الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[31] من قول الله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} الآية 114 إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} الآية 122.
تاريخ النشر: ٠٨ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 3028
مرات الإستماع: 2053

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا  ۝ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [سورة النساء:114-115].

يقول تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ يعني كلام الناس إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ أي: إلا نجوى من قال ذلك.

وروى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة -ا- أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينْمِي خيرًا أو يقول خيرًا وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث، في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، قال: وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله ﷺ وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجه[1].

روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين قال: وفساد ذات البين هي الحالقة ورواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي حسن صحيح[2].

ولهذا قال: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ [سورة النساء:114] أي: مخلصًا في ذلك محتسبًا ثواب ذلك عند الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:114] أي: ثوابًا جزيلًا كثيرًا واسعًا.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالله -تبارك وتعالى- يقول هنا: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ [سورة النساء:114] وفي الآية الأخرى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة المجادلة:10] وفُسِّر هناك بأنها نجوى المنافقين؛ لأن الله قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8].

وبعضهم يقول: هي نجوى اليهود، ولا شك أن تلك الآيات في اليهود؛ لقرينة قوله: حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8].

والنجوى المذمومة لا تختص بنجوى اليهود، وإنما يدخل فيها كل نجوى من شأنها أن تورث فسادًا -وهذا هو الغالب، فالنجوى: إما أن تكون بأمر مباح، وإما أن تكون في طاعة كما ذكر الله هنا، وإما أن تكون على وجه الإفساد في أمر محرم، وقد تكون النجوى في أمر مباح أو في طاعة ولكنه لا يلتزم شرطها، حيث إن النبي ﷺ قال: لا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فتكون محرمة بهذا الاعتبار.

وحقيقة النجوى يمكن أن يقال: هي الكلام الذي يكون بين طرفين بقصد الانفراد عن الناس، أو هو حديث الناس الذي يقصدون به الانفراد عن الآخرين، سواء كان ذلك سرًا أ ومجهورًا به، بمعنى أنه يتكلم بصوت مرتفع أو أنه يخفض صوته فهذا لا يؤثر، وإنما ما يقصدون به الانفراد فإنه يكون من قبيل النجوى، وقد قيل: إن أصله من النجوى وهو المكان المرتفع من الأرض.

يقول –عليه الصلاة والسلام: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمِي خيرًا تقول: نمى الحديث يعني نقله على وجه الإصلاح، فالكلام الذي ينقل على وجه الإصلاح يقال نماه، والكلام الذي ينقل على وجه الإفساد يقال: نمّه يعني أن ناقله نمَّام.

وقوله: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [سورة النساء:115] أي: ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول ﷺ فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عَمْد منه، بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له.

وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:115] هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا، فإنه قد ضُمِنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ؛ تشريفًا لهم وتعظيمًا لنبيهم، وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة.

وقد توعد تعالى على ذلك بقوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [سورة النساء:115] أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسِّنها في صدره ونزينها له -استدراجًا له- كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [سورة القلم:44] وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5] وقوله: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأنعام:110].

وجعل النار مصيره في الآخرة؛ لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ الآية [سورة الصافات:22] وقال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [سورة الكهف:53].

قوله تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [سورة النساء:115] يعني: المنازعة والمخالفة.

وقوله: مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:115]: هناك نصوص أخرى تدل على هذا المعنى منها قول الله : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة النــور:51] وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا [سورة الأحزاب:36].

وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:115] هذه قضايا متلازمة، بمعنى أنه إذا شاقق الرسول ﷺ فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.

وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:115] هذه من الآيات التي استدل بها العلماء -لا سيما الشافعي -رحمه الله- في كتاب الرسالة- على صحة الإجماع.

إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا ۝ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ۝ لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ۝ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ۝ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ۝ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ۝ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا [سورة النساء:116-122].

قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة وهي قوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [سورة النساء:48] وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة.

وقوله: وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا [سورة النساء:116] أي: فقد سلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى، وبعُد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة.

وقوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] قال جُوَيْبر عن الضحاك في الآية: قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال: فاتخذوهن أربابًا وصوروهن صور الجواري فحكموا وقلدوا، وقالوا: هؤلاء يُشْبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون الملائكة.

وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى الآيات [سورة النجم:19].

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير في قوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] هو أحد الأقوال التي ذكرها السلف ، أي أن المشركين قالوا: إن الملائكة بنات الله، وعبدوهم من دون الله -تبارك وتعالى- ولم يكن ذلك في جميع العرب، بل من العرب من عبد الملائكة، ومنهم من عبد الأصنام.

"قال: فاتخذوهن أربابًا وصوروهن صور الجواري" أي: جعلوهم على صورة الجواري -هذا أحد الأقوال- وطائفة تقول: إن المراد من قوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] أي أن مع كل صنم جنيّة كما جاء في الحديث الصحيح المخرج في البخاري أو في الصحيحين في قطع خالد بن الوليد للسَّمُرات حين بعثه النبي ﷺ عام الفتح والتي يسمونها بالعزى حيث قطعها ثم رجع إلى النبي ﷺ فأخبره أنه ما فعل شيئًا، ثم رجع إليها بعد ذلك وراى امرأة سوداء نافشة شعرها تدعو بالويل فعلاها بالسيف وقتلها وحرق أصول السَّمُرات، فرجع إلى النبي ﷺ وأخبره فقال: تلك العزى[3] أي أنها تلك الجنيّة أو الشيطانة التي ظهرت لخالد .

وثبت في التاريخ في قصص العرب وفي أخبارهم التي دونت في الكتب أنهم كانوا يسمعون أصواتًا من هذه الأصنام ترد عليهم وربما أجابتهم وخاطبتهم وهي تلك الشياطين التي كانت وراء هذه المعبودات.

وبعضهم يقول: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] يعني كل صنم وكل معبود وكل شجر أو حجر يعبدونه فيه جنيّة فهذا حقيقته، ولهذا قال: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117].

وبعضهم يقول: إن العرب كانوا يسمون هذه المعبودات بالإناث، يقولون: أنثى بني فلان يعني معبود بني فلان، وهذا وإن ذكره بعض التابعين إلا أنه لا يصح من جهة الرواية وقد كانوا يذكرونه على أنه سبب النزول لكنه من قبيل المرسل.

وبعضهم يقول غير هذا، ولعل من أوضح ما يقال فيها: هو ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- أن المراد بها أنهم سموها باللات والعزى، واللات والعزى أسماء مؤنثة، قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ۝ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [سورة النجم:19-20] فكل هذه أسماء مؤنثة وهي معبودات العرب في الجاهلية.

قال: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117] يعني: إن يعبدون إلا شيطانًا مريدا؛ لأنه هو الذي دعاهم إلى ذلك وزينه لهم، فكل من لم يعبد الله فقد عبد الشيطان، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [سورة يــس:60] فهؤلاء يعاتبهم الله بعبادتهم هذه الأصنام، واعتبر ذلك عبادة للشيطان، وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- قال لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [سورة مريم:44].

على كل حال؛ كل من أطاع الشياطين واتبع نظامًا غير نظام الله الذي شرعه للعبادة فقد عبد الشيطان، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] فجعل طاعتهم إشراكًا به مع أن هذه الآية إنما سبب نزولها هو ما يتعلق بأكل الميتة حيث كان المشركون يقولون: ما ذبحتموه بأيديكم تقولون: حلال، وما ذبحه الله بيده الشريفة تقولون: حرام، فأنتم إذًا أحسن من الله! فأنزل الله : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] يعني: حتى لو أطاعوهم في هذه الجزئية -حل الميتة- فإن ذلك يكون إشراكًا، فكيف إذا أطاعوهم فيما هو أعظم من هذا وأكثر من هذا، وحكّموا فيهم شرعًا غير شرع الله -تبارك وتعالى- في كل شيء وسموه قانونًا ونظامًا؟! إنهم يعبدون الشيطان بذلك، والله المستعان.

قوله: "وصوروهن صور الجواري فحكموا وقلدوا" يبدو أن هذه لعبارة محرفة، وأن الصواب: "فحلوا وقلدوا"، والمعنى: أنهم جعلوا هذه الأصنام تماثيل -صور جواري- ووضعوا عليها الحلي وقلدوها القلائد، هذا هو المعنى الظاهر، والله أعلم.

وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [سورة النجم:19] الآيات، وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا الآية [سورة الزخرف:19] وقال: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [سورة الصافات:158] الآيتين.

وقوله: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117] أي: هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الآية [سورة يــس:60].

وقال تعالى إخبارًا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سورة سبأ:41].

وقوله: لَّعَنَهُ اللّهُ [سورة النساء:118] أي: طرده وأبعده من رحمته وأخرجه من جواره.

وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [سورة النساء:118] أي: مُعيّنا مقدَّرًا معلومًا.

قال مقاتل بن حيان: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة.

قوله: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [سورة النساء:118] الفرض أصله التقدير، والمعنى أن من اتبعه من بني آدم فهو من نصيبه المفروض وحظه المقسوم، وهذا المعنى ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وذكر طائفة من المفسرين من أصحاب المعاني كالزجاج والفراء وأمثالهما ذكروا معانِيَ قريبة من هذا، وما ذكره الحافظ ابن كثير أيضًا وهو قوله: "أي: مُعَيَّنا مقدَّرًا معلومًا" لا يخرج عن هذه المعاني.

وهذا النصيب المفروض هم الذين أطاعوه واتبعوه وهم الأكثرية كما دلت عليه هذه الآيات، وقد تحقق له ما ظنه بما عرفه من طبيعة بني آدم.

وحينما طرده الله من رحمته طلب الإمهال إلى يوم الدين، فلما أمهله الله قال: لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلًا [سورة الإسراء:62] فذكر أنه يجهد ويجد ويجتهد في إضلال الناس، وأنه سيضل أكثر الخلق إلا قليلًا، وبين أن هؤلاء القليل هم المخلصون فقال: إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة الحجر:40].

وبين الله في موضع آخر أن ظنه هذا قد تحقق لما قال: وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [سورة الأعراف:17] قال الله : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ [سورة سبأ:20] فحصل ما أمله فاتبعه أكثر الخلق، قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103] وقال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116].

وَلأُضِلَّنَّهُمْ [سورة النساء:119] أي: عن الحق وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ [سورة النساء:119] أي: أزين لهم ترك التوبة وأعدهم الأماني وآمرهم بالتسويف والتأخير وأغرهم من أنفسهم.

كل المعاني التي ذكرها السلف في قوله: وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ صحيحة؛ فهو يمنيهم بطول العمر وأنهم سيتوبون، ويمنيهم بأن لهم الدار الآخرة، ويمنيهم بتحقيق الآمال وتحصيل المطالب من غير جدٍ ولا عمل، ويمنيهم بأن الله غفور رحيم، وأنه لا ينتفع من تعذيبهم، ويمنيهم أيضاًَ بالشفاعة، وهكذا يمنيهم بكل ما يمنى به المبطل، والمبطل هذا تارة تكون أمانيه من قبيل الأمور الدنيوية، وتارة تكون في قضايا أخروية، وتارة من غير عمل وتسبُّب لتحصيل ذلك، فهذا كله داخلٌُ في هذه الأماني، وكل ما ذكره السلف مما يمني الشيطان به الناس فهو من قبيل التفسير بالمثال، ولذلك لا حاجة للترجيح بين هذه المعاني التي يذكرونها.

وقوله: وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [سورة النساء:119] قال قتادة والسدي وغيرهما: يعني تشقيقها، وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسآئبة والوصيلة.

البتك هو القطع، ويقصد به هنا قطع أذن البحيرة والسائبة والوصلية وما أشبه ذلك مما يسيبونه للطواغيت.

في قوله تعالى: مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ [سورة المائدة:103] هذه عقائد جاهلية عندهم حيث كانوا يُبَحِّرون البحائر ويسيبون السوائب ويحمون الحام وهو البعير الذي يتركونه بعد أن ضرب الضراب المعروف حيث يقولون قد حمى ظهره، والمقصود أن عندهم أشياء معينة إذا حصلت فإنهم يسيبون هذه السوائب للطواغيت فلا ينتفعون بدرِّها ولا بلحمها ولا بوبرها ولا غير ذلك، وهذا كله مما افتروه على الله .

وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ [سورة النساء:119] قال الحسن ابن أبي الحسن البصري: يعني بذلك الوَشْم، وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه، وفي لفظٍ: لعن الله من فعل ذلك[4].

قوله: وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ [سورة النساء:119] منهم من فسره بالوشم، ومنهم من فسره بما يفعلونه بهذه البهائم من التغيير والتبديل، ومنهم من فسره بغير هذا، وكل ذلك داخل فيه، ويمكن أن يفسر بتفسير يشمل ذلك جميعًا وهو ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- ومال إليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في الأضواء بأن المراد بقوله: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ [سورة النساء:119] أي ليغيرن دين الله، ويدخل في تغيير دين الله قطع آذان البهائم، وما يفعلونه بالبحيرة والسائبة والوصيلة، ويدخل فيه كذلك الوشم المعروف والوشر وهو برد الأسنان بالمبرد بحيث تكون متساوية، وتجعل متفرقة بطريقة متناسقة بحثًا عن الحسن والجمال.

وكل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه فهو من تغيير دين الله وهذا قال به طائفة من السلف كابن عباس وإبراهيم النخغي ومجاهد والحسن والضحاك وقتادة وسعيد بن المسيب وغيرهم، ويؤيده قوله -تبارك وتعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [سورة الروم:30] يعني لا تبديل لدين الله، ويدخل فيه قول النبي ﷺ: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ثم ذكر البهيمة فقال: كما تنتج بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟[5].

وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "لعن الله الواشمات والمستوشِمات، والنامصات والمُتَنَمِّصَاتِ، والمُتَفَلِّجات للحُسْن المغيّرات خَلْقَ الله " ثم قال: "ألا ألعن من لعن رسول الله ﷺ وهو في كتاب الله ؟ يعني قوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [سورة الحشر:7][6].

وقوله تعالى: وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:119] أي: فقد خسر الدنيا والآخرة وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها.

وقوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [سورة النساء:120] وهذا إخبار عن الواقع؛ لأن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [سورة النساء:120] كما قال تعالى مخبرًا عن إبليس يوم المعاد: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ [سورة إبراهيم:22] إلى قوله: إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة إبراهيم:22].

يقول تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ [سورة النساء:120] الفرق بين الوعد والتمنية أنه يعدهم الباطل ويمنيهم المحال، فالأماني عادة تكون في الأشياء المستعبدة الوقوع أو الأشياء التي يستحيل وقوعها أصلًا.

قوله: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [سورة النساء:120] الغرور كل شيء ظاهره مستحسن وباطنه يضر، فالشيطان يزين لهم الباطل ويزين لهم معصية الله -تبارك وتعالى- ويجذب نفوسهم إليه وهو عين ما يضرهم، وفيه عطبهم وهلاكهم.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الصلح - باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (2546) (ج 2 / ص 958) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) (ج 4 / ص 2011).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب- باب في إصلاح ذات البين (4921) (ج 4 / ص 432) والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ- باب 56 (2508) (ج 4 / ص 663) وأحمد (27548) (ج 6 / ص 444) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2595).
  3. أخرجه النسائي في الكبرى - كتاب التفسير – باب تفسير سورة النجم (11547) (ج 6 / ص 474) وأبو يعلى (902) (ج 2 / ص 196).
  4. أخرجه البخاري في كتاب اللباس - باب الوصل في الشعر (5589) (ج 5 / ص 2216) ومسلم في كتاب اللباس والزينة - باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله (2124) (ج 3 / ص 1677).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز - باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام (1292) (ج 1 / ص 456) ومسلم في كتاب القدر - باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (2658) (ج 4 / ص 2047).
  6. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة الحشر (4604) (ج 4 / ص 1853) ومسلم في كتاب اللباس والزينة – باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله (2125) (ج 3 / ص 1678).

مواد ذات صلة