السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
‏ [2] من قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} الآية:16 إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} الآية:22‏
تاريخ النشر: ١٤ / ذو القعدة / ١٤٣٢
التحميل: 6100
مرات الإستماع: 20263

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ۝ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ [سورة السجدة:7-9]: يقول تعالى: إنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها.

وقال مالك عن زيد بن أسلم: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال: أحسن خلْق كل شيء، كأنه جعله من المقدم والمؤخر.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ يعني: أحسن خلق الأشياء، والمراد بإحسان هذا الخلق هنا بعضهم يقول: باعتبار أنه موافق لحكمته، أنه لم يخرج عن الحكمة، خلق الله الأشياء لحكمة، فجاءت متفاوتة في هذا الخلق بأحوالها وأطوارها وأشكالها وصورها، فلا يخرج شيء عن حكمته ، وهذا جواب لسؤال يرد، وهو أننا نرى بعض الأشياء من المخلوقات ليست جميلة في صورتها وأشكالها، والله يقول: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ،

والجواب بعضهم يقول: معنى أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ يعني: أنه موافق لحكمته، أيًّا كانت صورته، فلا يعني جمال الصورة، وحسن المنظر، وبعضهم يقول: إن ذلك بمعنى الإحكام والإتقان، أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ  أي: خلقه خلقاً محكماً، متقناً، دقيقاً، تقول: فلان يحسن الصنعة، فلان حسن الصنعة، يعني: أن ما يصنعه يكون في حال من الإحكام والإتقان. 

وبعضهم يقول: هذا من العام المراد به الخصوص، هذا يقوله من حمل ذلك على جمال الصور وحسنها، أن المقصود بالحسن هو الحسن الظاهر، أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، قالوا: هذا من العام المراد به الخصوص، ونحن نعرف أن العام على ثلاثة أنواع:

عام باقٍ على عمومه، مثل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ  [سورة الزمر:62]، فلا يخرج شيء عن هذا، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة الحشر:6].

ونوع عام مخصوص، يعني جاء دليل يخصصه، كقوله -تبارك وتعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ [سورة البقرة:228] مخصوص مثلاً بقوله: وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ  [سورة الطلاق:4].

ونوع يقال له: العام المراد به الخصوص، يعني: أنه خرج في اللفظ مخرج العموم، ولكنه أريد به معنى خاصاً، وإن كان لفظه عاماً، فهذا لا يحتاج إلى دليل خارج يخصصه -دليل آخر، فهذا مثل قوله -تبارك وتعالى: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57] يعني: مما يصلح لذلك، ومعلوم أنه ليس كل ثمرات الدنيا تجبى إلى مكة، لاسيما وقت نزول الآية، وهكذا في قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25]، وما دمرت الجبال، وما دمرت بيوت هؤلاء، وإنما هو عام مراد به الخصوص، أي: مما سيقت لتدميره، فهي جاءت لتدميرهم هم، وهذا الذي يسميه الشاطبي -رحمه الله- العموم الاستعمالي.

فهنا أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مَن حمله على حسن الظاهر، حسن الصورة، قال: هذا من العام المراد به الخصوص، المقصود الأشياء التي كانت بهذه الصفة، وليس جميع ما خلقه الله يكون بهذه المثابة من جمال الصورة، وهذا فيه بُعد، هذا أبعد هذه الأقوال -والله تعالى أعلم.

والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن قوله: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أنه يدخل فيه الإحكام والإتقان، ويدخل فيه أيضاً الحسن الظاهر، فالرجل الذي قال للنبي ﷺ حينما أسبل إزاره، ونهاه النبي ﷺ عن هذا فاعتذر أنه أحمش الساقين، والحمش في الساقين معروف، أحمش يعني: فيهما دقة وميل، فهو يقول: إن في ساقيه عيباً، فقال النبي ﷺ: كل خلق الله حسن[1]، فهذا محمول على حسن الصورة، فيرِد على هذا بعض المخلوقات.

فالشاهد أن القرد مثلاً في صورته غير حسن، والله أحسن كل شيء خلقه، والجواب عن هذا: أن الله قد أحسن خلقه من حيث هو كذلك يعني باعتبار أنه قرد، أما ترى أن الناس يستملحونه ويقفون لمشاهدته ونحو ذلك، فهو بهذا الاعتبار الله أحسن خلقه، وانظر إلى أجمل الأشياء التي يتمثل بها الناس ويذكرونها في الجمال، ويشبهون أجمل النساء بها، من الظباء ونحو ذلك، لو قيل لأقبح نساء العالمين صورة: ما رأيك لو استُبدل رأسك برأس أجمل غزال، من يرضى بهذا؟ أليس ذلك يكون قبحاً لها؟

هو كذلك، فهذا الحيوان هو جميل من حيث كونه كذلك، أي حيوان، الطاوس يذكر في الجمال والحسن ونحو هذا، لو قيل لأقبح الناس وجهاً: يوضع لك رأس طاوس، يقبل هذا؟ ما يقبل، فهو جميل من حيث إنه كذلك، أي أنه طائر، لكن الإنسان أجمل خلقاً وأحسن ولو لم يكن له تلك الصورة مقارنة بغيره من بني جنسه، ولهذا قال الله : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4]، فهذا يشمل صورته الظاهرة كما يشمل صورته الباطنة، فرأسه إلى أعلى، وجعله الله بهذه المثابة من الخلق، لا يضاهيه شيء من المخلوقات، هذا الذي يظهر -والله تعالى أعلم.

وأَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، قال: أحسن خلْق كل شيء، كأنه جعله من المقدم والمؤخر، هذا ينقله عن زيد بن أسلم، المقدم والمؤخر، يعني فيه تقديم وتأخير، أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، أحسن خلْق كل شيء، "كل شيء" هذه تكون مؤخرة، و"خلقه" هذه تقدم، أحسن خلْق كل شيء، وأَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، يعني أحسن خلْق الأشياء، الخلْق مصدر، أحسن خلْق الأشياء، أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ

ويمكن أن يكون من قبيل البدل، ويكون بدل اشتمال، يعني أنه ليس بدل كل من كل، ولا بدل بعض من بعض، إنما بدل اشتمال، هو بدل يعني صفة تحلى بها، مثل هذا تقول: أعجبني زيدٌ علمُه، فهذا: خلقه، أدبه، حياؤه، ونحو هذا من الأوصاف، فيكون من قبيل بدل الاشتمال، فيكون عائداً إلى الشيء، أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ، أحسنه في الخلق، وبعضهم يقول: إنه بدل كل من كل، والضمير الهاء يرجع إلى الله إذا قلنا: إنه بدل كل من كل، أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ، وإما إذا قيل: إنه بدل اشتمال، فإنه يرجع إلى الشيء.

قال: أحسن خلق كل شيء، أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، يعني: أعطاه الخلق اللائق به، الضمير يرجع إلى الشيء، أو أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خلَقَه الله.

قال: ثم لما ذكر خلق السماوات والأرض شرع في ذكر خلق الإنسان فقال تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ يعني: خلق أبا البشر آدم من طين.

ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ أي: يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة.

ثُمَّ سَوَّاهُ يعني: آدم لما خلقه من تراب خلقه سوياً مستقيماً، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ يعني: العقول، قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ أي: بهذه القوى التي رزقكموها الله ، فالسعيد مَنْ استعملها في طاعة ربه .

هنا قوله: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، نسل هذا الإنسان الذي خلقه من طين، وهو آدم ﷺ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ يعني: يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، يعني: تُسل من هذا وهذا، من صلب الرجل ومن ترائب المرأة.

وسميت سلالة بهذا الاعتبار، باعتبار أنها تُسل، والسَّل معروف، تُسل من الأصل وتفصل عنه، تقول: سَل كذا من كذا، سل الشعرة من العجين، وعبارة ابن جرير -رحمه الله- قريبة من هذا: انسل من الأصل فخرج عنه، أو الماء الذي انسل فخرج عن الأصل، عن الإنسان، وهي هذه النطفة، فهي تسل من الإنسان، وكما قال الله : خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ۝ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ[سورة الطارق:6، 7]. 

فبعضهم يقول: صلب الرجل وترائب المرأة، وبعضهم يقول: يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ أن ذلك بالنسبة للرجل، والترائب هي: عظام الصدر، وهذا يدل على أن ذلك يخرج ويُسل من الإنسان بهذه الطريقة، وكأن ذلك يكون -والله أعلم- يسل من دمه؛ ولهذا فإن هذا الماء كما يقول الأطباء: فيه خلاصة الغذاء؛ ولذلك يضر بالإنسان كثرة خروجه، وإذا كثر خرج مختلطاً بالدم، وإذا تحرك في الإنسان فإنه يؤثر ذلك في أجزاء الجسد، فإذا خرج حصل الفتور في جميعه، وإذا تعسر أو امتنع وجد أثر ذلك في صلبه، وجد أثره في صلبه يعني: الألم، ويَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وهذا معنى السلالة. 

وأصحاب الإعجاز العلمي يقولون كلاماً آخر غير هذا، يصورون الحيوانات المنوية -كما ترون- لها مثل الرءوس يتبعها مثل الذيل، فيقولون: إن الرأس هذا هو الذي يلحق البويضة، ثم بعد ذلك يتلاشى ويذهب هذا الذيل، فهي بهذه الصورة صورة سلالة، هكذا يقولون، وهذا الكلام فيه نظر، وإنما السلالة ما يُسل من الشيء، ويستخلص منه أو يخرج منه، والله تعالى أعلم.

ثُمَّ سَوَّاهُ قال: يعني آدم لما خلقه من تراب، لماذا لم نقل: إنه الإنسان الذي خلق من النطفة؟ لا شك أن التسوية حاصلة له، لكن قوله: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ، هذا كان لآدم ﷺ، فهذه قرينة تحدد أحد الاحتمالين في المعنى، يعني لو لم يكن هذا لقلنا: الله سوى وخلق الأشياء جميعاً، فسواء الإنسان الأول الذي هو آدم ﷺ خلقه في أحسن صورة، وأكمل صورة، طوله ستون ذراعاً في السماء، وعرضه سبعة أذرع، خلافاً لما يذكره أولائك الذين يتخرصون، ويقولون: الإنسان كان بصورة كذا، وكان بصورة كذا، ويذكرون حالة من التخلف في خلق الإنسان، ثم بعد ذلك بدأ يتطور، وهكذا يذكرون القرون والعصور، العصر الحجري، والعصر البرونزي، والعصر كذا، وما يذكره أيضاً بعض هؤلاء من أن الإنسان كان يعني يتبع الخرافة والسحر، ثم بعد ذلك بدأ يتعرف على الله وما إلى ذلك، فهذا كله كذب، الإنسان كان على الفطرة، وفي أحسن خلقة، وقد مضت أمم ممكنة وقوية وعندها حضارات لا زال بعض آثارها باقياً، وقد ذكر الله هذا في القرآن، فلا وجود لهذه العصور التي يتكلمون عنها.

قال: وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ يعني الروح هنا المقصود بها المخلوقة، فأضافها إليه تشريفاً، كبيت الله، وناقة الله، قال: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ يعني: العقول، قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ.

وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ۝ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ[سورة السجدة:10، 11].

يقول تعالى مخبراً عن المشركين في استبعادهم المعاد حيث قالوا: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أي: تمزقت أجسامنا وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت، أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أي: أئنا لنعودُ بعد تلك الحال؟! يستبعدون ذلك، وهذا إنما هو بعيد بالنسبة إلى قُدْرَتهم العاجزة، لا بالنسبة إلى قُدْرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم، الذي إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فيكون؛ ولهذا قال: بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ.

قوله: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ يعني: ذهبت أجسادنا وتحللت وتلاشت، والدفن يقال له: إضلال، ومنه قول الشاعر: فآبَ مُضلوه بعينٍ جليّةٍ. يعني: من دفنوه، يتحدث عن ميت، وغُودر بالجولان حزمٌ ونائلُ، فالدفن يقال له: إضلال، وكذلك أيضاً الاضمحلال يقال له: إضلال، أو ضلال، أي ذهاب، تقول: ضل الماء في اللبن، إذا صب الماء على اللبن واختلط معه، فإنه لا يتميز هذا من هذا، ضل الماء في اللبن، أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ تحللت الأجساد وتلاشت، هم يستبعدون الإعادة ثانية.

قال: ثم قال تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة، كما هو المتبادر من حديث البراء المتقدم ذكره في "سورة إبراهيم"، وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل، وهو المشهور، قاله قتادة وغير واحد، وله أعوان.

لم يثبت ذلك في الكتاب والسنة أن ملك الموت اسمه عزرائيل، ولكن الله قال: مَلَكُ الْمَوْتِ.

قوله: وله أعوان، هذا جواب عن سؤال وهو أن الله هنا قال: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، فدلَّ على أن الذي يتوفاهم واحد، وفي قوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [سورة الأعراف:37]، رُسُلُنَا جمع، فذكر جماعة من الملائكة، فهل الذي يتوفى هو ملك الموت -ملك واحد- أو أن ذلك قد وكل به جماعة من الملائكة؟ فالجواب: أنه ملك واحد له أعوان، فبعض أهل العلم يقول: إنهم ينتزعون روح الميت حتى إذا بلغت الحلقوم أخذها ملك الموت، وفي حديث البراء: لم يدعوها في يده طرفة عين[2]

فالحاصل أن ملك الموت له أعوان من الملائكة، ولا يرِد على هذا أن الذين يموتون في اللحظة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها كثير، فإن قدرة الله لا تقاس بما نشاهده، فعالم الغيب غير عالم الشهادة، وجاء في بعض الآثار التي لا يمكن أن يبنى عليها أن الله -تبارك وتعالى- يزوي له الأرض، ولا حاجة لمثل هذا، فالله -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير.

قال: وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد، حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت.

قال مجاهد: حُويت له الأرض.

حويت له الأرض، يعني: كأنها جمعت له، الله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93]، هؤلاء الذي يظهر أنهم ملائكة العذاب، وليسوا أعوان ملك الموت.

قال مجاهد: حُويَت له الأرض فجعلت له مثل الطَست، يتناول منها متى يشاء.

وقوله تعالى: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي: يوم معادكم وقيامكم من قبوركم لجزائكم.

وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ۝ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ۝ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[سورة السجدة:12-14].

يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة، وقالهم حين عاينوا البعث، وقاموا بين يدي الله .

إي وقالهم يعني: ومقالهم، يعني: وقولهم، يقال: وقالهم وقِيلهم وقولهم.

وقاموا بين يدي الله حقيرين ذليلين، ناكسي رءوسهم، أي: من الحياء والخجل، يقولون: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا أي: نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك، كما قال تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [سورة مريم:38]، وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار بقولهم: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة الملك:10]، وهكذا هؤلاء يقولون: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا أي: إلى الدار الدنيا، نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ أي: قد أيقنا وتحققنا أن وعدك حق ولقاءك حق.

هنا قوله: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسر ذلك بالاستجابة، أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا الآن نسمع قولك ونطيع أمرك، أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا، هكذا فسره كما ترون.

وكثير من المفسرين -ومنهم أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- فسروه بمعنى آخر أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا أي: أبصرنا ما كنا نكذب به، ما كنا ننكره، وما كنا نجحده من عقابك لأهل معصيتك، وسمعنا منك تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا، كما قال الله : فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق:22]، بمعنى أنه تتلاشى عنه الحجب، ويبصر الحقائق، ويسمع فيعاين الحقيقة التي كان ينكرها ويكابر فيها، فيقول: أبصرنا وسمعنا، كأنهم يقولون: الآن عرفنا حقيقة ما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه كشف لهم عن الغيب، فصار الغيب في حقهم شهادة، هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [سورة يس:52]، لمّا يقولون: يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا فيقال: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، فيرون هذه الأشياء ويعاينونها، رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا، ولازم ذلك الاستجابة، فكأن تفسير ابن كثير -رحمه الله- هو من قبيل التفسير باللازم، وأن المعنى الظاهر هو ما سبق -والله تعالى أعلم، وعليه عامة المفسرين.

نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ أي: قد أيقنا وتحققنا أن وعدك حق ولقاءك حق، وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى الدار الدنيا لكانوا كما كانوا فيها كفاراً يكذبون آيات الله ويخالفون رسله، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا [سورة الأنعام:27] الآية.

وقال هاهنا وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [سورة يونس:99].

وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي: من الصنفين، فدارهم النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها، نعوذ بالله وكلماته التامة من ذلك.

يعني أن قوله: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا المقصود في الدنيا، يعني: إذا جعل الناس على الإيمان جميعاً، هداهم إلى الإيمان، ولكن سبقت كلمته -تبارك وتعالى- وحق القول منه.

حقت كلمته وسبقت أن يملأ النار من الجن والإنس، وبهذا تظهر معاني أسماء الله -تبارك وتعالى- وصفاته.

ومن أهل العلم من يقول: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا يعني: في ذلك الحين، في ذلك الوقت، في الآخرة يعني، حينما يعاينوه، وهذا غير صحيح.

قال: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أي: يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به، واستبعادكم وقوعه، وتناسيكم له؛ إذ عاملتموه معاملة من هو ناسٍ له، إِنَّا نَسِينَاكُمْ أي: سنعاملكم معاملة الناسي؛ لأنه تعالى لا ينسى شيئاً ولا يضل عنه شيء، بل من باب المقابلة، كما قال تعالى: الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [سورة الجاثية:34].

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كأنه جعل النسيان بمعنى الذهول عن المعلوم هو الأصل، وأن المعنى الآخر الذي هو الترك متفرع عنه؛ لأنه قال: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يعني: تعاملتم معه تعامل الناسي له الذي لا يذكره، هذا معنى النسيان الذي هو بمعنى الذهول؛ لأن النسيان يأتي لمعنيين:

المعنى الأول: هو الذهول عن المعلوم، تقول: نسيت الكتاب، نسيت الموعد.

المعنى الثاني: يأتي بمعنى الترك والإعراض عن الشيء، تقول: فلان نسي أهله، فلان نسي قومه، فلان نسي أصحابه، فلان نسي نفسه حينما قال كذا، فالمقصود هنا الترك، فابن كثير -رحمه الله- لما فسره بمعنى الذهول قال عن نسيان الله لهم في النار بأن ذلك من قبيل المقابلة، يعني أنه يعني ما يسمونه بالمشاكلة، أنه عبر بهذه اللفظة؛ لأنها جاءت في حقهم، فالشيء يذكر مع ما يقابله.

والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه ليس من باب المقابلة، قال: لأنه تعالى لا ينسى شيئاً ولا يضل عنه شيء، بل من باب المقابلة، فلا حاجة لهذا، المقابلة يقصد المشاكلة التي هي نوع من المجاز عند الكثيرين، ويزعم بعضهم أن قوله -تبارك وتعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ [سورة الأنفال:30] أنه من باب المشاكلة، ويذكره بعض أهل السنة، ولكنهم يبدو قالوه متابعة لغيرهم ولم يتفطنوا إلى أنهم يقصدون بذلك المجاز، فصفة المكر ثابتة لله ، لكن حيث يليق ذلك ويحسن، فليست من الصفات التي تثبت لله بإطلاق.

فهنا إذا فسر النسيان بمعنى الترك لا حاجة إلى أن يقال هذا -يعني أنه من قبيل المقابلة- إلا إذا أريد معنى آخر للمقابلة غير الذي ذكره ابن كثير، أن الجزاء من جنس العمل، فلما تركوا أمر الله وتوحيده وراءهم ظهرياً تركهم الله في النار وأعرض عنهم، فهذا يمكن أن يقال عنه: إنه قابلهم بذلك، وليست المقابلة المذكورة هنا التي هي من قبيل المشاكلة، الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ [سورة الجاثية:34] بمعنى الترك، نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67]، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، نَسُوا اللَّهَ يعني: بمعنى تركوا طاعته وتوحيده، فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ يعني: بمعنى أنهم أعرضوا عما يصلحها وينفعها واشتغلوا بما يضرها.

قال: وقوله تعالى: وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: بسبب كفركم وتكذيبكم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ۝ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا إلى قوله: فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [سورة النبأ:24-30].

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ۝ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[سورة السجدة:15-17].

يقول تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا أي: إنما يصدق بها الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً أي: استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً.

قال: الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا يعني: استمعوا لها، إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً، يعني كأنه فسر السجود هنا بمعنى السجود الحقيقي وضع الجبهة على الأرض، أو الخضوع والانقياد قولاً وفعلاً؟ الخضوع والانقياد قولاً وفعلاً.

قال: أي استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً، فالسجود بعضهم يفسره بهذا في بعض المواضع، تجدون ذلك عند قوله -تبارك وتعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سورة النحل:49]، والسجود في تلك المواضع سجود حقيقي ولكن سجود كل شيء بحسبه.

لكن قوله -تبارك وتعالى- هنا: خَرُّوا سُجَّداً، الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن المقصود به وضع الجبهة على الأرض، ويدل عليه قوله: خَرُّوا سُجَّداً، يعني: سجداً لوجوههم، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يعني: وسبحوا الله في سجودهم بحمده؛ ولهذا نقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، يعني وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ نقول: سبحان ربي الأعلى وبحمده، يعني حامدين الله ومنزهين له، فالتسبيح هو التنزيه، ويقرنون معه التحميد، سبَّحوا الله وحمدوه، فيكون هذا هو المعنى، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يعني: في السجود.

وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ قال: أي عن اتباعها والانقياد لها، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60].

يعني الآن الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير يعني ما حاصله الانقياد والاستجابة، هكذا فسر السجود، ولا يقال: إن هذا من قبيل الخطأ في التفسير، إذا رجح القول الآخر، وإنما ذلك من لوازم المعنى، وأهل العلم يفسرون تارة بهذا، وتارة بهذا، وتارة ببعض ما يتضمنه اللفظ، وتارة بما يشير إليه، يعني الإشارة عند الأصوليين، دلالة الإشارة، وليست الإشارة الأخرى التي في تفاسير الصوفية.

ثم قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يعني بذلك: قيام الليل، وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة.

قال مجاهد والحسن في قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ يعني بذلك: قيام الليل.

وقال الضحاك: هو صلاة العشاء في جماعة، وصلاة الغداة في جماعة.

الآن تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ، تَتَجَافَى يعني: ترتفع وتنبو، فإن هذا هو أصل هذه اللفظة، جفا بمعنى نبا، وتنبو عن الفرش يعني ترتفع عن الفرش، فهذا يدل على النهوض، بمعنى أنه لا يبقى في فراشه يذكر الله ، فيقال: إن ذلك يصدق عليه، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يعني لا يفسر أن هؤلاء يذكرون الله في مضاجعهم، ذكر الله في المضجع لا شك أنه محمود، ولكن ليس ذلك بمقصود في الآية، وإنما المقصود أنهم يرتفعون عن الفرش، يقومون.

قال هنا: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً، فذلك يصدق على الصلاة، يصلون، ويصدق أيضاً على أحوال أخرى كالدعاء، المقصود أنهم يقومون من الفرش للصلاة والدعاء، ويدخل في ذلك الذكر؛ لأن الذاكر هو أيضاً داعٍ لله ؛ لأن الدعاء يكون دعاء عبادة ودعاء مسألة، المقصود أنهم يقومون من فرشهم، فيفعلون ذلك، بين صلاة وذكر ودعاء.

وهنا قال: يعني بذلك قيام الليل، هذا المعنى -قيام الليل- هو الذي فسره به الجمهور، جمهور المفسرين سلفاً وخلفاً، وكما سبق أن ذلك يصدق على قيام الليل، ويدخل فيه دخولاً أولياً وكذلك من دعا الله خارج الصلاة، أو ذكره فإنه يصدق عليه ما وصف في الآية.

أما الأقوال الأخرى التي أشار إلى بعضها كقول الضحاك: هو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة، وهكذا بعضهم قال: صلاة العشاء هي التي يسمونها العتمة، فوجه ذلك أن هذا وقت نوم لغيرهم، صلاة العشاء في السابق كان الإنسان يحتاج معها إلى شيء من المجاهدة والانتظار؛ لأن من طبيعة الناس أنهم يستيقظون من الفجر ولا ينامون إلا في وسط النهار نومة القيلولة، فإذا جاء المغرب يكون الناس في حالة من التعب والإعياء، وطبيعة الحياة آنذاك لا تعين على السهر، فالظلام يعم كل مكان، والهدوء يعم كل مكان، ومن ذهب إلى القرى أو رأى القرى قديماً شاهد فيها هذا، كل مظاهر الحياة تنشلّ، فحينما يصلي الإنسان المغرب يبدأ الظلام يبدأ يتلمس الجدران في داخل البيت، فيحتاج إلى إيقاد السرج، ويعم الهدوء، فالناس يغالبهم النوم؛ لأنهم في أعمالهم، فيحتاجون إلى مجاهدة من أجل انتظار العشاء، كما أن الإنسان يحتاج إلى مجاهدة من أجل الاستيقاظ لصلاة الفجر، ففسر بهذا.

وبعضهم فسره بصلاة العشاء تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ، وتعرفون الحديث نام النساء والصبيان[3]، فكانوا حينما ينتظرون الصلاة أو إذا تأخر النبي ﷺ في صلاة العشاء ناموا، يغالبهم النوم، فهذا وجه هذا التفسير، وقد جاء بإسناد صحيح عن أنس -رضي الله تعالى عنه- عند الترمذي وغيره قال: نزلتْ في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة.

وقول الصحابي: نزلت في كذا من قبيل التفسير غالباً، نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ، ولا نستطيع أن نتجاوز هذا التفسير من أنس -رضي الله تعالى عنه- الذي يقال: إن أقل أحواله أنه من قبيل التفسير، يعني إذا ما قلنا: إن هذا سبب نزول، مع أنه لا يستبعد أن يكون هذا سبب النزول، لكنه غير صريح، فنحن نبقى على ما يمكن أن يكون معلوماً وهو أنه من قبيل التفسير، وما وراء ذلك من أنه من قبيل سبب النزول أمر مشكوك.

فإذا قلنا: إنه من قبيل التفسير، فتفسير الصحابي بتلك المثابة التي تعرفون، فإن لم يوجد له مخالف فإنه يكون حجة، وبصرف النظر هنا عن كونه يوجد مخالف أو لا يوجد مخالف فابن جرير -رحمه الله- يقول: لا مانع من حملها على هذه المعاني؛ لأن الليل يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فيدخل في ذلك صلاة العشاء، ويدخل فيه صلاة الفجر، ويدخل فيه قيام الليل، فيرى أن هذا جميعاً مما يدخل في هذه الآية، وأنهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع قياماً بهذه الفرائض وأيضاً والنوافل التي هي صلاة الليل، ويذكر مع هذا أن المتبادر أن المراد بذلك قيام الليل، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا

ولكن من قال: إن المراد بذلك صلاة الفجر والعشاء، أو صلاة العشاء مثلاً، لا يقال: إن هذا من قبيل الخطأ في التفسير مثلاً، وإنما هذا مما يدخل فيه -والله تعالى أعلم. 

وهذه الآية في وصف الذين يؤمنون بآيات الله إِنَّمَا يُؤْمِنُ، جاء بأسلوب الحصر، إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، ثم ذكر صفة أخرى لهم تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، هذه وحدها تكفي لإيقاظ قلوبنا الغافلة، فيما يتصل بقيام الليل، لا يحتاج المسلم معها إلى غيرها من المواعظ في قيام الله، إذا أراد أن يتذكر شرف هذه العبادة، وأن ينظر في حاله من التقصير فإنه ينظر إلى هذا، إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، نحن نقف عند هذا فنسجد ونظن أن هذا هو نهاية المطاف، لكن الله قال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ هذه صفتهم، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً، وكأن هذه قرينة حملت الحافظ ابن كثير -رحمه الله- على تفسير ذلك بالاستجابة.

يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً أي: خوفاً من وبال عقابه، وطمعاً في جزيل ثوابه.

وهذا كثير في القرآن يَدْعُونَ الدعاء هنا يفسر بدعاء المسألة ودعاء العبادة، وهم يقومون الليل رجاء ما عند الله، فهذا سائل بفعله، وكذلك يسألونه أيضاً بقولهم في دعائهم ومسألتهم، يجمعون بين الخوف والرجاء طمعاً في ثوابه وخوفاً من عقابه، وبهذا نعرف أن الذين يقولون مثلاً: ما عبدنا الله خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، أن هذا خلاف من أثنى الله عليهم في القرآن، واليوم أيضاً يسأل الناس عن بعض الرسائل التي تتداول في الجوال، أو بعض الوسائل الأخرى، يقولون مثلاً: لا تعبده حتى يعطي... أو اعبده حتى يرضى فإنه إذا رضي أعطى، كذا يقولون، رسالة متداولة، لا تعبده ليعطي وإنما ليرضى فإذا رضي أعطى، هذه فلسفة لا حاجة إليها، إنما يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، بعض الناس يطرب لمثل هذه العبارات، ويظن أن تحتها شيئاً، والواقع أن هذا مخالف لما ذكر الله من صفة أهل الإيمان، فالمؤمن يعبد الله ، ويدعوه رجاء الثواب وخوفاً من العقاب، وطلباً لمرضاته.

قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية، ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والآخرة رسول الله ﷺ.

يقول: فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية، هناك قيام الليل وهنا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أو الصلاة إذا فسر بصلاة العشاء والفجر وقيام الليل فهذه عبادات لازمة، ومن العبادة المتعدية الإنفاق، واقتران الصلاة بالزكاة كثيراً في القرآن فذكرت عن هذا جوابين، الأول: أن سعادة العبد دائرة بين أمرين:

الأول: حسن الصلة بالله.

والثاني: الإحسان إلى الخلق، فحسن الصلة بالله يكون رأسه بالصلاة، صلة بين العبد وربه، والإحسان إلى الخلق رأسه الزكاة، والآخر: أن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، والعبادات إما مالية وإما بدنية، وهناك نوع تكلم فيه أهل العلم ولم يتفقوا وهو ما كان مركباً من هذا وهذا، يقولون: مثل الحج.

فهنا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ، "مِن" هذه يمكن أن يقال:إنها تبعيضية -والله أعلم، فإذا فسرت بأنها تبعيضية فيؤخذ منه كما يقول بعض أهل العلم أنه لا يطلب إنفاق جميع المال، وإنما يمدح بإنفاق بعضه، والشارع لا يطلب إنفاق جميع المال، كما في أول سورة البقرة، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وذكرت هناك كلام الشاطبي -رحمه الله- في إنفاق جميع المال، وهل في النفقة في سبيل الله إسراف؟ وجاء الكلام على هذا عند قوله -تبارك وتعالى- في سورة الإسراء: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء:29]، وكذلك أيضاً في قوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [سورة الإسراء:26]، هل في النفقة في سبيل الله تبذير أو لا؟

فمن أهل العلم من يقول: إنه لا يطلب شرعاً أن ينفق جميع المال، ولا يمدح بذلك، ويحتجون بمثل: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم فقراء عالة يتكففون الناس[4]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام، وقال أيضاً: الثلث والثلث كثير[5]، هذا في الوصية، ولكن في النفقة أحسن ما رأيت في ذلك -والله تعالى أعلم- أن يقال: فيه تفصيل، لا يقال: إن ذلك لا يكون ممدوحاً محموداً شرعاً بإطلاق، وإنما يختلف باختلاف الناس، فأبو بكر تصدق بكل ماله فقبل النبي ﷺ منه، وعمر تصدق بشطر ماله فقبل النبي ﷺ منه، والرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ معه قطعة من ذهب، فأعرض عنه، ثم تعرض له فأعرض عنه، ثم أخذها كالمغضب ورماه بها، وقال: يأتي أحدكم بماله ثم بعد ذلك..، يعني يتكفف الناس، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.

فالشاطبي -رحمه الله- يقول: إن ذلك يدل على أنه يكون الحكم فيه باعتبار اختلاف أحوال الناس، فمن كان بمرتبة من اليقين كأبي بكر لا يلتفت قلبه ولا يتشعب فينتظر عادة من المخلوقين أن يصلوه أو يعطوه، فهذا لا بأس أن ينفق جميع ماله ولا يكون في ذلك إسراف ولا تبذير، ومن كان دون ذلك فإنه لا يحمد بإنفاق جميع المال في سبيل الله.

قال: وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي ﷺ في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير، فقلت: يا نبي الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ، حتى بلغ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سَنامه؟، فقلت: بلى، يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سَنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى، يا نبي الله، فأخذ بلسانه ثم قال: كُفّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يَكُب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم[6]، رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، الترمذي: حسن صحيح.

قوله هنا في هذا الحديث: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ، هذا من قبيل التفسير النبوي الذي جاء النص فيه على الآية المفسَّرة، فهذا يقال: إن قيام الليل داخل في هذا قطعاً، لكن هل المعنى أوسع من ذلك، فتدخل فيه صلاة العشاء وصلاة الفجر مثلاً؟ لكن لا يهون من قيام الليل، ولا يمكن أن يوقف عند مثل هذه الآثار المروية عن بعض السلف من أن ذلك المقصود به صلاة العشاء والفجر، ويكون الإنسان ممن يتجافى جنبه عن المضاجع، فإن هذا وحده لا يكفي ليتحقق فيه هذا الوصف.

بالإضافة إلى أن قوله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى وهي قوله: كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [سورة الذاريات:17]، إذا نظرتم إلى أقوال المفسرين فيها تجدون أن بعضهم يفسر ذلك بمعنى -والله تعالى أعلم- غير مراد لله في الآية، ولا يدل عليه السياق، كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، فبعضهم يفسرها أن المعنى: أن "ما" نافية، يعني أن الوقت الذي لا يهجعون فيه قليل، يعني ما فسرها بأنها موصولة، قليلاً من الليل الذي يهجعون فيه يعني: لا يهجعون إلا وقتاً يسيراً، وأكثر الوقت يصلون، ويقومون الليل ويدعون الله

ففسرها بعضهم بأن "ما" نافية، قليلاً من الليل ما يهجعون، باعتبار أن المراد بذلك أن الوقت الذي يصلون فيه أو يستيقظون فيه هو وقت قليل، وهل يُمدحون بهذا، هل الآية سيقت هذا المساق لمدح أقوام لا يقومون إلا قليلاً، لا يصلون من الليل إلا قليلاً ما يتركون الهجوع إلا قليلاً؟ ليس هذا المراد، وليس هذا ما يدل عليه السياق، وهنا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ.

قال: وقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الآية، أي: فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، لَمّا أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من الثواب جزاءً وفاقاً؛ فإن الجزاء من جنس العمل.

قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم فأخفى الله لهم ما لم تر عين، ولم يخطر على قلب بشر، رواه ابن أبي حاتم.

هذه لفتة جميلة من الحافظ ابن كثير -رحمه الله- والحسن البصري، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا، قال: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، لمّا أخفوا عملهم -فإن قيام الليل أبعد ما يكون عن الرياء عادة؛ لأن الناس لا يطلعون عليه- أخفى الله جزاءهم، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وفي قراءة حمزة، {فلا تعلم نفس ما أُخْفِي لهم من قرة أعين}، يعني يقول الله: ما أخفيه لهم، وفي قراءة غير متواترة: {من قُرّات أعين}، يعني ما تقر به العين من ألوان النعيم، والله المستعان.

وتأمل كيف قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة. 

ذكر أمرين: أخفوا العمل فأخفى الجزاء، قُرَّةِ أَعْيُنٍ لما كانوا في حال من القلق على الفراش تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ عوضهم بقرة الأعين.

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله: قال البخاري: قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الآية، ثم روى عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال أبو هريرة : فاقرءوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ[7]، رواه مسلم والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وفي رواية للبخاري: ولا خطر على قلب بشر، ذُخْراً مِنْ بَلْهَ ما أُطْلِعْتم عليه[8].

قوله: ذخراً هنا متعلق بأعددت، أعددت لعبادي، يعني: جعلت ذلك مذخوراً لهم، أعددت لعبادي الصالحين أعددت لهم ذخراً، الذخر هو الشيء المذخور، قال: من بَلهَ، هذه ليست في رواية البخاري، و"مِن" هذه زائدة، قال الخطابي وجماعة من أهل العلم: إنها مقحمة، وإنما: ذخراً بلهَ ما أُطلِعتم عليه، يعني: في القرآن والسنة، أي أمور لم تسمعوا بها، بَلْهَ يعني: سوى، يعني: عدا، تقول مثلاً: لك في الجنة كذا وكذا وكذا بله ما نطلع عليه، تقول: فلان موصوف بكذا وكذا وكذا بلْهَ، يعني: فضلاً عن، سوى أمور مثلاً، وأخرى لم نطلع عليها، أو لا تعرفها.

تقول: فلان مقصر في كذا وكذا وكذا بله حقوق الوالدين والأولاد مثلاً، يعني: سوى حقوق الوالدين، يعني: إضافة إلى حقوق، عدا حقوق، يعني هذا الذي ذكرناه ينضاف إليه حقوق الوالدين والأولاد، وهكذا، يعني هذا فضلاً عما أُطْلِعتم عليه.

قال: وعن أبي هريرة أيضاً عن النبي ﷺ قال: من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر[9]، رواه مسلم.

هذا وصف جامع في الجنة، ينعم ولا يبأس، ولك أن تسرح بالذهن في قوله: ينعم، هكذا بإطلاق، وتأكيد ذلك أيضاً بقوله: لا يبأس، يعني: لا يحصل له أمر لا معنوي ولا حسي مما يكره، لا حزن ولا غم ولا هم ولا غل ولا حسد ولا ضيق صدر، لا يحصل له ملل، ولا يحصل له ضيق من شيء من الأشياء، ولا يسأم من نعيم -الإنسان يسأم ما يلابسه كثيراً، وأيضاً لا يحصل له مرض ولا صداع، ولا ألم ضرس، ولا إزعاج، ولا يرى أشياء يكرهها، ولا يسمع عن أشياء يكرهها، إلى غير ذلك من الأمور التي كل أحد يمكن أن يسرح ذهنه فيما يمكن أن يصل إليه هذا الذهن مما يعرفه من مفردات البؤس والنكد الموجود في الحياة الدنيا، إذا سمع المؤمن مثل هذا عرف الدار الحقيقية التي ينبغي أن يشمر في العمل لها، وهان ما يلقاه من نعيم أو بؤس في هذه الحياة الدنيا، فهذا مَعْبر، ليس هذا المعوَّل، سواء حصّل فيه أو لم يحصّل من حطام هذه الدنيا، هناك حيث لا يحصل له بؤس ولا أمر يكرهه، لا يفنى الشباب ولا تبلى الثياب، والله المستعان.

أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ۝ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نزلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ۝ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۝ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ[سورة السجدة:18-22].

يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حُكمه يوم القيامة مَنْ كان مُؤمناً بآياته متبعاً لرسله بمن كان فاسقاً، أي: خارجاً عن طاعة ربه مكذِّباً لرُسُله إليه، كما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [سورة الجاثية:21]، وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [سورة ص:28]، وقال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ الآية، ولهذا قال تعالى هاهنا: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ أي: عند الله يوم القيامة.

هنا الذي حمل ابن كثير -رحمه الله- على تفسير ذلك بكونه يوم القيامة، أن الله -تبارك وتعالى- قال: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نزلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ، فهذا تفصيل لما سبق، وتبيين له، فهذه القرينة، فهذا لا إشكال فيه، لا يستوون يوم القيامة.

ولكن نفي الاستواء يحمل على أعم معانيه، فهم لا يستوون في حياتهم وصفاتهم، ولا يستوون عند مماتهم، ولا يستوون في البرزخ، ولا يستوون في القيامة، ولا يستوون في منازلهم التي يصيرون إليها، الجنة أو النار، لا يستوون من كل وجه؛ ولهذا في الآية الأخرى التي ذكرها أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ [سورة الجاثية:21]، فهم لا يستوون في الحياة ولا يستوون في الممات أو بعد الممات.

ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- يعد أولياءه في الدنيا بالسعادة والانشراح، أمور ذكرها الله -تبارك وتعالى- في مواضع من كتابه، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [سورة النحل:97]، فوعدهم بالحياة الطيبة، المقصود بالحياة الطيبة يعني: ما يحصل للمؤمن من الانشراح والسعادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، والمقصود بها هذا، وهذا يتفاوت الناس فيه تفاوتاً كثيراً، ولكن الإنسان قد يخفى عليه بعضه، وإذا أردت أن تنظر قد لا يصل الإنسان إلى مراحل من اللذة والسعادة لضعف إيمانه وكمالاته، فلربما يسمع هذا الكلام ويستشكل، لكن دعنا مما يحصل لعامة الناس.

وأعطيكم مثلين لمن ينظر من الخارج، بعض من أسلم من رجال الاستخبارات الغربية أيام الاستعمار، رجل كان يعيش في الصحراء الكبرى، مع البادية والرعاة، ولا تسأل عن حال أولائك في ذلك الوقت من الجهل والبدع والخرافة، أليس كذلك؟ ومع ذلك الرجل كان يتعجب من حياتهم، جاء من أوروبا ويتعجب من حياة هؤلاء، ولفت نظره ما هم فيه من السكينة، واليقين، وهدوء البال، وراحة النفس، والطمأنينة، والبعد عن القلق وما إلى ذلك، يقول: تأتي رياح فتهلك ما عندهم، تأتي أوبئة فتهلك مواشيهم، ونجد أن هؤلاء يقولون: الحمد لله هذا قضاء الله وقدره، يقول بكل بساطة، ولا ينجم عن هذا اكتئاب، وانهيار وما أشبه ذلك، كان يتعجب من حال هؤلاء الناس، فلفت نظره ذلك، وعرف أن هذا يرجع إلى دينهم وإسلامهم.

المثال الثاني: ذكره محمد أسد، وهو رجل معروف، جاء من أوروبا ثم أسلم، أظنه جاء من النمسا وكتب "الطريق إلى مكة" وكتب كتاباً آخر، فذكر في رحلته لما جاء مع زوجته، جاء إلى مصر وذهب مروراً ببلاد الشام، ثم ذهب إلى تركيا وركب القطار، وهو ذاهب إلى أوروبا في القطار من تركيا إلى أوروبا فكان يرى الناس الذين ركب معهم القطار في مصر مثلاً والذين رآهم في بلاد الشام وكذا غير الوجوه التي رآها وهو متجه إلى أوروبا، فكان يقول لزوجته: أما ترين الفرق؟ الذين كنا نراهم في مصر والشام وجوه غير هذه الوجوه، يعني غير الأوروبيين، فكان ينظر إلى وجوه الأوروبيين ينتابها القلق، وجوه قلقة، هو يقول هذا، هو رجل منهم، فكان يذكر هذا لامرأته، وتوافقه على هذا، تقول: نعم، صحيح، الوجوه تلك غير هذه الوجوه، حياة قلقة. 

ولذلك إذا ذهبت إلى أوروبا تجد حياة أخرى تماماً، الناس في الصباح مثلاً عندما تنظر إليهم على الأرصفة مملوءة بالبشر يمشون، تجد المشي بطريقة مسرعة، والحياة سريعة وقلقة، وتشعر أنك مشدود متوتر، كل الناس، يعني طريقة الحياة طريقة غير عادية، وإذا ذهبت إلى بلاد المسلمين تجد سكينة وهدوءاً، وإذا أردت أن تنظر إلى هذا في بلد واحد اذهب إلى كينيا مثلاً، إذ أنا ذهبت إلى نيروبي هي كأنها بلد غربية، لكن ألوان الناس سوداء، فتجد أنماط الحياة الغربية من اللباس، والكفر بالله ، وما أشبه ذلك، لأنها كانت مستعمرة بريطانية، فتجد الناس نفس الطريقة في الحياة الغربية، فإذا ذهبت إلى الشرق في مُمْبَسّا مثلاً وهي تعتبر ساحلاً إسلامياً تجد الحياة تختلف تماماً، هي حياة المسلمين التي تعرف من الهدوء والسكينة والسكون، ليس فيها ذاك القلق والتوتر الذي تراه في نيروبي.

فهذه أمور أنا ذكرتها من أجل أن الإنسان قد يقف مع بعض المعاني التي يسمعها ويقول لضعف إيمانه: أنا لا أجد هذه الجنة التي يتكلم عنها شيخ الإسلام، لا أجد هذه اللذة التي تذكرون، نقول: الذين ينظرون من الخارج يرون الفرق بين هذا المسلم وبين ذاك الكافر، وأنا أتعجب كيف يعيشون، أعني الكفار، كيف يستطيعون أن يعيشوا؟! إنسان بعيد عن الله لا يعبد ولا يعرف الله، كيف يعيش، تنتابه المخاوف من كل جهة، الإنسان لو فاتته صلاة الفجر في يوم من الأيام ما يقدر يعيش ذاك اليوم، مع أن النبي ﷺ يقول: ليس في النوم تفريط[10]، لا يستطيع أن يعيش ذلك اليوم، يشعر أن الدنيا كلها مقفلة، ولا يريد أن يرى شيئاً، ولا يرى أحداً، ولا يكلم أحداً، هؤلاء الذين لا يعرفون الله ولا يصلون ولا يسجدون له كيف يعيشون؟!

فالمقصود أن قوله: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ، لا يستوون من كل وجه، ويدخل في هذا دخولاً أولياً أنهم لا يستوون في جزائهم في الآخرة، بقرينة أن الله قال: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

قال: وقد ذكر عطاء بن يَسَار والسُّدِّيّ وغيرهما: أنها نزلت في علي بن أبي طالب، وعقبة بن أبي مُعَيط.

هذه جاءت في عدد من الآثار وهي من قبيل المراسيل، ولا يصح من ذلك شيء في سبب النزول، أنها نزلت في علي وفي عقبة بن أبي معيط، يعني أن عقبة بن أبي معيط افتخر على عليٍّ -رضي الله تعالى عنه، وتطاول عليه، فنزلت الآية أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا يعني: عقبة، ولكن ذلك لا يصح، فالآية عامة.

قال: ولهذا فَصَّل حكمهم فقال: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: صدقت قلوبهم بآيات الله وعملوا بمقتضاها، وهي الصالحات.

تفسير الإيمان بالتصديق هذا تجدونه في عبارات بعض أهل العلم، وهو كثير في كلام ابن جرير، ولكن إذا عرف أن قائل ذلك ليس من الإرجاء في شيء، وليس من المرجئة في شيء فإن ذلك غاية ما هنالك أن يقال: إن العبارة لو كانت أدق لكان أولى، نعرف أن الإيمان إذا ذكر مع الأعمال الصالحة فيكون الإيمان باعتبار ما يكون في القلب، وهذا الذي في القلب، فهل الإيمان هو التصديق في اللغة؟

الإيمان في اللغة تصديق خاص، أي تصديق انقيادي بمعنى الإقرار، أقرب ما له الإقرار، أقرب ما يفسر به الإقرار والإذعان القلبي، وليس مجرد التصديق، وشيخ الإسلام في كتابه الإيمان الكبير ذكر نحو سبعة فروقات في اللغة بين الإيمان والتصديق، ابن جرير كثيراً ما يقول: آمنوا صدقوا، مع الفرق بين هذا وهذا.

قال: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى أي: التي فيها المساكن والدور والغرف العالية.

يعني التي يأوون إليها، جَنَّاتُ الجنات هي البساتين، جَنَّاتُ الْمَأْوَى هذه البساتين فيها القصور والمساكن التي يأوون إليها.

قال: نزلاً أي: ضيافة وكرامة.

باعتبار أن النُّزل هو ما يعد للضيف.

بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا.

الباء هنا تكون سببية، يعني بسبب ما كانوا يعملون، فالعمل سبب لدخول الجنة، ولكنه غير مستقل، يعني ليس بسبب تام، وإنما لابد من وجود السبب والشرط، تحقُّق الشرط وانتفاء المانع، فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة فإن ذلك هو الذي يعبر عنه أحياناً بالسبب التام، يعني الذي يحصل بعده المسبَّب، فالعمل سبب لكنه لا يستقل لن يدخل أحدكم الجنة بعمله[11]، فالباء هنا لا تدل على المقابلة.

قال: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أي: خرجوا عن الطاعة، فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا كقوله: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا الآية.

قال الفُضَيل بن عياض: والله إن الأيدي لموثقة، وإن الأرجل لمقيدة، وإن اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم.

وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي: يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً.

كما قال الله : وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، المقمعة: حديدة لها مثل الرأس فيضربون بها، نسأل الله العافية.

قال: وقوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ قال ابن عباس: يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه.

وروي مثله عن أبيّ بن كعب، وأبي العالية، والحسن، وإبراهيم النَّخَعِي، والضحاك، وعلقمة، وعطية، ومجاهد، وقتادة، وعبد الكريم الجَزَري، وخصِيف.

العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، بعضهم يقول: المقصود بالعذاب الأدنى ما ذكر، وهذا الذي عليه عامة المفسرين، وبعضهم فسره بالقتل، ما وقع لهم من القتل يوم بدر، العذاب الأدنى، وبعضهم فسره بعذاب القبر، مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ، وأن العذاب الأكبر هو عذاب يوم القيامة، وبعضهم يقول: المقصود بذلك سنين الجوع التي حصلت لهم بمكة، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ، وابن جرير -رحمه الله- عممه فيما يقع لهم في الدنيا، يعني دون عذاب القبر، ليس عذاب القبر، لماذا، ما القرينة؟

القرينة أن الله قال: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، في عذاب القبر لا يمكن أن يرجعوا ويتوبوا وينيبوا إلى الله ، هذه قرينة، وبعض أهل العلم فسر ذلك بعذاب القبر، الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ، قال: هذه الآية يستدل بها على إثبات عذاب القبر، وأنكره آخرون.

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله: "وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد الله بن عباس على عذاب القبر، وفي الاحتجاج بها شيء؛ لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعى به رجوعهم عن الكفر، ولم يكن هذا ما يخفي على حبر الأمة وترجمان القرآن، لكن من فقهه في القرآن ودقة فهمه فيه فهم منها عذاب القبر، فإنه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين أدنى وأكبر فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدل على أنه بقى لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا؛ ولهذا قال: مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى ولم يقل: ولنذيقنهم العذاب الأدنى فتأمله"[12].

هذا لا تكاد تجد مثله في كتب التفسير، تجد الرد مباشرة أن هذا غير صحيح، وبعيد، وبعضهم قد يقول: أبعد النجعة من قال: إنه عذاب القبر؛ لأن الله قال: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فلا رجوع في عذاب القبر، فابن عباس هنا يوجه ابن القيم -رحمه الله- كلامه يقول: الله قال: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى، فمِن هذه تبعيضية، فمن العذاب الأدنى ما يقع لهم في الدنيا من الآلام والأحزان والهموم، والمصائب، والحدود كما يقول بعض السلف التي تقام على المنافقين مثلاً.

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، فهناك عذاب أدنى وعذاب أكبر، دلت عليه هذا الآية، العذاب الأدنى ما يقع من هذه الأمور في الدنيا، لكن ليس هذا كل العذاب الأدنى، هذا منه، إذاً منه بقية أخرى وهو ما يقع في القبر، فهذا الذي يقع لهم في الدنيا هو جزء، هو من بعض العذاب الأدنى، إذاً فيه عذاب أدنى وعذاب أكبر، فعذاب القبر من الأدنى، لكنه غير مراد بهذه الآية هنا بقرينة مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى، لكنه أيضاً واقع لهم؛ لأنه قال هنا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من العذاب والمصائب إلى آخره، لكنه واقع لهم بالفعل أنهم يعذبون في قبورهم؛ لأنه بقي لهم بقية من العذاب الأدنى، هذه الطريقة تتكرر في كلام ابن القيم -رحمه الله، وهي من أنفع ما يكون لطالب العلم.

قال: وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا أي: لا أظلم ممن ذَكّره الله بآياته وبينها له ووضحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها، كأنه لا يعرفها.

قال قتادة، -رحمه الله: إياكم والإعراض عن ذكر الله، فإن مَنْ أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرَّة، وأعوز أشد العَوَز، وعظم من أعظم الذنوب؛ ولهذا قال تعالى متهدداً لمن فعل ذلك: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي: سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام.

ولهذا قال تعالى متهدداً لمن فعل ذلك: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ معنى هنا وَمَنْ أَظْلَمُ أن هذا الاستفهام مضمن معنى النفي، أي: لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها، وذكرنا هناك أنه يرد على هذا سؤال معروف، وهو أن الله قال في موضع آخر: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114]، وفي موضع آخر قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [سورة الأنعام:21]، وما شابه ذلك، السؤال هو: إذا كان المعنى: لا أحد أظلم من هذا، فتارة قال: لا أحد أظلم مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، وتارة قال: مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا، وتارة قال: مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا، وللجمع بين هذه الآيات للعلماء جوابان:

الجواب الأول: أن أفعل التفضيل، وَمَنْ أَظْلَمُ -لا أحد أظلم- لا تمنع التساوي، وإنما تمنع أن يزيد أحد هؤلاء على الآخر، فحينما تقول مثلاً: فلان أكرم أهل البلد، وفي مناسبة أخرى تذكر شخصاً آخر وتقول: فلان أكرم أهل البلد، لا تعارض بحيث إن أفعل التفضيل "أكرم" لا تمنع التساوي، ولكن تمنع أن يزيد أحدهما على الآخر، فيكون كل واحد بلغ في الكرم غايته مما يصلح لمثله، يعني لكن لا تمنع التساوي، فهؤلاء كلهم قد بلغوا المرتبة العالية في الظلم، سواء كانوا من المانعين لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه، أو ممن ذُكّروا بآياته فأعرضوا عنها، أو ممن افتروا على الله كذباً، كلٌّ بلغ في الظلم غايته ولا إشكال أن يقال عن هذا أو هذا أو هذا.

الجواب الثاني: أن كل واحد منها يختص ببابه، ففي باب المنع لا أظلم مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وفي المفترين لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا، وفي المعرضين لا أظلم مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا، فيحمل كل واحد على باب يخصه.

  1. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (7241). 
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1676).
  3. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور، وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز، وصفوفهم، برقم (862)، وفي كتاب التمني، باب ذهاب النساء والصبيان إلى العرس، برقم (7239)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها، برقم (638).
  4. رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، برقم (2742)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1628).
  5. رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، برقم (2743)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1628).
  6. رواه الترمذي، كتاب الإيمان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم (2616)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3973)، وأحمد في المسند، برقم (22016)، وقال محققوه: "صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد منقطع، أبو وائل -وهو شقيق بن سلمة- لم يسمع من معاذ، وعاصم بن أبي النجود صدوق حسن الحديث، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين"، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (11394)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5136).
  7. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3244)، ومسلم، في أوائل كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم (2824).
  8. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، برقم (4780).
  9. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوام نعيم أهل الجنة وقوله تعالى: وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43]، برقم (2836)، ولفظه: من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، وأحمد في المسند واللفظ له، برقم (8827)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، يحيى بن إسحاق: هو السَّيْلحيني، وأبو رافع: نفيع الصائغ المدني نزيل البصرة، وثابت: هو ابن أسلم البُنَاني".
  10. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم (681).
  11. رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2816)، ولفظه: لن يُدخِل أحداً منكم عملُه الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة، وأحمد في المسند، واللفظ له، برقم (7479)، وقال محققوه: "صحيح، وهذا إسناد ضعيف، زياد المخزومي متابعٌ".
  12. كتاب الروح، لابن القيم (76).

مواد ذات صلة