الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
‏[3] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} الآية 5
تاريخ النشر: ٠٩ / رمضان / ١٤٢٩
التحميل: 5157
مرات الإستماع: 4100

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبعد:

قال المؤلف -رحمه الله: 

يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]

لما ذكر تعالى المخالف للبعث، المنكر للمعاد، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد، بما يشاهد من بدئه للخلق، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [سورة الحج:5] أي: في شك مِنَ الْبَعْثِ وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ أي: أصل بَرْئِه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ الريب هو الشك، وهذا تفسير له بما يقرب من معناه، وإلا فإن الريب هو شك مع قلق، كما قال الله -: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2].

والسلف يفسرون الشيء بما يقرب من معناه؛ ولهذا يقولون مثلاً: إن الإشفاق هو الخوف، مع أن الإشفاق هو الخوف مع العلم بالمخوف منه، والرأفة هي الرحمة، مع أن الرأفة هي رحمة رقيقة أحض من مطلق الرحمة، فالريب شك مع قلق يساور النفس.

وقوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ هي الماء المهين، قيل لها: نطفة؛ لقلتها، كما أنه يقال للقطرة من الماء: نطفة؛ لقلتها، والله أعلم.

 قال -رحمه الله:

ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوما كذلك، يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله.

مِنْ عَلَقَةٍ يعني: قطعة من الدم جامدة؛ ولأنها تعلق بجدار الرحم يقال لها: علقة، فهذا كله يبين الله فيه كمال قدرته وعظمته، فهو الذي خلق الإنسان من هذا الخلق الضعيف من نطفة، ثم من علقة، وجعله بهذه الهيئة، وهو قادر على إعادته ثانياً، وقادر على البعث والنشور.

 قال -رحمه الله:

فتمكث كذلك أربعين يوما، ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط.

قيل لها: مضغة؛ لأنها بقدر ما يمضغ، تكون صغيرة، ثم بعد ذلك يبدأ التشكيل فهو أربعون يوماً نطفة، ثم أربعون علقة، فهذه ثمانون ثم بعد ذلك يكون مضغة، ولا يتشكل الجنين ولا يتصور قبل الثمانين، وإنما يكون ذلك بعد الواحد والثمانين حينما يكون مضغة يبدأ بعد ذلك -على تفاوت- التخطيط والتشكيل.

ولهذا إذا أسقطت المرأة قبل الواحد والثمانين فإنه ليس بنفاس، تصوم وتصلي، وإذا أسقطت بعد الواحد والثمانين نظر هل هذا الذي سقط منها بصورة إنسان له يد، ورأس، ورجل ونحو ذلك، فهذه يكون لها حكم النفاس، فإن خرج الدم قبل سقوطه مع آلام الولادة أو الإجهاض فهذا نفاس، وإن خرج الدم من غير آلام فليس بنفاس إذا كان بعد التشكيل وليس بعد نفخ الروح، بعد التشكيل والتخليق، وهذا لا يكون إلا بعد واحد وثمانين يوماً.

وهكذا الإسقاط إذا تسببت في إسقاطه كأن تتعمد حمل شيء ثقيل من أجل أن يسقط أو تقفز من مكان مرتفع ونحو هذا، فإن خرج منها ما هو بصورة إنسان فعليها الدية، وهي عُشر دية الأم، ولا ترث منها شيء إنما تكون لأبيه، وإذا كان الذي سقط منها ليس بصورة إنسان فإن كان فيه بداية تخطيط فيكون له حكم النفاس والدية، وإن لم يكن في صورة التخطيط أصلاً لكن القوابل ذوات الخبرة يعرفن أن هذا ابتداء خلق إنسان من خلال الخبرة فهذا فيه خلاف بين أهل العلم: فمنهم من يقول: ليس فيه حكم، ومنهم من يقول: فيه الدية، وفيه أيضاً حكم النفساء، وأما إذا لم يظهر فيه شيء ولم يعرف القوابل ذلك إنما هي مجرد قطعة لحم فلا يتعلق بها حكم.

قال -رحمه الله:

ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس ويدان، وصدر وبطن، وفخذان ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط؛ ولهذا قال تعالى: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي: كما تشاهدونها.

كلام ابن كثير -رحمه الله- يفسر المخلّقة بالمصورة في صورة إنسان سواءً سقطت قبل التمام، يعني قبل حين الولادة أو بقيت حتى يولد الإنسان، وقيل: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ هي التي ليس عليها تصوير ولا تشكيل، وهو أيضاً ما اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله.

وقال -رحمه الله:

لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق.

السقط مخلوق وغير مخلوق يعني هذا الذي تسقطه المرأة إما أن تكون المضغة هذه عليها صورة إنسان أو ليس عليها صورة إنسان، لكن ليس هذا محل اتفاق في التفسير، فمن أهل العلم من يقول: المخلقة هي المكتملة التي نفخت فيها الروح، وخرج إلى الدنيا، أي وُلد، وغير المخلقة هو ما سقط قبل ذلك، هذا ذهب إليه طائفة من أهل السلف ومن بعدهم، ما ولد بتمامه فهو مخلقة وما ولد قبل تمامه فغير مخلقة، وهذا يختلف عن القول الذي قبله، والقول الذي قبله لا يرتبط بالولادة ولا بنفخ الروح، إنما يكون باعتبار ما في هذه النطفة من تشكيل وتصوير وتخليق. 

والقول الثاني: أن ما سقط قبل تمامه فهو غير مخلقة، والمقصود بما سقط قبل تمامه يعني ما لا يعيش معه الجنين، كمن سقط لأربعة أشهر ونحو هذا، لكن لو أنها ولدت لسبعة أشهر فعاش الجنين لا إشكال في هذا، فهذه مخلقة.

وبعض أهل العلم ذهب إلى غير هذا وقال: هذا كله في من وُلد، لكن هؤلاء على نوعين مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، مخلقة يعني تامة الخلق كاملة الأعضاء، يعني: ليس فيها إعاقات ولا تشوهات ولا نقص، وغير المخلقة قالوا: هي التي فيها عاهة ونقص بمعنى أنه خلق من غير يد أو بيد واحدة، أو رجل واحدة، أو يد صغيرة أو نحو ذلك، قالوا: هذه غير مخلقة، وهذا الذي اختاره الشيخ محمد أمين الشنقيطي -رحمه الله- وحجته في ذلك هي أن مأخذ هذا القول من هذه المضغة التي وصفها الله وخاطبنا يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، فيقول: هذه المضغة يخاطبنا الله بما أوجدنا منه، فلا يمكن أن يكون بما سقط قبل تمامه فنحن لم نوجد منه ولم نخلق منه، فيقول: هي التي وجد منها الناس، لكن إما أن يكون وجودهم وخلقهم تاماً، وإما أن يكون ناقصاً، فهذا مأخذ القول.

لكنه لا يخلو من الإشكال، وذلك لإمكانية أن يقال -والله تعالى أعلم: إن الله ذكر الخلق من تراب، ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، هذه الأشياء هي الأطوار التي يمر بها الإنسان، وأصل خلق الإنسان من تراب، والذي خلق من تراب هو آدم ﷺ ولا حاجة للتكلف كما يقول بعضهم بأن أصل هذه النطفة خلاصة الغذاء، ولهذا إذا خرجت من الإنسان يجد إجهاداً وتعباً، وإذا كثر ذلك منه فإن ذلك يسلب عافيته، ولربما خرجت دماً عبيطاً، ويقولون: الغذاء أصله من النباتات والأشياء، وغير ذلك فلا حاجة إلى هذا التكلف، أصل خلق الإنسان من تراب بل بالماء فصار طيناً، فترك فصار حَمْئاً، ثم بعد ذلك جف فصار صلصالاً كالفخار، فإذا ضربته كان له صوت، صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [سورة الرحمن:14]، ثم بعد ذلك صار خلق الذرية من نطفة ثم من علقة وليس من تراب وإنما الأصل من التراب، والله يذكر أطوار الخلق فأصله من نطفة فهذه النطف هي أصل الخلق، منها ما تمجه في الأرحام ويسقط وهو نطفة، ومنها ما يسقط وهو علقة، ومنها ما يسقط وهو مضغة، ومنها ما يسقط بعد أن تنفخ فيه الروح وقبل تمامه، ومنها ما يبقي حتى الولادة مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.

فالله يتحدث عن أصل خلق الإنسان، وليس الحديث عمن وُجدوا ومروا بهذه الأطوار جميعاً، أو أنهم مروا ببعضها فيقال: كيف يخاطبنا الله بأنه خلقنا مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، فنحن خلقنا من هذه الأطوار، والذي خلق من تراب هو آدم ﷺ فقط، أما نحن فمن نطفة ثم علقة ثم مضغة وهذه المضغة لها حالتان -بخلاف العلقة والنطفة- مخلقة وغير مخلقة، ولهذا فرّق فيها وفصّل لكنها أصل خلق الإنسان، وهذا يمكن أن يستشكل على ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الله -تبارك وتعالى- يذكر في هذه الآية أطوار الخلق من حيث هي، وما يكون من حال هذه النطفة من تمام وعدمه، فتكون مخلقة بمعنى عليها صورة التخليق، أو غير مخلقة ليس عليها صورة التخليق، هكذا يبدو والعلم عند الله ، لا أن المقصود أنها ناقصة الخلقة، ومعنى التخليق  التصوير والتشكيل، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [سورة المائدة:110]، فتخلق بمعنى تشكل، يعني مشكّلة بغض النظر عن هذا التشكيل هل هو ناقص أو كامل، هذا جانب آخر يجاب به عن كلام الشنقيطي -رحمه الله، فالذي خرج من بطن أمه وله يد واحدة أو رجل واحدة، أو ليس له أرجل أصلاً هذه مخلقة، وصورة إنسان يصدق عليها هذا الوصف أنها مخلقة، لكن غير المخلقة لم يتحقق فيها هذا الوصف أصلاً، فالوصف بالتخليق، ولم يقل ناقصة وكاملة، وإنما قال: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، فما كان عليه تصوير وتخطيط وتشكيل فهذه مخلقة، وما كان قبل ذلك فهي غير مخلقة -والله تعالى أعلم، وما ذكره ابن جرير وابن كثير أظنه أقرب في تفسير الآية، والخلاف فيها معروف ومشهور.

وقال -رحمه الله:

فإذا مضى عليها أربعون يوما، وهي مضغة، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله ، من حسَن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد.

هذا ما يعرفه الملَك عند تمام الأربعة الأشهر -مائة وعشرين يوماً، شقي أوسعيد، ذكر أو أنثى رزقه كل هذه الأشياء تكتب، والأطباء لا يعرفون هل هو ذكر أو أنثى حينما يكون نطفة أو علقة، ولو عملوا ما عملوا، ولا يعرفون الجنين وهو في بطن أمه هل هو ذكر أو أنثى إلا بعدما يعرف الملَك، فبعد ذلك لم يكن من الخمس التي اختص الله بعلمها إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [سورة لقمان:34]، فـ"ما" في قوله: مَا فِي الْأَرْحَامِ للعموم ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد أجله عمله كل هذه الأشياء يعلمها الله ، والملك يطلعه الله -تبارك وتعالى- عند تمام الأربعة الأشهر على هذه الأشياء التي لا يمكن أن يطلع عليها الطب قبل النفخ في الروح، والطب كذلك لا يمكن أن يعرف هل هذا شقي أو سعيد أو رزق هذا الإنسان ما مقداره ونحو ذلك من الأمور المختصة بالله .

وقال -رحمه الله:

كما ثبت في الصحيحين، عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ -وهو الصادق المصدوق: إن خلْق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح[1].

وقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا أي: ضعيفاً في بدنه، وسمعه وبصره وحواسه، وبطشه وعقله، ثم يعطيه الله القوة شيئاً فشيئاً.

قوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا أي: أطفالاً، وقوله طِفْلا اسم جنس، واسم الجنس قد يعبر به عن الجمع وهو بصيغة المفرد يعبر به عن الجمع، وذلك كثير في القرآن، والسياق هو الذي يبين المراد نُخْرِجُكُمْ طِفْلا مع التنكير منكراً منفرداً أي: أطفال، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان:74] يعني: أئمة، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [سورة القمر:54] يعني: أنهاراً كما قال الله : تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة آل عمران:136]، هو بمعنى الجمع، وهكذا فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا [سورة النساء:4] يعني أنفساً وهكذا، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69]، يعني: رفقاء، وهذا كله من قبيل اللفظ المفرد المُنكر الذي أريد به الجمع؛ لأنه اسم جنس، وهذا كثير في كلام العرب ومنه قول الشاعر:

وكان بنو فزارةَ شرَّ عمٍّ وكنتُ لهم كشرِّ بني الأخينا

شر عمٍّ: شر أعمام، عمّ مفرد منكر.

 وهكذا في قوله:

ما بالُ قومٍ صديقٍ ثم ليس لهم دينٌ وليس لهم عقلٌ إذا ائتُمنوا

صديق يعني أصدقاء، وأيضا:

نَصبنَ الهوى ثم ارتمينَ قلوبَنا بأعيُنِ أعداءٍ وهنّ صديقُ

يعني أصدقاء، وهكذا:

لعمري لئن كنتم على النأي والنَّوى بكم مثلُ ما بي إنكم لصديقُ

يعني أصدقاء، وهكذا:

يا عاذلاتي لا تزدنَ ملامتي إنّ العواذلَ لسنَ لي بأميرِ

يعني بأمراء.

وهكذا إذا جاء مع المفرد معرفاً بـ "ال" مثل: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النور:31] يعني الأطفال، أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [سورة الفرقان:75]، يعني الغرف في الجنة، كما قال الله : غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ [سورة الزمر:20]، غرفة وهي بمعنى الجمع، وهكذا أيضاً بالإضافة إلى الضمير كما في قوله -تبارك وتعالى: أَوْ صَدِيقِكُمْ [سورة النور:61]، أي: أصدقائكم، ولَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ [سورة الممتحنة:1]، "عدوي" مفرد مضاف، و"عدوكم" أيضاً مفرد مضاف، يعني: أعدائي وأعداءكم وهكذا، ومنه قوله:

بها جِيفُ الحَسْرى فأما عظامُها فبيضٌ وأما جلدُها فصليبُ

 جلدها: يعني جلودها.

وقال - رحمه الله:

ويلطف به، ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار؛ ولهذا قال: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي: يتكامل القُوَى ويتزايد، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر.

قوله: لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ بلوغ الأشد يعني بلوغ المنتهى، أو بلوغ القوة في الجسم والعقل، والعلماء -رحمهم الله- بعضهم يقول: بلوغ الأشد يكون بعد الثامنة عشرة، وبعضهم يقول: إذا بلغ إحدى وعشرين سنة، وبعضهم يقول خمساً وعشرين سنة، وبعضهم يقول: إذا بلغ الأربعين، لأن الله يقول: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [سورة الأحقاف:15]، وبعضهم يقول: إذا بلغ الخمسين، ويذكرون بيتاً من الشعر:

أخو خمسينَ مُجتَمِعٌ أشُدِّي ونجّذَني مُداورةُ الشئونِ

والأقرب -والله أعلم- أن كل هذا يصدق عليه بلوغ الأشد، فإذا بلغ الإنسان القوة في البدن وفي العقل والتدبير فهذا بلوغ الأشد، وهذا يتفاوت فيكون منتهاه اكتمال القوة البدنية، وقوة العقل والنظر في الأربعين، ويبقى الإنسان متماسكاً ربما حتى إلى الخمسين، ثم بعد ذلك يبدأ الضعف في البدن، ثم بعد ذلك الضعف حتى في العقل حتى يصير إلى أرذل العمر، فيذهب عنه ما كان يعلمه، وهذا الإنسان مهما بلغ من القوة البدنية أو القوة العقلية وأنه لا يتغير فقوة الحفظ تكون قبل ذلك في الصغر، وقوة الإدراك والفهم تكون عند اكتمال العقل في الأربعين أو نحو ذلك، ولذلك العلماء يحبون ألا يؤلف الإنسان إلا بعد الأربعين، ويبدأ بعد ذلك بضعف البدن، ثم بضعف العقل، وأحد المشايخ يقول عن أبيه: كان يكاد يحفظ المحلّى عن ظهر قلب، وما نسأله عن شيء إلا ويقول: افتح صفحة كذا وانظر السطر الفلاني، وفي آخر عمره صار إذا أراد أن يقوم من سريره ليذهب إلى مكان ينسى لماذا قام.

وقال -رحمه الله:

وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، أي: في حال شبابه وقواه.

وقوله: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى هنا قال: أي: في حال شبابه وقواه، فكأن ابن كثير -رحمه الله- أراد وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى يعني: قبل أن يرد إلى أرذل العمر، وهذا يبدو -والله أعلم- هو الأقرب إلى ظاهر القرآن، ولكن أكثر المفسرين يقولون: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى يعني من قبل بلوغ الأشد، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا [سورة النحل:70].

قال -رحمه الله:

وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم، وتناقص الأحوال من الخَرَف وضعف الفكر؛ ولهذا قال: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [سورة الروم:54].

الله يذكر كثيراً في القرآن أطوار هذا الخلق كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ [سورة المعارج:39]، من النطفة هذا الخلق الضعيف، مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ۝ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [سورة نوح:13، 14]، فهذه هي الأطوار التي فصلها الله هنا: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [سورة الزمر:6]. 

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ۝ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً [سورة المؤمنون:12-14]، إلى غير ذلك من الآيات التي يذكر الله فيها هذه الأطوار، وما ذكره ابن عباس -ا- وهو في الصحيح قال: "إن من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر"[2]، من قرأ القرآن يعني حفظ القرآن، لم يرد إلى أرذل العمر بمعنى أنه لا يذهب عقله في حال الهرم، وهذا مشاهد، ولا يعرف عن أحدٍ من الصحابة أنه وصل إلى هذه المرحلة.

  1. روي في الصحيحين بلفظ: "أربعين يوما" البخاري كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3036)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم (2643)، وفي رواية لمسلم: "أربعين ليلة" بنفس الرقم.
  2. رواه الحاكم في المستدرك، في كتاب التفسير، تفسير سورة التين برقم (3952)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (2706)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (1435).

مواد ذات صلة