الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
[6] من قوله تعالى: "يخادعون الله" الآية 9 إلى قوله تعالى: "وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس" الآية 13
تاريخ النشر: ٢٦ / شعبان / ١٤٢٥
التحميل: 8844
مرات الإستماع: 5159

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ۝ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:14-15].

يقول تعالى: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمَنَّا وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم.

وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ يعني: إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم.

وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.

قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مَرَدَتُه، ويكون الشيطان من الإنس والجن، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112].

وقوله: قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا- أي: إنا على مثل ما أنتم عليه إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.

وقال الضحاك، عن ابن عباس -ا: قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ساخرون بأصحاب محمد ﷺ، وكذلك قال الرّبيع بن أنس وقتادة.

وقوله تعالى جواباً ومقابلة على صنيعهم: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15]. 

قال ابن جرير: أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة، في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ الآية [سورة الحديد:13].

وقوله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا الآية [سورة آل عمران:178].

قال: فهذا وما أشبهه من استهزاء الله -تعالى ذكره- وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به، فهذا إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم، وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان، كما قال تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [سورة الشورى:40]، وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194]، فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما.

قال: وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول -تبارك وتعالى- عن هؤلاء المنافقين: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ [سورة البقرة:14] يقول ابن جرير –رحمه الله تعالى: شياطين كل شيء مردته.

ويكون الشيطان من الإنس ومن الجن، فعن أبي ذر قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو في المسجد فجلست فقال: يا أبا ذر هل صليتقلت: لا، قال: قم فصلِّقال: فقمت فصليت ثم جلست، فقال: يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن قال: قلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟! قال: نعم [1].

وعن عائشة –ا- أن النبي ﷺ قال: إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر [2].

وعن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: الكلب الأسود شيطان[3].

فالكفرة من الجن شياطين، والذين يضلون الناس ويغوونهم من الإنس هم شياطين.

فهؤلاء الذين ذكرهم الله في سورة البقرة إذا خلوا بشياطين الإنس ممن يوافقونهم وينكرون عليهم إظهار الإسلام والدخول فيه، يعاتبونهم على ذلك فيقولون: نحن معكم في حقيقة الأمر، ولكننا نفعل ذلك استهزاءً بهم، أي بالمؤمنين.

فردَّ الله عليهم بقوله: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [سورة البقرة:15]، والمراد باستهزاء الله بهؤلاء كما يقول ابن كثير: فهذا إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم، وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان.

ابن كثير -رحمه الله- هنا لم يصرح بأن ذلك من قبيل المشاكلة، ولكن كلامه لا يفهم منه إلا هذا، وهو أن الاستهزاء والمكر والكيد والمخادعة إنما يكون على سبيل المقابلة فيكون من باب استعمال اللفظ في مقابل لفظ آخر عبر به عن فعل هؤلاء فحسب ولكن المعنى ليس بمراد.

وهذا ما يسميه البلاغيون بالمشاكلة، وهذا كثير لدى بعض من يكتب في التفسير وفي موضوعات شتى، سواء المعاصرين أو غيرهم ممن  هم من أهل السنة ومن غيرهم.

وهذه مسألة تحتاج إلى تحرير، وذلك أن المشاكلة نوع من المجاز ومنهم من يجعل المشاكلة قسماً مستقلاً بذاته وليس من المجاز، ولكنهم يتفقون جميعاً على أنها لا حقيقة لها في الطرف الآخر، وإنما هي فقط مشاكلة لفظية، فحقيقة هذه المشاكلة أن يستعمل لفظاً في مقابل لفظ عبر به عن فعل الفاعلين، وإن لم يرد معنى هذا الفعل حينما استعمله أولاً في المقابلة.

ومن أوضح الشواهد أو من أشهر الشواهد التي يحتجون بها قول الشاعر:

قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

فيقولون: الجبة والقميص لا تطبخ، لكنه استعمل هذا اللفظ فقط في مقابل لفظهم الذي عبروا به.

وقالوا: إذا قال هؤلاء:إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ [سورة البقرة:14]، فقال الله:اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [سورة البقرة:15]، فإن الله ليس من شأنه أن يستهزئ؛ لأن الاستهزاء صفة نقص وهي مذمومة ولا تليق بالله ، وإنما أتى بهذا اللفظ في مقابل قولهم:  إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ فقابلهم على ذلك، وليس ذلك يعود إلى الله منه شيء.

قالوا: فإن قيل: ما المراد بقوله: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، يقال: المراد أنه يجازيهم ويعاقبهم على هذا الاستهزاء، أو أنه يستدرجهم، أو يمدهم في طغيانهم يعمهون -كما ذكر ذلك في ختام الآية- فإذا جاء يوم القيامة ذهب عنهم ذلك النور، وحصلت لهم الظلمة على الصراط كما وصف الله .

وبهذا الجواب أجابوا عن قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [سورة النساء:142]، فقالوا: الله لا يخدع ولا ينسب إليه الخداع، وإنما المراد أنه عبر بعبارة إزاء العبارة التي وصف بها فعل هؤلاء دون أن يعود من ذلك على الله شيء، وهكذا.

وهذا الكلام ليس بصحيح، وليس ذلك قول أهل السنة، فهذه الصفات التي لا تكون من صفات الكمال بإطلاق، تكون كمالاً في بعض الأحوال، فالله لا يوصف بهذا بإطلاق، فلا يقال عن الله -تعالى الله وجل وعز- لا يقال عنه: كائد، ولا يقال عنه: خادع، ولا يقال عنه: مستهزئ لكن إن صدر ذلك في حق من يستحق ذلك ممن يستهزئ فإن ذلك يكون كمالاً، فالله يستهزئ بهم، كما قال هو .

والذي يخادع الناس ويستهزئ بهم ويمكر بهم ويستخف بمبادئهم ومشاعرهم ودينهم وما أشبه ذلك إذا عامله أحد من الناس معاملة يستدرجه فيها حتى يوقع به كان ذلك كمالاً؛ لأنه خلص الناس من شره بأسلوب مجاراته في هذا الأمر بعض المجاراة حتى أوقعه. فالله يستهزئ بهؤلاء الذين يستهزئون، ولذلك فإن الصحابة لم يستغربوا من مثل هذا الاستعمال، كما وقع ذلك للمتأخرين، ولا توقفوا فيه؛ وذلك لسلامة فطرهم، وأيضاً لكمال ذوقهم اللغوي، فهم يفهمون المراد من هذا في كلام العرب، وقل مثل ذلك في المخادعة والمكر إلى آخره.

ومن هذه الأوصاف ما يقول بعض العلماء من أهل السنة عنها بأنها لا يكون بحال إلا على سبيل المقابلة، وهذا ليس بلازم في بعض هذه الصفات لا في كلها، فما جاء على سبيل المقابلة فإنه يقال: هذا لا يكون كمالاً إلا على سبيل المقابلة، وما جاء من غير ذلك فإنه يكون كمالاً في المقامات التي تصلح لمثله مثل الكيد، فالكيد جاء على سبيل المقابلة كما في قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [سورة الطارق:15، 16]، لكنه جاء في غير هذا المقام مثل قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183].

ومثل المكر في قوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة الأنفال:30]، فهو قابل فعلهم بمثله، وجاء من غير ذلك مثل: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ [سورة الأعراف:99].

وعلى كل حال نحن ندور مع هذه النصوص، وكل ذلك كمال في حق الله ، لكن الله لا يوصف بشيء من ذلك وصفاً مطلقاً في كل الأحوال، فلا يقال: الله كائد، ولا يقال: الله ماكر، ولا يقال: الله مخادع فهذا لا يليق ولا يصلح؛ لأن ذلك ليس بكمال في جميع الأحوال، إنما يكون كمالاً في حال دون حال، والله تعالى أعلم.

فالحاصل أن ظاهر كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن ذلك من قبيل المشاكلة، وهذا فيه نظر، حتى إننا نقرأ لبعض الكاتبين من أهل السنة في هذا العصر من يقول: هذا على سبيل المشاكلة، وسمعت بعض المتخصصين في العقيدة من يقول: هذا مشاكلة لا حقيقة له، بينما تجد هذه المسائل في كتب أهل السنة من الأئمة المتقدمين أنهم لا يجدون أي إشكال في بيان المراد منها من غير اللجوء إلى المجاز، أو تأويل هذا بالتأويلات المتكلفة.

وبالنسبة لمعنى استهزاء الله بهم في قوله: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْهو ما ذكره هنا في قوله: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15].

فالله يستدرجهم ويزيدهم من الأسباب التي تزيد في غوايتهم وهلاكهم، حتى إذا لقوا الله حصل لهم شيء من النور، ثم يذهب هذا النور ويبقون في ظلمة على الصراط وهم أحوج ما يكونون فيه إلى النور، فهذا كله من استهزاء الله بهم، وهذا كله كمال في حق الله لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ لأنه إذا كان ذلك على سبيل المقابلة والعدل فإنه كمال.

يقول: قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته: هل كل ما بعد هذا الكلام هو من كلام ابن جرير، حتى ما وضع له عناوين؟

هذا يعتبر خلل في الاختصار؛ لأن ظاهر هذا الكلام جميعاً أن ابن كثير يذكر هذا من عنده، وإنما نقل ذلك عن بعضهم ثم بين المراد، فنقلُه بهذه الطريقة فيه نظر.

قوله: فهذا إخبار من الله أنه مجازيهم: هذا كلام ابن جرير يحكي عن أقوام، وليس هذا كلام أهل السنة، فنحن نقول: إن الله لا يمكر بالماكرين فقط، بل يمكر بمن يستحق المكر، وكل ما ورد في مقابل فعل الفاعلين ممن فعلوا جنس هذا الفعل، فهذا يثبت في المقابل، وما ذُكر استقلالاً يذكر استقلالاً، لكن لا يوصف الله بالأوصاف التي ليست هي كمال من كل وجه على سبيل الاستقلال.

وقوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15] روى السدي عن ابن عباس وابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي ﷺ ورضي عنهم وَيَمُدُّهُمْ: يملي لهم.

وقال مجاهد: يزيدهم.

وقال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56].

قال ابن جرير: والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأنعام:110].

كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني جزاءً على كفرهم به أول مرة ختم الله على قلوبهم فقلَّب هذه القلوب والأبصار فصارت ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، واستحسنوا ذلك، وزين لهم، فحصل لهم من الأسباب التي تزيد في غوايتهم حتى لم يبق لهم عند الله نصيب، نسأل الله العافية.

والطغيان: هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [سورة الحاقة:11].

قال ابن جرير: والعمه: الضلال يقال عمه فلان يعمه عمها وعموهاً إذا ضل.

قال: وقوله:فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15] في ضلالتهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها وأعمى أبصارهم عن الهدى، وأغشاها فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً.

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16]، روى السدي في تفسيره، عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من الصحابة -أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وقال مجاهد: آمنوا ثمّ كفروا.

وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [سورة فصلت:17].

من هذه العبارات التي أوردها -رحمه الله- في معنى اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى، وهي: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، آمنوا ثم كفروا، استحبوا الضلال على الهدى، ما الذي أرادوا الوصول إليه من خلالها؟ هل يوجد إشكال متبادر في الآية حاولوا أن يبينوا المراد على وجه يرتفع به هذا الإشكال فعبروا بمثل هذه العبارات؟

ظاهر الآية أن ثمة معاوضة، كما قال الشاعر:

بدلت بالجمة رأساً أزعرا
وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا

فهذا له جمة وشعر جميل ثم تحول إلى شيء آخر، وله ثنايا واضحات تحولت إلى شيء آخر، وبالإسلام استعاض النصرانية.

فمعنى المعاوضة أن أقول مثلاً: بدلت بالقلم الساعة، أو اشتريت بالقلم الساعة، أو نحو هذه العبارات فهذه معاوضة، فهؤلاء أهل النفاق اشتروا الضلالة ودفعوا الثمن الهدى.

وهنا يرد سؤال عن هذه المعاوضة في طرفيها، هل هؤلاء كانوا أصلاً يملكون شيئاً من الهدى استعاضوا به الضلالة، هل حصلت لهم معاوضة بأن دفعوا الهدى وأخذوا الضلال؟

إذا قلنا: إن هؤلاء آمنوا ثم كفروا، كما قال الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [سورة المنافقون:3]، وقوله في الموضع الآخر في وصف المنافقين في سورة براءة لما توعدهم حينما استهزؤوا في تبوك: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة:66]، من قال من أهل العلم بأنهم كانوا مؤمنين ثم تحولوا إلى النفاق لسبب أو لآخر، فالمعاوضة واضحة، فهم بذلوا الهدى والإيمان واستعاضوا عنه بالكفر.

وعلى القول الآخر وهو أن هؤلاء من غير المؤمنين أصلاً، بل وهم كفار منذ البداية في الباطن، فأي هدىً دفعوه وبذلوه؟

فهنا يكون معنى العبارات لا تدل على حصول المعاوضة، ويكون معنى اشتروا الضلالة أي: استحبوا العمى على الهدى، بمعنى اختاروا وآثروا.

وواقع الأمر أن المنافقين على قسمين: قسم آمنوا ثم نافقوا، فهؤلاء واضح أنهم بذلوا الهدى وأخذوا مكانه الضلال والنفاق والكفر.

وقسم من هؤلاء لم يؤمنوا أصلاً، مثل عبد الله بن أبي الذي قال: إني أرى أن هذا الأمر قد توجه فادخلوا فيه، وكلامه هذا في الظاهر وإلا فهو يخفي الكفر، كما قال الله عن اليهود: وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة آل عمران:72]، أي أنهلما يرى الناس هؤلاء العلماء من أهل الكتاب قد دخلوا في الإسلام فهذا يعتبر انتصار ضخم للإسلام، فإذا ارتدوا قالوا: لا بد أنهم لم يرتدوا إلا لأنهم رأوا أموراً لا يمكن أن تتفق مع دين صحيح.

فالحاصل أن هؤلاء على نوعين، والآيات جميعاً لا إشكال فيها، فآية براءة مثلاً: قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، إذا قلنا: إن بعضهم كانوا على الإيمان ثم كفروا، فهذا لا إشكال فيه، وإذا قلنا: إنهم منافقين أصلاً فهذا لا إشكال فيه؛ إذ المعنى: قد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه، أي بعد إيمانكم المزعوم المظهر الذي أجريت عليكم أحكامه، حيث نطقتم بالشهادتين.

ويكون معنى قوله: اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَىكقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ [سورة البقرة:17]، أي عرف دلائل الحق، وعرف أحقية ما جاء به النبي ﷺ ورأى أنوار الإسلام وبراهينه، ثم بعد ذلك نكص، وترك ذلك وأدار ظهره له، نسأل الله العافية، فـاشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى أي:استحبوا وآثروا إن لم يكونوا على الإيمان ابتداءً، ومن هنا يزول الإشكال، فابن كثير -رحمه الله- ما صرح بالإشكال، لكنه أتى بعبارات السلف، وهذا توجيه عبارات السلف ومحاملها، والله أعلم.

وحاصل قول المفسرين فيما تقدم: أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16] أي: بذلوا الهدى ثمناً للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة المنافقون:3]، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم.

هذا كلام جيد ومعناه أن الفريق الأول الذين كانوا على الهدى استعاضوا الضلال بالهدى، والفريق الثاني الذين لم يكونوا على الهدى آثروا واستحبوا الضلال على الهدى.

فإنهم أنواع وأقسام؛ ولهذا قال تعالى: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16] أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ أي: راشدين في صنيعهم ذلك.

وروى ابن جرير عن قتادة فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ، قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. وهكذا رواه ابن أبي حاتم، بمثله سواء.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17].

في قوله تعالى: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ هذا الختام مناسب غاية المناسبة لما ذُكر قبله، حيث قال: اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى، فناسب أن يختم ذلك بقوله: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ، أي: ما ربحت تجارتهم، بل هذه صفقة خاسرة.

وأصل التجارة إنما تستعمل في البيع والشراء الذي يقصد به الربح في المعاوضات، وصار يستعمل في مثل هذه المعاني، فالعمل بطاعة الله هو تجارة مع الله -تبارك وتعالى-، فالإنسان له رأس مال وهو هذه الدقائق والثواني والساعات يتجر فيها مع الله ، فمنهم من يغبن في هذه التجارة فيشغل وقته بمعصية الله ، ويشمر في ذلك، ويدفع الأموال ويبذلها ليشتري منزلاً في النار، فإذا جاء يوم القيامة حصل التغابن، قال تعالى:ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [سورة التغابن:9]، فهؤلاء شمروا واستغلوا رؤوس هذه الأموال فحصلوا أعلى المنازل في الجنة، وأولئك حجزوا فيها مقاعد في النار، وليس ذلك فحسب، بل إن أهل الجنة ورثوا منازل أهل النار في الجنة والعكس.

وهذا غاية التغابن بين الناس، مع أن الغبن أصله يكون في الصفقة في التجارة، حيث يغبن التاجر إذا باع سلعة بيعاً بُخس فيه في الثمن، كأن تكون ثمن السلعة يساوي مائة –مثلاً- وباعها بعشرة، أو اشتراها بمائة وهي تساوي عشرة، فهذا مغبون.

وهذا غاية التغابن بين الناس، مع أن الغبن أصله يكون في الصفقة في التجارة، حيث يغبن التاجر إذا باع سلعة بيعاً بُخس فيه في الثمن، كأن تكون ثمن السلعة يساوي مائة –مثلاً- وباعها بعشرة، أو اشتراها بمائة وهي تساوي عشرة، فهذا مغبون.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18]،  تقدير هذا المثل: أن الله سبحانه، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم.

قال ابن كثير -رحمه الله: آمنوا ثم كفروا أخذاً من قوله تعالى: اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17]، فالمقصود بالنار هنا على قول ابن كثير -وهو قول طائفة من السلف- أنهم دخلوا في الإيمان، ثم بعد ذلك نكصوا فلم يرجعوا إليه، فهذا مثل الذي استوقد ناراً ثم انطفأت عليه تلك النار، وبالمناسبة فهذا هو أول مثل في القرآن.

وقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] هذا أول مثل في القرآن، وقد قال  الله تعالى عن الأمثال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43].

وهذا المثل والذي بعده الذي هو قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19] كلام أهل العلم فيه كثير جداً، ويمكن أن نشير إلى بعض الملاحظ التي ينطلقون منها في تفسير هذين المثلين.

فالمثل الأول وهو قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17]، إذا تأملت في لفظ اسْتَوْقَدَ لربما تشعر وكأنه استعار شيئاً وهو النور، ثم إن هذا النور إنما كان من النار ولم يكن من عند أنفسهم، فهو شيء منفصل عنهم، وهذا قد يشعر بخلاف ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- لأنه نور مستعار كقميص استعاروه، وذلك لغرض في نفوسهم، ثم ما لبثوا أن تحول إلى شيء آخر، ومعنى هذا الكلام أنهم أظهروا الدخول في الإسلام، أو دخلوا في الإسلام على القول الآخر وهو الذي أشار إليه ابن كثير، ويكون المقصود أن هذا حصل لمدة مؤقتة بحيث إنهم لما أظهروا هذا الإسلام حصلت لهم مصالح كالذكر الجميل -الذي لا يستفيض- وإجراء أحكام الإسلام عليهم، فصاروا يأخذون من الغنيمة والفيء من بيت مال المسلمين، وصار لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فحقنوا دماءهم، وأحرزوا ممتلكاتهم، وصاروا كغيرهم بخلاف الآخرين من القبائل الكفار الذين يقاتلون، فيُقتلون ويؤسرون ويسترقون، وتؤخذ أموالهم غنائم.

وبعض أهل العلم فسرها بقوله: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ [سورة المائدة:64]، أي أنه استوقد ناراً للفتنة ثم أطفأها الله، وهذا القول في غاية البعد، وهو من تفسير القرآن بالقرآن الذي يخطئ فيه المفسر بالربط، حيث إن الاجتهاد له مدخل في تفسير القرآن بالقرآن، وهذا مثال عليه.

ويقول بعض أهل العلم: إن هذا المثل مضروب لهم في الدنيا، وبعضهم يقول: في البرزخ، وبعضهم يقول: في الآخرة، والصواب أنه يحمل على الأحوال الثلاثة، فهم أظهروا هذا فهتكهم الله في الدنيا، وفي البرزخ يلقون العذاب، في الآخرة يحصل لهم الظلمة ويتساقطون في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [سورة النساء:145].

وكما قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [سورة الحديد:13].

وسواء قلنا: إنهم دخلوا في الإسلام فعلاً، أو كانت القضية مجرد إظهار للإسلام فهذا كله لا منافاة فيه، فمنهم من كان كذا، ومنهم من كان كذا، وبالتالي هم في الواقع سواءً، فالذين دخلوا في الإسلام عرفوا حجج الدين وبراهينه، وصدق ما جاء به النبي ﷺ وكان مآلهم أن انتكسوا وارتكسوا، والذين تظاهروا بالإسلام وكانوا داخل الصف الإسلامي ويصلون مع النبي ﷺ ويأتون الغزوات ويرون المعجزات، هم في الحقيقة لا يؤمنون.

وعلى كل حال فالمعاني الدقيقة التي تذكر في هذا المثل، وتنزيل كل لفظة فيه على معنىً يتعلق بالمنافقين، من العلماء من نحى منحىً آخر عن ذكرها وقال: هذا المثل مثل مركب، وأصل الأمثال المركبة لا تحتاج أن تنزل كل لفظة أو جملة فيها على من ضربت له من أجل أن يحصل تفسير هذه اللفظة والجملة بناءً على حال هذا الإنسان، وإنما يؤخذ المثل ككل، بمعنى أن هذه الأمثال لا تفسر جملة جملة إلا على سبيل إيضاح غريب الألفاظ، لا على سبيل التنزيل على من ضربت له كلمة كلمة، وجملة جملة؛ فقد تكون بعض الجمل إنما ذكرت ليفهم منها المراد على سبيل الإجمال، وإن لم يكن لهذه الجملة معنىً يخصها يتعلق بمثل هذا الإنسان الذي ضربت له بمفردها، وإنما هي مع غيرها تعطي تصوراً على هذا.

وبناء على ذلك يقولون: المراد بهذا المثل الذي ضربه الله في هذه السورة أن هؤلاء القوم قد تظاهروا بالدخول في الإسلام فحصلت لهم مكاسب وعرفوا براهين الحق، ثم تركوا ذلك وأداروا ظهورهم له وأعرضوا عنه، فصاروا فاقدين للنور، وصاروا في ظلمة كما وصف الله هذا الإنسان الذي أوقد النار في مكان مظلم، فلما سُرَّ بها وفرح بها وحصل له بها الدفء وشعر بالأمن بعد أن كان خائفاً من شدة الظلام من حوله، وحصلت له منها منافع أخرى فهو يتسدفئ بها ويصنع طعامه فإذا بها انطفأت في  وقت هو أحوج ما يكون إليها، وهكذا حال هؤلاء المنافقين حيث ينطفئ هذا النور عنهم في الآخرة على الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، كما وصف النبي ﷺ[4] نسأل الله العافية.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 
  1. أخرجه النسائي في كتاب: الاستعاذة - باب: الاستعاذة من شر شياطين الإنس (5507) (ج 8 / ص 275)، وأحمد برقم (21586) (ج 5 / ص 178)، والطبراني في الكبير (7871) (ج 8 / ص 217)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "ومداره على علي بن يزيد وهو ضعيف"، وكذا ضعفه الألباني كما في سنن النسائي.
  2. أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب – باب: في مناقب عمر بن الخطاب (3691) (ج 5 / ص 621)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2914).
  3. أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة - باب: قدر ما يستر المصلي (510) (ج 1 / ص 365).
  4. أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: معرفة طريق الرؤية (183) (ج 1 / ص 167) عن أبي سعيد الخدري .

مواد ذات صلة