الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
‏ [1] من قوله تعالى: {الم ۝ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} الآية:15‏
تاريخ النشر: ١٥ / شوّال / ١٤٣٢
التحميل: 5528
مرات الإستماع: 20674

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: الم ۝ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ۝ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة لقمان:1-5].

تقدم في أول سورة "البقرة" عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه السورة، وهو أنه جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين، وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها، وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، ووصلوا أرحامهم وقراباتهم، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة، فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك، لم يراءوا به، ولا أرادوا جزاءً من الناس ولا شكوراً، فَمَنْ فعل ذلك كذلك فهو من الذين قال الله تعالى: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ أي: على بصيرة وبينة ومنهج واضح وجلي، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: في الدنيا والآخرة.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: الم مضى كما سبق الكلام على ذلك في أول سورة البقرة، وحاصل ما ذكر أن هذه الحروف المقطعة لا معنى لها في نفسها، ولكنها تشير إلى معنى وهو أن هذا القرآن المعجز الذي تحداكم الله به مركب من هذه الحروف التي تركبون منها كلامكم، ولهذا يأتي غالباً بعد هذه الحروف المقطعة يأتي ذكر القرآن؛ إشارة إلى هذا المعنى -والله تعالى أعلم، والكلام فيها كثير، ولا حاجة لإعادة ذلك.

وقوله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أيضاً مضى نحوه، وأن الإشارة إما إلى الآيات التي تضمنتها هذه السورة، أو إلى آيات القرآن بعامة، وأن الله -تبارك وتعالى- سماه كتاباً، وحينما نزلت هذه السورة لم يكتب، وأن نزول بعض القرآن يكفي في هذا الإطلاق، كما قال الله في أول سورة البقرة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2]، ومعلوم أن سورة البقرة هي من أوائل ما نزل في المدينة، يعني: لم يكتمل نزول القرآن، وهذه السورة من السور المكية، وأن الله -تبارك وتعالى- سماه كتاباً، إشارة إلى ما حصل بعد ذلك من كتابة القرآن؛ ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن ذلك لا يعد من المصالح المرسلة، بل ورد ذلك منصوصاً في كتاب الله ، لأن المشهور أن العلماء يمثلون على المصالح المرسلة بكتابة المصاحف، فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك في كتاب الله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ، فسماه كتاباً، وكما في هذه الآية. 

وأما الحكيم فإن هذه الزنة فعيل تأتي بمعنى فاعل، وتأتي بمعنى مُفعَل، يعني: أنه محكم، ولا شك أن القرآن محكم، وأنه حكيم، فهو غاية في الصواب في أحكامه وأخباره، والحكمة كما هو معلوم: الإصابة في القول والحكم والعمل، قال: هُدًى وَرَحْمَةً على هذه القراءة قراءة الجمهور هما حالان، يعني: حال كونها هدىً ورحمة، هذه الآيات هدىً ورحمة لمن أراد الله هدايته ورحمته بها، فذكر هنا أن المحسنين هم الذين تكون لهم هدى ورحمة، كما قال في سورة البقرة: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ إلى آخره.

وهذه أيضاً صفات المتقين، ولهذا فإن من أهل العلم من يقول: إن المحسنين هنا هم العاملون بطاعة الله التاركون لمعصيته، يعني: فسر بالتقوى، وإن ذكر بعضهم احتمالاً أن المراد بذلك الإحسان الذي هو أن تعبد الله كأنك تراه، ولا شك أن من كان بهذه المثابة في أعلى درجات المتقين، ولكن القرآن هدى لعموم المتقين ولو لم يصل إلى مرتبة الإحسان عند ذكر المراتب الثلاث، وإنما ينعدم ذلك لدى أولائك الذين طبع الله على قلوبهم، ختم عليها، جعل على أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقراً، فمثل هؤلاء لا ينتفعون به، ولهذا كان الواحد منهم يخرج من مجلس رسول الله ﷺ، ثم يقول: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16] فلا ينتفعون.

فالقرآن هو هدى بمعنى هداية لجميع الخلق، ولكنه خص المحسنين أو خص المتقين كما في سورة البقرة؛ لأنهم المنتفعون به، وعلى قراءة حمزة: {هدىً ورحمةٌ}، وهي قراءة متواترة كما هو معلوم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ۝ هُدًى وَرَحْمَةٌ، يعني يمكن أن يكون خبراً لتلك، أو خبراً لمبتدأ محذوف أي هو هدىً ورحمة للمحسنين، ثم فسر المحسنين هنا بذكر أصول العبادات الكبار، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، فهم يفعلون ذلك رجاء ما عند الله -تبارك وتعالى.

ومضى مراراً أن الله -تبارك وتعالى- يقرن بين الصلاة والزكاة، قيل: لأنهما أصول العبادات، فالعبادات إما مالية وإما بدنية، فالزكاة هي رأس العبادات المالية، والصلاة رأس العبادات البدنية، فينتظم ذلك سائر العبادات، بعضهم كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يقول: إن سعادة العبد دائرة بين أمرين: الإحسان مع الله -الصلة بالله- والإحسان إلى الخلق، فذكر هذا وهذا.

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، يقول: فمن فعل ذلك فهو من الذين قال الله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في الدنيا والآخرة، وأصل الفلاح هو إدراك المطلوب والنجاة من المرهوب.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ۝ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[سورة لقمان:6، 7].

لما ذكر تعالى حال السعداء، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الزمر:23] الآية، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: هو والله الغناء.

وقال قتادة: قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: والله لعله لا ينفق فيه مالا ولكنْ شراؤه استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختارَ حديثَ الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع.

وقيل: أراد بقوله: يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ اشتراء المغنيات من الجواري.

واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله.

قوله -تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا، جاء في أسباب النزول روايات كثيرة في تسمية بعض الأفراد، وأن ذلك في النضر بن الحارث، ويذكرون في ذلك أشياء، تذكر هذه الروايات أشياء متنوعة، من كونه ذهب إلى بلاد فارس، وكان يذهب إلى بلاد الروم، وأنه يشتري كتبهم ويأتي بأخبار وقصص إسفنديار وكسرى وأمثال هؤلاء، ويقول للناس: إن محمداً ﷺ يذكر خبر عاد وثمود وأنا أحدثكم بأخبار كسرى وإسفنديار، هكذا جاء في بعض الروايات ولكنه لا يصح منها شيء، لا يصح من ذلك شيء.

وجاء أنه أيضاً كانت له قينة -مغنية يعني- وأنه إذا سمع بأن أحداً استمع القرآن، أو تأثر بالقرآن أو نحو ذلك، بعث إليه هذه القينة تسقيه وتغنيه؛ ليصده عن الإيمان، وكل ذلك لا يصح، والآية عامة في كل من ينطبق عليه هذا الوصف.

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ، والشراء هنا يمكن أن يكون بمعنى الاختيار والاستحسان، كما قال الله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16]، يعني ليس المقصود بذلك أن يكون هناك ثمن يدفعه، وإنما اختاروا الضلالة على الهدى، وقد مضى الكلام على ذلك، وهل كانوا مهتدين حتى يبذلوا الهداية، ويستعيضوا عنها بالضلالة، وأن ذلك ليس بلازم.

المعنى: الاختيار والاستحسان، فهنا هذا يمكن أن يفسر به يَشْتَرِي، فلا يكون هناك شراء بالمعنى المعروف في المعاملة أو المعاطاة أو نحو ذلك، وإنما المقصود أنه يختار ذلك على سماع القرآن والاشتغال بالقرآن، -نسأل الله العافية، فيقبل على هذه الأمور التي تصده وتلهية وتشغله عن ذكر الله -تبارك وتعالى- وكلامه، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ، كما قال الشاعر:

بدّلتُ بالجُّمة رأساً أزعرا  
وبالثنايا الواضحاتِ الدّردرا  
كما اشترى المسلم إذ تنصرا  

يعني: كما اختار، إذ تنصر..

فهو ما بذل ثمناً، فمَن مال إلى هذه الأشياء وأقبل عليها واشتغل بها يكون قد اشترى لهو الحديث، ولهو الحديث هنا يصدق على الغناء، وبهذا فسره عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم، بل عزاه القرطبي -رحمه الله- إلى الصحابة والتابعين، أنهم بهذا فسروا لهو الحديث، ولا شك أن الغناء داخل فيه، وأنه من أعظم ما يشغل عن ذكر الله ، وأنه يزاحم ذلك في قلب العبد مزاحمة لا خفاء فيها.

ولكن ذلك لا يختص بالغناء، فإن لهو الحديث يصدق على هذا، ويصدق على الاشتغال بقصص هؤلاء من الفرس والأعاجم، ويصدق على كل اشتغال مما يقرؤه الإنسان أو يسمعه من الحكايات ونحوها من كلام بعض أصحاب الحكايات الذين اشتغلوا بذلك وصار صنعة لهم، يتكسبون به المال ونحو ذلك، فأقبل كثيرون على سماع حكاياتهم وأعرضوا عن كلام الله ، فالواحد منهم لا يسمع القرآن ولا يقرؤه ولكنه يقبل إقبالاً عظيماً على مثل هؤلاء من أصحاب هذه الحكايات التي لربما كثير منها ملفق، وقد راجت سوقها في هذه السنوات وعُرف بها من عرف، فهذا قد يدخل فيه، أعني الإكثار والاشتغال والإعراض عن القرآن.

وقل مثل ذلك في سائر أنواع الاشتغال بأصناف الكلام والحديث والكتب وما إلى ذلك من قراءة الكتب غير النافعة، والاشتغال مثلاً بالكتب المترجمة وما إلى ذلك، وهو لا يقرأ القرآن، ولا يرفع بذلك رأساً، فهذا يدخل في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

قال: واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله، ابن جرير قيده بالكلام دون الاشتغال بالألعاب مثلاً أو نحو ذلك؛ لأن الله قال: لَهْوَ الْحَدِيثِ، فهو مقيد بالحديث، ولكن من اشتغل باللهو من الفعل ونحو ذلك فهذا يمكن أن يدخل بهذا، لا أخذاً من ظاهر اللفظ وإنما بنفي الفارق، لا فرق من هذه الحيثية بين أنواع الاشتغال الذي يصرف عن كلام الله وعن ذكره.

وهذه اللفتة التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- مهمة ومفيدة في أول الكلام، لما ذكر حال السعداء، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء.

ويدخل في هذا أولائك الذين يستمعون الأصوات المطربة، ويسمون ذلك بالأناشيد، فإن كثيراً من هذه الأناشيد لا شك قطعاً أنها من قبيل الغناء، ومن سمعها فإنه لا يتردد في الحكم بتحريمها، أعني بعض هذه المسموعات، بل هو الغالب الكثير هذه الأيام، وصار أصحابها يتعلمون أنواع الأداء التي يؤدي بها أهل الفسق لحونهم، وصاروا على حال لا أقول مشابهة، بل مطابقة لأولائك.

وأما ما يدخل في هذا من ألوان المؤثرات التي تؤدي أصوات المعازف فهذا أمر معلوم لكل أحد، فالذي يكثر من سماع هذا ويشتغل به، حتى يصير ديدناً له فإن ذلك يزاحم القرآن في قلبه، ولا يشترط في هذا وجود الصورة المركبة كاملة؛ لأنه قال هنا: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أعني أن يلحقه الذم، ليس بلازم أن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، ولكنه ذكر الصورة الكاملة، هذه أسوأ الأحوال، ولكن من اشتغل بذلك ولم يقصد الإضلال عن سبيل الله فهو ممن اشترى لهو الحديث، ولكن هؤلاء على درجات، ليسوا على مرتبة واحدة، ولكن الذم يلحق الجميع، وإن تفاوتوا فيه، فمن أراد أن يهتدي بالقرآن وأن ينتفع به فليكن من المحسنين، وليقبل عليه بكليته وليعطيه ما يستحق من أفضل أوقاته لا من فضول أوقاته، وبهذا يُفتح عليه في القرآن.

والإنسان لا يعرف مثل هذا السماع مما يسمونه بالأناشيد، فضلاً عن الغناء الواضح الصحيح، ومع ذلك يجد من المعاناة والمكابدة في تفهم كلام الله وتدبره، وإحضار قلبه، وإن الإنسان ليعجب ما حال أولائك المشتغلين بهذه المنكرات، كيف تكون حالهم مع القرآن؟ فهذا من أعجب الأشياء، والله المستعان.

وقوله هنا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، ذكر قول قتادة: والله لعله لا ينفق فيه مالاً ولكنْ شراؤه -إذا كانت ساكنة- استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، كلام قتادة هذا بمعنى الاستحسان، هذه القول الآخر الذي أشرت إليه، يعني من قال: إنه يشتري كتب فارس والروم، أو يشتري قينة مغنية، يدفع ثمناً، فهذا بمعنى الشراء الذي بالمعنى الأول، وأما الثاني فهو بمعنى الاستحسان كما يدل عليه قول قتادة -رحمه الله.

وابن مسعود قال: هو والله الغناء، وجاء في بعض الروايات أنه أقسم ثلاثاً أنه الغناء، وابن مسعود من أعلم الناس بكتاب الله ومعاني كلامه.

وقوله -تبارك وتعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، "ليضل" هذا فيه قراءتان، قراءة الجمهور ليُضِلَّ، كما نقرأ، والقراءة الأخرى متواترة لأبي عمرو وابن كثير لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بفتح الياء، لِيَضِلَّ، لِيُضِلَّ يعني ليُضل غيره، ويَضل يعني: هو في نفسه، يَضل في نفسه.

قال: يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فهذان منصوبان على الحال، يعني حال كونه هكذا، يعني غير عالم بحال ما يشتريه، لو كان يعرف ما ينفع ويضر لما فعل ذلك، أو غير عالم بحال ما ينفعه أو يضره، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا، الجمهور قرءوا هذا بالرفع وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، يَشْتَرِي مرفوع، وَيَتَّخِذُهَا فيكون "يتخذها" معطوفاً على "يشتري"، يشتري لهو الحديث وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا، يعني: يشتري ويتخذُها، فيكون مرفوعاً بهذا الاعتبار، معطوف على يشتري، أو على الاستئناف، وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا، يتخذها يعني يتخذ آيات الله ، فيكون الضمير يرجع إلى غير مذكور مما يفهم من السياق مثلاً، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ يعني: القرآن، وإن لم يَرد له ذكر قبل ذلك.

وفي القراءة الأخرى قراءة حمزة والكسائي بالنصب، يعني: لِيُضِلَّ، ويرجع الضمير وَيَتَّخِذَهَا إلى السبيل، لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَتَّخِذَهَا أي: السبيل يتخذها هزواً، فيكون ذلك من جملة التعليل للتحريم.

وعلى قراءة الفتح لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فتح الياء، لِيَضِلَّ يمكن أن تكون اللام للتعليل، يعني: يفعل ذلك ليضل، ويمكن أن تكون بمعنى العاقبة، يمكن أن تكون للعاقبة، يعني كما قال الله : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8]، أن هذه اللام في ليكون بالنسبة لله هي لام التعليل، وبالنسبة لهم هي لام العاقبة، وأن هذا تحرير جيد ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في غير ما موضع من هذا الكتاب.

فمن أراد أن يتوسع في هذا ويعرف كلام أهل العلم والآثار المنقولة عن السلف في الغناء فليراجع كتاب السماع، مسألة السماع للحافظ ابن القيم -رحمه الله، وكذلك ما ذكره في كتابه الآخر "إغاثة اللهفان" فقد أطال في إيراد الآثار والنصوص الواردة في الباب مما يدل على تحريم الغناء، ولا تكترث بقول من يبيحه فإن ذلك قول ساقط لا عبرة به -والله المستعان، ولكن الشيطان ما يترك أحداً، لمّا أعرض الأخيار عن سماع هذا الغناء الذي هو رقية الزنا دخل عليهم الشيطان من باب آخر سموه بالأناشيد، سماه لهم بالأناشيد، فأشغل كثيرين به، وعند نفسه أنه من الأتقياء الصالحين الحافظين لحدود الله ، وهو من أهل الطرب والاشتغال بهذه -والله المستعان- الأصوات المطربة، ولا أعمم، لا أقول: كل الأناشيد، وإنما أقول: ما كان بهذه المثابة.
 

قال -رحمه الله: وقوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله.

وقوله تعالى: وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا قال مجاهد: ويتخذ سبيل الله هزواً، يستهزئ بها.

وقوله: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أي: كما استهانوا بآيات الله وسبيله أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر.

ثم قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا أي: هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب، إذا تليت عليه الآيات القرآنية ولى عنها وأعرض وأدبر وتَصَامم -وما به من صَمَم- كأنه ما يسمعها؛ لأنه يتأذى بسماعها، إذ لا انتفاع له بها، ولا أرَبَ له فيها، فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي: يوم القيامة، يؤلمه كما تألّم بسماع كتاب الله وآياته.

وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا أصل ذلك بمعنى الثقل، ولهذا يعبر به عن الصمم، كأن في أذنيه الصمم.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة لقمان:8، 9].

هذا ذكر مآل الأبرار من السعداء في الدار الآخرة، الذين آمنوا بالله وصَدّقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة المتابعة لشريعة الله لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي: يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسارّ، من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمراكب والنساء، والنضرة والسماع، الذي لم يخطر ببال أحد، وهم في ذلك مقيمون دائماً فيها، لا يظعنون، ولا يبغون عنها حولاً.

هذا التفسير، كما قلت لكم مراراً: إننا نمر أحياناً على عبارات للحافظ ابن كثير لا نتفطن لدقتها، يعني بعض أهل العلم حينما يفسر قوله: جَنَّاتُ النَّعِيمِ، فالحافظ ابن كثير هنا لا يقصر ذلك على الثمار ونحو ذلك من المأكولات، وإنما المساكن واللباس والحور العين، وما إلى ذلك.

وقوله: لا يظعنون، يعني: لا ينتقلون، ما ينتقل مثل الناس، ينتقل من مكان الجدب إلى مكان الخصب في الدنيا، أو ينتقل من بلد إلى بلد، أو يسكن في دار عشر سنوات، أو أقل أو أكثر ثم يمل هذه الدار، ثم يطلب غيرها، فيسكن في العمر دوراً متعددة، هناك نعيم متجدد لا يحول ولا يزول ولا يتحولون عن هذا.

قال: وقوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي: هذا كائن لا محالة؛ لأنه من وعد الله، والله لا يخلف الميعاد؛ لأنه الكريم المنان، الفعال لما يشاء، القادر على كل شيء، وَهُوَ الْعَزِيزُ، الذي قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، الْحَكِيمُ، في أقواله وأفعاله، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى الآية [سورة فصلت:44]، وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [سورة الإسراء:82].

خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ۝ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ[سورة لقمان:10، 11].

يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السموات والأرض، وما فيهما وما بينهما، فقال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ قال الحسن وقتادة: ليس لها عَمَد مرئية ولا غير مرئية.

يعني بهذا الاعتبار خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، فيكون منصوباً على الحال، يعني: لا عمد لها لا مرئية ولا غير مرئية، ويمكن أن يكون ذلك استئنافاً تَرَوْنَهَا في محل جر صفة لعمد، خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ يعني: بغير عمد مرئية لكم، يعني لها عمد لكنها لا تُرى، بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا بغير أعمدة مرئية، وهذا قول آخر، والأرجح هو الأول: أنها بغير عمد أصلاً، وهذا أدل في القدرة، ومضى الكلام على هذا في أول سورة الرعد، فالأقرب بغير عمد لا مرئية ولا غير مرئية، بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، والله أعلم.

قال: وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ يعني: الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء؛ ولهذا قال: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي: لئلا تميد بكم.

لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء، باعتبار أن تحت الأرض ماء.

وقوله تعالى: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ أي: وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها.

ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله تعالى: وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي: من كل زوج من النبات كريم، أي: حسن المنظر.

وقال الشعبي: والناس أيضاً من نبات الأرض، فَمَنْ دخل الجنة فهو كريم، ومَنْ دخل النار فهو لئيم.

قوله: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ لا يخص هنا بذوات الأربع، فإن الدابة تطلق بإطلاقات متعددة، وهنا: كل ما دبَّ على الأرض، من ذوات الأربع وغير ذوات الأربع، ولا يقال: إن ذلك يختص بنوع منها، أخص من ذلك أو أعم، ولكن كل ما دب على الأرض.

قال: وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، يعني هنا قال: أي حسن المنظر، الزوج هنا بمعنى الصنف، يعني ليس المراد بالزوج هنا أنه يوجد من كلٍّ من هذا النبات مثلاً ذكر وأنثى، وإنما مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ يعني: من كل صنف كريم، وبعضهم كابن جرير يعبر بقوله مثلاً: حسن النبت، والمعنى واحد، يرجع إلى شيء واحد، حسن النبت، حسن المنظر، مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ

وقول الشعبي هنا الذي نقله، قال: والناس أيضاً من نبات الأرض، هذا بعضهم يذكره على أنه قول برأسه، يعني: مستقل، القول الآخر: أنه مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ: الناس، وكلام ابن كثير -رحمه الله- جعله داخلاً في العموم، وأن الناس من الأرض، فالله أنبتنا من الأرض وإليها يعيدنا، لكن الوصف هنا بأنه كريم، قال: فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن لم يدخل الجنة فهو لئيم. 

ويمكن أن يقال باعتبار إدخال الناس، مع أن هذا خلاف المتبادر؛ لأنه ذكر إنزال المطر من السماء وما يؤثّره بإذن الله من خروج النبات، فلا يدخل فيه الإنسان بهذا الاعتبار، وإن كان أصل الإنسان من الأرض، لكنه لا يكون بنزول المطر، ولا علاقة له بنزول المطر من حيث الوجود، أصل وجود الإنسان، لكن على قول الشعبي، يمكن أن يقال: إن ذلك لا يلزم منه -والله تعالى أعلم، أن يقيد بأن من دخل الجنة فهو كريم ومن لم يدخلها فإنه لئيم، وإنما أصل خلق الإنسان، إذا قلنا: إن النبات الكريم هو حسن المنظر، فالله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4]، قال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [سورة الإسراء:70]، وكما هو أيضاً في قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [سورة طه:116]، فهذا كله من التكريم للإنسان، جنس الإنسان.

والذي يظهر -والله أعلم- أن الإنسان غير داخل في ذلك؛ لأنه ذكر القرينة هنا: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، من كل صنف.

قال: وقوله تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ أي: هذا الذي ذكره تعالى من خلق السموات، والأرض وما بينهما، صادر عن فعل الله وخلقه وتقديره، وحده لا شريك له في ذلك؛ ولهذا قال تعالى: بَلِ الظَّالِمُونَ يعني: المشركين بالله العابدين معه غيره، فِي ضَلالٍ أي: جهل وعمى، مُبِينٍ أي: واضح ظاهر لا خفاء به.

وهذا من أحسن الاحتجاج، لمّا ذكر قدرته -تبارك وتعالى- وخلقه احتج عليهم، قال: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ، هاتوا، تقولون: هؤلاء آلهة، أروني خلقهم، لا شيء، فكيف تعبدونهم من دون الله ، وتصرفون العبادة لهم؟!.

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة لقمان:12].

اختلف السلف في لقمان: هل كان نبياً، أو عبداً صالحاً من غير نبوة على قولين، الأكثرون على الثاني.

وقال سفيان الثوري، عن الأشعث، عن عِكرمَة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً.

وعن عبد الله بن الزبير، قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال: كان قصيراً أفطس من النوبة.

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر، ذا مشافر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة.

وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حَرْمَلة قال: جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله، فقال له سعيد بن المسيب: لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومِهْجَع مولى عمر بن الخطاب، ولقمان الحكيم، كان أسود نوبياً ذا مشافر.

لقمان اختلفوا فيه كما ذكر الحافظ ابن كثير هل كان نبياً أو لا؟ والذي عليه عامة أهل العلم من السلف والخلف أنه لم يكن نبياً، وإنما كان رجلاً صالحاً أعطاه الله  الحكمة، ونقل عن جماعة قليلة من السلف ، أنه كان نبياً، ولا يصح عن بعضهم نقل ذلك عن عكرمة في غير الرواية السابقة، فالرواية السابقة هنا لم يذكر فيها أنه نبي، وجاء ذلك عن السدي والشعبي، والذي عليه السواد الأعظم من أهل العلم أنه لم يكن من أهل العلم.

واختلفوا فيه هل هو عربي أو عجمي، ومن ثم فإن المنع من الصرف هل هو للعلمية والعجمة "لقمان"، وإذا قيل: إنه عربي هل ذلك مثلاً للعلمية وأنه مختوم بالألف والنون مثل عثمان، والذي عليه عامة الروايات أنه كان من النوبة، أو من السودان، أو من الحبشة، المقصود أنه من تلك الناحية، والنوبة معروف أنها جنوب مصر وشمال السودان، وكان السودان إلى عهد قريب يعني إلى وقت الاستعمار، أو قبيل الاستعمار، كانت تلك الناحية يقال لها: السودان، يعني لا تختص بدولة السودان الموجودة اليوم، وإنما يقال ذلك للسودان وما جاورها، كل ذلك يقال له: السودان، بإطلاق أوسع مما هو عليه اليوم.

وإذا نظرت إلى الروايات التي تذكر في كتب التفسير فذلك يرجع في عامته إلى ما نقل عن بني إسرائيل؛ ولهذا ترى فيه اختلافاً كثيراً، فمثلاً اسم لقمان مع أن هذا أثر لا أثر له ولا فائدة فيه، يختلفون في نسبه، كما سيأتي، ويختلفون في اسمه هو كما سيأتي، ويختلفون أيضاً في أمور وتفاصيل.

بعضهم يقول: عاش ألف سنة، يختلفون في الوقت الذي عاش فيه، بعضهم يجعل لقمان من قرابة أيوب -عليه الصلاة والسلام- ابن أخيه، فيقولون: عاش ألف سنة، وأنه كان قاضياً في بني إسرائيل. 

وبعضهم يذكر ما يدل على أنه كان قبل بني إسرائيل كما سيأتي، ويختلفون في تفاصيل مما يدل على أن ذلك مما أخذ عن تلك الكتب المحرفة التي لا يمكن أن يتوصل إلى حقيقة ما جاء في كثير منها، ولا فائدة من الاشتغال في ذلك، فمثل هذه الأشياء التي يذكرونها مثلاً: كان قصيراً أفطس الأنف من النوبة، هذا ليس عندنا ما يثبته، ما عندنا شيء يدل على صحته، فالله تعالى أعلم.

فهذا لا سبيل إلى الوصول إلى معرفة الحق فيه، كما قال شيخ الإسلام في مقدمته في أصول التفسير، ليس عليه دليل معلوم، وليس من المنقول الذي يمكن أن يعرف الصحيح من زائفه، وإنما كما قال النبي ﷺ: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[1]، مما لا يعارض ما عندنا، وإن كان ترك الاشتغال بذلك أولى، والله أعلم.

قال: وروى ابن جرير عن خالد الرَّبَعِيّ قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، فقال: أخْرجْ أطيب مُضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، فمكث ما شاء الله ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، فقال: أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما، فقال لقمان: إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خَبُثا.

وقال شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: كان لقمان عبداً صالحاً، ولم يكن نبياً.

وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أي: الفهم والعلم والتعبير.

الفهم والعلم والتعبير، يعني: العبارة، عبارات حكيمة، عبارات بليغة، عبارات تدل على معانٍ كثيرة، وكما سبق أن الحكمة: هي الإصابة في القول والعمل، فهنا الفهم والعلم والتعبير، يعني الإصابة والقول والعمل، والحكمة تارة تفسر بالعلم أو بالفقه في الدين، أو نحو ذلك، وكل هذا لا منافاة فيه، فالحكمة تنتظم هذا جميعاً؛ ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله- هنا: آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ قال: أي الفقه في الدين والعقل والإصابة في القول.

قال: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي: أمرناه أن يشكر الله ، على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه.

يعني يمكن أن تكون "أن" هذه تفسيرية، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، فتكون تفسيراً، ترجمة للحكمة كما قال ابن جرير -رحمه الله، فإن مقتضى الحكمة أن يعمل بطاعة الله ، أن يشكره على نعمه؛ ولهذا قيل: الإصابة في القول والعمل، أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، فهذا من الحكمة، يكون تفسيراً لها.

ويحتمل أن يكون هناك مقدر، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ قلنا له ذلك، قلنا له: اشكر، أَنِ اشْكُرْ، أو قلنا له: لأن اشكر لي، بأن اشكر لي، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ قلنا له، لكن على كلام ابن جرير يكون ذلك تفسيراً للحكمة.

قال: ثم قال تعالى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي: إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين؛ لقوله تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [سورة الروم:44].

وقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي: غني عن العباد، لا يتضرر بذلك، ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعاً، فإنه الغني عمن سواه؛ فلا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه.

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ۝ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ۝ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[سورة لقمان:13-15].

يقول تعالى مخبراً عن وصية لقمان لولده وهو: لقمان بن عنقاء بن سدون.

بعضهم يقول: هذا ابن عنقاء بن سدون، وبعضهم يقول: ابن باعوراء بن ناحور بن تارخ، ويزعمون أن تارخ هو والد إبراهيم –آزر، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ [سورة الأنعام:74]، وأن اسم آزر: تارخ، وأن آزر هذا لقب، وبعضهم يزعم أنه عم إبراهيم أعني آزر، وهذا كله لا دليل عليه، فظاهر القرآن أن آزر هو والد إبراهيم، ولا حاجة لمثل هذه الأقوال التي تعارض ظاهر القرآن، ولكن المقصود هنا الاختلاف في اسمه مما يدل على أن ذلك مما دخله التحريف، ما أخذ عن بني إسرائيل، وأهل التاريخ ينقلون مثل هذه الأشياء في كتبهم ومُعوَّلهم في ذلك على ما ينقلونه من أخبار بني إسرائيل، وقيل غير هذا في اسمه.

وكذلك اسم الولد، هنا يقول: اسم الابن ثاران، قال: في قول حكاه السهيلي، وهذا قال به ابن جرير وابن قتيبة، لكن ليس عندنا دليل على أن الولد اسمه ثاران، ولا فائدة من معرفة اسم الولد، وغيرهم يقول غير هذا، بعضهم يقول: اسم الولد مشكم، وبعضهم يقول: اسم الولد أنعم، وبعضهم يقول: اسم الولد ماتان، وهلم جراً، هذا في الاسم، فالحمد لله الذي أنزل علينا هذا القرآن وهدانا للإسلام وبين لنا ما نحتاج إليه مما تتوقف عليه النجاة، والهداية، وإلا بقينا في عماية وحيرة مما نجد من التناقضات في أدنى الأشياء في كتب هؤلاء التي حرفوها، وعبثوا بها وضيعوها، والله المستعان.

قال: وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر، وأنه آتاه الحكمة، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف.

يعني بمعنى أن النصيحة والدعوة إذا استكملت أوصافاً أربعة فإنها تكون تامة، ما يبقى إلا توفيق الله ؛ ولهذا كانت دعوة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أكمل ما تكون، نوح -عليه الصلاة والسلام- مع ولده، النبي ﷺ مع عمه.

فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هم أكمل الناس علماً، ومعرفة بالله ، وما شرعه، والطريق الموصل إليه، وما يصل إليه السالكون، الدار الآخرة، وكذلك أيضاً لا ينقصهم البيان، فكلامهم في غاية البيان، أحياناً قد يتخلف المطلوب لنقص العلم، وقد يتخلف؛ لأنه يقدم في قالب غير مناسب، يعني في كلام لا يُفهم، البيان قاصر.

والأمر الثالث: وهو الإشفاق والحرص والنصح، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:128]، فهم أكثر الناس شفقة وحرصاً، فإذا كان الإنسان مشفقاً فإنه حريص على هداية الناس، فهذا من تمام دعوته وكمال بيانه ودعوته ونصحه ورسالته.

والأمر الآخر: هو الإخلاص، وهو الإكسير الذي تصل به الكلمات إلى القلوب، والناس تميز بين الصادق والكاذب، فالمخلص يصل كلامه إلى قلوب الناس، فإذا وجدت هذه الأمور الأربعة كانت الدعوة تامة تصل إلى القلوب ما لم يحل دون ذلك عدم توفيق، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- استكملوا هذه الأمور جميعاً. 

وينبغي لمن كان خطيباً أو معلماً للناس، واعظاً أن يحرص على استيفاء هذه الأمور الأربعة، ومن ثَمّ تصل كلماته، وكثير من الناس يفوته هذا أو هذا، فمقل أو مكثر، فتجد الخطيب قد يقول كلاماً واضحاً فصيحاً صحيحاً، ولكنه لا يصل إلى القلوب، الناس بين نعسان ومنشغل بأمر آخر سرح فيه ذهنه، فيخرجون كما دخلوا، ولا يتأثرون -والله المستعان، فهذه أربعة أمور في البيان والنصح، فهذا ابن كثير -رحمه الله- يقول: هذا يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه، ولذلك نصائح العلماء لأولادهم شعراً ونثراً تجد فيها مِن صدق النصح والحرص والشفقة.

قال: وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف؛ ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، ثم قال محذراً له: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.

بعضهم يفهم من هذا أنه كان مشركاً، وهذا ليس بلازم؛ لأنه انظر ماذا قال بعده في وصايا، مثلاً قال له: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة لقمان:17]، لو كان مشركاً هل سيقول له: أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر؟ حينما ذكر له هذه الأمور جميعاً، يعني ما توقف ذلك على القبول والاستجابة للتوحيد، فلا يلزم أنه كان مشركاً، هو يحذره من الشرك؛ لأنه أعظم ما عُصي الله -تبارك وتعالى- به.

والوصايا التي تذكر بعده لا قيمة لها إذا كان الإنسان قد تورط في وحل الشرك، كما يقال: إن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل، وإن الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، فإذا استقامت عقيدة الإنسان رُجي بعد ذلك أن يستقيم السلوك، تصلح الحال والأعمال والأخلاق، وأما إذا فسد الاعتقاد فلا طب فيه، -نسأل الله العافية، ماذا ترجو منه؟

أحيانا الإنسان لما يجلس يتأمل هذا المعنى ويتخيل أنه يعيش في بلد لا يعرفون الله يشعر أنه عايش في مسبعة، وحوش ما يعرفون الله، الذي لا يعرف الله ولا يخافه توقع منه كل شيء، يقع على محارمه، ويقتل من أجل أن يحصل شهوته أو حفنة من المال، أو بأدنى خصومة، تعيش في مسبعة، ناس لا يعرفون الله، المجتمعات البعيدة عن الله ، بلاد الكفار، من يستطيع أن يقيم فيها، ناس لا يعرفونه ولا يخافونه، كيف تستطيع أن تتعامل معهم وأن تعيش بين أظهرهم؟!

قال: ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، ثم قال محذراً له: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أي: هو أعظم الظلم.

قوله: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ بعضهم يقول: هذا من الموصول لفظاً المفصول معنى، يعني ظاهر الكلام موصول على أنه من كلام لقمان -رحمه الله، وبعضهم يقول: وإن كان ظاهره كذلك –أنه موصول لفظاً– لكنه مفصول معنى، فهنا: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، نقطة، ثم ابتدأ بكلام لله ، الله يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، يعلل ما قاله لقمان، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

وهذا الكلام لأول وهلة قد يكون بعيداً؛ لأن ظاهر السياق أنه من كلام لقمان -رحمه الله، ولكن القائل بذلك يستدل، أو يمكن أن يستدل بما جاء في سبب النزول، الحديث في الصحيحين أنه لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82]، وأن ذلك شق عليهم، فأنزل الله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، فدل على أنها مستقلة، إلا أن يقال: إنها جاءت من كلام لقمان هنا في هذا السياق، وإنها نزلت -هذه الجملة- حينما شق عليهم الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ، فنزل ذلك إِنَّ الشِّرْكَ، يعني يكون مما تكرر نزوله، وما تكرر نزوله حاصل وواقع، فهذا يحتمل أن يكون من كلام الله ، يعلل فيه ما قاله لقمان لولده في نهيه عن الشرك، فيكون من الموصول لفظاً، المفصول معنى، يعني تكون الآية هذه بعضها من كلام لقمان فيما حكاه الله عنه، وبعضها مما قاله الله ، وليس من قيل لقمان.

قال: روى البخاري عن عبد الله قال: لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، وقالوا: أينا لم يَلْبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله ﷺ: إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[2]، رواه مسلم.

هذه الرواية لا يحتج بها على أنه من كلام الله ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، لكن الرواية الأخرى هل يقال: إن ذلك ربما يكون من تصرف الرواة -بعض الرواة-؟ هذا بعيد؛ لأن الرواية بالمعنى عند من جوزها اشترطوا لها شروطاً، منها أن يكون عالماً بما يحيل المعاني، ففرق بين أن يقول: ألم تسمع قول لقمان لولده؟ وبين أن يقول: فأنزل الله، يكون سبب نزول، فهذا مغاير تماماً لهذه الرواية، فلا يقال: إن هذا من قبيل تصرف بعض الرواة، والله أعلم.

قال: ثم قَرَنَ بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين، كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23]، وكثيراً ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن.

وقال هاهنا: وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، قال مجاهد: مشقة وَهْن الولد.

وقال قتادة: جهداً على جهد.

وقال عطاء الخرساني: ضعفاً على ضعف.

ضعفاً على ضعف: يعني في مراحل الحمل، أطوار الحمل، فإن المرأة لا تزداد به إلا وهناً وضعفاً.

وبعضهم يقول: وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ: المرأة ضعيفة، فإذا جاء الحمل فهذا وهن آخر، وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، فهو وهن على وهنها، لكن المشهور أن المقصود بذلك وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ أي: الحمل، حينما يتعاظم وينمو الجنين في بطنها، فإن ذلك يوهنها أكثر.

وقوله: وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ هذا اعتراض في ثنايا كلام لقمان ووصيته لولده من كلام الله ، لما ذكر وصية لقمان لولده: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، قال الله : وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إلى آخره، فيكون ذلك من كلام الله -تبارك وتعالى- في تمام الآيتين، إلى قوله: فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، وهذا ظاهرٌ أن الله هو الذي يقول ذلك، وأن ذلك ليس من كلام لقمان، ولا أعلم أحداً يقول: إن ذلك من كلام لقمان؛ فإن ظاهر القرآن يردّه.

ولكن من أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- من يقول: إن ذلك وإن كان من كلام الله : وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ابن جرير يقول: فإن ذلك أيضاً هو من مضامين كلام لقمان، يعني: ما هو لقمان قال: وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ، ولكن في مضامين؛ لأن الله جاء بها في ثنايا، يعني: أن لقمان يوصي ولده بالتوحيد وترك الإشراك بالله ، والإحسان إلى الوالدين، باعتبار أن الله وصى بذلك، وكيف يتصرف وكيف يصنع في حالاته معهم، فمضمون هذا مما وصى به لقمان ولده، هذا يقوله ابن جرير، أي أن هذا من كلام الله عند الجميع، وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ، لكن ابن جرير -رحمه الله- يقول: لما ذكره في مضامين الوصية دل على أن مضمون ذلك قاله لقمان لولده، والله أعلم.

قال: وقوله: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أي: تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين، كما قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ الآية [سورة البقرة:233].

ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنه قال تعالى في الآية الأخرى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15].

هذا الذي ذكره ابن عباس وغيره من هذا اللون من الاستنباط هو الذي يسميه الأصوليون بدلالة الإشارة، وهي إشارة اللفظ لِمَا لم يكن القصدُ له قد عُلم، يعني: أنه إذا نظرت إلى الآيتين، ما سيقت واحدة منهما من أجل تقرير أقل مدة الحمل، أنه وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ، فهو لا يتكلم عن أقل مدة الحمل وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا، لكن بعملية حسابية ضم فيها هذا إلى هذا، فإذا طرحت العامين، يعني أربعة وعشرين شهراً من الثلاثين، فإنه يبقى ستة للحمل، فالفصال في عامين، هذه أربعة وعشرون شهراً، فيبقى أقل مدة للحمل ستة أشهر، فمن ولدت لستة أشهر حكم بأن ذلك الحمل لأبيه، ولا ترجم بهذا، لا يقال: إنها زنت.

وهذا استنباط لدلالة الإشارة، وهي من أنواع دلالة المنطوق، وليست من المفهوم، وليس المقصود التفسير بالإشارة عند الصوفية، ذاك لون آخر، هذا نوع من الدلالة صحيح لا إشكال فيه، مثل ما في قوله -تبارك وتعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187]، فيستنبط منه بدلالة الإشارة صحة صيام من أصبح وهو جنب؛ لأنه إذا جاز له أن يأكل ويشرب ويجامع إلى آخر جزء من الليل، فيكون وقت الاغتسال بعد طلوع الفجر، فهذه تسمى دلالة الإشارة، لكن الآية لم تُسق لتقرير هذا المعنى: صحة جواز الاغتسال من الجنابة بعد الفجر، فهي إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد عُلم، يعني الشارع ما قصد تقرير هذا المعنى في سياق الآية ابتداء، ما سيقت لهذا ابتداء، لكنه لون من الاستنباط، فهذه الأنواع الستة في الدلالة التي منها الإشارة أو آخرها الإشارة كلها تسلط على النص، فتأتي ألوان المعاني والأحكام والاستنباطات التي يستخرجها العلماء.

قال: وإنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهاراً، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُأي: فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.

يعني ذلك حينما يُستحضر فإنه يدفع المنة ورؤية العمل، رؤية الإحسان، رؤية البر، فهذا قليل من كثير مما يكافئ به الولد والده، فهو حينما يفعل هذا ويحسن إليهما -والإحسان هنا مطلق يشمل جميع أنواع الإحسان- فإن ذلك يكون مستحضراً معه الإحسان المتقدم، مع الفارق، فرق بين من يحسن إلى والديه ولربما يعزي نفسه إذا كان الإحسان مستثقلاً حينما تكثر حاجات الوالد، ويحتاج لربما أن يقوم منه بكل شيء، فإنه لربما يعزي نفسه بأن ذلك إلى وقت قد لا يطول، ثم بعد ذلك يموت هذا الوالد أو الوالدة، أما وهو صغير فإنهم يؤملون فيه التمام والكمال وأن يطول به العمل، ويستملحون منه كل تصرف، كل قول وفعل، فرق بين هذا وهذا، شتان، فحتى لا يرى نفسه في ذلك ويستكثر عمله أو يكون بذلك لربما ممتناً أو يستشعر أنه قد جاء ببر وإحسان يتفضل فيه على أبيه أو أمه، قال له: كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، حملته أمه بهذه المثابة.

قال: وقوله: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا أي: إن حَرَصَا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، أي: محسناً إليهما.

يعني معروفاً، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا يمكن أن يكون النصب هنا على أنه صفة لمصدر محذوف، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا أي: صحاباً معروفاً، صاحبهما صحاباً، هذا مصدر، فيكون هنا صفة له، هذا الصحاب صفته أنه معروف، أو بنزع الخافض، صاحبهما في الدنيا بمعروف، فحذف الخافض -حرف الجر، قال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا أي: محسناً إليهما، هذا في حال إن جاهداك مجاهدة، يعني ليس فقط أمْر، أمراك بالإشراك، جَاهَدَاكَ، فكيف إذا كان الوالد مسلماً ولكن عنده معاصٍ مثلاً؟ فكيف إذا كان الوالد صالحاً، فيصدر من الولد ألوان من التأبي والعقوق والتبرم بهذا الوالد، أو بما يدعوه إليه ويأمره به، يتأفف فهذا أعظم وأشد. 

وتسمع من هذا غرائب وعجائب، يأتيك الولد أحياناً ظاهره الصلاح، وأحياناً يأتون في هذا المسجد مع آبائهم يختصمون، الولد مع الوالد، وبعض الناس لا يوفق، ولا يَخفى أن الإنسان يمر بمراحل في العمر، ويدرك بعد مدة إذا نبت له عقل أن تلك التصرفات كانت في غير محلها، لكنه لم يوفق أو لم يجد الناصح، يتصرف تصرفات يظن أنها من الغيرة على الدين، أو أنها من القيام لله ، أو أن ذلك من قبيل ألا تأخذه في الله لومة لائم، أو نحو هذا فيتصرف بلون من الصلف، وهو عقوق محض مع والده أو والدته، ويأتون يختصمون من منا على حق، انظر هذا الولد المتدين ماذا يقول؟ كيف يتصرف معي؟ كيف يتعامل معي؟ تجد الولد يرفع رأسه، ويبدأ يتكلم عن هذا الأب، كأنه يتكلم عن خصم ألد، بكل جرأة وصفاقة، وعند نفسه أنه قائم لله ، لا يلوي على شيء ولا تأخذه فيه لومة لائم، -نسأل الله العافية، وهذا جهل، -نسأل الله العافية.

فتجد هذا يحصل من بعض من ظاهره الصلاح والخير للأسف، فمهما استطعت أن تكون قرة عين لمن بقي من أبويك فافعل، مهما استطعت أن تكون قرة عين فافعل قبل أن تندم ويفوت الأوان، فهذا الباب: الجنة، وهذا من أعظم التدين ومن أجلّ ما أمر الله به، وهو الحق الثاني، وهما سبب وجودك في هذه الحياة الدنيا، الله يأمر بهذا، ولكنّ الكثيرين لا يفهمون معنى الصلاح والتدين والاستقامة، فيأخذ بأمور ويترك ما هو أعظم من ذلك، والله المستعان.

يعني تسمع أسئلة أحياناً تعتبر فيها من الجهتين، أنا أعتبر من الجهتين، أشياء غريبة وعجيبة تدل على حرص شديد، لكني في الوقت نفسه أفكر أقول: هل هؤلاء قاموا بتحقيق العبودية بهذه الطريقة، في الأمور الكبار والصغار؟

يعني: تجد من الأسئلة التي ترد إزالة شعر الإبط بالليزر، جائز، ولكن هل يترك ذلك –يعني لا يفعل– لأجل أن لا يفوت سنة من سنن رسول الله ﷺ وسنن الفطرة وهي النتف، إذا أزال بالليزر وما نبت بعد ذلك معنى ذلك أنه فوت على نفسه عمل سنة، فأنا أجلس أعتبر من الجهتين، أفكر فيها من الناحيتين، أقول: سبحان الله هذه الدقة في تحقيق العبودية واستحضار هذه المعاني هذا شيء جيد، ثم إذا نظرت إلى الجانب الآخر، هل هذا حقق العبودية فعلاً في الأبواب الكبار حتى ما بقي عليه إلا هذه فنجد مثل هذا السؤال؟

لكن الغيبة في المجالس، هذه من يتورع منها ومن يسلم منها، قضية من الكبائر، ولكن انظر إلى هذا السؤال الدقيق، وأسئلة دقيقة مثل هذه تجعل الإنسان يقف مدة طويلة ويتأمل ويفكر، وتكفيه عن ألف موعظة، هذا السؤال كيف خطر على بال هذا الإنسان، كيف يوجد ناس بهذه المثابة من الدقة والورع والحس المرهف بهذه الأشياء التي لا يتفطن لها أكثر الخلق؟!

لكن هل فعلاً التعامل مع الأبوين بهذا الحس المرهف، وهذه الدقة؟ وهكذا في أمور أخرى كثيرة، -والله المستعان، لكن مهما استطعت أن تكون قرة عين فافعل، وإن لم يكن ثمة إلا ابتسامة واحدة فاجعلها للأم، فإن وجدت ثانية فللأب، فالله المستعان.

قال: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ يعني: المؤمنين.

أخذ منها ابن القيم -رحمه الله- وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ قال: أولى ما يدخل في هذا الوصف الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، وأولاهم بذلك أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما، فاتباع سبيل الصحابة هو اتباع لسبيل من أناب إليه، ثم يأتي بعد ذلك الأخيار والصلحاء وأئمة الهدى على مر العصور، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ، اقتدِ بالأخيار الصلحاء، لا تقتدِ بالأشرار، لا يكن قدوتك أهل التضييع والتفريط، وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف:28].

ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، روى الطبراني في كتاب العشرة: أن سعد بن مالك قال: أنزلت فيَّ هذه الآية: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا الآية، وقال: كنت رجلاً براً بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد، ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لَتَدَعَنّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فَتُعَيَّر بي، فيقال: "يا قاتل أمه"، فقلت: لا تفعلي يا أمّهْ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثتْ يوماً وليلة لم تأكل فأصبحتْ قد جهدت، فمكثتْ يوماً آخر وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحتْ قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمّهْ، تعلمين والله لو كانت لكِ مائة نفس فخَرجت نَفْساً نَفْساً ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي، فأكلتْ[3].

أصل الحديث في صحيح مسلم، وأنها نزلت في سعد بن أبي وقاص في خبرٍ مع أمه، وإن كان بغير هذا السياق.

  1. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3274).
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة آلم غلبت الروم، برقم (4498)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، برقم (124).
  3. لم أجده بهذا اللفظ، ولكن رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب في فضل سعد بن أبي وقاص ، برقم (1748)، بلفظ غير هذا.

مواد ذات صلة