بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة السجدة:23-25]: يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله موسى أنه آتاه الكتاب وهو التوراة.
وقوله: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ: قال قتادة: يعني به ليلة الإسراء، ثم روى عن أبي العالية الرّياحي قال: حدثني ابن عم نبيكم -يعني ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: أُريتُ ليلة أسري بي موسى بن عمران، رجلا آدم طُوَالاً جَعْداً، كأنه من رجال شَنُوءة، ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، ورأيت مالكًا خازن النار والدجال، في آيات أراهن الله إياه[1]، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، أي: أنه قد رأى موسى، ولقي موسى ليلة أسري به.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- نقل هذه الأقوال التي رأيتم أن المراد موسى -عليه الصلاة والسلام، يعني ليلة المعراج، أو ليلة الإسراء، سواء قيل: إن هذه السورة نازلة قبل الإسراء، فيكون ذلك في المستقبل، أنك ستلقاه، أو كانت السورة نازلة بعد الإسراء والمعراج، بمعنى أنك لقيته، وعبارات أهل العلم منها ما تجد فيه أنه يقول: سيلقاه. يعني: في ليلة المعراج، لكن هذا بناء على وقت نزول السورة، هل كان قبل المعراج أو كان بعده؛ ولهذا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جاءت عباراته غير مقيدة، بمعنى أن ذلك المقصود به ما كان من لقاء موسى ليلة المعراج، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ.
وبعضهم يقول: إن ذلك في القيامة، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ يعني: في الآخرة، وبعضهم يقول: إن المقصود بقوله: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ يعني: من لقاء موسى الكتاب، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، من لقاء موسى الكتاب الذي هو التوراة، الذي أنزله الله على موسى ﷺ، وهذا اختيار الزجَّاج، ولا يخلو -والله أعلم- من بعد؛ لأن هذه القضية لا يمتري فيها أحد، وما كان أهل الكتاب ولا أهل الإشراك يجادلون فيها، لم تكن محل جدال، كانت قضية معلومة مسلمة، لا إشكال فيها.
وبعضهم كالحسن يقول: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ يعني: لقاء ما لقي موسى ﷺ من التكذيب والأذى، فيكون الضمير يرجع إلى غير مذكور، لكن الأصل أن الضمير حينما يرجع إلى غير مذكور أن يكون ذلك مما يفهم من السياق، وهنا لا يوجد ما يدل عليه من السياق، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن ذلك يرجع إلى موسى -عليه الصلاة والسلام، يعني من لقاء موسى، والله تعالى أعلم.
يعني الآن هذا تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُ يحتمل أن يرجع إلى موسى -عليه الصلاة والسلام، باعتبار أنه المحدّث عنه، وأنه أوتي الكتاب، ومن ثَمّ قيل: إن قوله: فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ يرجع إلى موسى، ولم نقل: إنه يرجع إلى أقرب مذكور وهو الكتاب؛ لأن الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فلماذا لم نقل مثلاً: إنه هنا يرجع إلى الكتاب، فلا تكن في مرية من لقائه؛ لأن المحدث عنه موسى ﷺ، والمعنى أوضح حينما يقال: فلا تكن في مرية من لقاء موسى، بخلاف ما لو قلنا: فلا تكن في مرية من لقاء الكتاب.
ثم أيضاً هنا: وَجَعَلْنَاهُ، جعلنا الكتاب الذي هو آخر مذكور، أو جعلنا موسى -عليه الصلاة والسلام، ابن كثير -رحمه الله- حمله على الكتاب، وفسره بقوله: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلْنَاهُ، وبعضهم يقول: إن الضمير يرجع إلى موسى ﷺ، جعلنا موسى هدىً لبني إسرائيل، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وهو يتوافق مع القاعدة التي ذكرناها مراراً أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، فيكون ذلك يرجع إلى موسى، جعلنا موسى هدى لبني إسرائيل، وهذا قال به قتادة من التابعين.
ولو أن بين القولين ملازمة فالقول: إن ذلك يرجع إلى موسى ﷺ، فجعله الله هدىً لبني إسرائيل وذلك بما أنزل عليه من التوراة، فكتابه الذي أنزل عليه كان هدى، -والله تعالى أعلم، ومن ثم لا نحتاج إلى الترجيح، وفيما يتعلق بالحديث الذي ذكره هنا: أن النبي ﷺ وصف موسى قال: رجلاً آدم يعني: فيه سمرة طوالاً يعني: طويل القامة، جعداً يعني: مثل شعر العرب يقال له: جعد، بخلاف عيسى -عليه الصلاة والسلام، سبط الرأس مثل: شعور الأوربيين، وهنا قال: كأنه من رجال شنوءة يعني: القبيلة المعروفة الأزد -أزد شنوءة، التي منها غامد وزهران، فإنهم يرجعون إلى الأزد -أزد شنوءة، كأنه من رجال شنوءة، يعني: فيه ضخامة وطول وقامة ممتدة -عليه الصلاة والسلام.
قال: وقوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ أي: لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك نواهيه وزواجره وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوهم به كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله، ويدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ثم لما بدلوا وحَرَّفوا وأوَّلوا، سُلبوا ذلك المقام، وصارت قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه، فلا عمل صالحاً، ولا اعتقاد صحيحاً؛ ولهذا قال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا قال قتادة وسفيان: لما صبروا عن الدنيا، وكذلك قال الحسن بن صالح.
قال سفيان: هكذا كان هؤلاء، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يُقتَدى به حتى يتحامى عن الدنيا.
ولهذا قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ الآية، كما قال هنا: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي: من الاعتقادات والأعمال.
قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا، في قراءة حمزة والكسائي: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لِمَا صَبَرُوا، يعني تكون اللام للتعليل، لِمَا صَبَرُوا يعني: بسبب صبرهم، والإمام المقصود به من يقتدى به في الخير، المقدم في ذلك، وليس المقصود به الملك، والإمارة ونحو ذلك؛ ولهذا في قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124]، فإن إبراهيم ﷺ ما وعده الله إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يعني: بالملك، وما طلب ذلك لبنيه قال: وَمِن ذُرِّيَّتِي، ومن ثَم فلا يشكل قوله -تبارك وتعالى: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، أنه يوجد من الظالمين كثير من أصحاب الولايات والملك، مع هذه الآية، لاَ يَنَالُ عَهْدِي بالإمامة، وإنما المقصود الإمامة في الدين.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا، فـ"مِن" هذه تحتمل أن تكون تبعيضية، يعني جعل بعضهم أئمة يهدون بأمرهم، فيكون المراد بذلك العلماء وقبلهم الأنبياء؛ لأن الأنبياء من بني إسرائيل كثير، فصاروا أئمة للناس، ولا يختص ذلك بالأنبياء -والله تعالى أعلم؛ لأن جميع الأنبياء وليس فقط أنبياء بني إسرائيل يهدون بأمر الله، وهم أئمة في الدين والصبر والدعوة والخير، ولكن المقصود هنا غير الأنبياء، ولذلك قدمته في الذكر على الأنبياء، يعني من العلماء من بني إسرائيل؛ بسبب صبرهم ويقينهم، ولهذا قالوا: تُنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين.
الصبر على طاعة الله وترك معصيته، والصبر على أقداره بأنواعها، الأقدار المؤلمة، وكذلك أيضاً الصبر على الأمور المحبوبة من الغنى ونحو ذلك من النعم، فإنها تحتاج إلى صبر، من أجل أن لا يفضي ذلك بصاحبها إلى الخروج عن طاعة الله ، والطغيان، فهناك صبر في حال النعمة، وصبر في حال المصيبة، فتنة السراء والضراء، يحتاج الإنسان أن يصبر، فإذا صبر وكان عنده يقين فإنه بذلك تحصل له الإمامة في الدين، فلابد من الابتلاء، فإذا صبر الإنسان اجتاز، وصار إماماً يقتدى به، ولا يزيده البلاء إذا صبر عليه، وأيقن بما هو عليه من الحق لا يزيده ذلك إلا رفعة، وهذا أمر مشاهد.
قال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا، عبارة سفيان هذه، وقتادة قال: لما صبروا عن الدنيا، فهذا مما يدخل في الصبر، صبروا عنها بمعنى أن أطماعهم لم تتعلق بها، وإنما كانوا يريدون الآخرة، فالمعنى لا يختص بهذا -والله أعلم، ولكنهم ذكروه للحاجة إلى التنبيه عليه، وإلا فلا يخفى عليهم أن الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على أقداره، عن هذا جميعاً، لكن هنا نوع من الصبر يغفل عنه كثير من الناس وهو الصبر عن الدنيا.
قال سفيان: هكذا كان هؤلاء، هذه العبارة في غاية الأهمية، وهي قوله: ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا، ليس المقصود بذلك أنه يترك الكسب المباح، وطلب الرزق، فإن الله وصف الأنبياء بأنهم يمشون في الأسواق، فهذا لا إشكال فيه، ولا يكون الإنسان عالة على الناس، وإنما المقصود بذلك أن يتعلق الطمع بها، فيكون مزاحماً لأهلها منافساً لهم في دنياهم، فمثل هذا لا تكون له الإمامة في الدين.
إذا كان الإنسان يتهافت على الدنيا ولو بالمباح، عالم ولكنه حريص على الدنيا، ينافس أهلها، تجده في ألوان التجارات، ويبيع المخططات العقارية، ومن أغنى الناس ليس عن مال ورثه مثلاً، وإنما بسبب تجارته ومزاحمته لأهل الدنيا، فمثل هذا لا تكون له الإمامة في الدين، ولو كان عنده علم، هذا المقصود، فيحتاج إلى شيء من الزهد بهذا الحطام، وأن يأخذ منه ما يكفيه ويغنيه عن الناس، أما التوسع في هذا والاشتغال به، وتتبع هذه الأمور بحيث لا يكون بينه وبين أهل الدنيا والمشتغلين بجمع حطامها لا يكون هناك فرق، مثل هذا لا تكون له الإمامة في الدين، حتى يتحامى من الدنيا، والله المستعان.
وهذه الآية لا تختص ببني إسرائيل، فإن العلة المذكورة لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ، مَن تحقق ذلك فيه حصلت له الإمامة في الدين، فإن الله أخبر أنه جعلهم كذلك لهاتين العلتين، والمقصود باليقين هنا يقين المرء بما هو عليه من الحق، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يتزعزع، وكذلك اليقين بوعد الله، فلا يحصل له شك واضطراب، فيثبت على ما هو عليه، أما الذي يحصل له تردد وشك حينما يرى إعراض الناس، أو يبتلى، أو يبدأ يراجع ما هو عليه من الحق، ويبحث عن مخرج وطريق آخر يقبله الناس، ولو كانوا على انحراف وضلال، كأن يتماشى معهم في أهوائهم ورغباتهم فلا يسخطون عليه، فمثل هذا لا يكون إماماً في الدين.
وليست العبرة بكثرة المشاهدين، فهذا لا يعني الإمامة في الدين، فنحن نشاهد من أهل الضلال من لهم جمهور كبير، سواء كانوا يتكلمون باسم الدين، أو كانوا من أهل الشهوات، وإذا أردت اقرأ في أخبار القساوسة في هذا العصر، ورجال الدين عند النصارى مثلاً، تجد أن الواحد منهم في برامجه التي يقدمها في قنوات فضائية تجد أرقاماً هائلة، هذا يتابع برنامجه مائتا مليون، وهذا يتابع برنامجه مائة مليون، فيتحدثون بهذه الأرقام، ومن الدعاة إلى الله والعلماء من يتابع برنامجه مائة مليون، فهل هذا يعني أن أولائك على حق، يتابع برنامجه مائة مليون من حطب جهنم، ثم ماذا؟ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116]، فليست هذه هي الإمامة في الدين، ولا يكون لهؤلاء لسان صدق، والله المستعان.
وفي قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ قال: أي من الاعتقادات والأعمال، يعني: كأن ابن كثير -رحمه الله- أجراه على ما قبله، وإن لم يكن كلامه صريحاً، إلا أن يكون في الأصل شيء آخر، يعني أن ذلك في بني إسرائيل أن ربك هو يفصل بينهم، والسياق هو في بني إسرائيل، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فالضمير يرجع إلى بني إسرائيل، مع أن ابن جرير -رحمه الله- حمله على جميع الخلق، ولا شك أن الله يفصل بين جميع الخلائق يوم القيامة، وهذا يدل عليه آيات كثيرة في القرآن، ولكن السياق هنا في بني إسرائيل.
قوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ما معنى بأمرنا، ماذا قال ابن كثير فيها؟ قال: يهدون إلى الحق بأمر الله، عبارة ابن كثير محتملة، يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا، يحتمل أن يكون المراد بأمرنا أي: بأمرنا لهم، يعني أمرناهم بذلك، بسبب أمرنا لهم أن يهدوا الناس ويرشدوهم، والمعنى الثاني: يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا أن هدايتهم تكون بما أمر الله به، والله أمر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وأهل العلم أن يبينوا للناس، وأخذ عليهم العهد في ذلك والميثاق لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187]، فهذا أمره -تبارك وتعالى- لهم، وكذلك أيضاً إنما يرشدون الناس بما أمر الله به، ويعظونهم بذلك، فيعلمونهم شرعه، فهذا كله حق، والله أعلم.
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ[سورة السجدة:26، 27].
يقول تعالى: أولم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاءوهم به من قويم السبل، فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [سورة مريم:98]؛ ولهذا قال: يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ أي: وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولائك المكذبين فلا يرون فيها أحداً ممن كان يسكنها ويعمرها، ذهبوا منها، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [سورة الأعراف:92]، كما قال: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [سورة النمل:52]، وقال: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ إلى قوله: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج:45، 46]؛ ولهذا قال هاهنا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أي: إن في ذهاب أولائك القوم ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم لآيات وعبراً ومواعظ ودلائل متناظرة، أَفَلا يَسْمَعُونَ أي: أخبار من تقدم، كيف كان أمرهم؟
قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ، يهد لهم يعني: يبين لهم، كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ، فكم هذه تدل على التكثير، قرون كثيرة أهلكها الله ، وقوله: يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ هذا المشهور وهو ما ذكره ابن كثير، الذي عليه عامة المفسرين، يعني أن المشركين يمشون في مساكنهم، كما قال الله : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [سورة الصافات:137، 138].
وبعض أهل العلم قال: يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إن ذلك يرجع إلى المهلَكين، كانوا يمشون في مساكنهم ثم صارت خاوية خالية، ليس فيها أحد، لكن الأول هو الظاهر المتبادر، يعني أن المشركين يمشون في مساكنهم، ومع ذلك لا يتعظون ولا يعتبرون، هذا في ذلك الزمان، وأما في زماننا هذا فالأمر أشد، حيث صارت أماكن المعذبين أماكن للفرجة والنزهة، وهؤلاء الذين يأتونها أبعد ما يكونون عن الاعتبار، وإنما يعتبرون هذا نوعاً من السياحة والترويح والتسلية، والتقاط الصور، وما إلى ذلك.
ولذلك تجد أن الكثيرين لربما يمرون على أماكن المعذبين قديماً أو يرون، يرى العالم بأسره ما يقع من العذاب المدمر المهلك لبلاد طويلة عريضة، ومع ذلك لا تكاد تجد من يعتبر، آخر ما حصل في اليابان، ومن الذي يعتبر؟ تتحول بيوتهم إلى هشيم، إلى حطام، ومع ذلك تجد هذه القوى التي يحتكرونها، أعني القوى النووية ويهددون بها العالم، ولا يملكها إلا هؤلاء الذين يعدون أنفسهم من العالم الأول، أصحاب القوى العظمى، تجد أنها تتحول إلى عبء، وخطر وشبح يهدد حياتهم بعدما كانوا يهددون به الناس، فهم يترقبون في أي لحظة أن يقع لهم زلزال، ثم بعد ذلك يكون هؤلاء هم ضحايا ما شيدوه وبنوه وأنفقوا فيه الأموال، ولطالما خوفوا به الضعفاء، ومن تسلطوا عليهم عدواناً وظلماً، واليابان ليست بمنأى عن هذا، فإن أمريكا على لسان رئيسها السابق بوش صاحب الحرب الثانية في العراق، ذكر لما أعلن النصر أنهم انتصروا بالتكنولوجيا اليابانية، فاليابان داخلة معهم في حروبهم، وتقدم لهم، وهي تابعة لهم كما هو معلوم.
فالاعتبار اليوم صار أقل، بل لو قال قائل -كما حصل في تركيا وغيرها، عندما حصل الزلزال وكذا، لما تكلم بعض الخطباء: إن هذه عقوبة من الله ينبغي أن نعتبر بها، استُدعوا وحُقق معهم، ووجهت إليهم تهمة، كيف تقولون: عقوبة؟ ورأيتم ما حصل في إندونيسيا وفي غيرها، ورأيتم بالصور الأعاصير المحرقة التي تحولهم في لحظات إلى شيء آخر، ومع ذلك لا تجد من يعتبر، يعني: هؤلاء إذا نزل بهم بأس الله هل يتوبون، يراجعون أنفسهم؟ أبداً لا يزدادون إلا كفراً وغياً وضلالاً وبعداً عن الله .
قال: وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ يبين تعالى لطفه بخلقه، وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح، وهو: ما تحمله الأنهار وينحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته.
قال: وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السَيح، وهو: ما تحمله الأنهار وينحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته؛ ولهذا قال تعالى: إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ، وهي التي لا نبات فيها، كما قال تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [سورة الكهف:8]، أي: يَبَسًا لا تنبت شيئاً؛ ولهذا قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ، كما قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا [سورة عبس:24، 25] الآية؛ ولهذا قال هاهنا: أَفَلا يُبْصِرُونَ.
قوله: إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ قال: هي التي لا نبات فيها، الجرز: أصل ذلك من الجَرز وهو القطع، فالأرض الجرز يعني: كأنها التي قطع نباتها، وليس ذلك معنياً بالضرورة، ولكن المقصود يعني كما عبر عنه: لا نبات فيها، كأنه قطع نباتها؛ لعدم الماء، بمعني أرض جرداء لا حياة فيها لا نبات فيها، ولا يفهم من هذا أنها الأرض التي لا تُنبت، الأرض الجرز، كما هو ظاهر عبارة بعض المفسرين، وإنما المقصود الأرض الميتة؛ لعدم نزول الماء، أو لعدم وجود الماء فيها، لعدم الماء، الأرض الجرز، وإلا لو كانت لا تنبت فإنها لا تستفيد من الماء وهي سباخ، ولكن الله قال هنا: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا، فدل على أنها تنبت.
فالله -تبارك وتعالى- ينزل الماء على الأرض الصالحة لذلك القابلة له، وتارة تكون الأرض لا تنتفع بالماء الذي ينزل عليها من المطر؛ لطبيعة أرضها ولكنه يسوق إليها الأنهار من أماكن أخرى كأرض مصر، ومضى هذا، فهنا هذا هو المراد -والله تعالى أعلم: أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، لكن ليس ذلك بقاطع أيضاً، يعني سَوْق الماء هنا، أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء، وذكر ابن كثير -رحمه الله- المعنيين، يعني لا يفهم بالضرورة هنا أنه يسوق الماء من الأماكن الأخرى عبر الأنهار، وإنما يسوق إليها الماء، ماء المطر، ويسوق إليها الماء عبر الأنهار، فهذا وهذا.
يقول: ليس المقصود بذلك أرض مصر على سبيل الحصر، وإن كانت مقصودة قطعاً، هذا كلام ابن كثير؛ لأن بعض المفسرين يمثل، والذي يظهر -والله أعلم- من الْأَرْضِ الْجُرُزِ، أنهم حينما يذكرون مصر يقصدون على سبيل التمثيل، وإلا فذلك لا يختص بها، يقول: لأن أرضها رخوة، فإذا كثر نزول المطر عليها تهدمت أبنيتها، فيكون ذلك ضرراً، فيسوق إليها الماء من أماكن أخرى، ويحمل هذا الماء معه من الطين ما يكون صلاحاً لأرضها، لكن سوْق الماء لا يعني بالضبط، أو لا يعني بالضرورة، أو لا يعني بالتحديد سوق الماء عبر الأنهار، ولكنه يكون بهذا وهذا، مما يتصل بهذه الآية -والله تعالى أعلم، باعتبار ما يفسر به الجرز، الأرض الجرز، -والله أعلم.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3239).