السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الآية:10
تاريخ النشر: ٢٧ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 9001
مرات الإستماع: 4738

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد.

اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أي: بديع السماوات والأرض.

وقال الضحاك: كل شيء في القرآن فاطر السماوات والأرض فهو: خالق السماوات والأرض.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ حمد -تبارك وتعالى- نفسه هنا على كونه فطر السماوات والأرض وخلق الملائكة بهذه الأوصاف الكاملة، وهذا الحمد لنفسه -تبارك وتعالى- في خلق السماوات والأرض جاء في القرآن تارة باعتبار أنها دالة على عظمته وتقدست أسماؤه- كما في سورة الأنعام في قوله -جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ هذه المادة تدل على الإيجاد الذي يكون مبتدأً على غير مثال سابق فهو أخص من الخلق، الخلق بمعنى الإيجاد والإنشاء، وتارة يكون بمعنى التقدير.

وقوله -تبارك وتعالى: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الحشر:22-24]، فالخالق هناك في سورة الحشر بمعنى المقدر، والبارئ هو الموجد من العدم لئلا يكون ذلك تكراراً، والمصور هو الذي أعطى هذه المخلوقات الصور والهيئات والأشكال التي تليق بها وتميزها عن غيرها، إذاً الفطْر أخص من الخلق، يدل على الابتداء والاختراع على غير مثال سابق، ولهذا هذه الأقوال أنا فطرتها أنا بدأتها أي: بديع السماوات والأرض، كل هذا يرجع إلى معنى واحد. 

وأما ما ذكره الضحاك: كل شيء في القرآن فاطر السماوات والأرض فهو: خالق السماوات والأرض فهذا تفسير له بما يقاربه ولكنه ليس بما يطابقه؛ إذ الفطر أخص من مطلق الخلق، وقول الضحاك هذا يقال له: كليات القرآن، كل كذا فهو كذا، يعني كل كذا في القرآن فهو كذا، هذا يسمى الكليات، وهو نوع من قواعد التفسير، إلا أنه مبتدأ بصيغة كل كذا في القرآن فهو كذا، والقواعد لا يلزم منها أن تكون كذلك، ولكن هذه الكلية باعتبار اللفظ يجب أن تكون مطابقة لجميع الجزئيات، أما القواعد فهي قضايا كلية أغلبية، أما هذه فلا يصح أن تكون أغلبية، ولهذا لابد فيها من التصريح والاستثناء إن وُجدت استثناءات.

والواقع أن هذه -كما سبقت الإشارة في بعض المناسبات- على ثلاثة أنواع:

  • نوع صحيح أنه كلي بمعنى لا يستثنى منه شيء أصلاً.
  • ونوع يستثنى منه المثال والمثالان، لابد أن يقال إلا كذا.
  • ونوع لا يصح أن يقال، كما يقولون: كل ريح في القرآن فهي عذاب وكل رياح فهي رحمة هذا بالاستقراء غير صحيح، وبعضهم يستثني من هذا استثناءً كأن يقول: إلا قوله -تبارك وتعالى: وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ [سورة يونس:22]، يقول: إلا هذا المثال.

والواقع أن المستثنى ليس فقط هذا المثال بل قد يخرج منه أشياء على بعض القراءات، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- بهذه السورة، والطريق في معالجة مثل هذا هو الاستقراء والتتبع والتريث وعدم التعجل، يعني قد تجد هذا في أول وهلة حينما تقرأ على قراءة حفص تجد الأمثلة تحتاج إلى النظر في معانيها، لكنك أيضاً تحتاج إلى النظر هل يوجد قراءات أخرى أو لا؟

فقد تجد على قراءة أخرى الريح: الرياح قراءة متواترة، يدخل في ضبط الكلية هذا أن كله قرآن، وهذه القراءات إذا قلنا: الريح والرياح بمعنى واحد فهي آية واحدة، أما إذا تعددت المعاني وصحت القراءة فهي بمنزلة الآيتين، ولو كان كذلك -مع أنه ليس كذلك في هذا المثال- فهذا كله قرآن يحتاج أن يُتتبع، يقال: كل كذا في القرآن إلا أن تقيد تقول: كل كذا على قراءة حفص، وهذا لا يتأتى؛ لأن قراءة حفص هذه هي اختياره فقط من مجموع أوجه في القراءة.

يعني انظر مثلاً في قوله: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ في هذه السورة في القراءة الأخرى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ هذه قطعاً ليست عذاباً، هذا امتنان من الله -تبارك وتعالى- بإنزال المطر "فأحيينا به الأرض بعد موتها" وهو تعليم لهم، أو هو احتجاج على البعث بإحياء الأرض بعد موتها.

وقوله: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أي: بينه وبين أنبيائه، أُولِي أَجْنِحَةٍ أي: يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعًا مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ أي: منهم مَنْ له جناحان، ومنهم مَنْ له ثلاثة، ومنهم مَنْ له أربعة، ومنهم مَنْ له أكثر من ذلك، كما جاء في الحديث: أن رسول الله ﷺ رأى جبريل ليلة الإسراء وله ستمائة جناح[1]، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب؛ ولهذا قال: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قال السدي: يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء.

في قوله: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً قال: أي بينه وبين أنبيائه، الملائكة جعلهم الله رسلاً هذا نوع من الملائكة ومعلوم أن من الملائكة من لهم أعمال أخرى، منهم من يختصون بعبادته والتقرب إليه فهم مشتغلون بالعبادة فحسب، ومنهم من يقومون بأعمال غير ذلك، منهم حملة العرش، ومنهم من وُكل بالأرواح، ومنهم من وكل بالأرزاق، ومنهم من وكل بالوحي وهم الرسل بين الله وخلقه.

وقوله -تبارك وتعالى: "مثنى وثلاث ورباع" ليس ذلك للحصر، يعني الملائكة -عليهم الصلاة والسلام- منهم من له أجنحة كثيرة كما جاء في الحديث المتقدم، ولهذا قال: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ فالجمهور من المفسرين على أن ذلك يرجع إلى خلق الملائكة يرجع إلى ما قبله يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ يعني في خلقهم فيكون له أجنحة أكثر من أربعة وذلك لا يعلمه ولا يحصيه إلا الله -تبارك وتعالى- هذا الذي عليه عامة المفسرين.

وبعضهم يقول: لا يختص ذلك بالملائكة بل هو أعم من هذا يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ والسلف ذكروا أشياء يصلح أن تكون من قبيل التفسير بالمثال، وأنهم لا يريدون ذلك التحديد والحصر، كقول بعضهم مثلاً: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ العقل وحسن النظر في الأمور، وبعضهم يقول: حسن الخط، وهذه تارة تكون موهبة، وتارة تكون بالتعلم والممارسة والاكتساب، فالناس يتفاضلون فيها، أكثر العلماء خطوطهم سيئة مثلاً.

فابن جرير -رحمه الله- جمع بين المعنيين، وهذا من قبيل التفسير بالمثال لا يريدون بها الحصر، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ الخط الحسن لا يقصد الحصر بهذا وإنما كمثال على هذه الزيادة، ومن ثم لا يصلح أن نجعل هذه أقوالاً في التفسير ثم نحتاج إلى الترجيح بينها.

لكن الخلاف بين المفسرين هل ذلك يرجع إلى الملائكة أو أنه أعم من هذا يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ في خلق الملائكة وفي غير الملائكة؟

الجمهور على أن ذلك يرجع إلى الملائكة، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، لأنه لما ذكر "مثنى وثلاث ورباع" مع أن الملائكة لا ينحصرون في هذا لا ينحصر خلقهم في هذا فقال: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ كما قال في النجوى: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [سورة المجادلة:7] يتبادر: إذا كانوا عشرة مثلا؟ قالوا: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ وفي غيرهم -غير الملائكة.

وأما القول: إنه في غير الملائكة، فهذا بعيد، أقصد لو أنه قصر ذلك بغير الملائكة؛ فالحديث عن الملائكة.

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة فاطر:2].

يخبر تعالى أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.

روى الإمام أحمد عن ورَّاد -مولى المغيرة بن شعبة- قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: اكتب لي بما سمعتَ من رسول الله ﷺ، فدعاني المغيرة فكتبت إليه: إني سمعت رسول الله ﷺ إذا انصرف من الصلاة قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ، وسمعته ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وعن وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومَنع وهَات[2]، وأخرجاه من طرق.

وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماء والأرض وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهلَ الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجدّ[3].

وهذه الآية كقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [سورة يونس:107]، ولها نظائر كثيرة.

الشاهد في هذه الأحاديث التي ذكرها قوله: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، وذُكر تفسيراً لقوله -تبارك وتعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وهذا كقوله -تبارك وتعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا، هذه الرحمة تحمل على أعم معانيها مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا رحمة: هنا هذا اللفظ منكّر جاء في سياق الشرط "ما يفتح الله للناس من رحمة"، جاءت في سياق الشرط أليس كذلك؟ وسبقت بمن، والنكرة في سياق الشرط تكون للعموم، فإذا سبقت بمن فذلك ينقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، يعني تكون نصاً في العموم وليست ظاهرة فيه.

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا فهذه الرحمة يدخل فيها صور كثيرة، كل رحمة فهي داخلة في هذا: الوحي وإنزال الكتب، مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [سورة الشورى:52] الآية الأخرى وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا [سورة القصص:46]، وكذلك إرسال الرياح وإنزال المطر وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [سورة الأعراف:57]، فالمطر رحمة من الله -تبارك وتعالى- يرسلها، وإذا أراد إرسالها وأن يفتح بها فلا يستطيع أحد أن يحجزها ويردها أو أن يمسكها وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ [سورة الشورى:28] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى، وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [سورة القصص:86] فهي أعظم رحمة وهي إنزال الكتب.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [سورة فاطر:3].

ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك فَليُفرد بالعبادة، ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان؛ ولهذا قال: لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، أي: فكيف تؤفكون بعد هذا البيان، ووضوح هذا البرهان، وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان؟

قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ كقوله -تبارك وتعالى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يقول: أي فكيف تؤفكون بعد هذا البيان؟ تُؤْفَكُونَ، بعضهم يقول: هذا من الإفك بمعنى الصرف فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [سورة يونس:32] عن عبادته وهو الخالق المنعم المتفضل الرازق، وبعضهم يقول: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ من الإفك وهو الكذب، يعني كيف تكفرون وتكونون بهذه المثابة من ادعاء الشركاء والأنداد له -تبارك وتعالى؟ أو كيف يقع لكم التكذيب مع هذه الدلائل على وحدانيته -تبارك وتعالى- فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أن يقع لكم التكذيب؟ ولكن الأول هو المتبادر والأقرب والأليق بالسياق -والله تعالى أعلم، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أن تُصرفوا عن طاعته وعن عبادته وتوحيده ؟

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ۝ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ۝ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر:4-6].

يقول: وإن يكذبك -يا محمد- هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة، فإنهم كذلك جاءوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ أي: وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء.

وفيه أيضاً وعيد، وعيد مغلف يعني هؤلاء الذين يكذبون سيجازيهم الله ويحاسبهم، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۝ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [سورة الغاشية:25، 26]، أيضاً سيجزيك الله -تبارك وتعالى- على هذا البلاغ والصبر والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- فلا يضيع من أجرك شيء، إن عليك إلا البلاغ، فأجرك على الله موفور وثابت لا ينقصه تكذيبهم وإعراضهم، فما عليك إلا أن تقوم بهذه الوظائف الشريفة وتبلغ عن الله ، وهذا يكون للنبي ﷺ ويكون للدعاة من بعده.

ثم قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: المعاد كائن لا محالة، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أي: العيشة الدنيئة بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم فلا تَتَلهَّوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ وهو الشيطان، قاله ابن عباس، أي: لا يفتننكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته فإنه غرَّار كذاب أفاك، وهذه الآية كالآية التي في آخر لقمان: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [سورة لقمان:33].

الغَرور بالفتح هو الشيطان، وهذا اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، وأما الغُرور بالضم فهو مصدر غر يغر غروراً وهو كل ما صرف الإنسان واستهواه وزين له أمراً يستهويه به فصده عما هو بصدده من اتباع الحق ونحو ذلك يقال له غرور، اغتر بشيء لا حقيقة له.

أما قوله: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فهي مزرعة للآخرة، ومعبر وليست دار إقامة، وإنما هي دار فناء فلا تغتروا بها، إنما يُتبلغ بها إلى الآخرة من أجل تحصيل المنازل فيها لا أن تكون محل اشتغال، يعني عن الآخرة.

ثم بين تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي: هو مبارز لكم بالعداوة، فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ أي: إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين، فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان، وأن يرزقنا اتباع كتابه، والاقتفاء بطريق رسوله، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وهذه كقوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [سورة الكهف:50].

قوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا اتخذوه: أضفنا في بعض المناسبات أن الاتخاذ يدل على مزيد من عناية الشيء أن اتخذ، يقول: اتخذت فلاناً صاحباً، اتخذت الشيء الفلاني طعاماً، اتخذت المكان الفلاني، اتخذت المسجد مجلساً ونحو هذا، فهنا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته فهو عدو لا يفتر يتربص بك في كل حالاتك، وتربُّصه ووساوسه وخواطره وتزيينه بقدر الأنفاس، فجد واجتهد وكن على حذر دائم، لا تفتر.

واقع كثير من الناس أنهم اتخذوه ولياً وصاروا من حزبه، والله -تبارك وتعالى- قد قص ذلك مفصلاً في خبره مع أبينا آدم ﷺ: وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ [سورة النساء:119] فهو يتوعد ويتهدد، صار كثير من الناس بطاعتهم له واستجابتهم لتزيينه صاروا من حزبه وأوليائه، فكيف يُتخذ هذا العدو، كيف يُتخذ متبوعاً ومطاعاً وتترك طاعة الله وعبادته؟!

فالله -تبارك وتعالى- لعنه وطرده وأخرجه من الملأ الأعلى؛ لأنه امتنع عن سجدة لأبينا آدم ﷺ، أبَى هذا التكريم لأبينا آدم فلعنه وطرده، ثم بعد ذلك تُترك عبادة الله ويتبع هذا الشيطان و يطاع ويعبد من دون الله -تبارك وتعالى- فهذا لا شك أنه أعظم الكفران والجحود للمنعم المتفضل وتقدست أسماؤه، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ترى المخاوف التي يلقيها قلبك هي من الشيطان فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا هذا يقول عندي رهاب اجتماعي، عندي خوف ما أستعجل مع الناس أشعر بارتباك هذا من الشيطان، ما أستطيع أن ألقي كلمة، ما أستطيع أن أصلي بالناس، أصلي وركبي تتحرك، هذا من الشيطان ليثنيك ليقعدك فلا تستجب له، والله المستعان.

وبعض أهل العلم يقول: إنه لا يقيد ليقال هذا، والذي يظهر أنه لا إشكال فيه، ودليله إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ [سورة الشورى:29] وكل شيء بمشيئته، فالإطلاق أن يقال مثلاً: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذا هو الغالب، ولو قال: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذا استعمال لا إشكال فيه وهو استعمال صحيح، لكن قدرته على كل شيء، على ما شاء وما لم يشأ تعلقت به القدرة يعني لو شاءه كان قادراً عليه، لم يخلق الله إنساناً مثلاً له قلبان مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [سورة الأحزاب:4] لكن لو شاء فهو قدير.

فيفهم المعنى أن القدرة لا تتعلق بما تعلقت به المشيئة فقط، لا تنحصر في هذا، وإنما قدرته -تبارك وتعالى- مطلقة: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهذه الممكنات القدرة متعلقة بها، قادر أن يخلق أكثر مما خلق، أن يخلق مخلوقاً آخر غير الإنسان والنبات والحيوان والجماد، خلق الناس عدد الناس قادر أن يخلق الضعف مثلاً أليس كذلك؟ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فلا يختص ذلك بما تعلق بالمشيئة، هل هي صحيحة؟

بعض أهل العلم يعترض على مثل هذه العبارة وتجدون مثل هذا في بعض شروح كتب التوحيد، والواقع أنه لا شيء فيها إذا فهم المراد، يختلف ولكن من جهة المعنى هو على جمعهم وإن لم يشأ قدير أو غير قدير؟ هو قدير، فهذا التقييد صار لا إشكال فيه فهنا من هذا الباب وإن كان هذا موضوع، وهذا موضوع لكن هذا فرد من الأفراد التي تعلقت بها القدرة مثلاً، مثال هذا هو الغالب عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وإذا قال: على ما يشاء قدير لا يقال: هذا غلط، والله أعلم.

الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ۝ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [سورة فاطر:7، 8].

لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السعير ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد؛ لأنهم أطاعوا الشيطان وعَصَوا الرحمن، وأن الذين آمنوا بالله ورسله وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي: لما كان منهم من ذنب، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ على ما عملوه من خير.

هذا الذي يذكره ابن كثير هنا هو الذي يسمى بعلم المناسبة فهو وإن لم يصرح ويقول المناسبة بين الآية والتي قبلها أو المقطع والذي قبله لكنه يذكر هذا كثيراً، حتى بعض من ينكر هذا ويقول: إن الاشتغال به اشتغال عن المقصود مثل الشوكاني يكثر من ذكر المناسبة وإن لم يصرح أنها مناسبة فهذا وجه الارتباط بين الآية والتي قبلها هو نوع من المناسبة يقول: لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السعير ذكر بعد ذلك أن الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.

ثم قال: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا يعني: كالكفار والفجار، يعملون أعمالا سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون أنهم يحسنون صنعًا، أي: أفمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه.

لاحظ هنا أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فالذي زَين له سوء العمل هو الشيطان كما وعد بذلك، وهذا التزيين يكون تارة بالوعد بالمغفرة وسعة رحمة الله ، وتارة يكون بتزيين الباطل فيكون حسناً في نظر صاحبه وهذا يكون حال انعدام البصيرة فتنعكس المقاييس والموازين في نفس هذا الإنسان وفي نظره فيرى الباطل حقاً ويرى الحق باطلاً وبهذا تفترق الخليقة، وكما ترون في هذا العالم من هذا التباين العجيب فهذا يبذل ماله وجهده وكل ما يستطيع في نشر الباطل والدعوة إليه ومحاربة الفضيلة، وذاك يبذل كل مستطاع في سبيل الدعوة إلى الحق وتحكيم شرع الله في الأرض، وأن يوحد وأن يعبد دونما سواه.

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًاوهنا لاحظ هذا الاستفهام الذي هو مضمن معنى الإنكار أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ذهبت نفسك عليه حسرات، يعني ينكر أن يكون كذلك، يعني هذا الذي حصل له طُمست بصيرته فرأى عمله حسناً تذهب نفسك عليه حسرات؟ دعه، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا كمن هداه الله؟ وبعضهم يقول: كمن لم يزين له؟

وهذه ليست بعيدة -هذه التقديرات، لكن يفهم أن هناك مقدراً يعلم من السياق، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا كمن لم يكن كذلك فمن يهديه مثلاً؟ أو كمن هداه الله ؟ أو ذهبت نفسك عليه حسرات؟ هذه كلها مقاربة، والله تعالى أعلم.

فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أي: بقدره كان ذلك، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ أي: لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره، إنما يُضل من يُضل ويهدي من يهدي، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام؛ ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.

قوله تعالى هنا: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، قال: أي لا تأسف على ذلك وهذا تفسير بالمقارب، تفسير بالمعنى، وأصل الحسرة شدة الاغتمام والحزن على ما فات، الحزن الذي ينقطع له القلب؛ لأن أصل هذه المادة يدل على الانقطاع، ومنه قول الشاعر:

بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

في وصف الإبل المنقطعة في مرات واسعة، فالإبل كما هو معروف يحصل لها انقطاع مع طول المسير يقال: حَرنتْ، كما قالوا: خلأت القصواء؟ قال: ما خلأت القصواء وما كان لها بخُلُق[4]، خلأت يعني انقطعت من طول المسير كلّت وتعبت وحرنت، هذا معروف في حال الإبل من طول التعب والمسير، حرنت لا تقوم ولو أحرقت بالنار، لو أحرقت بالنار ما تقوم حتى تشاء فإما أن تترك فتموت في مكانها، وإما أن تنحر وإما أن يجلس عندها صاحبها يعلفها، يجمع لها العلف ويأتيها بالماء يتلطف بها ويزيل عنها القراد، ويمسح عليها حتى يطيب خاطرها، بعد أسبوعين أقل أو أكثر الله أعلم متى ما شاءت قامت ولو أحرقت بالنار ما تقوم بالخشب من تحتها والرجال يحملونها وتقع فيتركونها أو ينحرونها

بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

 يابسة متقرمشة، يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4] فهذه الحسرة شدة الاغتمام والحزن على ما فات ينقطع لها القلب وهذا أمر لاشك أنه يشغل القلب ويضعفه ويضعف قواه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن تتابع الحزن على القلب يثقله ويقعده ويشغله عن ما هو بصدده، فهو غير محمود إلا إن كان من جراء الآخرة، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34] على أحد المعاني فيكون محمولاً على هذا المعنى، أما ما عدا ذلك فإن الأحزان لا خير فيها، أما الرجوع إلى شريط الأحزان في الماضي واجترار ذلك دائماً، وتذكر المواقف الصعبة والأمور المؤلمة فإن هذا ليس من شأن العقلاء؛ لأن ذلك ينقبض له القلب وتضعف قواه فلا ينتفع بشيء، إنما هو الانطلاق وأن ينظر الإنسان إلى ما يستقبل ولا يلتفت إلى ما مضى إلا على سبيل المحاسبة فقط.

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ۝ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ۝ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [سورة فاطر:9-11].

كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها -كما في أول سورة الحج- ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [سورة الحج:5]، كذلك الأجساد، إذا أراد الله سبحانه بعثها ونشورها أنزل من تحت العرش مطرا يعم الأرض جميعًا فتنبت الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض؛ ولهذا جاء في الصحيح: كل ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خُلق ومنه يُركّب[5]؛ ولهذا قال تعالى: كَذَلِكَ النُّشُورُ.

وفي حديث أبي رَزِين: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: يا أبا رزين، أما مررت بوادي قومك مُمحِلا ثم مررت به يهتز خَضِرًا؟ قلت: بلى. قال: فكذلك يحيي الله الموتى[6].

في الحديث: الحبة في حميل السيل[7]، النبتة الخضراء الصغيرة التي تنبت في مجرى فيما يحمله السيل فتنبت نبتة قرأها باعتبار الحديث، فتلك نبتة خضراء صغيرة تكون منثنية صفراء في البداية ثم بعد ذلك تبدأ في حميل السيل، ما يحمله السيل من أشياء كما هو معروف فتنبت فيها حبة يقال لها حِبة، وأما الحب فواحدها حبة، فهذه إذا بذرت في الأرض بذوراً يقال لها: حبة، كما تنبت الحبة في الأرض فلا حاجة إلى تخصيصها -والله تعالى أعلم- هنا بكلام ابن كثير -رحمه الله، الحبة.

وقوله -تبارك وتعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ كما سبق في قوله: أَرْسَلَ الرِّيَاحَ في قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ، وهذا في مقام الاحتجاج على البعث والنشور هذا أحد الأنواع التي وردت في القرآن في مواضع على الاستدلال على البعث، الاحتجاج والاستدلال بإحياء الأرض بعد موتها، خروج النبات بنزول المطر، والأنواع الأخرى معروفة في سورة البقرة مثلاً في طيور إبراهيم وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [سورة البقرة:260]

وكذلك أيضاً في قتيل بني إسرائيل في سورة البقرة فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى [سورة البقرة:73]، وكذلك الذي مر على قرية في سورة البقرة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [سورة البقرة:259] إلى غير ذلك.

فأخبار الإحياء كذلك في الصعقة التي حصلت لبني إسرائيل في نفس سورة البقرة فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:55، 56] على أحد القولين أن هذه الصعقة صعقة موت وهذا هو الراجح لقوله: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم كل هذه أدلة في سورة البقرة فقط على إحياء الموتى إلى غير هذا من الأدلة مثل إخراج النار من الشجر الأخضر، وكذلك بالاحتجاج إلى خلق السماوات والأرض والأجرام العظام، وكذلك بالاحتجاج بالنشأة الأولى "كما بدأنا أول خلق نعيده" أنواع من الأدلة في القرآن على البعث والنشور؛ لأن المشركين كانوا يكذبون بذلك فهذا أحد هذه الأنواع، فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا فهي عملية إحياء تتكرر ونشاهدها لكن لا نعتبر بذلك.

وقوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا أي: مَنْ كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعها، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [سورة النساء:139].

وقال تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [سورة يونس:65]، وقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة المنافقون:8].

قال مجاهد: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ بعبادة الأوثان، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.

وقال قتادة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا أي: فليتعزز بطاعة الله .

هذه الأقوال متقاربة، وكذا ما لم يذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في معنى قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إلا أن بعضها لا يخلو من بعد، كقول بعضهم: إن المراد بذلك مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ أي علم العزة، يعني يريد أن يعلم لمن تكون العزة، وهذا بعيد، وإنما ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: "من كان يحب أن يكون عزيزاً في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى فإنه يحصل له مقصوده"، من كان يريد العزة فهذا بمعنى قول من قال: من كان يطلبها مثلاً بعبادة الأوثان، وهكذا حينما نقول: نطلب ذلك باتخاذ الكافرين أولياء كما قال الله  عن المنافقين: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ [سورة النساء:139]، فإن العزة لا تطلب من فاقدها، فإن هؤلاء أذلاء كما وصفهم الله لاسيما أهل الكتاب في قوله -تبارك وتعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة:61]، فهذا في أهل الكتاب، ولا تختص باليهود، سياق الكلام في بني إسرائيل، وبنو إسرائيل يشمل اليهود والنصارى.

فكل من ترك عبادة الله فهو ذليل، وإن كان أكثر كلام أهل العلم إنما يدور على اليهود، ولكن الكفار كذلك ليسوا أعزاء فالعزة لله جميعاً، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ، فكلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله: من كان يحب أن يكون عزيزاً يعني مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ يعني يريد أن يكون عزيزاً فالطريق إليها بطاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله ﷺ بالتوحيد وتحقيق العبودية، فكلما كان محققاً للعبودية أكثر كانت عزته أكثر لرسوله وللمؤمنين.

ومعلوم أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فعلى قدر ما يستقر في قلب العبد من التقوى والخوف من الله والذل له والعبادة تكون عزته بقدر ذلك، وإن لم يكن له سلطان كما هو معروف في أخبار أهل العلم وتراجمهم، منهم من كان السلطان إذا دخل عليه هذا العالم يقول: كأنه أسد قد دخل عليّ، ويكون في حال الخوف والخضوع لهذا العالم.

فالمقصود أن الذل يكون بمعصيته ومخالفة أمره كما جاء عن الحسن: وإن طقطقت بهم البراذين إلى آخره -هملجت بهم البراذين- لا يزال ذل المعصية على وجوههم، فهي قضية تزيد وتتفاوت حسب هذا الحال، حينما يتفاوت حال الإنسان وذلك بضعف تقواه بربه فهذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير.

وهذا الذي اختاره ابن القيم وما ذكر هنا عن قتادة -رحمه الله مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ أي: فليتعزز بطاعة الله ، وهكذا ما قاله مجاهد: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ بعبادة الأوثان، يعني أنه قد أخطأ الطريق فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وليست لهذه الأوثان فلا تطلبها من فاقدها، وإنما توجه إلى عبادة الله -تبارك وتعالى- تحصل لك العزة، بهذا لا إشكال، هذا في اليهود بسبب اتخاذهم العجل لكن هذا لا يختص باليهود، يقصد الذل فإن الذل يكون لكل من خالف أمره -تبارك وتعالى- كما قال النبي ﷺ: وجعل الذل والصغار علي من خالف أمري[8]، فهذا يشمل اليهود والنصارى فهذه قوى الكفر اليوم وإن كانت ممكّنة في الظاهر فالواقع أنهم في غاية الذل؛ لأن هؤلاء قلوبهم مظلمة، ولا يمكن أن يكون هؤلاء أعزاء ولا يمكن أن يحصل منهم العز. 

ولقد رأيتم حال أولائك الذين يتعززون بهم فأرانا الله بهم آية كبرى في هذا العصر ما كنا نظن أن نعيش حتى نشاهدها، هذا في قفص، وذاك يجرجر ويضرب ويلطم ثم بعد ذلك يموت شر ميتة، ميتة السوء والمنقلب ومنظر السوء وحال السوء -نسأل الله العافية، اجتمعت فيه الأربع هذه كلها، صار عدوه يشفق عليه، والثالث فر حتى صار يبحث عن مكان يأوي إليه، نسأل الله العافية، هؤلاء الذين تعززوا بالأذلاء وطلبوا العزة من غير الله فصاروا في حال من الذل، واعتبِروا بباقي أحوالهم ألا ترون أن هؤلاء يبقون على ما هم عليه من الباطل ومحادة الله ومحادة رسوله ﷺ، ولا يتوبون.

فهؤلاء كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:201، 202] يعني إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202] ما يحصل له توبة إلى آخر ما فسر، كحال هؤلاء الذين يموتون على الضلال ومحاربة الله، ومحاربة رسوله، أما الأحياء فالله أعلم بحالهم وما يصيرون إليه لكن من مات على محاربة الله ومعاندته -نسأل الله العافية- فهؤلاء كما قال الله -تبارك وتعالى.

وأهل الإيمان حينما يرون هذا يتعجبون ألّا يتوب هذا! ألّا يستدرك! إلا ما علموا أن الشياطين تمدهم وتزين لهم وتغويهم ثم لا يقصرون، يعني لا يحصل منه رجوع ولا يرعوي ولا يتوب إلى آخر نفس -نسأل الله العافية، وهو مقيم على شر حال إلا من لطف الله به ورحمه، والله المستعان.

وقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يعني: الذكر والتلاوة والدعاء، قاله غير واحد من السلف.

الكلم الطيب هنا يشمل ما ذكر هنا، والتلاوة والدعاء، معظم الذكر كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، ويدخل في الذكر أيضاً قراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ، فكل ما يتصل باللسان من هذا فهو داخل في قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فهو من جملة الكلم الطيب، كل معروف من الكلام كل طيب منه فهو داخل في ذلك، النبي ﷺ يقول: الكلمة الطيبة صدقة[9]، فأعلى الكلم الطيب لا إله إلا الله، ويدخل في ضمنه أيضاً قراءة القرآن، والأذكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أشبه ذلك.

وروى ابن جرير عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه المخارق بن سليم قال: قال لنا عبد الله -هو ابن مسعود- إذا حدثناكم حديثا أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله: إن العبد المسلم إذا قال: "سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله"، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه، ثم صَعد بهن إلى السماء فلا يمُرّ بهن على جمْعٍ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الرحمن ، ثم قرأ عبد الله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[10].

هذا روي موقوفاً ومرفوعاً، ولا يصح رفعه إلى النبي ﷺ، وأما الموقوف فبعض أهل العلم ضعفه، وبعضهم حسنه، والمسألة اجتهادية.

وروى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: الذين يذكرون من جلال الله، من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله، يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يُذكِّرن بصاحبهن، ألا يحب أحدكم ألّا يزال له عند الله شيء يذكر به؟[11]، وهكذا رواه ابن ماجه.

وقوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الكلم الطيب: ذكر الله، يصعد به إلى الله، ، والعمل الصالح: أداء الفرائض، ومن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عملهُ ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله ، ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رُد كلامه على عمله، فكان أولى به.

خلاصة هذا الذي قاله ابن عباس -رضي الله عنهما- أن القول لا ينفع بلا عمل، وأن الكلم الطيب وحده إن لم يكن معه عمل صالح يصدقه فإن ذلك الكلم لا ينفع صاحبه، هذا هو المراد أنه لابد من العمل الصالح، فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فلا ينفع كلمٌ بلا عمل، فهذا معنى هذا القول.

والآية تحتمل هذا المعنى -وهذا مشهور- وتحتمل غيره، ويمكن أن تحمل على هذه المعاني، وذلك أن الضمائر فيها محتملة له إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، فالضمير يرجع إلى العمل الصالح أو يرجع إلى الكلم الطيب، أنه الكلم الطيب يرفع العمل الصالح، أو أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو العمل الصالح يرفع الكلم الطيب هذا بناء على قاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور.

وخلاصة أقوال أهل العلم: أن بعضهم يقول: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب كما سبق عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وهذا قول أكثر السلف -رضي الله تعالى عنهم- تلاميذ ابن عباس سعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة والضحاك، وقال به آخرون كالحسن البصري وأبي العالية وأمثال هؤلاء، وهو اختيار كبير المفسرين أبي جعفر بن جرير -رحمه الله- أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فكلم بلا عمل لا يفيد، لابد من عمل يرفع هذا الكلم.

وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى الكلم الطيب فهو الفاعل، ليرفعه الكلم الطيب، والمفعول هو العمل الصالح وذلك عند القائل به أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان فيكون الكلم الطيب هو شهادة أن لا إله إلا الله، فبذلك يقبل العمل ويرتفع إذا وجد الإيمان، ففسر الكلم الطيب بالإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، قال: هذا الذي يرفع العمل، فالعمل بلا إيمان لا ينفع.

وبعضهم يقول: ذلك يرجع إلى الله، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه الله.

وبعضهم يقول: إن هذا الرفع من قبل الله أنه يرفع الكلم الطيب، يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب؛ لأن الفعل يصدق القول يعني الرفع هنا ليس معناه الصعود إلى الله -تبارك وتعالى- وإنما بمعنى المفاضلة، تفضيل إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ على الكلم، يرفعه الله على الكلم الطيب، وهذا القول فيه بُعد -والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول -وهو أبعد مما قبله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ يعني يرفع صاحبه، فيكون الضمير في يرفع راجعا إلى غير مذكور، لكن غير المذكور هذا ينبغي أن يكون مفهوماً من السياق، وهنا السياق لا يدل عليه، يعني من قال: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فيكون عزيزاً، يرفع صاحبه، يرتفع بالعمل الصالح، أرشد إلى طريق العزة بالأعمال الصالحة، وهذا بعيد -والله تعالى أعلم.

وبعضهم فسر بعض العمل الصالح بمعنى القبول، ولكن ثبت عن النبي ﷺ: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار[12]، وكذلك ما جاء بالأحاديث التي فيها رفع في الأعمال، الرفع على ظاهره.

فيبقى عندنا قولان هما الأشهر في تفسير الآية:

الأول الذي عليه الأكثر: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، هذا القول الأول الذي عليه عامة الجمهور.

والقول الثاني: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح، فهذان قولان إذا أردنا الترجيح نرجح الأول باعتبار أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأن الكلم الطيب لا يختص بلا إله إلا الله، وإنما كل كلم طيب، ولعله أحسن من هذا -والله أعلم- أن تكون الآية دالة على المعنيين، وذلك في الضمائر وفي سائر الاحتمالات.

الضمير مثل: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255]، قال: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ من علم ماذا؟ يحتمل أن يعود الضمير إلى أقرب مذكور يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ من علم ما بين أيديهم وما خلفهم، ويحتمل أن يكون وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ من علم الله، فهما متلازمان، فعلم ما بين أيديهم وما خلفهم هو علم الله فتحمل على هذا وهذا، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

وعلى هذه الجادة يمكن أن يقال هنا أيضاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ: إن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح، الصعود بمعنى الارتفاع، ولكن الرفع يدل على أن ذلك يكون بغيره، أن الله يرفعه أو أن العمل الصالح يرفعه، والحديث الذي ذكره -حديث النعمان- قال: الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل يُذكِّرن بصاحبهن... إلى آخره هذا رفع للكلم الطيب، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أثر ابن مسعود أن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر تبارك الله أخذهن ملك إلى آخره فهذا صعود للكلم الطيب، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ يرفع الكلم الطيب، والكلم الطيب يرفع العمل الصالح، والله أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، برقم (4857)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، برقم (174)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة والنجم، برقم (3277)، وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح".
  2. رواه البخاري، كتاب التهجد، باب فضل من تَعارّ من الليل فصلى، برقم (1154)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (593)، وأحمد في المسند، واللفظ له، برقم (18232)، وقال محققوه: "حديث صحيح. علي بن عاصم -وهو الواسطي، وإن كان ضعيفاً- توبع، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين".
  3. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، برقم (471).
  4. رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في صلح العدو، برقم (2765).
  5. رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين، برقم (2955).
  6. رواه أحمد في المسند، برقم (16192)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة حال وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ"، وبرقم (16194)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لانقطاعه"، والحاكم في المستدرك، برقم (8682)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
  7. رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب صفة الجنة والنار، برقم (6560)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم (182).
  8. رواه أحمد في المسند، برقم (5114)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف على نكارة في بعض ألفاظه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2831).
  9. رواه أحمد في المسند، برقم (8183)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4528).
  10. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (9144)، والطبري في تفسيره (20 / 444).
  11. رواه أحمد في المسند، برقم (18362)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، غير موسى بن مسلم الطحان ، فمن رجال أصحاب السنن عدا الترمذي، وهو ثقة"، والحاكم في المستدرك، برقم (1841)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
  12. رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (555)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، برقم (632).

مواد ذات صلة