برقم (6346) (6/2474) ومسلم في كتاب الجهاد والسير – باب قول النبي ﷺ لا نورث ما تركنا فهو صدقة برقم (1759) (3/1380).
  7. رواه أحمد في مسنده برقم (21869) (5/209)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13643).
  8. رواه البخاري في كتاب الأدب – باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته برقم (5653) (5/2235).

مواد ذات صلة