الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
‏[13] من قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ} الآية 36 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الآية 40‏
تاريخ النشر: ٠٧ / ذو القعدة / ١٤٢٩
التحميل: 4670
مرات الإستماع: 5517

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله: "فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله، وتعلق بغيره، ويجوز لك في هذا التشبيه أمران:

 أحدهما: أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة، فصور حاله بصورة حال مَن خر من السماء فاختطفته الطير في الهوى، فتمزق مزقا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به"[1].

حينما يقول الله مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [سورة الجمعة:5] يكون التشبيه متطابقاً، فهؤلاء الذين يحملون علما لا يعملون به كمثل الحمار يحمل كتباً لا ينتفع بها فهو مطابق للمَثل بها، لكن الأمثال المركبة من أهل العلم من يرى أنه لا يطلب فيها أن يتطابق كل جزء من المثل مع ما ضرب له، وإنما ينظر إليها باعتبار التركيب ككل، فهذا هو المنحى الأول الذي أشار إليه ابن القيم بكلامه هذا، وهو أنه تصوير لحال من أشرك بالله فقد هلاك هلاكاً بعيداً مثل الذي خر من السماء فتخطفه الطير فتهوي به الريح في مكان سحيق فلا تسأل عن حاله.

الطريق الثانية التي يسلكها بعضهم في تفسير الأمثال: فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [سورة الحج:31]، أن يحاول أن يطبق كل جملة على شيء مما ضرب له المثل، مثل قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17]، ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [سورة البقرة:19]، ماذا عنى بالممثل له؟

وقال -رحمه الله: "والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به، وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه"[2].

يقابل السماء بالإيمان في ارتفاعه وعلوه.

وقال -رحمه الله: "قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها يهبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها، وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة، والطير الذي يخطف أعضاءه ويمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله عليه تؤزه أزاً، وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه، فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء"[3].

الأول أقرب -والله تعالى أعلم- وأبعد عن التكلف، الريح تهوي به في مكان سحيق، هل المقصود به ريح الهوى؟ أو تحقيق الهلاك؟ هذا الإنسان قد هلك ولا يرجى له بعد ذلك عافية أو سلامة هذا هو المراد، والله أعلم.

وقوله: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [سورة الحج:36] قال: ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: يعني: سقطت إلى الأرض.

وهو رواية عن ابن عباس، وكذا قال مقاتل بن حيان.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا يعني: ماتت.

وهذا القول هو مُرَادُ ابن عباس ومجاهد، فإنه لا يجوز الأكل من البَدَنة إذا نُحرت حتى تموت وتَبْرد حركتها، وقد جاء في حديث مرفوع: ولا تُعجِلُوا النفوسَ أن تَزْهَق[4]، وقد رواه الثوري في جامعه، عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك، ويؤيده حديث شَدّاد بن أوس في صحيح مسلم: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة ولْيُحدَّ أحدكم شَفْرَته، ولْيُرِحْ ذَبِيحته[5].

وعن أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله ﷺ: ما قُطع من البهيمة وهي حية فهو مَيْتة[6]. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قال مجاهد: يعني سقطت إلى الأرض، وقال عبد الرحمن بن زيد: فَإِذَا وَجَبَتْ يعني ماتت، هذان القولان لا منافاة بينهما؛ لأن بين القولين شبه ملازمة، بمعنى أنها إذا ماتت سقطت جنوبها، فالذي قال: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا أي: سقطت، فسره بمطابقة اللفظ أو بما هو قريب من المطابقة، يقال: وجبت الشمس بمعنى سقطت فمعنى الوجوب: السقوط والوقوع، ومن فسره بأنه بمعنى ماتت فكأنه فسره بالمعنى أو بلازمه: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا أي: سقطت على الأرض بمعنى ماتت، فهو تفسير له باعتبار المعنى، ولا إشكال في هذا، ومن ثم لا حاجة إلى ترجيح بين القولين بأن نقول: وجبت بمعنى سقطت إذا ماتت.

قال: فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها، فالنبي ﷺ يقول: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو مَيْتة.

قوله: فَكُلُوا مِنْهَا أمر إباحة.

قال العوفي، عن ابن عباس: القانع: المستغني بما أعطيته.

في قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ الأصل أن الأمر للوجوب، ومعلوم أن النبي ﷺأهدى مائة من الإبل في حجته ﷺ، نحر ثلاثاً وستين بيده الشريفة ﷺ، وأكمل الباقي عليٌّ [7]، الشاهد أن النبي ﷺ أمر ببضعة من كل واحدة منها فطبخت فشرب من مرقها، فكأنه قد نال من جميعها، لكن هل يجب على الإنسان أن يأكل؟ عامة أهل العلم على أن ذلك للندب، وهنا قال ابن كثير -رحمه الله: أمر أباحة، وعبارة ابن جرير مشابهة، لكن ينبغي أن يفهم المراد بذلك، حينما يقول ابن كثير: أمر أباحة أو ابن جرير فمرادهما بهذا أنه لا يجوز أن يأكل منها قبل خروج روحها، ولهذا قدم قبله: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو مَيْتة، فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا حل أكلها، فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا فهو أمر إباحة بهذا الاعتبار، فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا حل لكم، وأبيح لكم الأكل منها فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ، ولهذا عبارة ابن جرير أدق من عبارة ابن كثير.

قوله تعالى: وأطعموا هذا أمر أيضاً، فهل هذا الأمر للوجوب، فيجب على الإنسان أن يطعم منها؟ بعض أهل العلم يقول: إنه للوجوب، وممن ذهب إلى هذا الشافعي -رحمه الله، وأنه يجب على الإنسان أن يطعم من هديه، وليس ذلك محل اتفاق، فقد ذهب جماعة من السلف ومن بعدهم إلى أن ذلك للندب، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، فيجوز للإنسان أن يأكل هديه أجمع، ويجوز له أن يطعم ذلك جميعاً لا يُبقي منه شيئاً.

والعلماء -رحمهم الله- تكلموا على القدر الذي يؤكل، والقدر الذي يطعم، وإلى كم تقسم، فهنا الله -تبارك وتعالى- قال: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ على خلاف في معنى القانع والمعتر، فعلى بعض الوجوه في التفسير أن الجامع بينهما هو الحاجة والفقر، سواء قلنا: إن الأول يتعفف من السؤال، والثاني يسأل، أو العكس، فعلى هذا يكون المذكور قسمين: الأكل وإطعام المحتاجين، وعلى بعض الوجوه في تفسير القانع والمعتر -كقول من قال: إن المعتر هو الضيف والزائر، وليس الفقير- فإنه يكون قد ذكر ثلاثة أقسام: الأكل وإطعام الفقراء وإطعام من ألمَّ به من ضيف ونحوه ممن يعرض له ويرِد عليه، ويمكن أن يسمى هذا القسم بالإهداء أو القَراء، ولهذا بعضهم يقول: إنها تجعل على أقسام: فيهدي، ويأكل، ويتصدق، وبعض هؤلاء يقول: تقسم على ثلاثة أقسام بهذا الاعتبار، لكن ليس هناك دليل واضح على شيء من هذا؛ فالله يوجه إلى ما ينبغي فعله فيها من أكل وإطعام، لكن تقييد ذلك بقدر معين كالثلث أو نحوه فهذا يحتاج إلى دليل خاص، لكن حينما تذكر هذه الأقسام مثل لو قلنا: إن الأقسام ثلاثة، فالقسمة العادلة أن يكون على أثلاث، لكن من لم يقسم على أثلاث لا يقال: إنه مقصر أو إنه خالف العمل المشروع؛ لأنه إن أطعم شيئاً للفقراء ولو قليلاً يكون قد حقق الأمر.

قال العوفي: عن ابن عباس: الْقَانِعَ: المستغني بما أعطيته.

فسر القانع أنه: المستغني بما أعطيته وهو في بيته، يعني غير الطامع، فيكون وهو في بيته، بمعنى أنه لا يخرج للسؤال، ولا يطلب فهو متعفف، وعلى هذا الاعتبار يمكن أن يقال: إنه قدم بالذكر؛ لأنه لا يُشعَر به كما ذكر الله في أول من يصرف لهم الفيء بعدما ذكر الأقسام المعروفة قال: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:273]، ثم مدحهم فقال: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ فلا يظهر عليهم من علائم الفقر ودلائله كشحوب الوجه ورثاثة الهيئة ونحو ذلك تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، لا يسألون ملحفين، قال ذلك؛ مبالغة في الثناء عليهم، وإلا فهم لا يسألون بإلحاح ولا بغير إلحاح، فالشاهد أن القانع المستغني بما أعطيته، فإذا فسر بهذا يكون قُدِّم لأنه لا يشعر به بخلاف الذي يخرج ويطلب.

وَالْمُعْتَرَّ: الذي يتعرض لك، ويُلمّ بك أن تعطيه من اللحم، ولا يسأل، وكذا قال مجاهد، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ.

يعني ولا يسأل، بمعنى أنه يأتي فيقف في طريقك وأنت تذبح هذه الأضحية أو هذا الهدي، يقف يريد أن تعطيه منها، فبهذا الاعتبار فسر المعتر، وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب القرضي، وقال به جماعة آخرون مثل الحسن النخعي.

وقال علي بن أبي طالب عن ابن عباس القانع: المتعفف.

القانع: المتعفف هذا يوافق الأول -ما روي عن ابن عباس قبله: الذي يبقى في بيته، وفسر المعتر بالسائل وأطلق في ما روى عنه قبله بأنه الذي يتعرض لك ولكنه لا يسأل، فهو سائل لكن بالحال وليس بالمقال، فهنا أطلق قال: الذي يسأل، المعتر: السائل.

والمعتر: السائل، وهذا قولُ قتادة، وإبراهيم النَّخعي، ومجاهد في رواية عنه.

وهو رواية عن النخعي، ورواية أخرى كما سبق.

وقيل بالعكس، وقد احتج بهذه...

وقيل: بالعكس بمعنى أن القانع هو الذي يسأل، أي الطامع، والمعتر هو المتعفف الذي لا يسأل، ويقال: القَنِع يعني الذي يسأل، ويقال: قنِعَ بالكسر يقنَع إذا سأل، والخليل بن أحمد فسر القانع بأنه المتعفف عن السؤال، المستغني ببلغة، وهذا يوافق ما روي عن ابن عباس قبله إذ قال: المستغني بما أعطيته وهو في بيته، لا يسأل، متعفف، ولو أُعطي ما أُعطي فإنه يقنع بذلك، ولا تطلب نفسه أكثر منه، وهذا ليس محل اتفاق، فكلام أهل العلم في هذا وخلافهم فيه كثير والإمام مالك -رحمه الله- يقول: أحسن ما سمعت فيه أن القانع الفقير، والمعتر هو الزائر.

وابن جرير -رحمه الله- ذكر فيها ثمانية أقوال: ورجح بأن القانع هو السائل باعتبار ما سبق في أصل هذه المادة، يقال: قنِع يقنَعُ إذا سأل، وهذا اختاره أيضاً الشنقيطي -رحمه الله- وأوردوا له شواهد من كلام العرب، أن القانع معناه السائل، وفسر الشنقيطي -رحمه الله- المعتر بالذي يتعرض لك من غير طلب، السائل بالحال، القانع والمعتر، القانع هو الطالب، والمعتر هو الذي يتعرض لك من غير أن يتكلم، وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ، فصار المجمل والخلاصة في هذه الأقوال إما أن يكون ذلك في أصناف المحتاجين، فأحدهما يسأل بلسانه، والآخر يسأل بحاله، سواء قلنا: الأول أو الثاني، أو يقال: إن أحدهما هو السائل، والثاني هو الزائر أو الضيف، أو من دخل عليك، أو من ألمّ بك، أو زارك أو نحو هذا.

وقد احتج بهذه الآية الكريمة مَن ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تُجزَّأ ثلاثة أجزاء: فثلث لصاحبها يأكله منها، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء؛ لأنه تعالى قال: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ، وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله ﷺ قال للناس: إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم[8].

في رواية أخرى: فكلوا وادخروا وتصدقوا، وفي رواية: فكلوا وأطعموا وتصدقوا، فإذا اجتمعت هذه الروايات مع الأقوال في الآية بمعنى أن هذا ما يبقيه لنفسه، وأطعموا، فالإطعام هنا يختص بالفقراء والإهداء ونحو ذلك لهذا جاء ادخروا وتصدقوا، فإذا اجتمعت هذه الروايات تخرج بثلاثة أصناف، وإذا اجتمعت الأقوال في الآية تخرج بثلاثة أصناف فهذا مستند قول من قال: إنهما تجزأ على ثلاثة أقسام، ويحسن بالإنسان أن يأكل من هديه، أو أضحيته وأن يتصدق بشيء منها، وأن يقدم لغيره سواء كان يقدم لهم طعاماً، يأتون إليه فيأكلون منه من ضيوف أو جيران أو أقارب أو غير هذا، أو يقدم لهم لحماً، يعني يقدم لهم طعاماً بمعنى أن يصنع هذا الطعام –الأضحية- فيأكلوا عنده، أو يقدم لهم لحم أضحيته أو هديه.

وفي رواية:فكلوا وادخروا وتصدقوا، وفي رواية: فكلوا وأطعموا وتصدقوا.

وأما الجلود، ففي مسند أحمد عن قتادة ابن النعمان في حديث الأضاحي: فكلوا وتصدقوا، واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوها[9].

الرواية لا تخلو من ضعف، وجلود الأضاحي يمكن للإنسان أن ينتفع بها، ويمكن أن يقدم ذلك صدقة أو هدية أو نحو هذا لينتفع به غيره.

مسألة:

عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله ﷺ: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم عجّله لأهله، ليس من النسك في شيء [10] أخرجاه.

هذا الحديث يدل على أن الإنسان يبدأ أولاً بالصلاة ثم بعد ذلك ينحر فمن فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاةفإنما هو لحم عجّله لأهله، لكن يبقى الكلام في بعض المسائل التي تكلم عليها أهل العلم في هذا الحديث، وفي غيره أيضاً مسألة ذبح الأضاحي وكذلك الهدي متى يذبح؟ فقد كان النبي ﷺ يخرج بأضحيته إلى المصلى فيذبحها، فيكون في هذا إظهار لهذه الشعيرة، وتعليم للناس؛ ليقتدوا به، وكان ابن عمر يفعل ذلك، لكن الناس تركوا هذا، فلا يخرج الإمام بأضحيته إلى المصلى، فحينما كان النبي ﷺ يخرج بها فلا يذبح أحد قبله؛ لأنه يذبح في المصلى، فالنبي ﷺ يقول: ثم نرجع فننحر، فمن فعل فقد أصاب سنتنا.

أما إذا لم يصلِّ مثلاً لسبب كأن يكون مريضاً، أو امرأة تريد أن تضحي وهي في البيت متى تذبح؟ هل يقال: بعد طلوع شمس يوم العيد يجوز له أن يذبح، أو يقدر وقتاً للصلاة، أو يتحقق من انقضاء الصلاة، إذا كنا نقول: إنه لا يذبح قبل الإمام لو كان الإمام يذبح فقدر أيضاً الخطبة، وإذا كان العيد يُصلَّى في أكثر من مكان يقدر على الأقرب بالنسبة إليه، لكن يبقى إشكال وهو أنهم إذا تأخروا -كما يحصل أحياناً- فأهل العلم مختلفون في هذا فبعضهم قيده بقدر وقت الصلاة، وهذا لا شك أنه أكثر إراحة للناس، لا يدرون متى صلوا أو تأخروا، أو ما تأخروا، وبعضهم قيده بالصلاة فعلاً، أما تقييده بذبح الإمام أو الأمير فهذا لا يتأتى الآن؛ لأن الذبح لم يعد في المصلى.

والمقصود أن الإنسان لا يصح له أن يستعجل بمجرد شروق شمس يوم العيد يبدأ يذبح، بل ينتظر حتى ينتهي الناس من الصلاة -والله أعلم-؛ لأنه قال: ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء، أما من حضر الصلاة وصلى فهذا يذبح قطعاً، لكن الكلام في من لم يصلِّ، فظاهر الحديث للعموم فينبغي للناس أن يحتاطوا لعبادتهم، وهذا المعنى كثير من الناس لا يتفطنون له.

وفي صحيح مسلم: وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام[11].

هذا التقييد يقال لو كان الأمر كما كان النبي ﷺ يخرج بأضحيته ويذبح، لكن ما صار يفعل من أزمان متطاولة، فهل يقال حتى يذبح في بيته، وإذا لم يضحِّ الإمام فالجمهور يقولون: إنها لا تجب، فالمقصود إذا كان الإمام يذبح في المصلى فإنهم لا يذبحون قبله، فمتى جاء بأضحيته إلى المصلى فينتظر حتى يذبح الإمام.

ويشرع الذبح يوم النحر، وثلاثة أيام التشريق بعده، لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله ﷺ قال: أيام التشريق كلها ذبح[12] رواه أحمد، وابن حبان.

هذا هو الأرجح، على خلاف كثير من أهل العلم في وقت الذبح متى ينتهي؟ وهل يجوز الذبح بالليل أو لا؟ والعلم عند الله ، ويجوز الذبح ليلاً ونهاراً إلى غروب شمس اليوم الثالث، فإذا غربت انتهى كل شيء.

وقوله: كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول تعالى من أجل هذا: سَخّرْنَاهَا لَكُمْ أي: ذللناها لكم، وجعلناها منقادة لكم خاضعة، إن شئتم ركبتم، وإن شئتم حلبتم، وإن شئتم ذبحتم، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [سورة يس:71]، إلى قوله: أَفَلَا يَشْكُرُونَ [سورة يس:73]، وقال في هذه الآية الكريمة: كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ.

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيرها كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ التسخير والتذليل، ذللناها وسخرناها لكم تدل عليه الآية التي ذكرها في سورة يس وهي قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ۝ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [سورة يس:71، 72]، ثم قال: وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ فهذه الأمور كلها داخلة.

وفي قوله: سَخّرْنَاهَا سخرها بالركوب والانقياد والأكل، يشربون من ألبانها، ويأخذون من أوبارها وأصوافها وأشعارها كل هذا من التسخير، كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ هذا هو التسخير فهذه مسخّرة للإنسان ينتفع بها، وتنقاد له ولا تكاد تستعصي عليه، وإلا فهذا المخلوق الكبير الجمل الذي ينقاد للإنسان هو أقوى من الإنسان، لا شك أن هذا من تسخير الله ، وهذا أحسن من كلام بعض أهل العلم كابن القيم -رحمه الله- حيث إنه فسر ذلك بمعنى خاص كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ، بمعنى إذا ذبحتموها وذكرتم الله عليها حل لكم أكلها، كذلك سخرناها لكم، تكون مسخرة بالأكل إذا فعلتم ما وجب من ذبحٍ أو نحرٍ مع ذكر اسم الله عليها، فخصه بهذا المعنى، والمعنى أوسع من ذلك والقرآن يفسر بالقرآن، وآية يس تفسر هذه الآية، والله أعلم.

ابن جرير -رحمه الله تعالى- يقول: كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ أي: قد أحل لكم أكلها، كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ أي: أحل لكم، والمعنى أعم من ذلك، -والله تعالى أعلم، يعني نظر إلى ما قبله فذكر اسم الله صواف، بهذه الطريقة صافة لقوامها معقولة اليد اليسرى، فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا خرجت نفوسها ماتت فعند ذلك يحل لكم أكلها ثم قال: كذلك سخرناها لكم يبقى المعنى أعم من هذا، هذا يدخل فيه والمعنى أوسع منه، والله أعلم.

لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التّقْوَىَ مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ الْمُحْسِنينَ [سورة الحج:37].

يقول تعالى: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها.

يعني في الجاهلية قبل الإسلام كانوا يذبحون الهدي ويأخذون من دم الذبيحة ويلطخون به على نصب الأحجار التي كانوا يتقربون إليها، فالله -تبارك وتعالى- يبين لهم ما شرعه: لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا فإن دماءها ولحومها لا تصل إلى الله ، فإن الله غني عن ذلك، وإنما يناله أي الذي يصل إليه هو ما يحصل من تقوى العباد، لا الدماء ولا اللحوم فإن الله غني عن هذا، وإنما تعبَّدَ خلقه وكلفهم وشرع لهم الشرائع من أجل التقوى، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتقُونَ [سورة البقرة:183]، وهكذا حينما شرع لهم المناسك فهي لإقامة ذكر الله فالذي يصل إليه من العباد هو التقوى، وإلا فإن الله -تبارك وتعالى- غني عن العباد وعن أعمالهم، وعن لحوم هذه الهدايا والأضاحي وعن دمائها.

فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم، ونضحوا عليها من دمائها، فقال تعالى: لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا، وروى ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب رسول الله ﷺ: فنحن أحق أن ننضح، فأنزل الله: لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التّقْوَىَ مِنكُمْ.

هذا سبب النزول لكنه مرسل من ابن جريج من التابعين، ولا تصح هذه الرواية، لكن هو معنى بيّنه الله لعباده، يبين لهم حينما شرع لهم هذه القرابين لا من أجل أن يصل إليه شيء من أجزائها وأبعاضها، وإنما الذي يصل إلى الله ويرتفع إليه هو التقوى يعني وَلَكِن يَنَالُهُ التّقْوَىَ مِنكُمْ يصل إليه تقواكم.

أي يتقبل ذلك ويجزي عليه، كما جاء في الصحيح: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم[13].

وقوله: كَذَلِكَ سَخّرَهَا لَكُمْ أي: من أجل ذلك سخر لكم البُدن لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ أي: لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه.

في الآية المتقدمة قال: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّفدلت تلك على التسمية، وهنا قال: لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ فدل ذلك على التكبير، ولهذا يشرع له أن يجمع بينهما فيقول: بسم الله والله أكبر عند الذبح قال: لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ أي: لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه، هذا باعتبار المعنى: ما شرعه من أجل تعظيم الله، مثل ما شرع الحج مثلاً لإقامة ذكر الله والسعي بين الصفاء والمروة والطواف وإقامة ذكر الله هذا باعتبار المعنى، لكن أيضاً باعتبار اللفظ لِتُكَبّرُواْ اللّهَ فيدل باللفظ على مشروعية التكبير عند ذبح الأضاحي والهدي، فيدخل فيه هذا وهذا.

أصل الحمل في قوله: عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ على العموم، إلى أي شيء هداكم؟ للإسلام، هداكم للقرابين، والهدايا، وما شرع لكم في هذا بعد أن كان أهل الجاهلية يتخبطون بجهالة تضيع فيها أموالهم وتزهق فيها نفوسهم ويلقون فيها العنت، والعناء الشديد من غير طائل بل يرجعون بالوزر، فالله -تبارك وتعالى- هداكم لذلك كله، علمكم ما يحبه ويرضاه ويُتقرب به إليه؛ لتعملوا بذلك لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ لهذا الدين بعد أن كنتم في جهالة.

وقوله: وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ أي: وبشر يا محمد المحسنين أي في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه .

الله يقول: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الملك:2] فالعبرة هي بإحسان العمل، وجبريل لما سأل النبي ﷺ عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[14]، على القولين المعروفين في الحديث هل هي مرتبة واحدة أو مرتبتان الأولى أعلى من الثانية؟ فالشاهد قال: وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ وقال: أي في عملهم القائمين بحدود الله فليست العبرة بكثرة الأعمال، وإنما بإحسان العمل وهذا له اتصال وتعلق لما يكون بقلب العبد وما يكون في الخارج من العمل الظاهر حيث يتابع به النبي ﷺ فيكون في قلبه من الإخلاص والقصد الصحيح مع تعظيم الله -تبارك وتعالى- دون الالتفات إلى النفس بالعُجب، والزهو أو قصد الفخر أو المضاهاة بكثرة الأضاحي والهدايا ونحو هذا، ويكون متابعاً للنبي ﷺ في مثل ذلك وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ  فيتخير من الأضاحي والهدايا ما هو أطيب وأعظم، ولكن لا على سبيل المفاخرة والمباهاة، ولا يعجب بعمله أو يقصد الترفع به في قلوب الخلق أو نحو هذا، لا، وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ، وكذلك يراعى في هذا حدود الله فلا يذبح قبل الصلاة مثلاً، ولا في غير أيام الذبح.

مسألة:

الأضحية سنة مستحبة، وتكفي واحدة منها عن جميع أهل بيت واحد، قال ابن عمر: أقام رسول الله ﷺ عشر سنين يضحي[15]، رواه الترمذي.

الحديث فيه ضعف، لكن كون الأضحية سنة مستحبة هذا قول عامة أهل العلم، والقول بالوجوب للقادر قول قوي تدل عليه أدلة مثل من وجد سعة ولم يضحِّ..، وقيل: من لم يضح لا يقربنا، فهذا قد يفهم منه الوجوب على القادرين وغير ذلك مما يستدل به القائل بالوجوب، فينبغي على الإنسان إذا كان يجدُ ويتمكن خاصة ونحن في هذه الأيام أيام حج فمن كان قادراً على الأضحية فإنه يضحي، تكون الأضحية سنة واحدة عنه، وعن أهل بيته.

والمقصود بأهل بيته يعني من يعولهم وينفق عليهم، عنه وعن أهل بيته من يعولهم وينفق عليهم، فالزوجة داخلة فيه والأولاد والبنات يدخلون فيه، والناس توسعوا في هذا فصارت الزوجة تريد أن تضحي، والبنت تريد أن تضحي، والولد يريد أن يضحي، لكن إن كان هؤلاء خارجين عنه بمعنى أن الولد مستقل متزوج أو عنده نفقته مستقلة فيضحي عن نفسه، وهكذا البنت إن كانت مستقلة في بيت عندها نفقتها فإنها تضحي، لكن أبوها يعولها يضحي بأضحية واحدة هذه هي السنة عنه وعن أهل بيته.

وقال أبو أيوب كان الرجل في عهد رسول الله ﷺ يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس، فصار كما ترى[16]، رواه الترمذي وصححه، وابن ماجه.

قوله: عنه وعن أهل بيته بمعنى أنهم يشتركون في الثواب، ولا يشتركون في عين الأضحية على سبيل التملك لها، وكثير من الناس يسألون في مثل هذه الأيام على الإشراك في الأضحية، يعني أن تكون مشتركةً من جهة التملك بين مجموعة من الناس يعني يقولون: كل واحد يدفع فيها، يشترك في الشاة سبعة، ولا يصح الإشراك في الشاة، وإنما يكون الإشراك في الثواب في بدنة أو بقرة، لكن كيف يكون الإشراك في الثواب والأجر، ويكون قد ضحي عنه ونحو ذلك؟ أن يشملهم بأضحية بمعنى أن يكونوا في الأجر معه والثواب؛ لذلك الذي يمسك ولا يقص شعره هو صاحب الأضحية أما البقية من زوجه وولده فلا يمسكون، ويقال: إنه ضحي لهم أو ضحي عنهم، ولا يقال عنهم: إنهم قد ضحوا.

وقوله: رواه الترمذي وصححه، وابن ماجه، يعني ابن ماجه رواه ولم يصححه.

وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله[17]، رواه البخاري.

ابن هشام من صغار الصحابة وهو عبد الله بن هشام التيمي.

وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله ﷺ قال: لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن[18].

إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ [سورة الحج:38].

يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ، وقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.

في قوله -تبارك وتعالى: إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ قرأ "يدفع" ابن كثير وأبو عمرو إِنّ اللّهَ يَدَفِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، وهكذا في الآية الأخرى، قوله -تبارك وتعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ [سورة الحج:40]، وفي قراءة نافع إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، ثم: وَلَوْلَا دَفْاعُ اللَّهِ النَّاسَ، وفي القراءة التي تقرأ بها قراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، وفي الثانية وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ هذه قراءة، والقراءة التي نقرأ بها يمكن أن تكون مفسرة بقراءة ابن كثير وأبي عمرو، إِنّ اللّهَ يَدَفِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ يدفع يمكن أن تكون مفسرة لها، لأن قراءة يدفع قراءة واضحة لا إشكال فيها يدفع عنهم كيد الأشرار الفجار، ويدفع عنهم السوء كما قال ابن جرير -رحمه الله- في تفسير قوله -تبارك وتعالى: الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [سورة النور:26] وهكذا في قوله الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، ابن جرير مما ذكر في معناه:

أن الكلمات الطيبات والأوصاف الطيبات للطيبين من الناس، والأوصاف الخبيثة والأقوال الخبيثة للخبيثين من الناس، فإذا صدرت منهم ضرتهم، وإذا صدرت وقيلت في حق أهل الإيمان لا يضرهم؛ لأنه ليس لهم، هكذا فسره ابن جرير وينبغي أن يدخل فيه دخولاً أولياً النساء؛ نظراً للنزول، وما جاء في أسبابه، فهنا هذه القراءة "يدفع" إذا قلنا: إنها مفسرة للقراءة الثانية، والقراءات يفسر بعضها بعضاً؛ لأن هاتين القراءتين تعودان إلى معنى واحد وهو الدفع، والفرق بين القراءتين أن "يدافع" صيغة مفاعلة في الأصل في الاستعمال تكون بين طرفين يدافع، يغالب، يقاتل، يعارك يجاوب، يضارب، لكن المدافعة لا تكون بين الله وبين أحد من خلقه، ولا أحد يستطيع أن يغالب الله.

ومن هنا استشكل بعض أهل العلم هذه القراءة يدافع، فبعضهم قال: إن قوله يدافع بمعنى يدفع، وإن القراءة الأخرى مفسرة لها يدافع بمعنى يدفع، وليس المقصود به معنى المفاعلة، فتكون المدافعة –المفاعلة- هنا مستعملة في معنى أصل الكلمة المجرد، يعني من غير ملاحظة للأصل في استعمالها، وهو ما كان بين الطرفين فأكثر، وهذا له نظائر في كلام العرب؛ لأن المعاقبة تكون في تقابل بين الطرفين، أو إيقاع العقاب من طرف فاستعملت القاعدة على شيء يصدر من طرف، لكن المقاتلة والمبارزة والمجابهة والمناوءة كل هذا يكون بين طرفين، لكن المعاقبة من طرف واحد، والمجاوزة من طرف واحد، وهكذا المعنى المجرد للفظة دون نظر أو دون قصد لوقوع ذلك بين طرفين فأكثر؛ ولهذا بعضهم مثل الزمخشري يقول: يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إن هذا سبيل المبالغة، بيان دفعه -تبارك وتعالى- عنهم فعبر بلفظ المدافعة.

وبعضهم يقول: لما كان جهاد هؤلاء الكفار في إيصال الأذى بكل سبيل مستطاع إلى أهل الإيمان جهداً كبيراً كما قال وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [سورة إبراهيم:46] عبر بمثل هذا إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، وكما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ [سورة الحج:51] معاجزين على هذه القراءة نفس الشيء، هل يمكن لهؤلاء أن يقوموا بدور مع الله ؟ أي يعجزونه، ويحاولون إعجازه فيفوتونه فلا يعاقبهم؟ فبعضهم قال: هذا على سبيل المبالغة، بعضهم قال: هذا لبيان شدة ما يجري على أيديهم وما يفعلونه، وما يسعون فيه من تثبيط، وتهبيط العزائم وما أشبه ذلك فاستعمل لهذا الاعتبار هذا اللفظ.

ويأتي إن شاء الله، إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ الوصف الإيمان، والحكم المرتب عليه المدافعة، فالحكم المرتب على وصف يزيد بزيادة الوصف وينقص بنقصانه، مدافعة الله عن أهل الإيمان تكون بحسب ما يكون لهم من تحقيق هذه الصفة، فعلى قدر إيمان العبد على قدر ما يحصل من دفاع الله عنه، يدافع عنه السوء والشر وما إلى ذلك، على قدر الإيمان على قدر ما يحصل لنا من مدافعة الله -تبارك وتعالى- عنا، وهكذا الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] يكون لهم الأمن والاهتداء على قدر ما عندهم من الإيمان.

وقوله: إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ أي: لا يحب من عباده من اتصف بهذا، وهو الخيانة في العهود والمواثيق لا يفي بما قال، والكفر الجحد للنعم، فلا يعترف بها.

الكفر أوسع من هذا، لكنه أحد أنوع الكفر، في قوله -تبارك وتعالى: لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ خوان على زنة فعّال، وكفور علي زنه فعول وهذه صيغ مبالغة، هنا يرد سؤال وهو أن لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ؟ هل ينفي عن الخائن؟ لا، هل ينفي عن الكافر؟ لا ما هو كفور، الكفور كثير الكفران، والخوان كثير الخيانة، والله لا يحب كل خوان كفور، قد يقال: إن من وقعت منه الخيانة -ليس كثيراً- فإن الله يحبه، الله لا يحب الخائنين، وقال في الكافرين أيضاً فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:32]، ولا يحب الظالمين، يعني فهذه لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ ذكرت صيغة المبالغة لكن ذلك لا ينفي عمن وقع منه شيء من ذلك، فالله لا يحبهم بدليل الآيات الأخرى.

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقدِيرٌ ۝ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحج:39، 40].

قال العَوفي، عن ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة.

وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف كابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة: هذه أول آية نزلت في الجهاد.

كثير من أهل العلم يقولون: هذه أول آية نزلت في الجهاد، أول ما نزل فيه الأذان، في البداية منعهم وأمرهم بكف اليد ثم ذلك إذنٌ لهم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا هذه في الأول ثم بعد ذلك وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ [سورة البقرة:190]، ثم بعد ذلك أمرهم بالقتال أمراً عاماً وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ثم بعد ذلك جاءت الآية الخامسة من سورة براءة وهي آية السيف فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كلَّ مَرْصَدٍ [سورة التوبة:5]، ثم بعد ذلك الله -تبارك وتعالى- قال لهم: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ [سورة التوبة:122] بعد أن كان للجميع أن يخرجوا، رخّص للضعفاء والمرضى.... إلى آخره.

وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: لما أُخرج النبي ﷺ من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، لَيَهلِكُن، قال ابن عباس: فأنزل الله : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، قال أبو بكر -: فعرفت أنه سيكون قتال.

وزاد الإمام أحمد: قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال[19].

ورواه الترمذي، والنسائي في التفسير من سننيهما، وقال الترمذي: حديث حسن.

هذا الحديث الصحيح يدل على سبب نزول هذه الآية: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وفي القراءة الأخرى أذن للذين يُقاتِلون بأنهم ظلموا فيكون ذلك بسبب ما وقع لأصحاب النبي ﷺ ممن أخرجوا من ديارهم.

وقوله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ أي: هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، كما قال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُم ُالْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [سورة محمد:4-6]، وقال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ۝ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة:14، 15]، وقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [سورة محمد:31].

والآيات في هذا كثيرة.

هذا التوجيه الذي وجهه به الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو أن قوله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ أي: أن الله قادر على نصرهم من غير قتال، ولكنه أمرهم بالقتال ليبلو بعضهم ببعض كما دلت عليه الآيات، هذا معنى وليس ذلك محل اتفاق، فإن من السلف من فسرها بغير هذا، قال: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ هذا وعد منه -تبارك وتعالى- لهؤلاء الذين أذن لهم بالقتال، وعد لهم بالنصر، فالمعنى الأول وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ لكنه كلفهم بالقتال وإلا لو شاء لنصرهم من غير قتال، أهلك عدوهم أو آمن من في الأرض كلهم جميعاً لكن الله يبلو بعض العباد ببعض، فجعل منهم أهل الإيمان، وأهل الكفر وأمر هؤلاء بجهادهم، والصبر، والسفر، والعناء وبذل الأموال للابتلاء.

والمعنى الثاني: أذن لهم بالقتال ووعدهم بالنصر وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، ويمكن أن يقول قائل: إن الآية تتضمن هذا وهذا، فيها وعد لمن حقق أمره بالنصر، وأن الله قادر على نصرهم وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فتنهض نفوسهم لتحقيق التوكل على الله وصدق اللجوء إليه، والقيام بشرعه، فأمرهم بقتال عدوهم، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فهو قادر على نصرهم، إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ [سورة آل عمران:160] فيركنون إليه دون أحد سواه.

ولهذا قال ابن عباس في قوله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وقد فعل.

قول ابن عباس: وقد فعل، يكون وجهه بالوعد بالنصر وقد فعل، يعني أن هذا تحقق، ولهذا ربْطُ ابن كثير -رحمه الله- تفسير ابن عباس بما قبله لا يخلو من إشكال؛ لأن هذا على القول الآخر غير الذي ذكره ابن كثير، يعني لو أن ابن كثير ذكره على أنه قول آخر في المسألة لما كان فيه إشكال، لكن حينما جاء بهذا السياق "ولهذا قال ابن عباس: وقد فعل" أشعر بأنه قول واحد، وهما قولان، هذا التوجيه والتخريج، لكن هما في الواقع قولان، يتضح ذلك بأن من يقرأ أنهم قولان كثير من الناس، وحينما تذكر الأقوال توجه، ولكن لا تذكر من سياق كأنها قول واحد.

وإنما شرع الله تعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددًا، فلو أمرَ المسلمين وهم أقل من العشر، بقتال الباقين لشَقَّ عليهم؛ ولهذا لما بايع أهلُ يثرب ليلة العقبة رسول الله  ﷺ، وكانوا نيفا وثمانين، قالوا: يا رسول الله، ألا نميل على أهل الوادي -يعنون أهل مِنَى ليالي مِنى- فنقتلهم؟ فقال رسول الله ﷺ: إني لم أومر بهذا، فلما بَغَى المشركون، وأخرجوا النبي ﷺ من بين أظهرهم، وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شَذَرَ مَذَر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة، فلما استقروا بالمدينة، ووافاهم رسولُ الله ﷺ، واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومَعْقلا يلجئون إليه شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك، فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقدِيرٌ ۝ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّقال العَوْفي، عن ابن عباس: أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني: محمدًا وأصحابه.

إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي: ما كان لهم إلى قومهم إساءة، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوه وحده لا شريك له، وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر.

يعني ليس لهم ذنب ولا جرم إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فكونهم آمنوا وقالوا: ربنا الله ليس جرماً يستحقون عليه الإخراج، فهذا استثناء منقطع، كقولك: جاء الرجال إلا فرساً هذا الاستثناء منقطع، وهكذا وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ [سورة البقرة:34] على القول الراجح إن إبليس من الجن هذا الاستثناء يعتبر منقطعاً، ومعنى منقطع يعني أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والأصل في الاستثناء الاتصال وليس الانقطاع، فهنا هذا القول الذي ذكر هو اختيار سيبويه الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [سورة الحج:40] فهذا الإخراج ليس بحق، فهم ما فعلوا جرماً يستوجب الإخراج، هذا الذي قالوه حق، وهو قولهم: رَبُّنَا اللَّهُ فعلى هذا الاعتبار بالنسبة إلى ما في نفس الأمر يعتبر استثناء منقطعاً، وباعتبار آخر ما هو؟ باعتبار ما في نظر الكفار هذا أكبر جريمة عندهم وهو التوحيد، فهم ما خرجوا بسبب جرم قارفوه إلا أنهم وحدوا الله ، وهذا بالنسبة للمشركين يعتبر جرماً كبيراً، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص:5] فيكون الاستثناء بهذا الاعتبار متصلاً بالنسبة إلى نظر المشركين، والخطاب أحياناً قد يأتي بحسب النظر من المخاطب، فالقول بأنه متصل قال به جماعة من أهل اللغة وأصحاب المعاني كالزجاج والفراء، قالوا: الاستثناء متصل، لكن أتت قراءة أن الاستثناء متصل باعتبار ومنفصل باعتبار.

وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب، كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [سورة الممتحنة:1]، ثم قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي: لولا أنه يدفع عن قوم بقوم.
  1. إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/ 213)، والأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم (44-45).
  2. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 213)، والأمثال في القرآن الكريم (46).
  3. المصدر السابق.
  4. رواه الدارقطني في سننه برقم (4754)، وفي إسناده سعيد بن سلام العطار تركه الدارقطني وضعفه أبو داود انظر: تاريخ الإسلام، للإمام الذهبي (5/ 322)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (19124)، وقال: وقد رُوي هذا من وجه ضعيف مرفوعاً، وليس بشيء.                
  5. رواه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، برقم (1955).
  6. رواه أبو داود، كتاب الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة، برقم (2858)، والترمذي، كتاب الأطعمة عن رسول الله ﷺ، باب ما قطع من الحي فهو ميت، برقم (1480)، وابن ماجه، باب ما قطع من البهيمة وهي حية، برقم (3216)، وأحمد في المسند، برقم (21930)، وقال محققوه: إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (10589).
  7. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (2880)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، فإنه سيىء الحفظ".
  8. رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، برقم (1971).
  9. رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب في حبس لحوم الأضاحي، برقم (2812)، والنسائي، كتاب الفَرَع والعتيرة، باب تفسير العتيرة، برقم (4230)، وأحمد في المسند، برقم (16211)، وقال محققوه: إسناده ضعيف.
  10. رواه البخاري، كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد، برقم (922)، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، برقم (1961).
  11. لم أجده في مسلم بهذا اللفظ والذي في مسلم: لا يذبحن أحد حتى يصلي، كتاب الأضاحي، باب وقتها، برقم (1961).
  12. رواه أحمد في المسند، برقم (16751)، وقال محققوه: "حديث صحيح لغيره وهذا إسناد ضعيف"، وابن حبان في صحيحه، برقم (3854)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4537).
  13. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، برقم (2564).
  14. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، برقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله ، برقم (8).
  15. رواه الترمذي، كتاب الأضاحي عن رسول الله ﷺ، باب الدليل على أن الأضحية سنة، برقم (1507)، وأحمد في المسند، برقم (4955)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف فيه حجاج بن أرطأة"، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (1475).
  16. رواه الترمذي، كتاب الأضاحي عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزي عن أهل البيت، برقم (1505)، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب من ضحى بشاة عن أحد، برقم (3147)، وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم (1142).
  17. رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب بيعة الصغير، برقم (6784).
  18. رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية، برقم (1964).
  19. رواه النسائي، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، برقم (3085)، وأحمد في المسند، برقم (1865)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

مواد ذات صلة