بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [سورة السجدة:28-30].
يقول تعالى مخبراً عن استعجال الكفار وقوعَ بأس الله بهم، وحلول غضبه ونقمته عليهم، استبعاداً وتكذيباً وعناداً: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ؟ أي: متى تُنصر علينا يا محمد؟ كما تزعم أن لك وقتًا تُدَال علينا، ويُنْتَقم لك منا، فمتى يكون هذا؟ ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين!
قال الله تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ أي: إذا حَلَّ بكم بأس الله وسخُطه وغضبه في الدنيا وفي الآخرة، لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الآيتين، ومَنْ زعم أن المراد من هذا الفتح فتحُ مكة فقد أبعد النّجْعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح قد قَبِل رسولُ الله ﷺ إسلام الطلقاء، وقد كانوا قريباً من ألفين، ولو كان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم؛ لقوله تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل، كقوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا [سورة الشعراء:118] الآية، وكقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ الآية، وقال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [سورة إبراهيم:15]، وقال: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وقال: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ [سورة الأنفال:19].
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ، الفتح مضى في بعض المناسبات أنه يأتي بمعنى الحُكم والفصل، ولهذا يقال للحاكم: فاتح، وفتاح، ويقال للحُكم: فُتاحة، ومنه قول الشاعر:
. . . | فإني عن فُتاحتكم غَنِيّ |
يعني: عن حكمكم، وهؤلاء طلبوا الفصل بين الفريقين، وقالوا: اللهم من كان منا أقطع للرحم... إلى آخر ما ذكروا، قالوا: فأحنه الغداة، لما خرجوا إلى بدر، والرسل -عليهم الصلاة والسلام- أيضاً طلبوا الفتح بينهم وبين أقوامهم من المكذبين، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:89] يعني: احكم بيننا وبين قومنا بالحق.
فهذا الفتح هنا في هذه السورة أو في هذه الآية ما المراد به؟ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، هنا يقول: أي متى تُنصر علينا يا محمد كما تزعم، ويُنتقم لك منا؟ فهذا النصر الذي يكون عليهم يقال له: فتح؛ لأن الله فصل فيه بين الفريقين، ولهذا قال هنا: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ أي: إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا والآخرة، فجمع المعنيين: في الدنيا والآخرة؛ لأن من أهل العلم من يقول: إن هذا الفتح المقصود به الذي يتساءلون عنه ويستبعدونه وهو القيامة، ما يكون في الآخرة، فهذا قال به بعض السلف كمجاهد، وبعضهم يقول: ما حل بهم يوم بدر، مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فحصل النصر على هؤلاء وقتلوا ورموا بالقليب، فكان ذلك فصلاً من الله -تبارك وتعالى- بين الفريقين.
وفسره ابن جرير -رحمه الله- بالعذاب الذي ينزل بهم، هكذا من غير تحديد، والذي حمله على ذلك -أن يقول العذاب- هي القرينة التي بعده، أن الله -تبارك وتعالى- قال: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ؛ ولهذا فإن ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من أن المراد بالفتح يعني: القضاء والفصل، وأنه ليس المراد به فتح مكة؛ لأن فتح مكة النبي ﷺ أطلق فيه المشركين، والله يقول: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ قال: أي: إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا والآخرة.
إذن هذا الفتح المقصود هنا في هذه الآية لا ينفع بعده إيمان، فمن قال: إن المراد بذلك ما يكون في الآخرة فهذا واضح لا إشكال فيه، وعبارة ابن كثير كما رأيتم: إذا حل بهم بأس الله في الدنيا والآخرة، كيف يكون هذا في الدنيا، كيف نوجه كلام ابن كثير؟ أو ما الذي قصده ابن كثير؟
الذي عناه بذلك هو أن هذا إن حمل على ما يقع لهم في الدنيا فالمقصود به ما لا ينفع بعده إيمان، وهو عند معاينة الموت كما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يعني عند قتلهم، أو إذا قتلوا، الفتح: كان ذلك بقتلهم يوم بدر مثلاً، إذا قيل ذلك أو أن ذلك مما يدخل فيه فكيف نوجه هذا القول؟
نقول: لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ يعني: حينما عاينوا الموت، ولقوا حتفهم، فعندئذٍ لا ينفعهم الإيمان ولا تقبل منهم توبة ولا يستطيعون الرجوع، فهذا أيضاً يمكن أن يحمل عليه كلام ابن جرير -رحمه الله- الذي فسره بالعذاب وأطلقه، ما قال: في الدنيا ولا في الآخرة، لكنه احتج بالذي بعده لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ، إذن هو عذاب لا يمكن معه الخلاص، ولا ينفع معه الإيمان، فصار عندنا كلام ابن كثير وقبله ابن جرير، وبعده الشنقيطي يدور حول هذا المعنى، أنه فصل من الله -تبارك وتعالى- لا ينفع معه ولا ينفع بعده إيمان، ولا يستطيعون الرجوع.
يمكن في الدنيا وفي الآخرة.
ثم قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي: أعرض عن هؤلاء المشركين وبلغ ما أنزل إليك من ربك، كقوله: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ [سورة الأنعام:106] الآية، وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعدك، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد.
وقوله: إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي: أنت منتظر، وهم منتظرون، ويتربصون بكم الدوائر، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [سورة الطور:30]، وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة الله في نصرتك وتأييدك، وسيجدون غبّ ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك من وبيل عقاب الله لهم، وحلول عذابه بهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أمره بالإعراض، وَانْتَظِرْ بعضهم يقول: إن هذه الآية نسختها آية السيف، كما هو معلوم، يقولون: إن آية السيف نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، يعني كل آية فيها إعراض عن المشركين أو صفح وغفر فيقولون: منسوخة بآية السيف، والمقصود بها الآية الخامسة من سورة براءة، وهي قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5]، وهذا فيه نظر، وإنما المقصود بذلك كما قال الله : فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [سورة النجم:29]، بمعنى لا تشغل نفسك بهم ولا تحزن لعدم إيمانهم، هذا هو المراد، وآية السيف لم تنسخ هذا القدر الذي يذكرونه، والله تعالى أعلم.
وَانْتَظِرْ قال: انتظر فإن الله سينجز لك ما وعدك وينصرك على من خالفك، وَانْتَظِرْ، انتظر نصر الله، وانتظر أيضاً ما ينزل بهؤلاء من العذاب بسبب تكذيبهم، قال: إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ، وهم منتظرون لماذا؟ الحافظ ابن كثير هنا حمله في أول كلامه على تربصهم به -عليه الصلاة والسلام، يعني: أنت تنتظر نصر الله، ويمكن أن نزيد: تنتظر ما يقع بهم بسبب التكذيب، وهم منتظرون ما ينزل بك، يتربصون بك الدوائر، هذا المعنى صحيح، ولكن إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ يمكن أن يحمل على معنى آخر ذكره ابن جرير -رحمه الله- ورجحه، وهو أنهم منتظرون ما تعدهم من العذاب، ومجيء الساعة، وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ.
وعبارة ابن كثير -رحمه الله- الأخيرة: وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك من وبيل عقاب الله لهم وحلول عذابه بهم، فهذه العبارة تشير إلى المعنى الثاني الذي ذكره ابن جرير، وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ منتظرون ما يقع لك من المكروه، أو منتظرون ما ينزل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة.