السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} الآية:36 إلى آخرالسورة
تاريخ النشر: ١٨ / صفر / ١٤٣٣
التحميل: 6113
مرات الإستماع: 2725

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد.

اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ۝ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [سورة فاطر:36، 37].

لما ذكر تعالى حال السعداء شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، كما قال تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [سورة طه:74]، وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال: أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون[1]، قال الله تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [سورة الزخرف:77]، فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [سورة الزخرف:74، 75]، وقال: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [سورة الإسراء:97]، فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا [سورة النبأ:30].

ثم قال: كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقول الله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: لما ذكر تعالى حال السعداء إلى آخره هذا الذي يعرف بعلم المناسبة -وقد سبق التنبيه عليه مراراً- ووجه الارتباط بين الآية والتي قبلها، ومنه أنواع أخرى كوجه الارتباط بين المقطع والمقطع، أو وجه الارتباط بين خاتمة الآية وموضوع الآية وما شابه ذلك، وابن كثير -رحمه الله- يشير إلى هذه المناسبات في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وكذلك بعض من ينكر المناسبات صراحة كالشوكاني في مواضع من كتابه إلا أنه يكثر من ذكرها من الناحية العملية.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا بمعنى أنهم يبقون فيها أبداً كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وأورد عليه النصوص من الكتاب والسنة، وقول النبي ﷺ هنا: "أما أهل النار الذين هم أهلها.." يعني أهل الخلود فيها وذلك لا ينافي قوله -تبارك وتعالى:لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [سورة النبأ:23] فالأحقاب هي المدد الطويلة غير المتناهية.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:106، 107]، وتعليقه ببقاء السماوات والأرض هذا على طريقة العرب وهي أنها قد تعلق شيئاً بفانٍ وتريد التأبيد وهذا معروف في كلامهم، ونحن نقول مثلاً: "اللهم صلِّ على محمد ﷺ ما تعاقب الليل والنهار مثلاً أو ما تحركت الأغصان أو ما غرد طائر أو نحو ذلك"، والمقصود بهذا التأبيد، تقول: لا أفعل ذلك ما تعاقب المَلوان يعني الليل والنهار، والعرب قد تعلق بزائل وقد تريد التأبيد.

وهكذا في الاستثناء في قوله: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فهذا كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة الفتح: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ [سورة الفتح:27] وهم داخلون قطعاً، فقد يأتي الاستثناء أو التعليق بالمشيئة على أمر متحقق الوقوع، وقد يرد ذلك على أمر منتفي الوقوع كما في هذا الموضع، ولكنه لما كان كل شيء بإرادة الله ومشيئته ذكر ذلك، ودلت النصوص الكثيرة على أن أهل النار لا يخرجون منها، وأنهم باقون فيها أبداً.

وقوله: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَاأي: ينادون فيها، يجأرون إلى الله بأصواتهم: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الرب أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم: فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [سورة غافر:11، 12]، أي: لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رُددتم لعدّتم إلى ما نُهيتم عنه؛ ولهذا قال هاهنا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي: أوَما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه[2].

وهكذا رواه الإمام البخاري في "كتاب الرقاق" من صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أعذر الله إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة[3].

وروى ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من عَمَّرَه الله ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر[4]، وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق.

ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك[5].

وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد.

قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ العمر الذي يكون كافياً للتذكر، وأمهلكم هذا الإمهال، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: أوََما عشتم في الدنيا أعماراً لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟ هذا المعنى، والأحاديث التي أوردها هنا التي تدور حول هذا المعنى أعذر الله إلى رجل أمهله حتى بلغ ستين سنة ، هذا مما يحصل به أبلغ الإعذار إلى الخلق، أن يمهل الإنسان إلى ستين سنة.

لكن قوله -تبارك وتعالى- هنا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ هل هذا التذكر يحصل ببلوغ ستين سنة فيكون الله قد أعذر إليه، وأن التذكر لا يحصل بما دون ذلك مما يلقاه الإنسان في هذه الحياة؟

الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذا التذكر يحصل بما هو دون ذلك بلا شك، لهذا فإن هذا العمر الذي يمكن أن يحصل به هذا يكون دون الستين، ولكنه بالستين يكون قد بلغ إلى حد قد أعذره الله فيه إليه، ولهذا فإن من أهل العلم من يقول: إن ذلك يحصل بأربعين سنة يعني أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ بأربعين سنة، وبعضهم يقول: هو بما دون ذلك، بعض السلف كعطاء وقتادة يقولون: إذا بلغ الثامنة عشرة فقد بقي هذه المدة التي يحصل بها التذكر أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ إذا بلغ ثماني عشرة سنة، والذين قالوا بالأربعين كأنهم أخذوا ذلك -والله تعالى أعلم- من قوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [سورة الأحقاف:15]، بمعنى أنه بمنتهى العقل وقوة الإدراك؛ لأن ذلك يعظم في سن الأربعين.

وهذه قضية تتفاوت يعني من جهة قوة المدارك العقلية ولكن الإنسان يكون في حال يتذكر فيها إذا كان يعقل عن الله -تبارك وتعالى- فهذا يكون ببلوغ السن التي يحصل بها التكليف، فإن كان له زيادة إمهال فإن ذلك يكون أكثر في الإعذار إليه، فإذا بلغ ستين سنة فذلك المنتهى؛ ولهذا لا يُرجى لأحد رشدٌ بعد الستين، يعني إذا كان فيه سفه لا يرجى له رشد بعد ذلك، لكن الناس يتفاوتون، وهكذا في كل مقام بحسبه، يعني فيما يتصل بالأموال والتصرف فيها الله -تبارك وتعالى- يقول: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [سورة النساء:6]، وقد مضى الكلام على هذا وأن الأقرب في محمل الآية أن يكون ذلك بمجموع أمرين كما قال الإمام مالك وغيره: البلوغ وحسن التصرف بالمال؛ لأنه هو المقصود هناك، آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فهنا التذكر يحصل ببلوغ الستين ويحصل ببلوغ الأربعين، وهذا التعمير الذي يحصل ويتحقق فيها هذا يحصل لما دون ذلك أيضاً، يعني أبقيناكم مدة كافية للتذكر، والله أعلم.

وسن التكليف إذا كنت تعني هذا: أن الله -تبارك وتعالى- لا يؤاخذهم بالميثاق الأول حينما استخرجهم من صلب أبيهم آدم فذلك ميثاق، وكذلك ما أودع في نفوسهم من الفِطر وما أعطاهم أيضاً من العقول التي يميزون فيها، وما علِمه أيضاً منذُ الأزل عما هم عاملون، كل هذه الأمور لا يؤاخذهم فيها، وإنما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وأناط التكليف بحال أو بحد محدود وهو أن يكون الإنسان وصل إلى سن البلوغ، فهنا يجري عليه الكتاب ويحاسبه على أعماله التي صدرت منه، لكن المقصود هنا -والله تعالى أعلم: أن أمهلناكم وأبقيناكم المدة التي تكفي للتذكر.

وقوله: وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ روي عن ابن عباس، وعِكْرِمَة، وأبي جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا: يعني: الشيب.

وقال السُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني به الرسول ﷺ وقرأ ابن زيد: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى [سورة النجم:56]، وهذا هو الصحيح عن قتادة، فيما رواه شيبان عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل.

وهذا اختيار ابن جرير، وهو الأظهر؛ لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [سورة الإسراء:15]، وقال تبارك وتعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [سورة الملك:8، 9].

وقوله: فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي: فذوقوا عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.

قوله هنا: وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ ما ذكره عن طائفة من السلف كابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره أن المراد بذلك الشيب، وهذا اختيار الفراء وجماعة، الشيب بمعنى أن الشيب نذير للموت، أنه مؤذن بقرب الرحيل، والقول الآخر الذي نقله عن السدي وجماعة أن النذير هو الرسول -عليه الصلاة والسلام- وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ

هذا الذي قال هو اختيار ابن جرير، ورجحه أيضاً الحافظ ابن كثير، وهو قول جمهور المفسرين، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم؛ وذلك أن النذير في القرآن يأتي كثيراً بمعنى الرسول، والقرآن إنما يفسر باعتبار الأغلب في الاستعمال في الألفاظ والتراكيب، فجمع لهم بين هذا وهذا أنهم بقوا مدة كافية للتذكر وقامت عليهم الحجة وجاءهم الرسول وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا وكما في قوله -تبارك وتعالى- عن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أو عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى [سورة النجم:56]. 

وبعضهم يقول غير هذا، يعني هناك أقوال في بعضها غرابة في تفسير النذير، هذا هو الأشهر، يعني أشهر هذه الأقوال أنه الشيب، أو أنه الرسول -عليه الصلاة والسلام، أما قول من قال: إنه القرآن وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فهذا لا نقول إنه بحاجة إلى ترجيح أو رد لهذا القول؛ لأنه متلازم مع القول بأنه الرسول -عليه الصلاة والسلام- من قال: إن النذير هو القرآن فالنبي ﷺ جاء بالقرآن، ولكن تفسيره بالرسول أظهر، ومثل هذا لا يحتاج أن يرجح بينه وبين القول بأنه الرسول -عليه الصلاة والسلام، لكن بعضهم يقول: النذير رسول الموت الذي هو الحُمى، أي أنها رسول الموت باعتبار أن الناس تصيبهم الحمى في حياتهم، يتكرر ذلك مراراً، لكن هذا القول بعيد.

وبعضهم يقول: موت الأهل والقرابات حتى إن الإنسان لربما انفرد بينهم، فإذا مات قرابته وأقرانه ونحو ذلك فهذا نذير باعتبار أنه ينتظر الدور وأنه سيلاقي المصير نفسه ، وبعضهم يقول: وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ يعني كمال العقل، وبعضهم يقول: البلوغ، وهذا بعيد -والله تعالى أعلم، وأما فيما يتعلق بالشيب فيظهر في الإنسان في وقت مبكر ولربما يكون كثير من الناس يبدأ يظهر فيهم الشيب بعد الأربعين.

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا [سورة فاطر:38، 39].

يخبر تعالى بعلمه غيب السماوات والأرض، وأنه يعلم ما تكنّه السرائر وتنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بعمله.

ثم قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ أي: يَخلف قوم لآخرين قبلهم، وجيل لجيل قبلهم، كما قال: فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره، وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا أي: كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحَسُن عمله ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة، وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين.

قوله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ الحافظ ابن كثير هنا يقول: أي: يَخلف قوم لآخرين قبلهم وجيل لجيل قبلهم وهذا المعنى قريب، وقد يكون هو المتبادر ولا يبعد منه قول ابن جرير -رحمه الله- خلائف في الأرض يعني أنكم تخلفون من سبقكم من الأمم كثمود وعاد، الأمم التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- فلا شك أنهم جاءوا بعدهم، وهذا لا ينافي أن يكون الخلائف أن يخلف بعضهم بعضاً جيلاً بعد جيل فمن هذه الأجيال تلك الأمم المهلَكة.

وبعضهم يقول: المراد بالخلائف أي أنكم تخلفون عن الله -تبارك وتعالى- وأنه استخلفكم في الأرض، ويفسرون بذلك قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30]، وقد مضى الكلام هناك على الأقوال التي ذكرها المفسرون في هذا وأن قول من قال: خليفة أي عن الله أنه غير صحيح، وأنه لا يصح أن يقال: إن الإنسان خليفة عن الله -تبارك وتعالى، وإنما المقصود: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً يعني الناس يخلف بعضهم بعضاً، فالله استخلفهم فيها وجعلهم خلائف يتعاقبون فيها ويخلف جيل جيلاً، وهكذا قول من فسره هنا وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ بأنهم يخلفون عن الله -تبارك وتعالى- هذا غير صحيح، وقوله -تبارك وتعالى: وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا المقت هو أشد البغض، كما أن المحبة درجات أعلاها الخُلّة، فكذلك البغض درجات، فمن أعلى درجات البغض المقت.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ۝ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [سورة فاطر:40، 41]، يقول تعالى لرسوله ﷺ أن يقول للمشركين: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أي: ليس لهم شيء من ذلك، ما يملكون من قطمير.

وقوله: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي: أم أنزلنا عليهم كتابا بما يقولون من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا أي: بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور وباطل وزور.

ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا أي: أن تضطربا عن أماكنهما، كما قال: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ [سورة الحج:65]، وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ [سورة الروم:25]،إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا.

قوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ يقول: هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله -تبارك وتعالى- إما أن يكونوا خالقين، أو أن يكونوا مشاركين، أو أن يكون لكم على ذلك الشرك كتابٌ، لاشك أن هؤلاء ليسوا بخالقين، ولا مشاركين، وليس عند المشركين بينة من كتاب على ما يشركون به -تبارك وتعالى.

وقوله: بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا يدخل في هذا ما يحصل من الوعد بالنصر وما إلى ذلك فيما بينهم أنهم ينتصرون، ويظهرون، أو أن الدار الآخرة لهم، أو كما يقول اليهود: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80]، وما أشبه هذا.

وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا بعض أهل العلم يقول: إن هذا مشعر بأن السماوات والأرض تكاد أن تضطرب بسبب ذنوب بني آدم، وأن الله يمسكها، وكأنهم أخذوا ذلك من قوله -تبارك وتعالى- في آخر الآية: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا قالوا: إن السماوات والأرض تكاد أن تطبق على هؤلاء أو أن تضطرب أو تميد بهم بذنوب بني آدم وإن الله يمسكها لئلا تميد وتضطرب لكونه متصفاً بالحلم والغفر، وذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا بصورة أظهر، ولكن هؤلاء فيما يبدو -والله تعالى أعلم- لا يقصدون حصر التفسير في هذا، وإنما أن ذلك شيء يؤخذ من هذه الآية، ولكن لا يعارضون على الذي يذكره عامة المفسرين كما ذكر ابن كثير -رحمه الله- وكما يدل عليه القرآن كما في قوله: وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [سورة الحج:65]

وقوله: وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا "إنْ" هذه نافية، لما أمسكهما من أحد من بعده، يعني لا يستطيع أن يمسكهما أحد من بعده، وهذه قضية قررها الله -تبارك وتعالى، ومن ثَمّ فلا يمكن للسماوات والأرض أن تضطرب قبل يوم القيامة، ومن ثَمّ ما يذكره أهل الفلك حيناً بعد حين من أن كوكباً يتجه إلى الأرض أو أنه سيصطدم بها أو قد يصطدم بها أو نحو ذلك هذا كله كلام لا قيمة له، ولا حقيقة له إطلاقاً، وهكذا ما يذكرون -إن صح ذلك وصدقوا فيه- من ثقب الأوزون وما أشبه ذلك، وأن الحياة على وجه الأرض محددة وكل هذا الكلام إن سلم من مقاصد فاسدة لهم فلا يمكن أن تنتهي الحياة على وجه الأرض أبداً قبل يوم القيامة، لكن هؤلاء لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يعرفون هذه الحقائق ومن ثم فهم يضطربون هذا الاضطراب ويتخرصون هذه التخرصات، ويصدقهم بعض المسلمين.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ۝ اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا [سورة فاطر:42، 43].

يخبر تعالى عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم قبل إرسال الرسول إليهم: لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ أي: من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل، قاله الضحاك وغيره، كقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ۝ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [سورة الأنعام:156، 157]، وكقوله تعالى: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ۝ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ ۝ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ۝ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [سورة الصافات:167-170].

قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ -وهو محمد ﷺ بما أنزل معه من الكتاب العظيم، وهو القرآن المبين مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا، أي: ما ازدادوا إلا كفرًا إلى كفرهم، ثم بين ذلك بقوله: اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِأي: استكبروا عن اتباع آيات الله، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ أي: وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم.

وقوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ يعني: عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا أي: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ [سورة الرعد:11]، ولا يكشف ذلك عنهم ويحوله عنهم أحد.

قوله -تبارك وتعالي: أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ من جميع الأمم، وقيده بعضهم بالمكذِّبة التي خلت من قبلهم، وبعضهم حمل ذلك على الأكمل في الأوصاف لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ من الأمة التي يقال لها ذلك، كأنها متفردة في الكمال ومفضلة على غيرها، فيقول: هذه إحدى الأمم، يعني متوحدة بالفضل والتفضيل على غيرها، وابن جرير -رحمه الله- يقول: إن المعنى من إحدى الأمم التي خلت من قبلهم، وهذا يشبه كلام ابن كثير -رحمه الله، لكن كلام ابن جرير يكون أدق أو أوضح مما قاله ابن كثير، يعني ابن كثير نقل قول الضحاك: أي من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جميع الأمم، وعبارة ابن جرير: من إحدى الأمم التي خلت من قبلهم، يعني هذا يرجع إلى دليل الأمم، -والله تعالي أعلم.

وأما قوله -تبارك وتعالى: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ قال: أي استكبروا عن اتباع آيات الله، وبعضهم يقول: لأجل الاستكبار، من أجل الاستكبار في الأرض ومن أجل المكر السيئ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ۝ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ لأجل الاستكبار في الأرض وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله -تبارك وتعالى، مكر السيئ: بعضهم يقول: فيه مقدر محذوف وَمَكْرَ السَّيِّئِ مكر العمل السيئ، أو مكروا مكر السيئ، فالمكر هنا مضاف إلى صفته، مكر موصوف بالسوء، يعني مثل مسجد الجامع، والصلاة الأولى، فأضيف إلى صفته وَمَكْرَ السَّيِّئِ ، يعني مكروا المكر السيئ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ يحيق هذه اللفظة –حاق- فيها معنى الإحاطة، يعني ولا يحيط، ومن فسره بأنه لا ينزل ولا يقع إلى آخره فهذا تفسير له بالمقارب.

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ۝ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [سورة فاطر:44، 45].

يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الرسالة: سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل، كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، فَخُلِيَتْ منهم منازلهم، وسلبوا ما كانوا فيه من النَّعَم بعد كمال القوة، وكثرة العدد والعُدَد، وكثرة الأموال والأولاد، فما أغنى ذلك شيئا، ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء إذا أراد كونه في السماوات والأرض، إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا أي: عليم بجميع الكائنات، قدير على مجموعها.

ثم قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ أي: لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق.

وقال سعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ في قوله: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ أي: لما سقاهم المطر، فماتت جميع الدواب.

وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: ولكن يُنْظرهُم إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهلَ الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية؛ ولهذا قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا.

آخر تفسير سورة "فاطر" ولله الحمد والمنة.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ قال: لأَهْلَكَ جميع أهل الأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق، وما لا يملكونه من الدواب كالوحش والهوام ونحو ذلك؛ ولهذا فإن من المفسرين من حمله على العموم.

والدابة تقال بإطلاق أوسع لكل ما يدب على الأرض، كل ما دب عليها من الهوام وذوات الأربع والإنس والجن كل هؤلاء يقال له: دواب بهذا الاعتبار، وتقال لذوات الأربع بمعنى أضيق وليس ذلك هو المراد هنا، ليس المراد: أعني تحديداً، وبعضهم خصه بالإنس والجن باعتبار أنهم أهل التكليف، وأن العقوبات تقع عليهم دون غيرهم، وبعضهم خصه بالإنس باعتبار أنهم يدبون على الأرض.

والظاهر -والله تعالى أعلم- أن ذلك على العموم فيدخل فيه كل من دب على الأرض حتى الجعلان في جحرها تموت بذنوب بني آدم، وقد يكون ذلك بحبس المطر عنه كما جاء عن السدي وسعيد بن جبير فيكون ذلك سبباً للهلاك، وقد يكون بغيره مما أراده الله -تبارك وتعالى، لكن الذين خصوا ذلك بالجن والإنس مثلاً أو بالإنس باعتبار العقوبة، وإنما العقوبة تقع على من فعلها، ولكن السلف -رضي الله تعالى عنهم- كثيراً ما يذكرون مثل هذا من جهة أن شؤم الذنوب يتعدى فيصل إلى هذه البهائم والدواب وما إلى ذلك، والله -تبارك وتعالى- يقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [سورة الروم:41]، ومن هذا الفساد الذي حصل في البر والبحر ما يحصل من هلاك الدواب في البحار، وما يحصل من ألوان الفساد من التلوث ونحو ذلك، والقحط في البر إلى غير هذا، فهذه العقوبات تعم إذا نزلت، -والله المستعان.

ولهذا في قول النبي ﷺ: إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان... [6]، ذكروا في وجه هذا قالوا: باعتبار أنه يعلم الناس ما يسوغ وما لا يسوغ فيتكلم في أمور مباشرة في منع هذه الآثار الفاسدة والمُفسدة التي تأتي على هذه الدواب والبهائم، تُؤذَى ولا يحصل لها ضرر من جهة بني آدم يعني بالمباشرة، وكذلك أيضاً هو يعلم الناس ما تحصل به التقوى فلا يحصل انحباس القطر، ولا تحصل العقوبات العامة التي تتضرر منها هذه الدواب والبهائم في البر والبحر، والله تعالى أعلم.

  1. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، برقم (185).
  2. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (7713)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير الرجل الذي من بني غفار، وهو معن بن محمد الغفاري، كما جاء مصرحاً به في رواية البخاري وغيره، وهو صدوق حسن الحديث"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5118).
  3. رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، برقم (6419).
  4. رواه أحمد في المسند، برقم (9251)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (6310)، والحاكم في المستدرك، برقم (3597)، وقال محققوه: "صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (414).
  5. رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب في دعاء النبي ﷺ، برقم (3550)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الأمل والأجل، برقم (4236)، وابن حبان في صحيحه، برقم (2980)، وقال الألباني: "حسن لذاته صحيح لغيره"، في السلسلة الصحيحة، برقم (757).
  6. رواه الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، برقم (2682)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب ثواب معلم الناس الخير، برقم (239)، وأحمد في المسند، برقم (21715)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5883)، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (3024).

مواد ذات صلة