الأربعاء 15 / شوّال / 1445 - 24 / أبريل 2024
[2] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ} الآية:14 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١٩ / محرّم / ١٤٢٧
مرات الإستماع: 30623

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۝ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ۝ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ۝ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة التغابن:14-18].

يقول تعالى مخبراً عن الأزواج والأولاد أن منهم من هو عدو، الزوج والوالد[1] بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة المنافقون:9]، ولهذا قال تعالى هاهنا: فَاحْذَرُوهُمْ قال ابن زيد: يعني على دينكم، وقال مجاهد: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ قال: يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وسأله رجل عن هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ قال: فهؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله ﷺ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله ﷺ رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهمّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه السورة تدور حول موضوع واحد في الجملة، وهو المبادرة إلى طاعة الله والتقرب إليه، ولما كان الأزواج والأولاد كثيراً ما يقعدونه عن هذا ويصرفونه عنه حذر من فتنتهم، وبيّن أن هؤلاء الذين يقعدونه أنهم عدو له، وهذه العداوة كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: عداوةٌ الجالب لها المحبة، ليست عدواة بسبب البغض، وإنما عداوة جلبتها المحبة، ذلك أن الإنسان حينما تسمو نفسه إلى معالي الأمور من طاعة الله أو العلم النافع، أو نحو ذلك من المطالب العالية فإن عدوه يقعده ويثبطه، ويتمنى أن لا يحصل له مطلوب، ويفرح إذا سمع بعائق قد عاقه، هذا عدوه المبغض له.

وكما قال الحكماء: إنك ما أغظت عدوك بشيء كما تغيظه بالعلم؛ لأنه من أعظم ما يرتفع به الإنسان وتكمل فيه نفسه وتسمو، ويرتفع مراتب عالية في الدار الآخرة، فالمقصود: أن عدوه المبغض يقعده ويثبطه ولا يألو جهداً في صرفه عن ذلك، ويفرح غاية الفرح إذا علم بانصرافه عنه.

وهذا المحب يعني الآخر الذي عداوته من جهة المحبة كذلك يصل معه إلى هذه النهاية، لكن بسبب المحبة، فإذا أراد أن يتعلم قال له: اقعد عندنا لا تخرج من عندنا، اجلس بيننا، وإذا أراد أن يجاهد تعلقوا بثوبه، وإذا أراد أن يذهب إلى حج قالوا: شاركنا في العيد لا تذهب وتتركنا، لا يصلح العيد من غير مشاركتك، فيجلس لا يحج ولا يعتمر ولا يجاهد ولا يطلب العلم، ولا يفعل شيئاً من معالي الأمور، يريد أن يذهب إلى بلد يجد فيها علماء يتعلم العلم منهم، أو يدرس في جامعة يتعلم منها علماً صحيحاً جيداً متيناً، فيقولون: كن بجوارنا ادرس هاهنا قريباً من أجل أن نراك وتجلس بيننا وما أشبه ذلك، فتكون -في النهاية والنظر البعيد- عاقبة هذا الإنسان أنه يكون صغيراً لم يخرج بكبير طائل لا من علم ولا من عمل، عدوه المبغض ماذا يفعل به أكثر من هذا؟

فهذه العداوة أيضاً التي جلبتها المحبة تفعل به نفس فعل العدو المبغض، وإن كانت المنطلقات شتى، هؤلاء أقعدوه عن معالي الأمور، وعدوه المبغض أيضاً أقعده عن معالي الأمور، فهذا هو المعنى، والله تعالى أعلم.

وقوله: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْوأدخل "مِن" هنا؛ لأنه ليس كل الأزواج والأولاد بهذه المثابة، بالعكس أحياناً تكون الزوجة هي التي تدعوه إلى طاعة الله وتحمله على ذلك، تحثه عليه دائماً تذكره إذا غفل، وكذلك الولد لا يألو جهداً في نصحه وتذكيره ودعوته إلى الله والدار الآخرة، لكن الغالب أنهم يُقعدون الوالد عن المطالب العالية، فهؤلاء قوم أقعدهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة مع النبي ﷺ، إذا أراد الرجل أن يهاجر أخذوا بثوبه وذرفوا الدموع وقالوا: إلى من تتركنا؟ فيرق ويقعد، ثم هاجروا بعد حين فوجدوا أن الذين سبقوهم بالهجرة قد حصلوا علماً كثيراً، فهموا بمعاقبتهم، كما جاء في أسباب النزول أن ذلك وقع لعوف بن مالك الأشجعي -رضي الله تعالى عنه، فأنزل الله هذه الآيات: وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا نهي عن معاقبتهم، وأمر بالعفو والصفح عنهم، والله أعلم.

وقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

قوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ فجاء بأقوى صيغة للحصر، إِنَّمَا أو من أقوى الصيغ، المرتبة الثانية في القوة، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، جعلهم جميعاً فتنة، الأموال والأولاد.

والفرق بين هذه الآية وقوله: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا أنه في هذه الآية ذكر أن هؤلاء ليسوا كلهم أعداء، أما الفتنة في الآية الأخرى فلا تخلو منهم بحال من الأحوال، مهما كان صلاحهم، بل لو كان الطفل رضيعاً لا يأمره ولا ينهاه ولا يتكلم لكن يبقى القلب مشغوفاً به، ولهذا قال النبي ﷺ: الولد مجبنة مبخلة محزنة[2]، مجبنة يجبنه.

ومبخلة إذا أراد أن يُنفق، ولذلك يقولون: إن الرجل إذا تزوج بدأ يفكر في النفقات وما يصرف من المال، حتى في الأمور الطيبة، مثل النفقة في سبيل الله شراء الكتب، وقبل الزواج قد لا يبالي كثيراً؛ لأنه بعد ذلك يبدأ يحسب حساب هؤلاء، والمسئوليات التي عليه، فيبقى القلب مشغوفاً، فهؤلاء الأولاد، فلا يخلو القلب من تعلق بهم، وهذه هي الفتنة.

والفتنة أنواع، ولهذا كان ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يستعيذ بالله من مضلات الفتن، لا يستعيذ من الفتن بإطلاق، باعتبار أن الأموال والأولاد فتنة، لا تخلو من فتنة، ولكن من مضلات الفتن، أعوذ بالله من مضلات الفتن، والاستعاذة من الفتن مطلقاً أمر معلوم، وجاء في كثير من النقول، وهو أمر لا ينكر.

وقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

يقول تعالى: إنما الأموال والأولاد فتنة أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، وقوله تعالى: وَاللَّهُ عِندَهُ أي: يوم القيامة، أَجْرٌ عَظِيمٌ كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [سورة آل عمران:14] والتي بعدها.

وروى الإمام أحمد عن بريدة -رضي الله تعالى عنه- يقول: كان رسول الله ﷺ يخطب فجاء الحسن والحسين -رضي الله تعالى عنهما، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله ﷺ من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما[3] ورواه أهل السنن وقال الترمذي: حسن غريب.

وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي: جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه[4].

هذه الآية كثير من أهل العلم يقولون: إنها ناسخة للآية الأخرى وهي قوله تعالى: اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [سورة آل عمران:102] والأقرب -والله تعالى أعلم- أنها ليست بناسخة وإنما مبينة، ومعنى: اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، ومعلوم أن المأمورات يأتي منها الإنسان ما استطاع، كما قال النبي ﷺ: إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم

وأما المنهيات فيجب عليه الكف عنها جميعاً؛ لأن الكف لا يتطلب من الإنسان كلفة ولا جهداً ولا بذلاً ولا عملاً، الكف أمر سلبي، لا يكاد يعجز عنه أحد، بخلاف المأمور قد لا يستطيع أن يقوم في الصلاة، تقيمه ويسقط، لكن حينما تقول: لا تأكل ولا تشرب، صُم، فما عليه إلا أن يعرض عن الطعام والشراب، حينما تقول لإنسان: لا تسرق، لا تشرب الخمر، لا تزنِ، لا تسمع المعازف ما عليه إلا أن يكف، لا يتطلب ذلك منه جهداً واقعياً عملياً يقوم به.

فالمقصود هنا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أنّ تقوى الله تكون على قدر الطاقة، ولا يبعد من هذا قول من قال من أهل العلم: إن ذلك مرتبط بما قبله، لمّا حذرهم من فتنة الأولاد والأموال وبيّن أنها فتنة، وقبل ذلك أن كثيراً من الأولاد والأزواج أعداء باعتبار ما ذكرنا، قال لهم: اتقوا الله ما استطعتم، أي فيما تحت أيديكم وقدرتكم مما لا تعجزون عنه كالهجرة فلا يقعدكم عنها الأولاد والأزواج، والجهاد والصدقة في سبيل الله وما أشبه ذلك مما تحت أيديكم، يعني أنتم باستطاعتكم أن تفعلوه فلا تتخلوا عنه بسبب إقعاد هؤلاء الزوجات أو الأولاد فيثبطوكم عن طاعة الله -تبارك وتعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وهي تماماً بمعنى الحديث: إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم.

وقوله تعالى: وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا أي: كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا تتخلفوا عما به أمرتم، ولا تركبوا ما عنه زجرتم.

وقوله تعالى: وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ أي: وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم يكن خيراً لكم في الدنيا والآخرة، وإلا تفعلوا يكن شراً لكم في الدنيا والآخرة.

كما قال الله : وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272]، أنفقوا خيراً لأنفسكم، ما تبذلونه وتقدمونه فهو عائد إليكم.

وقوله تعالى: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَتقدم تفسيره في سورة الحشر وذكر الأحاديث الواردة في معنى هذه الآية بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد والمنة.

ومن ذلك حديث أبي هريرة المشهور المخرج في الصحيحين حيث ضرب النبي ﷺ مثلاً للبخيل وللمنفق برجلين عليهما درعان من حديد، فإذا أراد البخيل أن يتصدق ضاقت عليه هذه الدرع، وبقيت كل حلقة في مكانها، فهو يريد أن يوسعها ولا تتسع، أبو هريرة يقول: "كأني أنظر إلى النبي ﷺ، ويده في جيبه وهو يريد أن يوسعها فلا تتسع"[5]، ما يستطيع أن يمد يده بالنفقة، هذا الشحيح.

وأما الجواد فإنه إذا أراد أن يتصدق صارت سابغةً هذه الدرعُ واتسعت فجاد وبذل، وكذلك أيضاً قوله: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشح قيل: هو بمعنى البخل، وقيل بالفرق بينهما، فمن أهل العلم من فرق بينهما بأن أحد هذين يرجع إلى الصفة النفسانية، والآخر إلى الفعل الناشئ عنه السلوك الخارجي، ومنهم من قال: إن الشح أشد من البخل، لأن البخل أن يبخل بما في يده، والشح: أن تطمح نفسه إلى ما في أيدي الناس، وأضاف الشح إلى النفس لشدة تعلقه بها.

ولما كان خلاصها منه -لشدة الملازمة- من الصعوبة بمكان قال: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وجاء بالإشارة إلى البعيد، وجاء بالفصل بين طرفي الكلام بالضمير المنفصل "هم" ليقوي المعنى، فهذا الأسلوب يشعر بالحصر فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كأنه لا مفلح إلا هؤلاء، وذلك أن الإنسان إذا استرسل مع الشح حمله على قطيعة الرحم وعلى عقوق الوالدين، وعلى ارتكاب الدنايا، ولم يترفع عما لا يليق، ووقع في أكل الحرام، ومنع ما أوجب الله عليه من الزكاة، والحقوق المالية، والنفقات الواجبة، ويقع بسبب ذلك من أمور تدنس الأعراض وما لا يخفى من المفاسد الكثيرة جداً التي تفسد على الإنسان دنياه وآخرته.

وإذا صار الإنسان يبذل ما في يده وينفق في سبيل الله انشرح صدره وتسمو النفس عالياً وتكون مهيأة لفعل الخيرات عموماً، ويعيش الإنسان محلقاً مرتبطاً بالله والدار الآخرة، وهذا شيء مشاهد، الإنسان حينما يبذل ويعطي وينفق تسمو نفسه وترتفع، ويشعر بارتفاع كبير، وحينما يمسك ما في يده نفسه تنسفل وتضيق، ويضيق صدره، ويقع في ألوان من الحرج النفسي، وأيضاً الحرج فيما يلحقه في ذمته من جهة الله -تبارك وتعالى- ومن قِبَل المخلوقين.

وقوله تعالى: إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي: مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وما تصدقتم من شيء فعليه جزاؤه، ونزّل ذلك منزلة القرض له، كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول: من يقرض غير ظلوم ولا عديم[6]، ولهذا قال تعالى: يُضَاعِفْهُ لَكُمْ كما تقدم في سورة البقرة، فيضاعفه له أضعافاً كثيرة، وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي: ويكفر عنكم السيئات ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ شَكُورٌ أي: يجزي على القليل بالكثير، حَلِيمٌ أي: يصفح ويغفر ويستر ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات.

ولا يعاجل بالعقوبة، وقوله: وَاللَّهُ شَكُورٌ قال: يجزي على القليل بالكثير، وأصل معنى الشكر الظهور، وهو ظهور أثر النعمة على المنعم عليه، هذا شكر العبد لربه، ولهذا يقال: شَكَرت الأرضُ بمعنى أخرجت النبات بعدما نزل عليها المطر، ويقال: شكرت الدابة إذا ظهر عليها أثر السمن من العلف أو المرعى.

ويقال للعُسلوج: وهو الغصن أو الفرع الصغير الذي يخرج من الشجرة إذا قُطعت يقال له: شكير؛ لأنه ظهر وخرج بعد أن لم يكن، فهذا هو أصل معنى الشكر، وشكر العبد للرب ظهور أثر النعمة عليه بيده وقلبه ولسانه، فالله تفضل وأنعم فيظهر أثر ذلك على لسان العبد باللهج بحمده والثناء عليه، والاعتراف بنعمته، وبقلبه باستحضار النعمة، وبجوارحه بالعمل في طاعته، والشكر يكون من الله للعبد كما قال: وَاللَّهُ شَكُورٌ بمعنى أنه يجازي على الحسنات إحساناً، ويضاعف ذلك ولا يُنقص من أجره شيئاً.

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تقدم تفسيره غير مرة.

آخر تفسير سورة التغابن ولله الحمد والمنة.

العزيز الذي لا يغالب، والحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، والجمع بين الاسمين يفيد وصفاً ثالثاً وهو أن عزته مقرونة بالحكمة؛ لأن العزة كثيراً ما تحمل صاحبها على الطيش والسفه، والظلم والتعالي على الخلق، وأما الله -تبارك وتعالى- فإن عزته مقرونة بحكمة، يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، كما جاء في قوله مثلاً: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة التغابن:6]، الغِنَى يحمل كثيراً على البطر والطغيان والإفساد وأما الله -تبارك وتعالى- فإنه محمود في غناه، وهكذا.

  1. الولد وليس الوالد.
  2. رواه أبو يعلى في مسنده برقم (1032)، وعبد الرزاق في المصنف برقم (20143)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (4764).
  3. رواه الإمام أحمد في المسند برقم (22995)، وقال محققوه: إسناده قوي، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (5610)، وابن حبان في صحيحه برقم (6039)، وقال الأرنؤوط: إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7205).
  4. رواه البخاري، بلفظ: دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ، برقم (6858)، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337)، وفي كتاب الفضائل، باب توفيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك.
  5. رواه البخاري، ولفظه: مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثدييهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق شيئاً إلا مادت على جلده حتى تُجِنَّ بنانَه وتعفوَ أثره، أما البخيل فلا يريد إلا لزمت كل حلقة موضعها فهو يوسعها فلا تتسع، ويشير بإصبعه إلى حلقه، كتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق والأمور، برقم (4993)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب مثل المنفق والبخيل، برقم (1021).
  6. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، برقم (758)، من حديث أبي هريرة .

مواد ذات صلة