بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة، وأتم التسليم، أما بعد:
فقال المؤلف -رحمه الله:
وقوله: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً [سورة الحـج:5] هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة، وهي القحْلَة التي لا نبت فيها ولا شيء.
وقال قتادة: غبراء متهشمة، وقال السدي: ميتة.
فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بهِيجٍ [سورة الحـج:5] أي: فإذا أنزل الله عليها المطر اهْتَزَّتْ أي: تحركت وحييت بعد موتها، وَرَبَتْ أي: ارتفعت لما سكن فيها الثرى، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون، من ثمار وزروع وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها؛ ولهذا قال تعالى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي: حسن المنظر، طيب الريح.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً الرؤية هنا بصرية، والأقوال التي ذكرها في معنى (هامدة) أقوال متقاربة ترجع إلى شيء واحد، سواء قيل: إنها قاحلة، أو متهشمة، أو ميتة، فهذا كله معناه يرجع إلى شيء واحد، أي: لا نبات فيها، والتي لا نبات فيها يقال لها: قاحلة ومُمحِلة، وأرض قفر، وما أشبه ذلك.
فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ اهتزت يعني: تحركت، وهذه الحركة تكون بالنبات، فإذا تحرك النبات في داخلها وفي باطنها، وتوجه مسمار النبات ليخرق ما فوقه ليصعد ويبدو، فهذا يحصل معه انتفاخ وارتفاع في الأرض؛ لما يوجد من جذور النباتات، أو أصول النباتات التي تحركت في داخلها، فترتفع الأرض بهذا الاعتبار.
(وربت) بمعنى ارتفعت، وفي القراءة الآخرى (ربأت) بمعنى: زادت، ومنه الرابية وهي الأرض المرتفعة، ومن أهل العلم من يقول: إن المقصود بقوله: (ربت) يعني ارتفعت بالنبات، وليس معناه انتفخت، وإنما المقصود ظهر عليها نبت فصارت الأرض مرتفعة به، يعني بعدما كانت الأرض تربة متساوية، أو طينة يابسة أو نحو ذلك صار فوقها النبات بقدر شبر أو ذراع أو أكثر من ذلك.
فـ(ربت) يعني زادت بالنبات، فواضح الفرق، ففي القول الأول: أن نفس الأرض تنتفخ بما تحرك في داخلها من أصول النباتات، ويكون ذلك زيادة فيها (اهتزت وربت).
وعلى كل حال هذا زيادة فيها، يعني ما يتحرك في داخلها من مبتدأ النبات قبل أن يظهر وقبل أن يصعد، وبعد أن يصعد كل هذا زيادة على أصلها، فيحصل بذلك هذا المعنى (ربت).
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ والزوج يعني الصنف، يقول: أي: حسن المنظر طيب الريح: هذا معنى بهيج، وهذا كقوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [سورة فصلت:39]
فالله -تبارك وتعالى- يستدل بذلك، أو يوجه أنظارهم إلى هذا المعنى، أو هذا الأمر الذي يشاهدونه، ويتكرر من إحياء الأرض الميتة، يستدل به على قدرته على إحياء الموتى، فالأرض ليس فيها نباتات، وليس فيها حياة، فإذا نزل المطر تحولت إلى شيء آخر، فيوجد فيها الزروع والثمار والأشجار، فترعى منها الحيوانات، وتسمع أصوات الطير، ويتحول المكان إلى شيء مبهج، ويخرج الناس للنظر إليه، والتمتع برؤيته، فهذا كله دليل على قدرته .
قال -رحمه الله:
وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي: الخالق المدبر، الفعال لما يشاء، وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى أي: كما أحيا الأرض الميتة، وأنبت منها هذه الأنواع إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة فصلت:39] فـإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس:82].
على كل حال هذا أحد الأدلة في القرآن على قدرته سبحانه على البعث، والدليل الذي قبله في الأطوار، وهكذا ما ذكره الله من بدء الخلق في مواضع أخرى، مثل: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27]، وقوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104]، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الإسراء:51]، وهكذا في كثير من الآيات: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [سورة ق:15].
كقوله -تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً [سورة فصلت:39] الآية التي ذكرتها آنفاً، وقوله كذلك:وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [سورة الروم:19]، وهكذا في قوله في سورة (ق): وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [سورة ق:11].
وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [سورة الحـج:8- 10].
لما ذكر تعالى حال الضُّلال الجهال المقلّدين في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ [سورة الحـج:3] ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفر والبدع، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ [سورة الحـج:8].
هذا جواب على سؤال وهو أن الله قال في أول ال سورة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [سورة الحـج:3]، وهنا قال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ [سورة الحـج:8] فهل هذا تكرار؟ هل هذا نفس الأول أو أن الله ذكر في الموضع الأول صنفاً من الناس؟ وذكر في الموضع الثاني الصنف الآخر؟
كلام ابن كثير -رحمه الله- ومشى عليه جماعة من أهل العلم، وهو اختيار ابن القيم: أن الآية الأولى تتحدث عن الجهال المقلدين؛ ولهذا قال الله فيها: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [سورة الحـج:3] شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقلدهم في الضلال والانحراف والكفر بالله -تبارك وتعالى.
والآية الثانية في المتبوعين في القادة والسادة الكبراء، ومن يتبعهم الناس ويقلدونهم؛ ولهذا لم يذكر هنا: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [سورة الحـج:3]، وإنما قال: بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ [سورة الحـج:8]، وذكر كِبْره فقال: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الحـج:9] قالوا: هذا مضل، هذا من الدعاة، فهذا وجه كلام ابن كثير -رحمه الله- في الفرق بين الموضعين.
ففي الأول لم يقل: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [سورة الحـج:3]، وثانياً: ذكر من صفته الكبر والعلو والتعاظم، فقال: ثَانِيَ عِطْفِهِثم قال: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الحـج:9] قالوا: هؤلاء دعاة الضلال، وهم من يتبعهم الناس.
ومن أهل العلم من يقول: الموضع الأول والموضع الثاني في موصوف واحد، ولكنه ذكر هنا بعض أوصاف هذا الصنف من الناس، وفي الموضع الآخر ذكر أوصافاً أخرى.
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، فكل من لم يتبع الوحي فهو متبع للهوى والشيطان، والله يقول: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [سورة الأنعام:121] فيتبع وحي الشيطان، ويجادل في الله ، يجادل في وحدانيته وفي صفاته وفي أسمائه، وفي دينه، وفي وحيه بغير علم.
وهنا ذكر من أوصافه: وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ [سورة الحـج:8] فالعلم هنا يحمل على العلم من حيث هو، ليس عنده علم، وإنما يجادل بالهوى والتخرص والجهل، والهدى يحمل على معناه المعروف، وهو الإرشاد، و(الكتاب المنير) يحمل على الوحي المنزل وهو القرآن، ومعنى (المنير): النيّر بما فيه من الحجج الواضحات، والبراهين الساطعات.
على كل حال بعض أهل العلم يقول: كرر صفته للزيادة هنا، وبعضهم يقول: كررها للتأكيد على ذم هذا الصنف من الناس وعيبهم، والتشنيع عليهم، مبالغة في الذم.
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ [سورة الحـج:8] أي: بلا عقل صحيح، ولا نقل صحيح صريح، بل بمجرد الرأي والهوى.
وقوله: ثَانِيَ عِطْفِهِ قال ابن عباس وغيره: مستكبرًا عن الحق إذا دعي إليه، وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم: ثَانِيَ عِطْفِهِ أي: لاوي عنقه، وهي رقبته، يعني: يعرض عما يدعى إليه من الحق ويثني رقَبَته استكبارًا، كقوله تعالى: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [سورة الذاريات:38، 39]
وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [سورة النساء:61]، وقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سورة المنافقون:5] وقال لقمان لابنه: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [سورة لقمان:18] أي: تميله عنهم استكبارًا عليهم، وقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا [سورة لقمان:7] الآية.
قوله -تبارك وتعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ تفسير ابن عباس قال: مستكبر، وهذا قال به جماعة من أهل العلم، وذلك تفسير على المعنى، والقول الآخر: وهو قول من قال -كمجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم: أي لاوي عنقه وهي رقبته، هذا تفسير على اللفظ، فهذان قولان، فمن أهل العلم من فسره بالاستكبار ثَانِيَ عِطْفِهِ أي: مستكبر، ومنهم من فسره على اللفظ ثَانِيَ عِطْفِهِ يلوي رقبته، والعِطف هو جانب الإنسان من رأسه إلى خاصرته هذا كله عِطف، يقال: فلان ينظر في عِطفيه هذا هو العِطف، لكن الذي عبر به قال: لاوي رقبته مثلاً، عبر عن العطف ببعض معناه، وإلا فالأصل أن العطف هو هذا جميعاً، لكن الذي يُلوي عادةٍ هو الرقبة، فمن لوى رقبته يكون قد لوى عطفه، واضح؟
ولهذا جاءت الآيات الأخرى كما ذكر هنا: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [سورة لقمان:18] فهذا يدل على الاستكبار، لووا رءوسهم هذا في عبد الله بن أبيّ؛ لما رجع النبي ﷺ في غزوة المصطلق، لما تكلم عبد الله بن أبيّ وقال: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سَمِّنْ كلبَك يأكلْك، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8] فلما قيل له وطلب منه أن يأتي إلى النبي ﷺ ليستغفر له لوى رأسه استكباراً، فهذا يفعله المتكبر، وهكذا المتكبر على الناس، فإنه ينظر إليهم بصفحة عنقه، لا ينظر إليهم بوجهه ويقابلهم فيه، تكبراً وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [سورة لقمان:18] أي: لا تلوي أو لا تصرف عنهم وجهك تكبراً عليهم، فهذا كله يرجع إلى هذه الأفعال التي يفعلها الإنسان ببدنه، وهي ناشئة بسبب الكبر والتعاظم والتعالي على الناس؛ ولذلك من فسره بأنه الكبْر فإنه فسره بالمعنى؛ لأن هذا التصرف معناه الكبر؛ لكن لو لوى الإنسان عطفه أو رأسه لأمر آخر فهذا لا يدخل في هذا.
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الحـج:9] أي: متكبر عن الحق لا ينقاد له، ولذلك فإن هذين القولين لا نحتاج معهما إلى الترجيح لما بينهما من الملازمة، فليُّ العنق هذا التصرف والفعل ناشئ عن الكبر، فمن فسره بالكبر فقد فسره بمعناه، فلا نحتاج إلى الترجيح، هذا حق وهذا حق، والله تعالى أعلم.
لاحظ الآن الفرق بين المعنيين على هذه القراءة: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال: إما أن يكون المراد بها المعاندين، بمعنى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني أنه هو يريد الضلال، ويقصد الضلال هذا المعاند ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فيكون ذلك منه من أجل الإضلال عن سبيل الله، فتكون اللام واضحة وصريحة أنها للتعليل يفعل ذلك لا يريد الحق، ولا يقبل الحق، ولا ينقاد له، ولا يعترف به ليضل غيره عن سبيل الله.
يعني صياغة العبارة الموجودة هنا ليست العبارة التي صاغها هناك، ليست بعينها موجودة.
على كل حال إما أن يكون هذا الإنسان يفعل ذلك قصداً ويتكبر عن الحق لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِيريد الضلال فتكون اللام للتعليل، وإما أن ذلك يقع منه استكباراً على الحق، ولكن هذا الفعل لا يقصد به الإضلال، ولكن الله قد جعل ذلك سبباً لإضلاله عن سبيل الله، فتكون اللام لام العاقبة بهذا الاعتبار، مثل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8] يعني هل التقطوه من أجل أن يكون عدواً لهم وحزناً؟ لا، هم التقطوه من أجل أن يكون ولداً بارًّا، لكن التقاطهم هذا له نتج عنه أن يكون سبب شقائهم وهلاكهم الذي حصل على يده، فهذه تسمى لام العاقبة.
تقول: فلان صحب فلاناً ليهلكه، هل صحبه ليهلكه؟ لا، لكن لتكون العاقبة الإهلاك، هذا تسمى لام العاقبة، مع أن من أهل العلم من لا يعتبر هذا، يقول: أيضاً حتى هذه هي لام التعليل، لكن هي تعلل، إما أن ذلك كتبه الله عليه، وجعل ذلك سبباً في هذا، فهي لام التعليل، يعني بمعنى أنه قد يقصد هذا فهو يلوي عنقه لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فاللام لام تعليل، وإما أنه لا يقصد هذا الإضلال، ولكن الله جعل من شأن صنيعه هذا -ما كتب عليه من الكفر، وما شابه ذلك- سبباً وعلة للإضلال لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كما سبق في قوله -تبارك وتعالى: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا اللام هذه (لكي لا يعلم) لام العاقبة، لكن من لا يقول بهذا يقول: هي لام التعليل؛ لأن الله أجراه في هذه الأطوار حتى يصل إلى هذا المستوى لأجل ألا يعلم من بعد علم شيئاً.
على كل حال فهنا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ابن كثير -رحمه الله- أشار إلى قولين:
الأول: وهو المستكبر يفعل ذلك ليضل لا يريد أن يؤمن في نفسه، ولا يريد للآخرين أن يؤمنوا، ويريد أن تكون سبيلاً معوجة.
والمعنى الثاني: لا، هو يتكبر على قبول الحق لكن كتب الله عليه ذلك، يعني عدم قبول الحق والاستكبار والكفر؛ ليكون ذلك سبباً ليضل، لتكون العاقبة -عاقبة هذا الصنيع- هي الإضلال عن سبيل الله، اتضح الفرق بين المعنيين؟
في قراءة أخرى: لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يَضِل يعني في نفسه، ويُضل يعني غيره، فهذه واضحة، فاللام للعاقبة لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بمعنى أنه إذا لوى عنقه، واستكبر عن الحق، وانصرف عنه فالنتيجة ما هي؟ الضلال.
لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهذا قراءة ابن كثير وأبي عمرو من السبعة، وعلى هذه القراءة لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ من قال: إن هذه في الدعاة، واحتج بهذه الجزئية لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فعلى هذه القراءة لا يكون له فيها مستمسك.
فالله جازاه بعكس ما قصده، فهو يترفع عن الحق لا يريد أن يكون تابعاً لغيره في الحق، ويريد أن يكون مقدماً ورأساً وإماماً في الضلال -نسأل الله العافية، ماذا كانت النتيجة؟ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ الخزي يعني: العار والفضيحة والمذلة والهوان، هذا الخزي، فحصل له عكس مقصوده، بدلاً من أن يشرف بالحق والاتّباع صار كما نقول: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [سورة المسد:1] هل هناك خزي أكثر من هذا؟ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ لكن أين أبو لهب من العباس أو من حمزة -ا؟ أو من عمر أو من أبي بكر - وأرضاهم؟ هؤلاء رضوا باتباع النبي ﷺ فحصل لهم الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة، وأما هذا الذي تكبر فـلَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وما ينتظره في الآخرة فهو أعظم.
وراجعوا كلام المعلمي -رحمه الله- في كتاب التنكيل لما تكلم عن أسباب الإعراض عن الحق، ومداخل الهوى في ذلك، وذكر أن منهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة، وذكر صنفاً آخر: من يكون له أتباع ويكون من رءوس الباطل، ويأتيه من الأموال والخدمة وما إلى ذلك، فإذا عُرض عليه الحق أبى واستكبر؛ لأن هذه الرئاسة ستذهب، وهذه الأموال ستذهب، وهذا التعظيم وهذه القيادة والريادة ستذهب، ثم بعد ذلك يصير تابعاً لغيره.
ثم بعد ذلك أيضاً يحصل له في نفسه ما يحصل؛ لأن معنى ذلك أن هذا المجد الذي أقامه كله على باطل، وهو وهم زائف، فهو لا يريد هذا، كذلك إنّ ما كان يدعو إليه طول المدة الماضية ويقرره كان باطلاً، وهكذا ما عليه قومه وعشيرته وجماعته كان باطلاً، فيبدأ من الصفر، من جديد، ثم هذا الذي قد جاء بالحق ربما يتعاظم ويرى أنه أعظم منه، وأكبر منه، وأجلّ منه، ثم بعد ذلك يعترف له بالحق وينقاد، فتأبى عليه نفسه ويستكبر.
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَأضاف العمل إلى اليد مع أن أعمال الكفار أعظمها ما هو؟ الكفر وهو متعلق بالقلب، وكذلك ما يحصل منهم باللسان من الكفر والمعاصي، وهكذا في سائر الجوارح، فأضافه إلى اليد على طريقة العرب فإنهم يضيفون مقارفات الإنسان إلى يده، يقال: هذا ما جنته يداك، إنسان خسر في تجارة، إنسان لم ينجح في امتحان، إنسان فشل في جانب من جوانب الحياة، وقع في مصيبة، وقع في مشكلة يقال: هذا ما جنته يداك، قد يكون لم يجنه بيده، وإنما وقع له ذلك بسبب الكسل، أو وقع له ذلك بسبب لسانه، هذا ما جنته يداك (يداكَ أوْكَتا وفُوكَ نَفَخ) فهم يضيفون أعمال الإنسان إلى اليد كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [سورة الشورى:30] (ما قدمت أيديكم) لأن أكثر مزاولات الإنسان إنما تكون بيده.
قوله -تبارك وتعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ظلّام: صيغة مبالغة، يعني كثير الظلم، ونفي المبالغة لا ينفي أصل الصفة (فعل) فهل معنى ذلك أنه - وتقدس- يقع منه شيء من الظلم القليل؟ الجواب: لا، فمثل هذا يجيب عنه العلماء بأجوبة، فبعضهم يقول: المبالغة بناء على كثرة العباد، فالعباد كثير، فلو وقعت مظلمة لكل واحد فقط -لو صار- فهذا كثير، وبعضهم يقول: إن الكامل من كل وجه لو وقع منه أدنى ظلم فهو كبير، كما قيل:
كَفُوفَةِ الظُّفرِ تَخفَى مِن حقارتِها | ومثلُها في سوادِ العينِ مشهورُ |
كفُوفةِِ الظُّفرِ لو وجدت في سواد العين ما تَخفى، يتأذى بها الإنسان غاية الأذية.
وخطأُ الجاهلِ المغمورِ مغمورٌ | وخطأُ العالمِ المشهورِ مشهورٌ |
ولذلك تجد الناس يدققون في أخطاء الناس من أهل الفضل والدين والعلم وكذا، يقعون على الزلة، ولربما ما هو بخطأ، ربما يقول: رأيته يصلي ولم يرفع يده حذو منكبه، أو لم يضع مثلاً يده كما ينبغي اليمنى على اليسرى، أو نحو ذلك في أصبعه، وأشياء يسيرة لربما ينظر إليها الناس ويعدونها من العيوب أو من الأخطاء أو من التقصير، لكن ما ينظرون إلى عيوب الجاهل المغمور الذي لربما كله عيوب، فالمرآة النظيفة المرآة الصقيلة يظهر فيها أدنى شيء، والثوب النظيف الأبيض يظهر فيه أدنى شيء، أما الثوب الذي كله زيوت وشحوم وكله ملوث ما يظهر فيه شيء، ما تقول له: نزلت عليك نقطة حبر، ثوب أصحاب الحِرف أو أصحاب الورش كله أسود، لو نزلت عليه نقطة حبر ماذا يسوي؟
فالحاصل أن من أهل العلم من أجاب بهذا الجواب، أدنى ظلم من الكامل يعتبر كثيراً.
وبعضهم يقول: هذا لقبح الظلم وشناعته، قال الله : وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [سورة فصلت:46].
على كل حال الآيات في نفي الظلم عن الله كثيرة إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [سورة يونس:44] فـ "شيئاً" نكرة في سياق النفي فتعم كل ظلم صغير وكبير، وتوضح هذا المعنى الذي قد يستشكله بعضهم باعتبار مفهوم المخالفة مع استعمال صيغة المبالغة: لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [سورة آل عمران:182] واضح وجه السؤال والجواب عنه؟ والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.