الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[17] من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} الآية 47 إلى قوله تعالى: {وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} الآية 52.
تاريخ النشر: ١٩ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 3362
مرات الإستماع: 2468

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولًا ۝ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [سورة النساء:47 - 48].

يقول تعالى آمرًا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد ﷺ من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ومتهددًا لهم أن يفعلوا بقوله: مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] قال العوفي عن ابن عباس -ا: وطمسها أن تعمى.

فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ونجعل لأحدهم عينين من قفاه، وكذا قال قتادة وعطية العوفي، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم وهذا كما قال بعضهم في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ۝ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا الآية [سورة يــس:8-9]: إن هذا مثل ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] ذكر الحافظ هنا أثر ابن عباس -ا- وهو قوله: وطمسها أن تعمى.

قوله: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] يقول: "نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى": الطمس أصله استئصال أثر الشيء وإزالته بالكلية، والمعنى أن الله يزيل تلك الوجوه فيغير خلقهم فتكون وجوههم إلى القفا وتكون أقفيتهم إلى الوجوه، وهذا المعنى هو المتبادر -والله تعالى أعلم- وهو الذي مشى عليه كثير من المفسرين ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.

يقول ابن كثير: "وهذا أبلغ في العقوبة والنكال" معناه أن هذا يكون حقيقة.

وقوله: "وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل... إلى آخره" المثل يطلق ويراد بإزاء معانٍ متعددة، فإن كان المراد بالمثل هنا أنه صفةٌ ذكرها الله في وجه العقوبة التي قد تنزل بهم جزاءً لإعراضهم عن الحق، أي كما أنهم أعرضوا عن الحق قلب الله وجوههم إلى أقفيتهم فصاروا يمشون القهقرى فلا إشكال في ذلك، وهذا كقوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ [سورة محمد:15] يعني صفة الجنة، وكقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [سورة البقرة:17]. 

أما إذا كان مراد ابن كثير أن ذلك تصوير للحال التي هم عليها من إعراضهم عن الحق دون أن يكون المراد حقيقة وقوع الطمس كعقوبة لهم فهذا غير صحيح إطلاقا، ولذلك فإن كلام مجاهد -رحمه الله- في المسخ عند قوله تعالى: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] حين قال: مسخت نفوسهم وأرواحهم ولم تمسخ أجسامهم، بمعنى أنه مسخ معنوي ولم يتحولوا إلى خنازير حقيقة، هذا كلام لا شك أنه خطأ، وقد رده العلماء وكلامهم في هذا معروف.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- كلامه الأول وطريقته المعروفة في التفسير هو أنها تطمس حقيقة فيقلب الوجه إلى القفا، أعني أن منهجه في التفسير يقتضي أنه لا يلجأ إلى التأويلات البعيدة فهذا الظن به، مع أن كلامه الأخير يحتمل أن القضية هي تشبيه أو تقريب للحال التي هم عليها من إعراضهم عن الحق بمن طمس وجهه فصار إلى قفاه، فإن كان هذا هو المراد فهذا غير صحيح والله أعلم.

فالحاصل أن هذا يكون حقيقة وعيد توعدهم الله به أن يقلب صورهم وهذه العقوبة مناسبة لحالهم من إعراضهم عن الحق ورجوعهم عنه، أو عن مقتضى العلم الذي عرفوه باتباع الباطل، والله أعلم.

وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، روى ابن جرير: عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال: أسلم كعب زمان عمر أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم، فقال: ألستم تقرءون في كتابكم مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [سورة الجمعة:5] إلى أَسْفَارًا [سورة الجمعة:5] وأنا قد حملت التوراة، قال: فتركه عمر، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلًا من أهلها حزينًا وهو يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا الآية [سورة النساء:47] قال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت، مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن ثم جاء بهم مسلمين.

وقوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [سورة النساء:47] يعني: الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف.

يقول تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [سورة النساء:47] الله أخبر في القرآن أنه لعن اليهود في مواضع متعددة وقال: لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [سورة المائدة:13] فهو لعنهم على كفرهم ولعنهم على ذنوب خاصة كتركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۝ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ [سورة المائدة:78-79] فلعنهم ثابت وحاصل ومتحقق، وهذا اللعن لم يكن مختصًا بأصحاب السبت، فما المراد بقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ؟

يحتمل أن يكون المقصود أن يلعنهم لعنًا خاصًا وهو المسخ الذي وقع لأصحاب السبت؛ وذلك أن حقيقة اللعن هو الطرد والإبعاد، فالذي مسخ قد أبعد غاية الإبعاد وطرد غاية الطرد فيكون المراد على هذا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [سورة النساء:47] أي أن نمسخهم، وهذا لعن خاص.

ويحتمل أن يكون المراد أن الله يلعنهم اللعن المعروف وهو الطرد والإبعاد عن رحمته فيكون ذلك لعنًا بعد لعن؛ لأن الله لعن اليهود على أمور متعددة منها لعنهم على تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والقول الأول هو الذي مشى عليه كثير من المحققين ومنهم أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أي أن المقصود باللعن هنا المسخ؛ لأن هذا هو الذي وقع للإسرائيليين من أصحاب السبت الذين اعتدوا في يوم سبتهم كما في القصة المعروفة حيث كانوا يحتالون على اصطياد الحيتان، فيضعون الشباك يوم الجمعة ويأخذونها يوم الأحد احتيالًا على الله .

وقوله: وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولًا [سورة النساء:47] أي: إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع.

ثم أخبر تعالى أنه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء:48] أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [سورة النساء:48] أي: من الذنوب لِمَن يَشَاء أي: من عباده.

قوله: لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء:48] إذا أولناها بمصدر يكون الكلام "لا يغفر إشراكًا" و"إشراكًا"

 نكرة في سياق النفي فهي للعموم، ومن هذه الآية وأشباهها أخذ بعض العلماء أن الشرك الأصغر لا يغفر؛ لأن الله قال: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء:48] يعني قليلًا أو كثيرًا، وعلى هذا القول ليس معنى ذلك أن من وقع في شيء من الشرك الأصغر أو الشرك الخفي أنه يخلد في النار، فهؤلاء لا يقولون بهذا، وليس هذا من مقتضى قولهم ولكنهم حينما يقولون: إن الله لا يغفره يقولون: إن الإنسان يعذب عليه ثم يخرج بعد ذلك من النار، أي أنه لا يغفر له ابتداءً، وقد يُغمر هذا بحسنات ماحية أو بمصائب مكفرة أو بشفاعة لكنه ليس من جملة الذنوب التي تغفر بغير التوبة، فالله يغفر الذنوب، وكلام أهل العلم في الكبائر معروف، هل تغفر من غير توبة، أو لا تغفر من غير توبة؟ وقول النبي ﷺ: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهن إذا اجتَنَبَ الكبائر[1] والشرك لا شك أنه أكبر الكبائر فجنس الشرك أكبر من سائر الذنوب.

روى الإمام أحمد عن أبي ذر عن رسول الله ﷺ قال: إن الله يقول: يا عبدي، ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، يا عبدي إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة[2] تفرد به أحمد من هذا الوجه.

روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله ﷺ فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق ثلاثًا، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر قال: فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: "وإن رغم أنف أبي ذر" أخرجاه من حديث حسين، به[3].

هذا الحديث وأشباهه ينبغي أن يضم إلى الأحاديث الأخرى التي تدل على دخول أقوام من أهل التوحيد والإيمان النار بسبب بعض الذنوب، وهذه النصوص سواء كانت في القرآن أو في السنة كثيرة جدًا، والعدل في مثل هذه الأشياء وهي الطريقة التي عليها أهل السنة هي أن يجمعوا بين النصوص فيكون الإنسان بذلك جامعًا بين الخوف والرجاء، فلا يغتر بما ورد من مغفرة الله لمن قال: لا إله إلا الله، أو بدخوله الجنة أو بتحريمه عن النار، ويترك النصوص الأخرى التي فيها الوعيد الشديد على من قارف معاصي الله -تبارك وتعالى- فالأمر ليس بالسهل، فالنبي ﷺ يقول: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن قضيبًا من أراك[4].

والله يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7-8]، ويقول –عليه الصلاة والسلام: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله[5] وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي تدل على المؤاخذة ولو كان بأقل القليل من الأعمال السيئة كما في حديث: دخلت امرأة النار في هرة[6] فلا يتساهل الإنسان في العمل السيئ اغترارًا بمثل هذه الأحاديث، وإلا ما معنى إخراج أقوام من النار وقد تفحموا –أعني الجهنميين- هؤلاء من أهل لا إله إلا الله، أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان[7] هؤلاء من أهل التوحيد فما الذي أدخلهم النار وهم قالوا: لا إله إلا الله؟

وروى البزار عن ابن عمر -ا- قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا ﷺ يقول: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [سورة النساء:48] وقال: أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة [8].

وقوله: وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [سورة النساء:48] كقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13].

وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك... وذكر تمام الحديث[9].

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ۝ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا ۝ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلًا ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [سورة النساء:49 - 52].

قال الحسن وقتادة: نزلت هذه الآية وهي قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ [سورة النساء:49] في اليهود والنصارى حين قالوا: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18].

وقال ابن زيد: نزلت في قولهم: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18] وفي قولهم: لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111].

الآية نازلة في اليهود والسياق يدل على ذلك، ومن تزكيتهم لأنفسهم ما ذكر هنا من قولهم: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18] لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] فكل ذلك من تزكيتهم لأنفسهم، وهذا الذي قال به جماعة من أهل العلم كابن جرير، وقال به من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- مع أن من أهل العلم من يقول بغير هذا، لكن هذا هو الأقرب، إلا أن هذه الآية لا تختص باليهود، فهذا الاستفهام يتضمن الإنكار والتعجب من حال أولئك المزكين لأنفسهم، وقد دلت النصوص على أن الإنسان لا يزكي نفسه، والله يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [سورة النجم:32] فهذا نهي عام عن تزكية النفوس، والله هو الذي يعلم حال خلقه في بواطنهم وظواهرهم فيزكي من يشاء -تبارك وتعالى.

ولهذا قال تعالى: بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء [سورة النساء:49] أي: المرجع في ذلك إلى الله لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها.

ثم قال تعالى: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [سورة النساء:49] أي: ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل.

قال ابن عباس -ا- ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وغير واحد من السلف: هو ما يكون في شق النواة.

قوله تعالى: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [سورة النساء:49] إما أن يكون ذلك راجعًا إلى قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ [سورة النساء:49] فهم المحدث عنهم أصلًا وهم الذين يزكون أنفسهم، والمعنى أنهم سيحاسبون على ما قالوا وعلى ما زكوا به أنفسهم من غير أن يزاد عليهم من ذنوبهم شيء.

وإما أن يكون ذلك راجعًا إلى قوله: بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء [سورة النساء:49] وعلى هذا يكون قوله: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [سورة النساء:49] أي الذين يزكيهم هو؛ لأنه آخر مذكور.

وإما أن يكون المعنى هنا عامًا، أي أن الله لا يظلم هؤلاء الذين يزكون أنفسهم ولا يظلم من زكاهم هو ولا يظلم من ترك تزكيتهم، فكل ذلك يكون صادرًا منه على تمام العدل وكمال العلم والإحاطة، فهو يعلم من يستحق التزكية ومن لا يستحقها كما يقول ابن جرير -رحمه الله.

وقوله: فَتِيلًا الفتيل بعضهم يقول: هو الخيط الذي يكون في شق النواة، فالنواة فيها خط في الوسط وهذا الخط يكون فيه خيط رفيع وهو شيء حقير لا يعبأ به ولا يلتفت إليه ولا قيمة له، أو أن المراد به القشرة الرقيقة الشفافة التي تكون على النواة، وهذا قال به بعض أهل اللغة وبعض المفسرين، أو أن المراد به ما يحصل بين الأصابع من الوسخ، والمشهور أنه الخيط الذي يكون في شق النواة. 

وابن جرير -رحمه الله- يقول: المقصود الشيء الحقير، يعني لا يظلمون شيئا ولو كان يسيرًا تافهًا حقيرًا لا قيمة له فالله لا يظلم شيئًا وعلى هذا يدخل في معنى الفتيل الشيء الحقير التافه مثل الوسخ الذي يكون في اليد، ومثل الخيط الذي يكون في شق النواة وقشرة النواة فكل ذلك يقال له: فتيل في كلام العرب، فالجامع المشترك بين هذه الأشياء هو أنها حقيرة لا قيمة لها.

 وقوله: انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ [سورة النساء:50] أي: في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وقولهم: لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] وقولهم: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [سورة آل عمران:24] واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئًا في قوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ الآية [سورة البقرة:141].

يقول الشاعر:

فاخرتم بآباء لهم شرف قلنا: صدقتم ولكن بئس ما ولدوا

فإذا كان الآباء على طريقة صحيحة والأبناء لم يكونوا على طريقتهم فإن ذلك لا ينفعهم شيئًا.

ثم قال: وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا [سورة النساء:50] أي: وكفى بصنيعهم هذا كذبًا وافتراء ظاهرًا.

وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] أما الجبت فقال محمد بن إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر بن الخطاب –- أنه قال: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان.

وبعضهم يقول: الجبت هو الساحر، وسواء قيل: إنه السحر أو الساحر فلا إشكال؛ لأن بين السحر والساحر تلازم، فالسحر إنما يفعله الساحر.

وبعضهم يقول: الجبت هو الساحر بلسان الحبشة، وهذا يحتاج إلى إثبات، والكلام في المعرّب في القرآن معروف أعني هل يوجد في القرآن شيء من غير لغة العرب أم لا.

وقال العلامة أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه "الصحاح": "الجبت" كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك.

أصحاب النبي ﷺ عرب خُلَّص وكلامهم يحتج به في اللغة وهم في زمن الاحتجاج، ولم تتكدر ألسنتهم بمخالطة الأعاجم فذكروا في معاني الجبت السحر والساحر وغير ذلك فجمعها الجوهري، ولهذا قال بعضهم: كل معبود أو مطاع أو متبع من دون الله في معصيته يقال له: الجبت والطاغوت، ويدخل فيما قالوا كعب بن الأشرف فهو مطاع من دون الله ، ويدخل فيه الصنم والسحر والساحر، ويدخل فيه كل ما يعبد من دون الله عمومًا. 

ويدخل فيه كذلك قول من قال: إن الجبت هو إبليس وإن الطاغوت أولياؤه، فكل ما تجاوز حده من معبود أو مطاع أو نحو ذلك، فهو طاغوت إن كان راضيًا بهذه العبادة، إذ المخلوق حده وقدره العبودية، فإن تجاوزها وصار معبودًا أو مطاعًا يطاع من دون الله فهذا طاغوت سواء كان شخصًا أو تشريعًا أو غير ذلك إذا كان مخالفًا لتشريع الله .

وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله -ا- أنه سئل عن الطواغيت، فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين، وقال مجاهد: الطاغوت الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم، وقال الإمام مالك: الطاغوت هو كل ما يعبد من دون الله .

الإمام مالك يفسر الطاغوت بأنه كل ما يعبد من دون الله -وهذا تفسير شامل- ويفسر الجبت بالشيطان وبما يُعبد مما يزينه الشيطان ويسوله لهم.

ولعل من أحسن ما قيل في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] ما ذكره ابن جرير -رحمه الله- أن الجبت والطاغوت اسمان لكل ما يعبد ويعظم أو يتبع من دون الله إذا كان راضيًا بذلك من إنسان أو شيطان أو غير ذلك.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه مسلم في كتاب ا لطهارة - باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر (233) (ج 1 / ص 209).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات – باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده (3540) (ج 5 / ص 548) وأحمد واللفظ له (21406) (ج 5 / ص 154) وقال الأرنؤوط: صحيح مرفوعاً.
  3. أخرجه البخاري في كتاب اللباس - باب الثياب البيض (5489) (ج 5 / ص 2193) ومسلم في كتاب الإيمان - باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات مشركاً دخل النار (94) (ج 1 / ص 94).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (137) (ج 1 / ص 122).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب القصد والمداومة على العمل (6098) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (2816) (ج 4 / ص 2169).
  6. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3140) (ج 3 / ص 1205) ومسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2619) (ج 4 / ص 2019).
  7. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22-23] (7001) (ج 6 / ص 2706).
  8. أخرجه الطبراني في الأوسط (ج 6 / ص 106) وأبو يعلى (5813) (ج 10 / ص 185) والبزار (5840) (ج 2 / ص 244) وحسنه الألباني في ظلال الجنة برقم (830).
  9. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (5655) (ج 5 / ص 2236) ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (86) (ج 1 / ص 90).

مواد ذات صلة