بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد.
اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سورة فاطر:19-26].
يقول تعالى: كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة، كالأعمى والبصير لا يستويان، بل بينهما فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات، وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين وهم الأحياء، وللكافرين وهم الأموات، كقوله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [سورة الأنعام:122]، وقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا [سورة هود:24] فالمؤمن سميع بصير في نور يمشي، على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى أصم، في ظلمات يمشي، لا خروج له منها، بل هو يتيه في غَيِّه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [سورة الواقعة:43، 44].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، كما سبق في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ فإن ذلك بلا شك من قبيل ضرب المثل فكأنه قرينة دالة على أن ما سبق أيضاً من قبيل المثل، وإن كان في هذا المقام أوضح، وصدر الآية يمكن أن يُحمل على هذا مع ما فيه أيضاً من معنى آخر وهو تقدير قدرة الله -تبارك وتعالى- وما إلى ذلك من المعاني.
وقوله هنا: وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ فيكون ذلك باعتبار الهداية والإيمان، وما يقابله من الضلالة والكفر، وقد مضى الكلام على هذا في تفسير الأمثال في رمضان، وتحدثت عن الآيات التي تتعلق بهذا المعنى.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ الظل معروف، وأما الحرور فالمقصود به الحر، حر الشمس على خلاف في تفصيل ذلك، الحافظ ابن كثير هنا ما تكلم على معنى الحرور، في الأصل ما في شيء، هو شدة الحر حر الشمس، وبعضهم يقول: إن الحرور لا يكون إلا في النهار مع الشمس، بخلاف السموم فإنه يكون بالليل، وبعضهم يقول عكس ذلك يقول: الحرور يكون في الليل، والسموم يكون في النهار مع الشمس، وهذه أقوال أهل اللغة، وبعضهم يقول: إنه يكون في الليل والنهار، والحرور هو الحر في أي وقت كان وإن المقصود بالظل هنا البرد، ولا الظل ولا الحرور يكون قابله بالحرارة، هكذا فسرها بعضهم.
والمعنى أنه لا يستوي الظل الذي لا حر فيه ولا أذى، والحر الذي يكون متلهباً مؤذياً مزعجاً بحرارته يتأذى منه الناس، والحرور كما نعلم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فهو من الحر إلا أن فيه زيادة في الحروف وفيه مبالغة في ذلك، يعني شدة الحر، قيل له: حرور بهذا الاعتبار -والله تعالى أعلم.
وذهب كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- إلى أن الحرور يكون في الليل والنهار لكنه هنا بهذا الموضع يكون مع الشمس، ما القرينة الدالة على ذلك عنده؟ هنا قال: وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ؛ لأن الظل يكون في وقت الشمس فقابل هذا وهذا وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، والله تعالى أعلم.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ أي: يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي: كما لا يسمع وينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كُتِب عليهم الشقاوة لا حيلةَ لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم.
إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ أي: إنما عليك البلاغ والإنذار، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا أي: بشيرًا للمؤمنين ونذيرًا للكافرين، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌأي: وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله إليهم النُّذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ الآية [سورة النحل:136]، والآيات في هذا كثيرة.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ اقتصر هنا على النذارة، ربما يقال في ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أنها أعلق بالمقام، أعلق بالمقام في هذا الموضع إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ثم ذكر الأمرين بعده في قوله إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فهو ﷺ في رسالته جامع بين البشارة والنذارة.
وقوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ يمكن أن يكون، قوله: بِالْحَقِّ حالاً من الفاعل إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ يعني نحن بِالْحَقِّ يعني محقين، أو من المفعول إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ أي محقاً، ويحتمل أن يكون غير ذلك، يعني يمكن أن يكون من قبيل النعت لمصدر محذوف، إنا أرسلناك إرسالاً بالحق، أو يكون إرسالاً متلبساً بالحق، -والله تعالى أعلم.
ويحتمل أن يكون تعلقه بقوله: بَشِيرًا، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا يعني بَشِيرًا بالحق أو بالوعد الحق، ونذيراً بالوعد الحق لكن هذا أضعف -والله تعالى أعلم، والأوضح أن يقال -والله أعلم: إنا أرسلناك إرسالاً متلبساً بالحق، والله أعلم.
في قوله: وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ أي الواضح البين هذه ثلاثة أشياء ذكرها الله -تبارك وتعالى- وهكذا فسرها الحافظ -رحمه الله- وبعضهم يقول: الزبر يعني الكتب أو الصحف المكتوبة، كصحف إبراهيم، وقد مضى في بعض المناسبات في الكلام على معنى الزبور، فالصحف المكتوبة بعضهم يقول: هي المرادة بقوله: وَبِالزُّبُرِ وأن الكتاب المنير مثل التوراة والإنجيل وهذا لا يتضح فيه الفرق، -والله تعالى أعلم، والتوراة مكتوبة إلا إن أرادوا أنها كتبت بعد ذلك.
وأما قوله: وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ يقول: كالتوراة والإنجيل، وبعضهم يقول: إن البينات هي المعجزات كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وإن الزبر هي الكتب ذات المواعظ أخذاً من كون الزبور كما هو مشهور فيه مواعظ وما شابه ذلك، وإن الكتاب المنير هو الذي يحوى الشرائع والأحكام، وابن جرير فسر البينات بالحجج الواضحات كما قال الحافظ ابن كثير هنا، وفسر الزبر بالكتب التي هي من عند الله -تبارك وتعالى، والكتاب المنير أي منير لمن تدبره أنه الحق وهذا أوضح ما قيل فيما وقفت عليه في تفسير هذا الموضع، -والله تعالى أعلم.
بِالْبَيِّنَاتِ يعني الآيات والحجج الواضحات، والزبر الكتب التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- على رسله وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ يعني أنه موضح للحق مبين له يجليه ولا يترك فيه لبساً فهو منير لمن أقبل عليه وتدبره، والله أعلم.
في قراءة متواترة قراءة ورش عن نافع بإثبات الياء فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِي وقفاً ووصلاً، فنكيري بمعنى نكير يعني المعنى واحد فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ كيف رأيت إنكاري عليهم عظيماً شديداً بليغاً.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [سورة فاطر:27، 28].
يقول تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء، يُخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض، إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة الرعد:3، 4].
وقوله -تبارك وتعالى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا أي: وخلقَ الجبال كذلك مختلفة الألوان، كما هو المشاهد أيضا من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق -وهي: الجُدَد جمع جُدّة- مختلفة الألوان أيضا.
في قوله: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا أي وخلقَ الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو المشاهد من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق -وهي الجُدد جمع جُدّة- مختلفة الألوان أيضاً ونقل قول ابن عباس وغيره، هذا المعنى الذي ذكره هنا من كون الجدد هي الطرائق هذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- والمراد بذلك –أي الطرائق- أن الجبال فيها ما يسمى اليوم مثل الطبقات فتجد الجبل فيه مثل الشرائح، هذه هي الطرائق التي ذكروها هنا، تجد الجبال فيها مثل العرق، الجبل لونه أحمر تجد فيه عرقاً يضرب إلى السواد مثلاً، وتجد في الجبل الأسود عرقاً أحمر مثل الطبقة فتجد هذه الطبقات موجودة في الجبال وهذا من دلائل قدرته -تبارك وتعالى.
والله -تبارك وتعالى- خلق الجبال وأرساها وجعلها أوتاداً فلا يقال: إن الجبال -جميع الجبال- متكونة عبر ملايين السنيين من تراكم الأتربة والطين والأشياء الأخرى من حمم بركانية وما إلى ذلك حتى تجمعت وصارت بهذه المثابة، وصارت جبالاً بهذه الطريقة، هذا لا يقال، فالله أخبر أنه خلق الجبال وأرساها وجعلها أوتاداً للأرض؛ لئلا تميد، فكيف كان حال الأرض قبل الجبال، إذاً هل يقال: إنها خلقت بلا جبال وإنها تكونت عبر السنيين بفعل العواصف وما إلى ذلك من الأمور التي يقولون ويعزونها إلى الطبيعة؟
الجواب: لا، فالله خلق الأرض وخلق الجبال وجعلها أوتاداً ولذلك تجد في خلقها وهيئتها مثل هذه الأمور العجيبة الغريبة، وبعض أهل العلم يقول: إن الجُدد ليس بجمع جُدّة كما ذكر ابن كثير، وابن جرير، وبعضهم يقول: إن الجُدد مأخوذة من القطع، جَدّهُ بمعنى قطعه، قِطَع أي بيض وحمر وسود وهكذا، وبعضهم يشبه هذه التي ذُكرت هنا بأنها الطرائق كما يكون على ظهر الحمار لون مغاير لسائر لونه إن كان الحمار أبيض فذلك لربما يميل إلى السواد، وإن كان الحمار يميل إلى السواد لربما وجدت شيئاً من الحمرة فوق ظهره كالخط، يشبهون هذا وهذا تقريباً للمعنى.
وهذه الجدد مشاهدة ويراها الناس ومعروفة -والله أعلم- فهي مثل الخطوط وهذا قول عامة المفسرين سلفاً وخلفاً، عروق وخطوط ألوان في هذه الجبال يعني ليس المقصود -والله تعالى أعلم- أن من الجبال ما لونه أحمر وما لونه أسود وما لونه أبيض، إنما في الجبل الواحد تجد مثل هذه الطرائق، هذا قول عامة المفسرين، وإن كان هناك من فسر الجدد بأن الجبال تختلف ألوانها هذا أحمر وهذا أسود، وما أشبه ذلك.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما: الجُدَد: الطرائق. وكذا قال أبو مالك، والحسن، وقتادة، والسدي. ومنها وَغَرَابِيبُ سُودٌ، قال عكرمة: الغرابيب: الجبال الطوال السود. وكذا قال أبو مالك، وعطاء الخرساني وقتادة.
وقال ابن جرير: والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا: أسود غربيب.
الأسود الغربيب، ويقولون: أسود حالك، وأسود زنجي، يصفون به شدة السواد، كقوله -تبارك وتعالى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا [سورة البقرة:69] فهذا من أوصاف الإبل عند العرب، وقيل: إنها صفراء يعني الصفرة المعروفة، وابن جرير -رحمه الله- يقول: إن ذلك لا يمكن أن يوصف بكونه فاقعاً؛ لأن الفقوع إنما يُقال في أوصاف البقر، فالمقصود بالصفراء يعني الصفرة المعروفة في أوصاف البقر، أما الإبل إذا قيل صفراء فإنها لا توصف بالفقوع، وإنما إذا قيل ذلك فإن المقصود به الصفرة المعروفة، فالعرب تصف الألوان فإذا قالوا في البقرة صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا فمعناها الصفرة المعروفة، والإبل قد توصف بالصفرة كما قال الشاعر يصف إبلاً:
... | هنّ صفرٌ أولادُها كالزبيبِ |
أي سود، وكقوله -تبارك وتعالى: وَغَرَابِيبُ سُودٌ عند ابن جرير من المقدم الذي بمعنى التأخير، المعنى المؤخر أي سود غرابيب، سود خالصة السواد، حالكة السواد، وهنا غرابيب صفة للسود هذا وصف له يصف السواد بأنه شديد، والسواد والبياض -كما هو معلوم- الذي يسميه أهل المنطق المشكك يعني يتفاوت، البياض على درجات، والسواد على درجات وهكذا الألوان الأخرى من باب أولى.
في قوله: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ ذات ألوان حمر وبيض مختلفة الألوان، ومن الجبال غرابيب سود، يكون الجبل كله أسود، لكن يحتمل أن يكون العطف هنا على قوله: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ هذه ليست جدداً، وإنما اللون بكامله بطبيعة الحال، هنا قال: وَالأنْعَامِ من باب عطف الخاص على العام كذلك هي مختلفة، يعني الأنعام من جملة الدواب فالناس منهم بربر وحُبوش وطماطم في غاية السواد، والطماطم يعني الأعاجم.
وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان، حتى في الجنس الواحد، بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان، بل الحيوان الواحد يكون أبلق، فيه من هذا اللون وهذا اللون، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ولهذا قال تعالى بعد هذا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.
وعن ابن عباس قال: العالم بالرحمن مَنْ لم يشرك به شيئا، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله.
وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله .
وقال الحسن البصري: العالم مَن خشي الرحمن بالغيب، ورغِب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سَخّط الله فيه، ثم تلا الحسن: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
وقال سفيان الثوري، عن أبي حيان التميمي، عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله وبأمر الله: الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله: الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله: الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله .
يعني مثل الذي يعرف من أوصاف الله وكمالاته ما يبعثه على تعظيمه، ولكنه لا يعرف الحدود والأحكام، والعكس قد يوجد من يُعنى بالأحكام والفقه وما إلى ذلك ولكنه لا يعرف المعبود المعرفة اللائقة به -تبارك وتعالى.
وقوله هنا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ذكره في هذا السياق لما ذكر هذه العجائب في صنعه وخلقه -تبارك وتعالى- عقّب بهذا وهو أن أهل الخشية هم العلماء فمن المراد بذلك؟ كل مَن يُعتد به من أهل العلم مما رأيتم هنا ممن ذكرهم ابن كثير -رحمه الله، ومن لم يذكرهم كلهم يقولون: المقصود بذلك العلم بالله -تبارك وتعالى، العلماء بالله، العلم الذي يعبرون عنه كثيراً بالخشية أو الذي يورث الخشية وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته، وكذلك العلم بالطريق الموصل إليه، والعلم بما يصير إليه الناس عند الوصول إليه في الدار الآخرة، هذا هو المراد -والله تعالى أعلم.
وما يقوله بعض الناس: إن المقصود بهذا العلماء بهذه الأمور التي في الطبيعة كما يعبر أحياناً، هذا غير صحيح، والتوسع في مثل هذه العلوم ومعرفة الدقائق والتفاصيل في هذه الأشياء سواء كان يتصل بالجبال أو علم الجيولوجيا وعلم الأرض أو كان ذلك مما يتصل بعلوم أخرى كالفلك أو علوم الطب ونحو هذا مما يُعنى فيه الدارس بمعرفة تفاصيل دقيقة وأشياء لا يعرفها عامة الناس، هل العالمون بذلك هم أهل خشية؟ وهل الواقع يدل على هذا؟ الآن كبار العلماء بالجيولوجيا وكبار العلماء في الفلك، وكبار العلماء في الطب، وكبار العلماء في علوم الأحياء الدقيقة وما إلى ذلك هل هؤلاء هم أهل خشية الله والخوف منه كما قال الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ عرفوا دقائق وأشياء ورأوها بالمكبرات وغير المكبرات، ودراسات وأعمار تفنى في تتبع أشياء دقيقة جداً ثم بعد ذلك ما الذي أورثهم هذا؟ هل أورثهم خشية الله ؟ هل هؤلاء هم أهل الخشية؟
الجواب: لا، أكثر هؤلاء لا يعرفون الله، ويعزون ذلك إلى أمور من الطبيعة وأن الطبيعة هي التي تفعل هذا كله، فهم أبعد الناس عن الإيمان إلا ما ندر، والنادر والشاذ لا حكم له، كونه يَسْلم واحد منهم لا يعني أن هذا يُعطَى للجميع، ويقال: كلما تبحر الواحد في هذه العلوم وتوسع فيها فإن ذلك يكون محققاً لهذه الصفة إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ إنما يزداد خشية لله -تبارك وتعالى، أبداً!
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ: هم العلماء الذين عرفوه معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته وما يليق به من عظمته وجلاله، فالعلماء به وبالطريق الموصل إليه، والدار التي يسير الناس إليها هؤلاء هم العلماء الذين يخشونه؛ لأن هؤلاء إذا كانوا يفقهون عن الله وما ذكره في كتابه من دلائل قدرته وعظمته مع ما يشاهدونه من دلائل القدرة والأنفس والآفاق فإن ذلك يورث له تعظيمه وخشيته، وكلما كان العبد به أعرف كان أكثر تعظيماً له وإجلالاً وخشية، وهذا هو العلم الصحيح.
فمثل هذا العلم من شأنه أن يورث الخشية فإن اختل في المكلف شيء من دوافعه ومقاصده فإن ذلك قد لا يورثه هذه الخشية كالذي يأخذ العلم من أجل الدنيا، أو يتعلم العلم للثقافة، هو لديه نوع من الرغبة والهواية أشبه ما يكون هؤلاء بالهواة، فتجد الواحد منهم له مدارك واسعة ومعرفة، أبعد ما يكون على الوصف بالعلماء الربانيين، لربما تجد حاله وسلوكه لا يختلف كثيراً عن عامة الناس لا في مظهره ولا مخبره يكون هذا من كبار المحققين لكتب التراث وله اطلاع واسع على هذه الأشياء ولا يُسأل عن مخطوط ولا مطبوع إلا وعنده معرفة واسعة فيه، وإذا نظرت إلى حاله أبعد ما يكون عن العمل، وبعضهم لا يصل إليه.
لي محقق من المعتنين بالتراث يعرف المخطوطات، والمطبوعات ويعرف كل هذا هي هواية، هؤلاء هواة يعني ما أخذوا العلم من مأخذه الصحيح، ما أورثهم الخشية، بعض هؤلاء يدخن وحليق ومسبل وهيئته إفرنجية وهو من كبار المحققين، ما هي المفارقة؟ وقد لا يكون من هؤلاء المحققين قد يكون من كبار الأساتذة بالجامعات، وإذا نظرت إلى حاله فحال العوام أفضل منه أخلاقاً وتعاملاً، والعبادة والصلاة إذا نظرت إلى صلاته لا تريد أن تنظر إليه، طريقة الصلاة وأداؤها صلاة العوام أحسن منها، وبعد ذلك قد يكون من أقسى الناس، قلب جلف جافٍ، سيئ الخلق مثل هذا أين هو من قوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ؟
فهؤلاء ما أخذوا العلم من مأخذه الصحيح، ولا تلقوه بطريقة صحيحة، وكثيراً ما يقع ذلك لمن كان كما يعبر بعضهم فيقول: وجدت طريقاً فسلكته ثم وجدت نفسي محاصراً، يقول: أنا أدخلني أهلي المعهد المتوسط، وفي الثانوي في المعهد وتخرجت ما وجدت أمامي إلا كلية الشريعة وتخرجت منها أردت أن أكون تاجراً فعينت معيداً في الكلية فوجدت نفسي أكمل الماجستير والدكتوراه، وجدت نفسي هكذا في النهاية، يعني كان ينصح بعض طلابه ألا يسلكوا هذا الطريق، وأن يتعظوا به فمثل هؤلاء أبعد ما يكونون عن العمل لكن هو وجد نفسه هكذا بهذا السياق، ثم صار أمام الناس أنه من المنسوبين للعلم، وقد يكون فيه ذكاء ونباهة، لكن ذكاء من غير زكاة، علم بلا خشية ولا ورع.
وبعض أهل العلم يستيقظ ضميره ويشعر بالحرج يصرح أحياناً لبعض الناس يقول: أتمنى أن أكون مثل هذا، يعني يرى عامياً صرفا مصليا يحافظ على الفروض الخمسة في المسجد ما يتأخر يبكر للصلاة فيقول: أتمنى أن أكون مثل هذا، يعني أن يكون خاليا من العلم لكن يكون بهذه المثابة مثل هذا العامي، هذا غير الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها وصار يفتي الناس بالضلال ويضلل الناس -نسأل الله العافية، فذلك كما قال الله : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [سورة الأعراف:176]
نحن لا نتحدث عن هذا المستوى لكن نتحدث عما دونه، فحينما يقال: العلم الخشية ليس معنى ذلك أن هذا الإنسان يكون قد درس وقرأ فإن ذلك أيضاً يكون كثيراً لهؤلاء الذين يتلقون العلم من مجرد القراءة والاطلاع على الكتب فقط، فإنّ أخْذ العلم مع التربية وغالبًا ما يكون ذلك بالجلوس في مجالس العلم عند من ينتفعون بمجالسته، كان بعض السلف يحضر لربما خمسا وعشرين سنة، يقول: من أجل أن أستفيد سمتاً وهدياً ودَلًّا، فمثل هذه الأمور لابد من مراعاتها حتى تخرج الصورة المتكاملة للمشتغل بالعلم فيكون ممن إذا رآه الناس ذكروا الله ، ويحمل قدوة صحيحة في العلم والعمل ولا يكون ذلك لمن أوتى ذكاء ولم يؤت زكاة، فالذكاء شيء، والعلم شيء، والخشية شيء آخر.
لكن العلم إذا أخذ من مأخذه الصحيح كما يقول الشاطبي -رحمه الله- في أول الموافقات يقول: ممن رباه الشيوخ وتخرج على يد الشيوخ هي معادلة مركبة من هذه الأمور جميعاً من باب أولى، قال: إن العلوم الطبيعية هذه والمادية والتجريبية إلى آخره بمفردها بمجردها هكذا لا يمكن أن تكون هي المراد بقوله إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، وكلام أهل العلم على هذه القضية أن العلم هو الخشية.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [سورة فاطر:29، 30].
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه، من إقام الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله في الأوقات المشروعة ليلا ونهارا، سرا وعلانية، يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ أي: يرجون ثوابا عند الله لابد من حصوله؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّهُ غَفُورٌ أي: لذنوبهم، شَكُورٌ للقليل من أعمالهم.
قوله هنا: يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ يعني لا يحصل لها كساد، البوار هو الكساد، وقوله: لِيُوَفِّيَهُمْ اللام هذه يُحتمل أن تكون متعلقة بمحذوف دل عليه السياق، لِيُوَفِّيَهُمْ يعني فعلوا ذلك لِيُوَفِّيَهُمْ، يعني يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا وفعلوا ذلك ليوفيهم الله، ويحتمل أن يكون الكلام متعلقاً بقوله: يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ يعني لن يحصل لها كساد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة، لن تبور لأجل أن يوفيهم، والله تعالى أعلم.
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة فاطر:31].
يقول تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يا محمد من الكتاب، وهو القرآن هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي: من الكتب المتقدمة يصدقها، كما شهدت له بالتنويه، وأنه منزل من رب العالمين.
إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ أي: هو خبير بهم، بصير بمن يستحق ما يفضّله به على مَنْ سواه، ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر، وفضل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وجعل منزلة محمد ﷺ فوق جميعهم، -صلوات الله عليهم أجمعين.
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [سورة فاطر:32].
يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة.
في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ كما في كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن المقصود به القرآن؛ لأنه قال: بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه فيكون القرآن، وابن جرير -رحمه الله- يحمل الكتاب على الكتب قبل القرآن ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، والمراد بهذا الميراث إيمانهم بتلك الكتب جميعاً قبل القرآن ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فصاروا مؤمنين بهذه الكتب، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أوضح -والله تعالى أعلم.
ولو قال قائل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا إن المقصود جنس الكتاب كانت الكتب تنزل على بني إسرائيل كانت تنزل على الأمم السابقة، ونزل منها طائفة على بني إسرائيل، وبقيت فيهم النبوة مدة طويلة، واصطفاهم الله -تبارك وتعالى- وفضلهم على العالم في زمانهم، واجتباهم واختارهم على علم، ثم بعد ذلك لما وقع ما وقع منهم من الكفر والمحادة لله ولرسله -عليهم الصلاة والسلام- لعنهم وأبعدهم وطردهم من رحمته، وقضى عليهم بما وصف "وقطعناهم في الأرض أمماً" إلى غير ذلك ثم أورث الكتاب فصار الكتاب والنبوة إلى غيرهم، فصارت إلى العرب إلى محمد ﷺ، فوقع منهم ما وقع من الحسد مع ما عرفوا من وصفه -عليه الصلاة والسلام- فانتقل التفضيل من بني إسرائيل إلى هذه الأمة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فالمصطفون هم هذه الأمة أورثهم الله -تبارك وتعالى- الكتاب بعد أن كان ينزل على الأمم السابقة، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع، فقال: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو: المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو: المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ وهو: الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، قال: هم أمة محمد ﷺ وَرَّثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يُغْفَر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
قسمهم إلى هذه الطوائف الثلاث رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [سورة الأعراف:23]، وأيضاً يونس ﷺ لما قال: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، كل هذا من أجل الاستشكال في اجتماع الاصطفاء مع الظلم للنفس أي مع هذا الوصف ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ جعلوا ذلك في أتباعهم وذرياتهم أن من ذريتهم من هو ظالم لنفسه كما يقوله الضحاك، وأما الصوفية فأقوالهم في ذلك كثيرة على مشاربهم وطريقتهم فيما يسمى في التفسير الإشاري ولا حاجة لهذا.
وظلم النفس يكون بالشرك والمعصية سواء كانت صغيرة أو كبيرة، ولكن الشرك هنا غير مراد، ليتحقق وصف الاجتباء والاصطفاء، فهذه الأمة أمة محمد ﷺ كما هو معلوم تنقسم إلى أمة إجابة وأمة دعوة، فأمة الدعوة هي التي توجه لها الدعوة دعوة الرسول ﷺ: ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار [1]، والله -تبارك وتعالى- أخبر أنه أُرسل للناس كافة فهو مرسل إلى جميع الناس، ومن أجابه فهؤلاء أمة الإجابة وهم المصطفون الذين اختارهم الله وهم على ثلاثة طوائف ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ومآل الثلاث إلى الجنة، مصيرهم إلى الجنة، هذا أقرب ما يقال في الآية، والعلم عند الله -تبارك وتعالى.
ويبقى هنا سؤال وهو أنه قدم الظالم لنفسه وأخر المقتصد ثم السابق فما وجه ذلك؟ هذا جوابه: يمكن أن يكون باعتبار الأكثر، أن الظالمين لأنفسهم أكثر ثم المقتصدين ثم السابقين فهم أقل القليل، حتى لا يقال هذا ذكره بعض أهل العلم كالشنقيطي -رحمه الله- قال: ابتدأ بالظالم، وذكر بعض أهل العلم أن ذلك لئلا يقنط ثم ذكر المقتصد، ويمكن أن يكون التدرج من الأدنى إلى الأعلى ويمكن أن يقال: إن الواو أصلاً لا تقتضي ترتيباً ولا تشريفاً بطبيعة الحال لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ [سورة الحشر:20] فبدأ بأصحاب النار.
وروى أبو القاسم الطبري عن ابن عباس، عن رسول الله ﷺ أنه قال ذات يوم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي[2]، قال ابن عباس: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد ﷺ.
وهكذا رُوي عن غير واحد من السلف: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين، على ما فيه من عوج وتقصير.
وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة، ولا من المصطفين الوارثين الكتاب.
والصحيح أنه أيضاً من هذه الأمة، والعلماء أغبط الناس بهذه النعمة.
يوجد أحاديث كثيرة في الباب، وهذه الأحاديث على كثرتها قد صح بعضها، والكثير منها لا يصح عن النبي ﷺ، حديث أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً عن النبي ﷺ أنه قال لما ذكر هذه الآية: هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة[3]، هذا الحديث يكون قاطعاً للإشكال، والخلاف في كون الظالم لنفسه هل هو من هذه الأمة أو ليس من هذه الأمة؟
وهذا يؤيد ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وصح من حديث أبي الدرداء عن النبي ﷺ من أنه ذكر هذه الآية وقال: فأما الذين سبقوا بالخيرات فأولائك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولائك يحاسبون حساباً يسيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولائك الذين يحاسبون في طول المحشر وهم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ[4] هذه أحاديث صحت في تفسير هذه الآية وبناءً عليه يقال: إن الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم من هذه الأمة، والله تعالى أعلم.
والضمير في قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يرجع إلى الطوائف الثلاث، فهؤلاء الذين يُخرجون الظالم لنفسه يقولون: إنه يرجع إلى المقتصد والسابق، وهذا التقسيم: فمنهم ظالم قالوا: هذا يرجع إلى العباد وليس إلى المصطفين، وهذا فيه إشكال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا كأنه يقول: فمن عبادنا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ، لا أن ذلك تقسيم لأهل الاصطفاء، وهذا بعيد، والله أعلم.
أبو الدرداء لما جاءه رجل بدمشق ذكر له هذا الحديث الذي ذكرته آنفاً عن النبي ﷺ أنه خصه به وتحدثه بذلك يعني: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، وما ذكره الحافظ ابن كثير من كون العلماء أغبط الناس بهذه النعمة وأولى الناس بهذه الرحمة بأي اعتبار؟ ما وجه ذلك؟ كيف؟ يجمعون العلم والعمل فيكونون في أعلى المراتب، والاصطفاء، وغيره: حقيقة العبودية، وغيره: من سبق، وغيره: أنهم يعرفون عن الله مالا يعرفه غيرهم، انظر إلى الحديث الذي أورده: إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، فالله يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا أورثنا الكتاب فمن هم المعتنون به العارفون بمعانيه ومضامينه؟ هم العلماء، فهم ورثة الأنبياء بهذا الاعتبار، هذا وجه كلام ابن كثير.
ولهذا فإن بعض أهل العلم حمل ذلك على العلماء أصلاً ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا حمله على أهل العلم، والظاهر -والله تعالى أعلم- أنه في طوائف الأمة الثلاث كل الأمة، وأن العلماء لهم حظ وافر من ذلك لقوله ﷺ: العلماء هم ورثة الأنبياء، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا هذا ليس إرثاً للعلم فقط وإنما هو جنس الكتاب فصار ينزل في هذه الأمة بعدما كان ينزل على بني إسرائيل، فنُقل عنهم فصار في هذه الأمة، فكل واحد من هذه الأمة من أمة الإجابة له حظ من هذه وكلٌّ بحسبه والعلماء العاملون هم أوفر الناس حظاً من هذا الوصف بهذا الاعتبار، وإلا فحتى العامة وطوائف الأمة الثلاث كل الأمة داخلة فيه لكن يتفاوت حظهم بذلك.
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [سورة فاطر:33-35].
يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده، الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة جَنَّاتُ عَدْنٍ أي: جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على الله ، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة ، عن رسول الله ﷺ أنه قال: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء[6].
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا، فأباحه الله لهم في الدار الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة[7]، وقال: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة[8].
قوله -تبارك وتعالى- هنا: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يدخلونها هذه الواو ترجع إلى الطوائف الثلاث وهي التي قال فيها بعض أهل العلم: حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين باعتبار أنها شملت هذه الطوائف الثلاث، ولهذا كانت هذه الآية من أرجى الآيات من كتاب الله -تبارك وتعالى- أنها وعد من الله بدخول الجنة لطوائف الأمة الثلاث، لكن لا يحمل هذا أحداً من الناس على مواقعة ما حرم الله والتفريط فيما أوجبه، فقد يبقى في النار مدة طويلة، والإنسان لا يحتمل عذاب الله، من أراد أن يجرب يجرب أيسر ما يكون من هذه النار يضع أصبعه على جمرة لمدة دقيقة واحدة يعد ذلك بستين ثانية ثم ينظر بعد ذلك هل يطيق ويحتمل أو لا؟ فكيف بنار جهنم ولو لحظة واحدة ولو لفحة؟! نسأل الله أن يعيذنا وإياكم وإخواننا المسلمين منها.
قال: هو الخوف من المحذور، هنا المشهور الحَزن: هو الاغتمام لأمر مضى لأمر فائت، وأن الخوف: هو الاغتمام والقلق لأمر مستقبل، هذا الخوف فهنا كيف يفسر الحزن بمعنى الخوف، قال: هو الخوف الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ تجد في كلام بعض أهل العلم تفسير ذلك بأنه الخوف من الدار الآخرة، والعاقبة التي يصيرون إليها، فهذا مثال عند من يقول: الحزن يأتي بمعنى الخوف، لكن إذا تأملت كلام ابن كثير تجد أنه فسرها بمعنى أوسع من هذا لم يفسرها بمعنى الخوف؛ لأنه قال: هو الخوف من المحذور أزاحه عنا وأراحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من هموم الدنيا والآخرة، وأوضح منه وأوسع كلام الحافظ ابن جرير -رحمه الله- الذي جعله عاماً، يعني هذا الموضع يعم كل ما قاله المفسرون.
وحاصل قول المفسرين أن هذا الحزن كما يقول سعيد بن جبير مثلاً: أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إن هذا الحزن همّ رغيف الخبز، ولذلك بعضهم صرح بتلقى المعيشة، تجد عند كثير من الناس هما لاسيما إذا كان صاحب عيال، هذا نوع من الهم وهموم الناس هي في المعايش، إنما قال: الرغيف، ومن جعلها بصورة أكبر يقول: العقارات، تقول: التجارات؛ لأن منتهى هذه التجارات إلى الرغيف، فإذا وصلت الحال إلى هذا قامت الثورات التي يقال لها: ثورات الخبز، وهذه حصلت في مرات التاريخ غير قليلة، حينما يصير الناس في ضيق في عيشهم، يصير حال الناس إلى شدة ومعاناة وطول صبر عند ذلك ينقضّون وينقطع الصبر.
وبعضهم يقول: إن هذا الحزن، والحزن إنما هو من الخوف من العاقبة، والآخرة خوف من النار، وبعضهم يقول: المقصود به ما يجدونه في الدنيا من أنواع الهموم أيًّا كان مصدرها، وأن الدنيا دار كبد فما يعتورهم من هذه المخاوف والآلام والأحزان وما يتقضى عليهم من الأمور الفائتة التي فيها ذهاب محبوباتهم أن ذلك داخل به إلى غير هذا من الأقوال، بعضهم حمل ذلك على أمر الآخرة، وبعضهم جعلها في الدنيا، والأقرب أنه في ذلك جميعاً.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ فمن هذا الحزن ما جاء في الحديث الذي ذكرته آنفاً في الظالم نفسه، أولائك الذين يحاسبون طول المحشر ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، فهذه المعاني التي يذكرها السلف -رضي الله تعالى عنهم- كلها داخلة فيه، وأولى ما يدخل فيه ما جاء عن النبي ﷺ من أن ذلك يكون من قول الظالم لنفسه حينما يلقى الحساب ثم تكون عاقبته بعد ذلك إلى الجنة فيقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، فهذا داخل فيه، وكذلك يؤخذ من عموم اللفظ سائر الأحزان التي تكون في الدنيا فإن الجنة ليس فيها حزن ولا غم ولا تعب، لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ.
فهذا الحزن والكدر حزن من فوات المحبوب، حزن لوقوع مرض، حزن لإخفاق في تجارة، لإخفاق في دراسة، حزن لانفراط في مصالحه علاقات تقطعت أواصرها وما إلى ذلك، كل هذا يذهب في الآخرة، وهذا يؤخذ منه معنى كبير وهو أن العاقل ينبغي أن يدفع عن نفسه الحزن وأنه لا خير فيه إلا إن كان ذلك من جراء الخوف من الله والدار الآخرة، يعني أن يكون مفسَّراً بمعنى الخوف، إلا أن يكون ذلك من ذنوب مضت فإنه يحزن، وهذا الحزن هو بمعنى الندم بهذا الاعتبار فهذا مطلوب؛ لأنه من شروط التوبة، ولا إشكال فيه.
وأما الحزن للحزن كأن يجتر الإنسان شريط الذكريات السيئة فيما مضى، يجتر الأحزان فيبقى كئيباً فهذا لا خير للإنسان فيه إطلاقاً، وهذا كما قال شيخ الإسلام يضعف قوى القلب ويهدمها فلا ينتفع بعمل دنيا ولا عمل آخرة، وبعض الناس لربما يهوى هذا ويطلبه بأسباب متنوعة إما أنه يسترسل مع الأفكار، ويجتر كل ذكرى سابقة قديمة، أو يكون هذا الإنسان يتلقف الأخبار في العالم مع وسائل الاتصال الآن الجوال وغيرها، والوتس اب والصحف وإلى آخره، فكل خبر هذه شغالة ذبحت مدري من في الحمام، وهذه شغالة طعنت هذا، وهذه شغالة فعلت كذا، وهذا واحد مذبوح، وصورة آخر مطعون بسكين في ظهره، ثم يبدأ بحال من ضعف القلب والحزن والألم، لماذا تجمع هذا الذي في العالم من الأحزان والأمور المؤلمة تجمعه كله جميعاً وتجعله في قلبك؟ هذا لا يفعله عاقل.
وأسوء من هذا حالاً بعض الناس الذين يبحث عن الأشياء المحزنة يسمع قصائد محزنة وبصوت حزين ويأنس ويطرب لسماعها، وبعضهم يدعي أنه يريد أن يبكي عنده رغبة بكاء نقول: يا أخي اقرأ القرآن تذكر الدار الآخرة، تذكر ما عند الله همٌّ أنك تبكي وتسمع القصائد الملحنة بصوت فيه حزن ونحو ذلك، ثم معانٍ حزينة وناس ماتوا سقط عليهم كذا وحصل لهم كذا يرثيهم ويرثي أهله ماتوا جميعاً بصورة مؤلمة، ثم يجتر هذه الأحزان، هو حتى لا يعرفهم ولا يعرف هذا حقيقة أو فيه مبالغة أو خيال حتى يقول: أنا أريد أن أبكي ولي رغبة في البكاء، فيسمع هذه الأشياء، أنا أحدث عن أشياء شاهدتها فهؤلاء يستغنون عن سماع القرآن، ويسمعون هذه القصائد والألحان وأشياء من هذا القبيل، هذا غلط لا يفعله عاقل.
واللائق بنا أننا نحرص ونجمع ما يبعث الأمل ويقوي القلب، ويبعثنا على العمل وأن تشرق الآفاق والدنيا حتى لا يشعر الإنسان بيأس ولا إحباط ولا عراقيل وأوهام وقيود تقيده وتقعده وتثقله عن الانطلاق، فيعمل بطاعة الله ويدعو إلى سبيله، ويكون صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره هذا هو المطلوب.
أما الضعفاء والذين يبحثون عن الأمور المحزنة فهذا غير محمود، بل حتى الإنسان لابد له من حزن، لابد له من أمور يضيق بها صدره؛ لأن هذه الحياة جُبلت على هذا ولا يمكن أن تحول عن طبيعتها وجبلّتها، ولكن العاقل له ثقة مع النفس فيدافع هذه الأمور يدفعها عن نفسه ولا يسترسل معها، وجاء عن بعض السلف أنه ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة، ويخاف أن يكون من أهل النار؛ لأن أهل الجنة قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ هذا الحزن يحمد في حال واحدة فقط ما كان من جهة الخوف من الله والدار الآخرة فقط إذا فعل معصية يندم، قد قصر بحق الله يندم، يحزن هو في خوف دائم من الله، هذا فقط المحمود الذي ينفع ويبعث على العمل وترك مالا يليق، وما عدا ذلك فلا خير فيه، مثل الذي يحتفظ بصورة للميت وكل مدة يفتحها ويطالع فيها يتذكر كل لحظة معه، إلى متى يجدد المصيبة؟!
قال ابن عباس، وغيره: غَفَر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ: يقولون: الذي أعطانا هذه المنزلة، وهذا المقام من فضله وَمَنِّه ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: "لن يُدخل أحدا منكم عملُه الجنة". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغَمَّدنِي الله برحمة منه وفضل[9].
لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ أي: لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء.
بعضهم يقول: إن اللغوب هو الإعياء من التعب، أنه نتيجة وأثر للتعب، أثره هو اللغوب والإعياء، والكلال من النصب ولهذا فسره ابن كثير -رحمه الله- بالعناء والإعياء.
هذا نوع من النصَب والتعب، الذي يكون بسبب النصب مكابدة الليل والنهار بألوان العبادات والقيام والصيام وما إلى ذلك من أداء الفرائض وتوقي المحظورات التي تشتهيها النفس وتطلبها فهذا يحتاج إلى صبر ومعاناة، وفيه حبس للنفس وضيق فكانت الدنيا هي سجن المؤمن، وكذلك أيضاً النصَب الذي جبلت عليه هذه الدنيا، فالله -تبارك وتعالى- حينما خلق آدم وأسكنه الجنة قال له: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [سورة طه:118، 119]، وقال: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [سورة طه:117].
فالشقاء في هذه الدنيا الجوع فيها، ويضحى الإنسان حينما يتعرض لحر الشمس وما يكابده، والتعب في طلب المعيشة وما إلى ذلك، فيشقى بسبب ذلك يكابد ويعمل من أجل أن يحصّل شيئاً يأكله هو وعياله، فهذه الدنيا لا تكون إلا بالنصَب والكد والتعب وليس عليها مستريح، وأكثر الناس إغراقاً في الترف فيها -كما هو مشاهد- هم أكثر الناس ضيقاً في الصدر، هذا أمر مشاهد كلما انغمس في الترف والدعة والنعيم بهذه الحياة الدنيا كان ذلك أدعى للوحشة والضيق في الصدر؛ ولهذا تجد العامل البسيط الذي يعمل ويشتغل ويكدح أكثر انشراحاً وسروراً وسعادة وغبطة من كثير من المترفين في العالم الذين يملكون المليارات.
وانظر إلى حال أبنائنا وما هم فيه من الترف والراحة ومع ذلك يشتكون من الضيق الدائم كما يعبرون دائماً: في ضيق، وانظروا إلى حال النساء كذلك وغير حال النساء من الشباب وغيرهم هم في ترف وكل شيء عندهم ومع ذلك دائماً يشعرون بضيق وملل، فهذا لا يمكن أن يوجد ويطلب بغير طاعة الله والإقبال عليه والسرور بمعرفته، فهذا كله النصَب الذي في الدنيا التعب وطلب المعيشة وغير ذلك هذا كله يزول في الآخرة، ليس فيها تعب ولا عناء.
وحري بمن سمع عن الله وعقِلَه أن يعرف قدر الحياة الدنيا وأن يكون جده وسعيه وإقباله على الدار الآخرة، ويكون ذلك سلوة لكل صاحب معاناة من مرض أو فقد أحبة أو خسارة أو إخفاق في عمل أو دراسة أو غير ذلك، كل ما فاته شيء من محبوباته، كله سلوته هناك: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، وكذا لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ يعني: لا تعب ولا إعياء ولا إنهاك ولا إرهاق، جنة لا يُعرف فيها هذا، فهذا إنسان مرهق إنسان يشعر بالخمول بالضعف بتعب أو بحزن أو بقلق أو بحقد هذا كله يُنزع ويذهب عن الإنسان هذا سلوة لأهل الإيمان، يعلمون أن ما يصيبهم في هذه الحياة الدنيا هو أمر عارض، ولكن العبرة هناك بالشقاء الدائم أو النعيم الدائم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
طالب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله:
"وقوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء يقتضي الحصر من الطرفين أن لا يخشاه إلا العلماء ولا يكون عالما إلا من يخشاه، فلا يخشاه إلا عالم وما من عالم إلا وهو يخشاه، فإذا انتفي العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم، لكن وقع الغلط في مسمى العلم اللازم للخشية حيث يُظن أنه يحصل بدونها، وهذا ممتنع فإنه ليس في الطبيعة أن لا يخشى النار والأسد والعدو من هو عالم بها مواجه لها وأنه لا يخشى الموت من ألقى نفسه من شاهق ونحو ذلك، فأمنه في هذه المواطن دليل عدم علمه، وأحسن أحواله أن يكون معه ظن لا يصل إلى رتبة العلم اليقيني.
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بمعصية إبليس فإنها كانت عن علم لا عن جهل وبقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [سورة فصلت:17]، وقال: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:59]، وقال عن قوم فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [سورة النمل:14]، وقال: وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [سورة العنكبوت:38]، وقال موسى لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [سورة الإسراء:102]، وقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146]، [سورة الأنعام:20] يعني القرآن أو محمدا ﷺ وقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:71]، وقال: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [سورة الأنعام:33]، والجحود إنكار الحق بعد معرفته وهذا كثير في القرآن.
قيل: حجج الله لا تتناقص بل كلها حق يصدق بعضها بعضا، وإذا كان سبحانه قد أثبت الجهالة لمن عمل السوء وقد أقر به وبرسالته وبأنه حرم ذلك وتوعد عليه بالعقاب ومع ذلك يحكم عليه بالجهالة التي لأجلها عمل السوء فكيف بمن أشرك به وكفر بآياته وعادى رسله أليس ذلك أجهل الجاهلين؟ وقد سمى تعالى أعداءه جاهلين بعد إقامة الحجة عليهم فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199] فأمره بالإعراض عنهم بعد أن أقام عليهم الحجة وعلموا أنه صادق وقال: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [سورة الفرقان:63] فالجاهلون هم الكفار الذين علموا أنه رسول الله، فهذا العلم لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل بل يثبت له العلم ويُنفي عنه في موضع واحد كما قال تعالى عن السحرة من اليهود: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] فأثبت لهم العلم الذي تقوم به عليهم الحجة، ونفي عنهم العلم النافع الموجب لترك الضار، وهذا نكتة المسألة وسر الجواب فما دخل النار إلا عالم ولا دخلها إلا جاهل، وهذا العلم لا يجتمع مع الجهل في الرجل الواحد يوضحه أن الهوى والغفلة والإعراض تصد عن كماله واستحضاره ومعرفة موجبه على التفصيل، وتقيم لصاحبه شبها وتأويلات تعارضه، فلا يزال المقتضى يضعف والعارض يعمل عمله حتى كأنه لم يكن ويصير صاحبه بمنزلة الجاهل من كل وجه.
فلو علم إبليس أن تركه للسجود لآدم يبلغ به ما بلغ وأنه يوجب له أعظم العقوبة وتيقن ذلك لم يتركه، ولكن حال الله بينه وبين هذا العلم ليقضي أمره ويُنفذ قضاءه وقدره، ولو ظن آدم وحواء أنهما إذا أكلا من الشجرة خرجا من الجنة وجرى عليهما ما جرى ما قرباها، ولو علم أعداء الرسل تفاصيل ما يجري عليهم وما يصيبهم يوم القيامة وجزموا بذلك لما عادوهم.
قال تعالى عن قوم فرعون: وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ [سورة القمر:36]، وقال: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سورة سبأ:54]، وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه عيانا: وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [سورة التوبة:45]، وقال: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ [سورة الحديد:14]، وقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [سورة البقرة:10]، وهو الشك، ولو كان هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم لما كانوا في الدرك الأسفل من النار بل هذا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم الذي لم ينفعهم، فالعلم يضعف قطعا بالغفلة والإعراض واتّباع الهوى وإيثار الشهوات، وهذه الأمور توجب شبهات وتأويلات تضاده، فتأمل هذا الموضع حق تأمل فإنه من أسرار القدر والشرع والعدل.
فالعلم يراد به العلم التام المستلزم لأثره، ويراد به المقتضى وإن لم يتم بوجود شروطه وانتفاء موانعه، فالثاني يجامع الجهل دون الأول، فتبين أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم، وإن كان كذلك فعدم العلم ليس أمرا وجوديا بل هو لعدم السمع والبصر والقدرة والإرادة، والعدم ليس شيئا حتى يستدعي فاعلا مؤثرا فيه بل يكفي فيه عدم مشيئة ضده، وعدم السبب الموجب لضده، والعدم المحض لا يضاف إلى الله فإنه شر والشر ليس إليه، فإذا انتفي هذا الجازم عن العبد ونفسُه بطبعها متحركة مريدة وذلك من لوازم شأنها تحركت بمقتضى الطبع والشهوة وغلب ذلك فيها على داعي العلم والمعرفة فوقعت في أسباب الشر ولابد"[10].
وقال -رحمه الله: "وَمَقَامُ الْخَشْيَةِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ، فَمَتَى عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ حَقَّهُ اشْتَدَّتْ خَشْيَتُهُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [سورة فاطر:28] فَالْعُلَمَاءُ بِهِ وَبِأَمْرِهِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً[11]"[12].
وقال -رحمه الله: "قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [سورة فاطر:32].
القسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام، وهم ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله.
وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرجعى إلى الله، ولكن متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفس السير وسرعته وبطئه.
فالظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا في صفته، بل مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود ما يتأَذى به في طريقه، ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذى الضار.
والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشدّ مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة. والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأَرباح وشد أَحمال التجارات لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأَرباح تجاراتهم، فهو كرجل قد علم أَن أمامه بلدة يكسب الدرهم فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر، وعنده حاصل وله خبرة بطريق ذلك البلد وخبرة بالتجارة، فهو لو أَمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يهيئ به تجارة إِلى ذلك البلد لفعل، فهكذا حال السابق بالخيرات بإِذن ربه يرى خسراناً بيناً أن يمر عليه وقت في غير متجر.
فنذكر بعون الله وفضله نبذة من متاجر الأقسام الثلاثة ليعلم العبد من أي التجار هو: فأما الظالم لنفسه فإِنه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته استقبلها وقد سبقت حظوظه وشهواته إِلى قلبه فحركت جوارحه طالبة لها ساعية فيها، فإِذا زاحمها حقوق ربه فتارة وتارة فمرة يأْخذ بالرخصة ومرة بالعزيمة، ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاوناً ووعداً بالتوبة، فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والتصديق بالثواب والعقاب، فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران وهو للأغلب منهما، فإِذا ورد القيامة ميز ربحه من خسرانه وحصّل ربحه وحده وخسرانه وحده، وكان الحكم للراجح منهما، وحُكم الله من وراءِ ذلك لا يعدم عباده منه فضله وعدله.
وأما المقتصدون فأدوا وظيفة تلك المرحلة ولم يزيدوا عليها ولم ينقصوا منها، فلا حصلوا على أرباح التجار ولا بخسوا الحق الذي عليهم. فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام والصلاة التامة في وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذن الله له فيها مشتغلاً بها قائماً بأعيانها مؤدياً واجب الرب تعالي فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار والتوجه، فإذا حضرت الفريضة الأُخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاءَ الليل فكذلك إلى حين النوم يأْخذ مضجعه حتى ينشق الفجر فيقوم إلى غذائه ووظيفته، فإذا جاء الصوم الواجب يقوم بحقه، وكذلك الزكاة الواجبة والحج الواجب، وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم ولا يترك حقه لهم.
وأما السابقون بالخيرات فهم نوعان: أبرار ومقربون، وهؤلاء الأَصناف الثلاثة هم أَهل اليمين، وهم المقتصدون والأَبرار والمقربون، وأَما الظالم لنفسه فليس من أَصحاب اليمين عند الإِطلاق وإِن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنه لا يسمى مؤمناً عند الإطلاق وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه.
وقد اختلف في قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ [سورة فاطر:33] الآية، هل ذلك راجع إلى الأصناف الثلاثة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، أو يختص بالقسمين الأَخيرين وهما المقتصد والسابق دون الظالم؟ على قولين: فذهبت طائفة إلى أَن الأَصناف الثلاثة كلهم في الجنة، وهذا يروى عن ابن مسعود وابن عباس وأَبى سعيد الخدرى وعائشة أم المؤمنين...، واحتجت هذه الفرقة بأنه سبحانه سمى الكل "مصطفين"، وأخبر أنه اصطفاهم من جملة العباد، ومحال أَن يكون الكافر والمشرك من المصطفين، لأن الاصطفاء هو الاختيار، وهو الافتعال من صفوة الشيء وهو خياره، فعلم أَن هؤلاء الأصناف الثلاثة صفوة الخلق وبعضهم خير من بعض، فسابقهم مصطفي عليهم، ثم مقتصدهم مصطفي على ظالمهم، ثم ظالمهم مصطفي على الكافر والمشرك.
واحتجت أيضاً بآثار روتها تؤيد ما ذهبت إليه:....، واحتجت أيضاً بالآيات والأَحاديث التي تشهد بنجاة الموحدين من أهل الكبائر ودخولهم الجنة، واحتجت أيضاً بأَن ظلم النفس إِنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي، فإِن الظلم ثلاثة أَنواع: ظلم في حق النفس بإتباعها شهواتها وإيثارها لها على طاعة ربها، وظلم في حق الخلق بالعدوان عليهم ومنعهم حقوقهم، وظلم في حق الرب بالشرك به، فظلم النفس إِنما هو بالمعاصي وقد تواترت النصوص بأَن العصاة من الموحدين مآلهم إلى الجنة.
وقالت طائفة: بل الوعد بالجنات إِنما هو للمقتصد والسابق دون الظالم لنفسه، فإِن الظالم لنفسه لا يدخل تحت الوعد المطلق، والظالم لنفسه هنا هو الكافر، والمقتصد المؤمن العاصي، والسابق المؤمن التقى، وهذا يروى عن عكرمة والحسن وقتادة، وهو اختيار جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشاف ومنذر بن سعيد في تفسيره والرمانى وغيرهم، قالوا: وهذه الآية متناولة لجميع أقسام الخلق شقيهم وسعيدهم، وهى نظير آية: وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ما أَصْحَابُ المَشأَمَة وَالْسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [سورة الواقعة:7-10]، قالوا: فأصحاب الميمنة هم المقتصدون، وأصحاب المشأمة الظالمون لأنفسهم، والسابقون السابقون هم السابقون بالخيرات.
قالوا: ولم يصطفِ الله من خلقه ظالماً لنفسه، بل المصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم، والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم، فكيف يوقع عليهم اسم المصطفين ويتناولهم فعل الاصطفاء؟
قالوا: فأيضاً صفوة الله هم أحباؤه، والله لا يحب الظالمين فلا يكونون مصطفين، قالوا: ولأن الظالم لنفسه وإن كان ممن أورث الكتاب فهو بتركه العمل بما فيه قد ظلم نفسه، والله تعالى إِنما اصطفي من عباده من أورثه كتابه ليعمل بما فيه، فأما من نبذه وراء ظهره فليس من المصطفين من عباده قالوا: ولأن الاصطفاء افتعال من صفوة الشيء وهو خلاصته ولبّه، وأصله اصتفي فأُبدلت التاءُ طاءً لوقوعها بعد الصاد كالاصطباح والاصطلام ونحوه، والظالم لنفسه ليس صفوة العباد ولا خلاصتهم ولا لبّهم فلا يكون مصطفي، قالوا: ولأن الله سلَّم على المصطفين من عباده فقال: قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِين اصطفي [سورة النمل:59]، وهذا يقتضى سلامتهم من كل شر وكل عذاب، والظالم لنفسه غير سالم من هذا ولا هذا فكيف يكون من المصطفين؟
قالوا: وأيضاً فطريقة القرآن أن الوعد المطلق بالثواب إِنما يكون للمتقين لا للظالمين كقوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [سورة مريم:63] فأَين الظالم لنفسه هنا؟ وقوله تعالى: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [سورة الفرقان:15]، وقوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعدَّت لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران: 132]، وقوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً [سورة النبأ:31-36]، والقرآن مملوءٌ من هذا، ولم يجئ فيه موضع واحد بإطلاق الوعد بالثواب للظالم لنفسه أصلاً.
قالوا: وأيضاً فلم يجيء في القرآن ذكر الظالم لنفسه إِلا في معرض الوعيد لا الوعد، كقوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ في عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين [سورة الزخرف:74-76]، وقوله: فَقَالُوا رَبَّنَا بِاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعْلْنَاهُمْ أحَادِيثَ ومزقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سورة سبأ:99]، وقوله: وَمَا ظَلَمْناهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة النحل:118].
قالوا: وأَيضاً فالظالم لنفسه هو الذي خفت موازينه ورجحت سيئاته، والقرآن كله يدل على خسارته وأَنه غير ناج كقوله تعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [سورة الأعراف:8، 9]، وقوله: وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [سورة القارعة:8-9]، فكيف يذكر وعده بجناته وكرامته للظالمين أنفسهم الخفيفة موازينهم؟
قالوا: وأيضاً فقوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ مرفوع لأنه بدل من قوله: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وهو بدل نكرة من معرفة كقوله: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ [سورة العلق:15، 16]، وحسّن وقوعه مجيء النكرة موصوفة لتخصيصها بالوصف وقربها من المعرفة ومعلوم أن المبدل منه هو "الفضل الكبير" مختص بالسابقين بالخيرات، والمعنى أن سبقهم بالخيرات بإذنه ذلك هو الفضل الكبير وهو جنات عدن يدخلونها، وجعل السبق بالخيرات نفس الجنات لأنه سببها وموجبها.
قالوا: وأيضاً فإنه وصف حليتهم فيها بأنها أساور من ذهب ولؤلؤ، وهذه جنات السابقين لا جنات المقتصدين، فإن جنات الفردوس أربع كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهه في جنة عدن[13].
ومعلوم أن الجنتين الذهبيتين أعلى وأفضل من الفضيتين، فإذا كانت الجنتان الذهبيتان للظالمين لأنفسهم، فمن يسكن الجنتين الفضيتين؟ فعلم أن هذه الجنات المذكورة لا تتناول الظالمين لأنفسهم، قالوا: وأيضاً فإن أقرب المذكورات إلى ضمير الداخلين هم السابقون بالخيرات فوجب اختصاصهم بالدخول إلى الجنات المذكورات. قالوا: وفي اختصاصهم -بعد ذكر الأقسام- بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما هو معلوم من طريقة القرآن إذ يصرح بذكر ثواب الأبرار والمتقين والمخلصين والمحسنين ومن رجحت حسناتهم ويذكر عقاب الكفار والفجار والظالمين لأنفسهم ومن خفت موازينهم، ويسكت عن القسم الذي فيه شائبتان وله مادتان، هذه طريقة القرآن كقوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [سورة الانفطار:13-14]، وقوله: فأَمَّا مَن طَغَى وآثر الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمِ هِي الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِي الْمَأْوَى [سورة النازعات:37-41]، وهذا كثير في القرآن، قالوا: وفي السكوت عن شأْن صاحب الشائبتين تحذير عظيم وتخويف له بأَن أمره مرجأٌ إلى الله وليس عليه ضمان ولا له عنده وعد، وليحذر كل الحذر وليبادر بالتوبة النصوح التى تلحقه بالمضمون لهم النجاة والفلاح.
قالوا: وأيضاً فمن المحال أن يقع على أحد من المصطفين اسم الظلم مطلقاً، وإنما يقع اسم الظلم على الكافر، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:254]، وقال تعالى: وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِن وَلِى وَلا نَصِيرٍ [سورة الشورى:8] مع قوله: اللهُ وَلِى الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:257] والظالم لا ولى له ولا يكون من المؤمنين.
قالوا: وأيضاً فمن تدبر الآيات وتأمل سياقها وجدها قد استوعبت جميع أقسام الخلق، ودلت على مراتبهم في الجزاءِ، فذكر سبحانه أَن الناس نوعان: ظالم، ومحسن، ثم قسم المحسن إلى قسمين: مقتصد، وسابق، ثم ذكر جزاء المحسن، فلما فرغ منه ذكر جزاءَ الظالم فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ [سورة فاطر:36]، وقال: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:29]، فذكر أنواع العباد وجزاءَهم، قالوا: وأيضاً فهذه طريقة القرآن في ذكر أصناف الخلق الثلاثة كما ذكرهم الله تعالى في سورة الواقعة والمطففين وسورة الإنسان، فأما سورة الواقعة فذكرهم في أولها وفي آخرها، فقال في أولها: وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ في جَنَّاتِ النَّعِيم [سورة الواقعة: 7-12]، فأصحاب المشأمة هم الظالمون.
وأما أصحاب اليمين فقسمان: أبرار وهم أَصحاب الميمنة، وسابقون وهم المقربون، وفي آخرها: فَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِن المُكَذَّبِينَ الضَّالِّينَ فنُزُلٌ مِنْ حَمِيمِ وَتَصْلِيةُ جَحِيمٍ [سورة الواقعة:88- 94]، فذكر حالهم في القيامة الكبرى في أول السورة، ثم ذكر حالهم في القيامة الصغرى في البرزخ في آخر السورة، ولهذا قدم قبله ذكر الموت ومفارقة الروح فقال: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونها إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ [سورة الواقعة: 83-87] ثم قال: فأَمَّا إِن كَانَ مِن الْمُقَرَّبِين [سورة الواقعة:88] إلى آخرها.
وأما في أولها فذكر أقسام الخلق عقب قوله: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنبَثاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً [سورة الواقعة:1-7]، وأما سورة الإنسان فقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً [سورة الإنسان:4]، فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأَمة، ثم قال: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبَون مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً [سورة الإنسان:5]، فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين، ثم قال: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفْجِّرُونَهَا تَفْجِيراً [سورة الإنسان:6]، فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصهم بالإضافة إليه وأخبر أنهم يشربون بتلك العين صرفاً محضاً وأنها تمزج للأبرار مزجاً كما قال في سورة المطففين في شراب الأبرار: وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [سورة المطففين:27، 28]، وقال: "يشرب بها المقربون"، ولم يقل: "منها" إشعاراً بأَن شربهم بالعين نفسها خالصة لا بها وبغيرها فضمّن "يشرب" معنى يروى فعُدَّى بالباءَ، وهذا ألطف مأخذاً وأَحسن معنى من أن يجعل الباء بمعنى من، يضمن يشرب الفعل معنى فعل آخر، فيتعدى تعديته، وهذه طريقة الحذاق من النحاة، وهى طريقة سيبويه وأئمة أصحابه، وقال في الأبرار: يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً [سورة الإنسان:5]، لأن شرب المقربين لما كان أكمل استعير له الباءُ الدالة على شرب الري بالعين خالصة، ودلالة القرآن ألطف وأبلغ من أن يحيط بها البشر.
وقال تعالى في سورة المطففين: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ إلى قوله: كَلا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ [سورة المطففين:7-17]، فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال، ثم قال: كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفي عِلِيِّينَ َمَا أَدرَاك مَا عِلِّيُّونَ [سورة المطففين:18، 19]، فهؤلاء الأبرار المقتصدون، وأَخبر أن المقربين يشهدون كتابهم -أي يكتب بحضرتهم ومشهدهم- لا يغيبون عنه، اعتناءً به وإظهاراً لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربه.
ثم ذكر سبحانه نعيم الأبرار ومجالستهم ونظرهم إلى ربهم وظهور نضرة النعيم في وجوههم، ثم ذكر شرابهم فقال: يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [سورة المطففين:25، 26]، ثم قال: وَمِزَاجُهُ مِن تَسنيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [سورة المطففين:27-28]، التسنيم أعلى أشربة الجنة، فأخبر سبحانه أن مزاج شراب الأبرار من التسنيم، وأن المقربين يشربون منه بلا مزاج، ولهذا قال: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبون [سورة المطففين:28]، كما قال تعالى في سورة الإنسان سواء، قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج لأصحاب اليمين مزجاً.
وهذا لأن الجزاءَ وفاق العمل، فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله خلص شرابهم، وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات مزج لهم شرابهم، فمن أخلص أخلص شرابه، ومن مزج مزج شرابه.
قالوا: فهكذا هذه الآيات التي في سورة الملائكة ذكر فيها الأقسام الثلاثة: الظالم لنفسه وهو من أصحاب الشمال، وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين، وذكر السابقين وهم المقربون.
قالوا: وليس في الآية ما يدل على اختصاص الكتاب بالقرآن والمصطفين بهذه الأمة، بل الكتاب اسم جنس للكتب التي أنزلها على رسله، فإنه أورثها المصطفين من عباده من كل أمة، والأنبياء هم الذين أُورِثوه أولا ثم أَورَثوه المصطفين من أممهم بعدهم، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَاب هُدىً وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ [سورة غافر:53-54]، فأخبر أنه إنما يكون هدى وذكرى لمن له لبٌّ عقِلَ به الكتاب وعمل بما فيه، والعامل بما فيه هو الذي أورثه الله علمه.
وتأمل قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [سورة الشورى:14]، كيف حذف الفاعل هنا وبنى الفعل للمفعول لمّا كان في معرض الذم لهم ونفي العلم عنهم، ولما كان في سياق ذكر نعمه وآلائه ومنته عليهم قال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ [سورة الأعراف:196]، وأنه لما كان الكلام في سياق ذمهم على اتباعهم شهواتهم وإيثارهم العرَض الفاني على حظهم من الآخرة وتماديهم في ذلك لم ينسب التوريث إليه، بل نسبه إلى المحل فقال: أورثوا الكتاب ولم يقل: أورثناهم الكتاب وقد ذكرت نظير هذا في قوله: أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ أنه للمدح، و"أورثوا الكتاب" إما في سياق الذم، وإما منقسم في كتاب "التحفة المكية".
والمقصود أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده أولا وآخراً، قالوا: وقوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ لا يرجع إلى المصطفين، بل إما أن يكون الكلام قد تم عند قوله: مِنْ عِبَادِنَا ثم استأنف جملة أخرى وذكر فيها أقسام العباد وأن منهم ظالم ومنهم مقتصد ومنهم سابق.
ويكون الكلام جملتين مستقلتين، بين في إحداهما أنه أورث كتابه من اصطفاه من عباده، وبين في الأخرى أن من عباده ظالما ومقتصدا وسابقا، وإما أن يكون المعنى تقسيم المرسل إليهم بالنسبة إلى قبول الكتاب وأن منهم من لم يقبله وهو الظالم لنفسه، ومنهم من قبله مقتصدا فيه، ومنهم من قبله سابقا بالخيرات بإذن الله، قالوا: والذي يدل على هذا الوجه أنه سبحانه ذكر إرساله في كل أمة نذيرا ممن تقدم هذه الأمة فقال: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [سورة فاطر:24]، ثم ذكر أن رسلهم جاءتهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير الآيات الدالة على صدقهم وصحة رسالاتهم، والزبر: الكتب، واحدها زبور بمعنى مزبور أي مكتوب، الكتاب المنير: من باب عطف الخاص على العام لتميزه عن المسمى العام، بفضله وشرفه امتاز بها واختص بها عن غيره، وهو كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وكعطف أولى العزم على النبيين من قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [سورة الأحزاب:7] والكتاب المنير هاهنا: التوراة والإنجيل.
ثم ذكر إهلاك المكذبين لكتابه ورسله فقال: ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، ثم ذكر التالين لكتابه وهم المتبعون له العالمون بشرائعه فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [سورة فاطر:29، 30].
ثم ذكر الكتاب الذي خص به خاتم أنبيائه ورسله محمداً ﷺ فقال: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِه ِلَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة فاطر:31].
ثم ذكر سبحانه من أورثهم الكتاب بعد أولائك، وأنه اصطفاهم لتوريث كتابه إذ رده المكذبون ولم يقبلوا توريثه.
قالوا: وأما قولكم: إن الاصطفاء افتعال من الصفوة وهي الخيار وهي إنما تكون في السعداء، فهذا بعينه حجة لنا في أن الظالم لنفسه ليس ممن اصطفاه الله من عباده، وقد تقدم تقريره.
قالوا: وأما الآثار التي رويتموها عن النبي ﷺ في ذلك فكلها ضعيفة الأسانيد ومنقطعة لا تثبت، كيف وهي معارَضة بآثار مثلها أو أقوى منها، قالوا: وأما النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يدخلون الجنة فصحيحة لا ننازعكم فيها، غير أنها مطلقة، ولكن لها شروط وموانع، كما أن النصوص الدالة على عذاب أهل الكبائر صحيحة متواترة، ولها شروط وموانع يتوقف لحوق الوعيد عليها، فكذلك نصوص الوعد يتوقف مقتضاها على شروطها وانتفاء موانعها، قالوا: وأما قولكم إن ظلم النفس إنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي دون الكفر فليس بصحيح، فقد ذكر في القرآن ما يدل على أن ظلم النفس يكون بالكفر والشرك، ولو لم يكن في هذا إلا قول موسى لقومه: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:54]، وقوله : وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق [سورة سبأ:19] ونظائره كثيرة.
قالت الطائفة الأولى: لو تدبرتم القرآن حق تدبره، وأعطيتم الآيات حقها من الفهم، وراعيتم وجوه الدلالة وسياق الكلام لعلمتم أن الصواب معنا، وأن هذا التقسيم الذي دلت عليه أخص من التقسيم المذكور في سورة الواقعة والإنسان والمطففين، فإن ذلك تقسيم للناس إلى شقي وسعيد، وتقسيم السعداء إلى أبرار ومقربين، وتلك القسمة خالية عن ذكر العاصي الظالم لنفسه، وأما هذه الآيات ففيها تقسيم الأمة إلى محسن ومسيء، فالمسيء هو الظالم لنفسه، والمحسن نوعان: مقتصد وسابق بالخيرات، فإن الوجود شامل لهذا القسم، بل هو أغلب أقسام الأمة فكيف يخلو القرآن عن ذكره وبيان حكمه؟
ثم لما استوفي أقسام الأمة ذكر الخارجين عنهم وهم الذين كفروا فعمت الآية أقسام الخلق كلهم، وعلى ما ذهبتم إليه تكون الآية قد أهملت ذكر القسم الأغلب الأكثر وكررت ذكر حكم الكافر أولاً وآخراً.
ولا ريب أن ما ذكرناه أولى لبيان هذا القسم وعموم الفائدة، وأيضا فإن قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] صريح في أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده، وقوله : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ إما أن يرجع إلى الذين اصطفاهم، وإما أن يرجع إلى العباد، ورجوعه إلى الذين اصطفاهم لوجهين:
أحدهما أن قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ، إنما يرجع إلى المصطفين لا إلى العباد، فكذلك قوله: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، ولا يقال: بل الضمائر كلها تعود على العباد؛ لأن سياق الآيات والإتيان بالفاء والتقسيم المذكور كله يدل على أن المراد بيان أقسام الوارثين للكتاب لا بيان أقسام العباد، إذ لو أراد ذلك لأتى بلفظ يزيل الوهم ولا يلتبس به المراد بغيره، وكأن وجه الكلام على هذا أن يقال: ومن عبادنا ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا منهم، وهذا معنى الكلام عندكم، ولا ريب أن سياق الآيات لا يدل عليه إنما يدل على أنه أورث الكتاب طائفة من عباده، وأن تلك الطائفة ثلاثة أقسام، هذا وجه الكلام الذي يدل عليه ظاهره.
الثاني: أنك إذا قلت: أعطيت مالي البالغين من أولادي فمنهم تاجر ومنهم خازن ومنهم مبذر ومسرف، هل يفهم من هذا أحد قط أن هذا التقسيم لجملة أولاده، بل لا يفهم منه إلا أن أولاده كانوا في أخذهم المال أقساما ثلاثة، ولهذا أتي فيها بالفاء الدالة على تفصيل ما أجمله أولاً، كما إذا قلت: خذ هذا المال فأعط فلانا كذا وأعط فلانا كذا، ونظائره متعددة، ولا وجه للإتيان بالفاء هاهنا إلا تفصيل المذكور أولاً، لا تفصيل المسكوت عنه، والآية قد سكتت عن تفصيل العباد الذين اصطفي منهم من أورثه الكتاب، فالتفصيل للمذكور ليس إلا، فتأمله فإنه واضح.
قالوا: وأما قولكم: إن الله لا يصطفي من عباده ظالما لنفسه لأن الاصطفاء هو الاختيار من الشيء صفوته وخياره إلى آخر ما ذكرتم فجوابه أن كون العبد مصطفي لله ووليا لله ومحبوبا لله ونحو ذلك من الأسماء الدالة على شرف منزلة العبد وتقريب الله له لا ينافي ظلم العبد نفسه أحيانا بالذنوب والمعاصي، بل أبلغ من ذلك أن صِدّيقيته لا تنافي ظلمه لنفسه، ولهذا قال صدّيق الأمة وخيارها للنبي ﷺ: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم".
وقد قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:133-135].
فأخبر سبحانه عن صفات المتقين وأنهم يقع منهم ظلم النفس والفاحشة لكن لا يصرون على ذلك، وقال تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الزمر:33-35] فهؤلاء الصدّيقون المتقون قد أخبر سبحانه أن لهم أعمالا سيئة يكفرها، ولا ريب أنها ظلم للنفس، وقال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة القصص:16]، وقال آدم -عليه السلام: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23]، وقال يونس -عليه السلام: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87]، وقال تعالى: إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النمل:11].
وإذا كان ظلم النفس لا ينافي الصديقية والولاية، ولا يخرج العبد عن كونه من المتقين، بل يجتمع فيه الأمران يكون وليا لله صدّيقا متقيا وهو مسيء ظالم لنفسه، عُلم أن ظلمه لنفسه لا يخرجه عن كونه من الذين اصطفاهم الله من عباده وأورثهم كتابه، إذ هو مصطفي من جهة كونه من ورثة الكتاب علما وعملا، ظالم لنفسه من جهة تفريطه في بعض ما أمر به وتعديه بعض ما نهي عنه، كما يكون الرجل وليا لله محبوبا له من جهة، ومبغوضا له من جهة أخرى، وهذا عبد الله الخمار كان يكثر شرب الخمر والله يبغضه من هذه الجهة، ويحب الله ورسوله ويحبه الله ويواليه من هذه الجهة، ولهذا نهى النبي ﷺ عن لعنه وقال: إنه يحب الله ورسوله، ونكتة المسألة أن الاصطفاء والولاية والصديقية وكون الرجل من الأبرار ومن المتقين ونحو ذلك كلها مراتب تقبل التَّجْزِيء والانقسام والكمال والنقصان كما هو ثابت باتفاق المسلمين في أصل الإيمان، وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفي من وجه ظالما لنفسه من وجه آخر.
وظلم النفس نوعان: نوع لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية والصديقية والاصطفاء وهو ظلمها بالشرك والكفر، ونوع يبقى معه حظه من الإيمان والاصطفاء والولاية وهو ظلمها بالمعاصي، وهو درجات متفاوتة في القدر والوصف.
فهذا التفصيل يكشف قناع المسألة ويزيل إشكالها بحمد الله.
قالوا: وأما قولكم: إن قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ مرفوع لأنه بدل من قوله: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [سورة فاطر:32]، وهو مختص بالسابقين، وذكْر حليتهم فيها من أساور من ذهب يدل على ذلك إلخ فجوابه من وجهين: أحدهما أن هذا بعينه وارد عليكم، فإن المقتصد من أهل الجنات، ومعلوم أن جنات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جناته، فما كان جوابكم عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه، فإن التفاوت حاصل بين جنات الأصناف الثلاثة، ويختص كل صنف بما يليق بهم، ويقتضيه مقامهم وعملهم.
الجواب الثاني: أنه سبحانه ذكر جزاء السابقين بالخيرات هنا مشوقا لعباده إليه منبها لهم على مقداره وشرفه، وسكت عن جزاء الظالمين لأنفسهم والمقتصدين ليحذر الظالمون ويجدّ المقتصدون، وذكر في سورة الإنسان جزاء الأبرار منبها على ما هو أعلى وأجل منه وهو جزاء المقربين السابقين ليدل على أن هذا إذا كان جزاء الأبرار المقتصدين فما الظن بجزاء المقربين السابقين فقال تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً إلى قوله: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ إلى قوله: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [سورة الإنسان:5-21]، فذكر هنا الأساور من الفضة والأكواب من الفضة في جزاء الأبرار، وذكر في سورة الملائكة الأساور من الذهب في جزاء السابقين بالخيرات، فعلم جزاء المقتصدين من سورة الإنسان، وعلم جزاء السابقين من سورة الملائكة، فانتظمت السورتان جزاء المقربين على أتم الوجوه، والله أعلم بأسرار كلامه وحكمه.
قالوا: وهذا هو الجواب عن قولكم: إن الضمير يختص به أقرب مذكور إليه.
قالوا: وأما قولكم: إن الظالم لنفسه إنما هو الكافر فقد تقدم جوابه وذكر ما يبطله"[14].
- رواه الحاكم في المستدرك، برقم (3309)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (11241)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3093).
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في الشفاعة، برقم (4739)، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الشفاعة، برقم (2435)، وأحمد في المسند، برقم (13222)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3714).
- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الملائكة، برقم (3225)، وأحمد في المسند، برقم (11745)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لإبهام الرجل من ثقيف، والرجل من كنانة، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين، محمد: هو ابن جعفر، وشعبة: هو ابن الحجاج".
- رواه أحمد في المسند، برقم (21727)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لانقطاعه بين علي بن عبد الله وأبي الدرداء، بينهما فيه أبو خالد البكري كما في "تاريخ" البخاري 9/ 18، ولم نتبينه".
- رواه أبو داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، برقم (3641)، والترمذي، كتاب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، برقم (2682)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، برقم (223)، وأحمد في المسند، برقم (21715)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف، وقيس بن كثير، وقيل: كثير بن قيس -وهو قول الأكثرين- ضعيف، ثم إن عاصم بن رجاء لم يسمعه من قيس، فهو منقطع، بينهما داود بن جميل كما في الحديث التالي، وهو ضعيف أيضاً"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6297).
- رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، برقم (250).
- رواه البخاري، كتاب اللباس، باب لبس الحرير وافتراشه للرجال، وقدر ما يجوز منه، برقم (5833)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها، برقم (2073).
- رواه أبو داود، كتاب الأشربة، باب في الشراب في آنية الذهب والفضة، برقم (3723)، وأحمد في المسند، برقم (23437)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2816).
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم (ص:172-172).
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي ﷺ: أنا أعلمكم بالله، وأن المعرفة فعل القلب، برقم (20)، ولفظه: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 156).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ومن دونهما جنتان [الرحمن:62]، برقم (4878)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (180).
- طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص:186-201).