السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}‏ الآية:1 إلى قوله تعالى: {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} الآية:16
تاريخ النشر: ٠٢ / رجب / ١٤٣٣
التحميل: 8134
مرات الإستماع: 3105

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ۝ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ۝ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ [سورة ص:1-3].

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة "البقرة" بما أغنى عن إعادته هاهنا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمضى في سورة البقرة وفي غيرها أن هذه الحروف على الأرجح لا معنى لها في نفسها، وتأتي الإشارة بعدها غالباً إلى القرآن، الأمر الذي يشعر أن ذلك يشير إلى الإعجاز، أن هذا القرآن مكون من هذه الحروف، وأنتم عاجزون عن الإتيان بمثله، ونحن نقول لكل معترض على القرآن مشكك فيه مستهزئ: بيننا وبينك هذا التحدي، أن تأتي بسورة من مثله ولو بأقصر السور، فإن عجز فهو مكابر أفاك.

وللأسف تجد اليوم من يلبس على الناس ويشكك في هذا القرآن، ويُدخل من الاعتراضات والشبهات والأباطيل والأكاذيب ما هو ظاهر لكل من أعطاه الله بصراً في الدين، ولكن قد يخفى ذلك على بعض من لا يعرف من العلم شيئاً، ولا بصر له ولا بصيرة، فيفتن بذلك من شاء الله فتنته، ومثل هذا لو أن هؤلاء رجعوا إلى هذا الأصل إن لم يكونوا يعرفون الجواب، فقالوا لمثل هؤلاء الأفاكين اليوم الذين قد وضعوا لأنفسهم مواقع في الشبكة يصطادون فيها بعض الأغرار، فأجابوهم بهذا الجواب: بيننا وبينكم هذا التحدي فأتوا بمثله، وما كان يُظن أن أحداً يُخدع بمثل هؤلاء أو يغتر بهم، فإلى الله المشتكى، والله المستعان.

قبل يومين لقيت بعض الشباب الصغار في أولى ثانوي، ذكروا لي أن عندهم بعض الشبهات، فظننت أن الأمر قد يقتضي بالكثير نصف ساعة، وإذا معهم أوراق كثيرة، فجلست معهم من بعد صلاة العصر إلى إقامة صلاة العشاء، جلسة واحدة لا نخرج إلا للإقامة، ونظرت في هذه الشبهات التي يذكرونها وقد زلزلت إيمانهم، وأوشك بعضهم أن يُلحد، وإذا هي شبهات لا قيمة لها إطلاقاً، ويمكن أن يجاب عنها بإجابات علمية مفصلة من وجوه كثيرة، يكفي واحد منها لاقتلاع هذه الشبهة من جذورها وأساسها.

ولكن هؤلاء شباب صغار ينظرون ويتتبعون هذه المواقع المتعفنة، ثم بعد ذلك تعلق هذه الشبهات في قلوبهم ولا يستطيعون الخروج منها، يشككهم في أصل القرآن وفيمن تكلم بالقرآن، وفيمن جاء بالقرآن -عليه الصلاة والسلام، وبالله وبالوحي وبالرسالة، وبالرسول والكتاب المنزل، ثم للأسف تجد هذه الشبهات من يصغي إليها ويفتن بها.

فالحاصل كنت أذكر لهم الجواب المفصل والجواب المجمل، وبعد الإجابة على ما عندهم أسألهم أقول لهم: ترون أن هذه تستحق الوقوف عندها؟ يقولون: لا، إذاً ما الذي تحتاجون إليه؟ قالوا: نحتاج إلى العلم، وهكذا بعد كل شبهة.

فلما انتهينا، قلت لهم: حينما أتيتم كيف كنتم ترون هذا؟ قالوا: قد لُبس علينا في أصل الدين، قلت لهم: والآن كيف ترون هذه الأشياء؟ قالوا: ساقطة، قلت: ما الذي تحتاجون إليه إذاً؟ قالوا: نحتاج إلى العلم.

قلت: العلم مثل الكشاف يقوى ويضعف، يقوى حتى يكون كالشمس يبدد هذه الظلمات، ويضعف، ولكن الإنسان لا يشعر بضعف بصيرته، مثل الإنسان الذي يبقى في مكان لربما يعتم قليلاً وهو لا يشعر ويقرأ، فإذا أضيء له مصباح قوي أبصر وقال: أين كنتُ؟ كنت أقرأ في مكانٍ الإضاءة فيه ضعيفة جداً، لكن كان يظن أن الوضع طبيعي، إذا كنت تقرأ في مكانٍ الإضاءة ليست بتلك، فجاء من أوقد لك مصباحاً قوياً رأيت الفرق في الكتاب، وفيما تقرأ، فالبصائر هكذا، فهذا التحدي بالقرآن قائم، فكل الكذابين وكل الملاعين الذين يشككون بالقرآن بيننا وبينهم هذا، أن يأتوا بسورة من مثله، فإن جاءوا بها صاروا أضحوكة أمام العالم، "والطاحنات طحنا، فالعاجنات عجنا، فالخابزات خبزاً، فاللاقمات لقماً" عند ذلك يُعرف قدرهم ويعرف مكانهم.

فهذا يشكك في قصص القرآن، ويشكك ويطعن ويضرب القرآن بعضه ببعض في أشياء لا قيمة لها، ولا يمكن أن ينطلي ذلك إلا على أجهل الجاهلين، وللأسف أنها تروج، ذكروا لي أسماء أول مرة أسمع بها، ويقولون: تروج، ويتتبعونها ويبحثون عن هذه الإشكالات والشبهات، فقلت لهم: إلى يومي هذا ما قرأت في كتاب فيه شبه ولا استمعت إلى مناظرة بين محق ومبطل، ولا تتبعت شيئاً من هذا.

فالسلف ينأون بأنفسهم ويحذرون، وأنتم تبحثون عن هذه الضلالات والشبهات ثم بعد ذلك تطلبون الخلاص، هذا الذي يطلب الخلاص، هذا غير الذي يأتي يتفلسف ويريد أن يناقش، وأنا لا أجلس معهم أصلاً، وأقول: اذهب إلى شاك مثلك جادله، فبعضهم لا يريد أن يسأل، فهؤلاء الذين أتى بهم اشترطت أن يكون هؤلاء يطلبون الحق، وأنهم مسترشدون، فسألهم وأعاد عليهم، قالوا: نعم، فجاءوا بهذه الصفة، لكن هناك من يتفلسف، ويقول: أريد أن أناقش، أريد أن أحاور، مثل هؤلاء العلاج معهم عراجين عمر، حتى يذهب ما برءوسهم، والله المستعان.

قال ابن القيم -رحمه الله: "وإذا أردت زيادة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة "ص" من الخصومات المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي ﷺ، وقولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، وهو الدرجات والكفارات، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامة ثانياً في شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم، فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير "ص" وبسورة "ق" غير حرفها، وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم"[1].

وقوله تعالى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أي: والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد.

قال الضحاك في قوله تعالى: ذِي الذِّكْرِ كقوله تعالى: لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [سورة الأنبياء:10] أي: تذكيركم، وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير.

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد، وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي: ذِي الذِّكْرِ ذي الشرف أي: ذي الشأن والمكانة.

ولا منافاة بين القولين، فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار.

قوله -تبارك وتعالى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، فقوله: ذِي الذِّكْرِ قال: أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد، وعلى هذا: الذكر هنا اسم مصدر، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ يعني: أنه مشتمل على التذكير فيما يكون فيه صلاح العباد وفلاحهم ونجاحهم في الدنيا والآخرة، اسم مصدر بمعنى التذكير.

المعنى الثاني الذي ذكره جماعة: أنه ذو الشرف، فالذكر هو الشرف، وهذان المعنيان في قوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ [سورة الزخرف:44]، ذكر لك ولقومك، يعني: أنه تذكير، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [سورة ق:37]، والمعنى الثاني: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ أي: شرف لك ولقومك، فهذان المعنيان صحيحان، والجمهور قالوا بالأول، ذكر: تذكير، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ يعني بمعنى التذكير.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا قال: ولا منافاة بين القولين، فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار، فجمع بين المعنيين، وهذا من أحسن ما يكون، وإلى هذا ذهب الحافظ ابن القيم -رحمه الله، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والمعنيان إذا كانت الآية تحتملهما ويمكن أن تُحمل عليهما من غير مانع فإنها تحمل على هذه المعاني جميعاً، فالقرآن ذي الذكر فيه تذكير، وهو أيضاً بمعنى الشرف والمكانة، ذِي الذِّكْرِ ذي الشرف والشأن والمكانة، والله تعالى أعلم.

جواب هذا القسم هو قوله تعالى: إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ، وقال قتادة: جوابه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ واختاره ابن جرير.

هذان القولان باعتبار أن الجواب مذكور، والذين قالوا: إن الجواب مذكور افترقت أقوالهم، ومن هذه الأقوال هذان القولان هنا، وهنالك أقوال غير ذلك، بعضهم يقول: الجواب "إن ذلك لحق"، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إن ذلك لحق، لكنه بعيد متأخر، فهذا وإن قال به بعض الأئمة من أصحاب المعاني كالزجاج والكسائي إلا أنه رده آخرون منهم كالفراء، قالوا: هذا متأخر، وجواب القسم لا يكون بهذه الصفة من التأخر والبعد.

وبعضهم يقول: إن الجواب هو قوله: كَمْ أَهْلَكْنَا كما يقوله ثعلب -رحمه الله، وهذا أيضاً أيده الفراء، وقد اعترض على القول الذي قبله، هؤلاء جميعاً كما ترون وغير هذه الأقوال، يقولون: إنه مذكور، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- والشنقيطي أطالوا في الكلام على هذا، وذكروا أن الأقوال بأنه مذكور، أنها جميعاً ساقطة، وابن القيم -رحمه الله- رتب هذه الأقوال من جهة الضعف على مراتب، إنه مذكور، يقول: أحسنها كذا لو صح، ثم كذا، ثم كذا، ثم كذا، ثم كذا، وأبعدها كذا، ومن أراد المزيد فليراجع كلامه -رحمه الله.

الطائفة الثانية: هم الذين قالوا: الجواب محذوف، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- والشنقيطي من مشاهير المفسرين، وقال به ابن عطية والزمخشري قبله وجماعة، لكنهم أيضاً اختلفوا في تقدير الجواب.

فبعضهم يقول: إن التقدير: لتبعثن، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ لتبعثن، وأن الله أقسم بالقرآن على وقوع البعث، وهذه السورة كما في الآيات، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ۝ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ۝ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ۝ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص:2-5] إلى أن قال الله تعالى: أؤُنزل عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [سورة ص:8] إلى آخر ما ذكر الله من الآيات، فهنا الأشياء المذكورة: قضية الرسول أن يكون من البشر، تعجبوا كيف يكون، وكيف أنزل عليه الذكر من بينهم، وحي وقرآن، وكذلك قضية الوحدانية: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً، وهكذا قضية البعث بعد ذلك، فهذه قضايا ثلاث.

فبعضهم قال: المقسم عليه محذوف، وهو قوله: {لتبعثن}، وبعضهم كابن عطية أطلق وقال: التقدير: ما الأمر كما تزعمون، وأطلقه هكذا: ما الأمر كما يزعم الكفار، والزمخشري يقول: إنه لمعجز، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إنه لمعجز، وابن القيم يقول: إن القرآن لحق، يعني: كأنه نظر إلى الآيات التي بعدها، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ۝ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ۝ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، فجعلوه ساحراً، جعلوا القرآن سحراً.

ولعله أحسن من هذا كله -والله تعالى أعلم- ما ذكره الشنقيطي يقول: الجواب محذوف، ولكن هذا المحذوف حينما نقدره كما يقول ابن عطيه: ما الأمر كما يزعم الكفار، فهم زعموا الأشياء التي جحدوا بها وهي كل هذه الأقوال، وغير هذه الأقوال التي أوردت آنفاً داخلة فيه، أعني: قول من قال: إنه قسم على البعث أو القرآن، أو قضية النبوة أو الوحدانية أو البعث، وحينما نقول: النبوة يدخل في ذلك الوحي؛ لأنها قضايا متلازمة، فيكون هنا التقدير على ما ذكره ابن عطية، ما الأمر كما يزعم الكفار، أؤُنزل عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ.

وهكذا، فتدخل هذه الأشياء فيه، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، ليس الأمر كما تزعمون، ومزاعمهم هي التي أوردها أو ردها بعد ذلك، مثل هؤلاء العلماء رحمهم الله كالحافظ ابن القيم يحتجون على أن الجواب محذوف بقرائن في نفس الآيات، يقولون: لما قال الله : بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ، يعني مثلاً ابن القيم يقول: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إن القرآن لحق والكفار يعرفون، لكنهم في عزة وشقاق، وكأن ابن القيم أخذ من كون القسم بالقرآن أن المقسم عليه يتعلق به، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، إن القرآن لحق، ثم أضرب عن ذلك قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ، إذاً وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، هنا بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا، إذاً القضية ليست كما يقولون، ولكنهم في حال من الاستكبار يمنعهم من الانقياد والقبول والإذعان والإيمان، فهذا الإضراب قالوا: هو الذي يدل على أن الجواب محذوف، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ۝ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ، إذاً هنا شيء يفهم من السياق، يشير إليه، إما لأنه أقسم بالقرآن أو بما ذكر بعده، فابن القيم كأنه نظر إلى أنه أقسم بالقرآن، والشنقيطي نظر إلى الأشياء التي ذكرت وجحدوا بها وأنكروها بعد ذلك، فجعلها داخلة فيه، والله أعلم.

وقوله -تبارك وتعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ أي: إن في هذا القرآن لذكراً لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم فِي عِزَّةٍ أي: استكبار عنه وحمية.

وَشِقَاقٍ أي: مخالفة له ومعاندة ومفارقة.

قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ، العزة تأتي بمعنى الغلبة، والله عزيز غالب، فتكون العزة من مجموع أوصاف يكون بها الغلبة والظهور، وصاحب العزة لا يغالب، هذه العزة بهذا المعنى هذا هو الأصل فيها، فالعزيز الذي لا يغالب، والعرب تقول: من عَز بَزّ، من غلب استلب، من عز بز يعني: من غلب وتمكن بز، ومن غلب استلب، هذا معنى العزة، والله -تبارك وتعالى- أخبر أن العزة له ولرسوله وللمؤمنين، فهنا قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ

فقد يقول قائل: كيف هنا أثبت لهم العزة، والله يقول: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون:8]، لما قال المنافق: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ يعني نفسه أنه الأعز، فرد الله عليه. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وتقديم الجار والمجرور هنا يفيد الاختصاص أو الحصر، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ، فإذاً هي ليست للمنافقين ولا للكفار، فكيف أثبت هنا العزة للكفار، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ؟

العزة هنا ليست بمعنى الغلبة، العزة هناك غير هنا بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ، هذه العزة هنا هي العزة التي بمعنى الحمية والأنفة المذمومة التي ترفعوا بها عن الحق، ونفروا منه، ومن الاستجابة له استكباراً بغير حق، فهذا المعنى هو معنى العزة هنا، ليس بمعنى الغلبة؛ ولذلك تجد عبارات المفسرين كهذه التي بين أيديكم، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ أي: استكبار عنه وحمية، لم يقل: العزة بمعنى الغلبة؛ لأنها ليست لهم أصلاً، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

فهذه العزة هنا بهذا المعنى وهي مذمومة، أما العزة الحقيقية العزة المحمودة هي التي أثبتها الله لأهل الإيمان ونفاها عن الكفار، بل حكم عليهم، فقال: فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ، تقول: فلان أخذته العزة بالإثم، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [سورة البقرة:206]، معنى العزة هنا الأنفة والحمية وهذه الأوصاف المرذولة، هذا هو المراد، والله أعلم.

وأصل الشقاق بمعنى المخالفة، كأن أصله أن يكون هذا في شق، وهذا في شق، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ [سورة الحشر:4]، شاقّ الله، يعني: كأنه في شق وهذا في شاق، مثل: حادّ، هذا في حد وهذا في حد، المعاداة، هذا في عدوة وهذا في عدوة، هذا أصلها، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى معنى المشقة، بمعنى أن هؤلاء الذين يشاقون يبذلون الجهد ويشْقَوْن ويتعبون ويبذلون كل مستطاع في إبطال الحق، لكن هذا فيه بُعد، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى معنى الشق، كأنهم يشقون الصف، يفرقون بكبرهم وتيههم وعنادهم، فلا يستجيبون مع من يستجيب، وإنما يخالفون ويفارقون، والمشهور هو الأول، في شقاق قال: يعني مخالفة.

ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء فقال: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي: من أمة مكذبة.

القرن يطلق على المدة من الزمان، وعلى الجيل، ويطلق على الأمة من الناس، يعني الجيل منهم قرن، وبعضهم يقول: إنه يطلق على مدة معينة مثل مائة سنة، قرن، فهذا اصطلاح، القرن الأول والقرن الثاني والثالث والرابع، لكن قوله ﷺ: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم[2]، هل يعد هذا بمائة سنة؟ هذا فيه خلاف وفيه كلام لأهل العلم، فبعضهم يقعد ذلك بمدة أقل من هذا، ولما ذكر النبي ﷺ قال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد[3]، فذكر مائة سنة، فأخذ بعضهم من هذا أن القرن مائة سنة، والقرن يطلق على إطلاقات متنوعة.

فَنَادَوْا أي: حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله، وليس ذلك بمجدٍ عنهم شيئاً، كما قال تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ [سورة الأنبياء:12] أي: يهربون، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ [سورة الأنبياء:13].

وغير هذا من الآيات كثير يذكر الله فيه حال هؤلاء الذين نزل بهم العذاب، حال الأمم حينما ينزل بهم العذاب، ويرون بأس الله -تبارك وتعالى، ولكن ذلك لا ينفعهم.

روى أبو داود الطيالسي عن التميمي قال: سألت ابن عباس عن قول الله -تبارك وتعالى: فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ قال: ليس بحين نداء، ولا نزو ولا فرار[4].

وقال محمد بن كعب في قوله تعالى: فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ يقول: نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم.

وقال قتادة: لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء.

وقال مجاهد: فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ليس بحين فرار ولا إجابة؛ ولهذا قال تعالى: وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ أي: ليس الحين حين فرار ولا ذهاب، والله الموفق للصواب.

هذا الذي ذكره آخراً وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ أي: ليس الحين حين فرار ولا ذهاب، هذا الذي اختاره أبو جعفر بن جرير -رحمه الله، وقال به جماعة من المحققين، ومن هؤلاء الشنقيطي، والأقوال التي قبله قريبة منه، يعني: ليس هذا وقت يمكن فيه الخلاص بالتوبة أو الفرار أو اللجوء إلى ما يعتصم به فإن العذاب واقع لا محالة.

والمناص أصله مصدر، ناص ينوص مناصاً، فالمناص مصدر يرجع إلى معنى الفوت والتأخر، فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ يرجع إلى معنى التأخر، ليس بحين مناص، ليس حيننا حين مناص، فهذا الذي يتأخر هو يبحث عن المخرج، فهذا البحث عن المخرج يكون بالتراجع أو التوقف أو محاولة التجاوز ليتخلص مما هو فيه، ولهذا تجد بعض أهل العلم كالشنقيطي -رحمه الله- من حاول أن يربط المعاني أو بعض المعاني التي ذكرت بهذا الأصل، وهو أنه بمعنى التأخر، فأعادها إليه بطريق أو بآخر، ويمكن أن يراجع كلامه، وهو كلام جيد، وكذلك كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله، لكن الكلام إذا كثرت فيه وجوه الإعراب ونحو هذا لا أحب أن أقرأه لئلا يثقل، فيحسن مراجعة مثل هذا، فالشنقيطي يعيده إلى هذا المعنى الذي هو الفوت والتأخر.

وَلاتَ هذه بمعنى "ليس"، أصلها "لا" التي هي بمعنى ليس أو مشبهة بليس، "لاتَ" فتكون التاء هذه زيدت عليه، تاء التأنيث، لات، مثل التي تزاد على رُب، فيقال: رُبت، وثُم، وثُمتْ، فمضيتُ ثُمتَ قلت: لا يعنيني، ثمت وربت، فهي مشبهة بليس، وهذا الذي اختاره سيبويه، وقال به كثيرون، والاسم فيها مضمر لات حين يعني: ليس حينُنا حين مناص.

وفي الكلام فيها تفاصيل الأشياء التي تدخل عليها، مثل الحين، والساعة، لات ساعة مندم، لات حين مناص، وما أشبه ذلك، فالتاء هذه زائدة تدخل على مثل رُب، ولا، وثُم.

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ۝ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ۝ وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ۝ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ۝ أَؤُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ۝ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ۝ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ۝ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ[سورة ص:4-11].

يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعجبهم من بعثة الرسول ﷺ بشيراً ونذيراًً، كما قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ [سورة يونس:2].

يقول تعالى -من البداية- مخبراً عن المشركين في تعجبهم من بعثة الرسول ﷺ، وهذا هو الأليق بالمقام أن يكون هكذا بشراً، والنسخ مختلفة، والذي يظهر -والله أعلم- أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كان يصحح في الكتاب ويعيد، ويغير، ويبدل، فهذا من جهة، وهناك أشياء هي من قبيل تصرف النساخ، ووقع فيها مثل هذه الفروقات، فهذا الكتاب منه ومنه، يعني يصعب الجزم في كثير من المواضع أن هذا من تصرف النساخ، ولهذا يعمد بعض الذين يحققون الكتاب إلى تلفيق النسخ ثم بعد ذلك يضيفون كل ما وجدوا، ومن ذلك أشياء ابن كثير -رحمه الله- حذفها مثلاً، فيرجعونها مرة أخرى.

وقال -جل وعلا- هنا: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي: بشر مثلهم.

تعجبهم من بعثة الرسول ﷺ بشيراً ونذيراً، كيف بعث ﷺ بشيراً ونذيراً يعني مضمن أنه بشر، يعني لو بقيت هكذا ما وجدت عندنا نسخ أخرى فهذا كيف بعثه الله بشيراً ونذيراً، كيف بعثه رسولاً بدلاً من بشيراً ونذيراً، كيف بعثه أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94]، تعجبهم من بعثة رسول الله ﷺ، ما تعجبوا من بعثه بشيراً ونذيراً، لكن تكون هذه صفة كاشفة، تعجبوا من بعثه ﷺ.

وطالما أنه وجد في النسخ المحققة النسْخ أنه بشر، فهذا هو الأليق بالمقام، تعجبوا من بعثه ﷺ بشراً، أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً.

وقال -جل وعلا- هنا: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي: بشر مثلهم، وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً.

الآيات كثيرة في هذا في تعجبهم واعتراضهم على أن يكون بشراً، وأنه لو شاء الله لأنزل ملائكة، وكذلك ما اقترحه الكفار كفرعون أن يأتي معه الملائكة مقترنين، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يذكر الله فيها اعتراض الكفار على بعث الرسول بشراً، وأنه لم ينزل ملائكة معه، ورد الله عليهم في مواضع، يعني قال مثلاً: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون [سورة الأنعام:9]، قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:95]، ولو نزّل عليهم ملكاً لقالوا: لا نستطيع الأخذ عنه، وهذا الملك فيه من الخصائص والصفات وما جبل عليه من طاعة الله مما لا يصلح معه الاقتداء.

أي: أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟! أنكر المشركون ذلك -قبحهم الله تعالى- وتعجبوا من ترك الشرك بالله، فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأُشربتْهُ قلوبهم، فلما دعاهم الرسول ﷺ إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.

عجاب: أي شيء عجيب، وبعض أهل العلم يقول: إن عجاب أبلغ من عجيب، وإن الأبلغ من ذلك عجَّاب، فعندنا عجيب وعجاب وعجَّاب، والمشهور أن عجيب وعجاب أنهما بمعنى واحد.

أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم.

المراد بالملأ علية القوم، الكبراء، وقيل لهم ذلك؛ لأنهم يتمالئون على الأمر، أو لأنهم يملئون صدور المجالس، أو غير ذلك مما قيل، الملأ.

قائلين: امْشُوا أي: استمروا على دينكم.

قوله: امْشُوا استمروا على دينكم، وهو معنى قول من قال كابن جرير -رحمه الله: امْشُوا أي بمعنى امضوا على دينكم، اصبروا على دينكم، امضوا فاصبروا على دينكم.

وبعضهم يقول: أَنِ امْشُوا يعني المشي المقصود به للنبي ﷺ لما اجتمعوا إليه يطالبونه عند عمه أبي طالب مثلاً بأن يدع دينه، أو يدع سب آلهتهم، ولا يتعرض لدينهم، أو حينما انطلقوا منهلما دعاهم إلى التوحيد في ذلك المجلس قاموا وانطلقوا ونفروا مما قال، قالوا: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ، فبعضهم فهم منه أن المقصود المشي المعروف والمضي، ولكن الحافظ ابن كثير قال: أي استمروا على دينكم، كما تقول لإنسان: امشِ على هذا المَهْيَع، والمهيع الطريق يعني أنت تقول له: استمر على هذا العمل، يعني لا تقصد حقيقة المشي، تقول: امشِ على هذا الأساس، نحن نمشي على هذا، بمعنى، أَنِ امْشُوا استمروا.

وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد.

وقوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ.

وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ كقوله -تبارك وتعالى- عن قيل هؤلاء الكفار: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ۝ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا [سورة الفرقان:41-42]، فهم يتواصون بالصبر، ويذكرون أنفسهم به، الصبر على هذا الباطل.

قال ابن جرير: إن هذا الذي يدعونا إليه محمد ﷺ من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع، ولسنا مجيبيه إليه.

وهذا هو المشهور -الذي ذكره ابن جرير- وإن اختلفت فيه عبارات المفسرين، ولكن هذا هو المشهور، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، يعني: يريد به الترفع والشرف والرئاسة عليكم، وإن قال بعض المفسرين غير ذلك، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، لكنها أقوال بعيدة بالنسبة لهذا القول، ولا حاجة إليها.

روى أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته؟ فبعث إليه فجاء النبي ﷺ فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال: فخشي أبو جهل -لعنه الله- إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله ﷺ مجلساً قرب عمه فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله ﷺ فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزيةففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم كلمة واحدة: نعم وأبيك عشراً فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال ﷺ: لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ قال: ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ لفظ أبي كريب[5]، وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي نحوه، وقال الترمذي: حسن.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، والحديث فيه ضعف لكنه غير شديد، لكنه جاء بصيغة مختصرة فيها أن ذلك لما اجتمعوا عند أبي طالب، وذكروا له ذلك، وأجابهم -عليه الصلاة والسلام، لكن باختصار ليس بهذا السياق، فمثل هذا يكون سبباً للنزول، لكن بهذا السياق الرواية ضعيفة.

فهذه الرواية بهذا السياق ضعيفة، لكنه جاء برواية يمكن أن تكون حسنة الإسناد بسياق أقصر من هذا، مختصرة، يعني هذه فيها رجل فيه جهالة، ولم يتابع، قال عنه الحافظ في التقريب: مقبول، يعني: حيث يتابع، ولا متابع له.

وقولهم: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ أي: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة.

وقال العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ يعني: النصرانية. قالوا: لو كان هذا القرآن حقاً أخبرتنا به النصارى.

النصرانية هذا قول عامة المفسرين، قول الجمهور، وبعضهم يقول غير ذلك فيما يتصل بالملة الآخرة، لكن هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو المتبادر، والله تعالى أعلم.

إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ قال مجاهد وقتادة: كذب.

هنا في قوله: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ قال: لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرتنا النصارى، هذا يَحتمل أن يكون المراد مَا سَمِعْنَا بِهَذَا يعني: القرآن، ويَحتمل معنى آخر وجيهاً وقويا وهو أنه أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، فهم تعجبوا من هذا، ثم بعد ذلك قالوا: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ، يعني كيف يجعل الآلهة إلهاً واحداً؟!

ولا يقولن قائل: إن الملة الآخرة النصارى وإنهم على التوحيد؛ لأن دينهم استقر على التثليث كما هو معلوم، فالذي أدركه هؤلاء الذين بعث فيهم النبي ﷺ من دين النصارى إنما هو الشرك والتثليث، وكأن قول من فسره بالقرآن، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا يعني: القرآن أنه حق وأنه من عند الله وحي في الملة الآخرة، باعتبار أن الذي جاء به عيسى ﷺ هو التوحيد، فقالوا: القرآن، المقصود القرآن، وحتى هذا لو أردنا أن نقول: جاءت البشارة بالنبي ﷺ في نفس الإنجيل، وأن الله ينزل عليه كتاباً لا يغسله الماء، يقرؤه نائماً ويقظانَ.

فلو قال قائل: إن المراد بقوله: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ يعني: التوحيد لكان أقرب، والله تعالى أعلم.

إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ قال مجاهد وقتادة: كذب، وقال ابن عباس: تخرص.

قوله: إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ هل المقصود بالاختلاق مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ يعني القرآن، أو المقصود به ما قاله وما جاء به من التوحيد؟ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ، أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي، كيف أنزل عليه الذكر؟ كأن القائل بأن إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ يعني: القرآن؛ لأنه قال بعده: إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ يعني: القرآن، أنه مختلق ومفترى، كما قال الله في مواضع من كتابه عن قولهم، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:5]، والله أعلم.

وقولهم: أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا يعني: أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم، كما قالوا في الآية الأخرى: لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال الله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ.

وفي قوله: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ بالنظر إلى ما قبله وما بعده، هم تعجبوا وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، الآن تعجبوا أن يكون الرسول من البشر، وقالوا: ساحر كذاب، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، هذا مضمون ما جاء به وهو التوحيد، أيضاً أنكروه، وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ۝ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، فالمذكور قبله أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا، هذا الذي استنكفوه، وقبله وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ.

لكن هذا لا يقال -والله أعلم: إنه المراد بقوله: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ؛ لأن الملة الآخرة النصرانية والذي جاءهم عيسى ﷺ وهو من البشر، والمشركون ما كانوا يعتقدون أنه إله، أو أنه ابن الله، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ يعني: ما هذا، "إن" هذه نافية، ما هذا إلا اختلاق، أؤُنزل عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا، لاحظ في البداية وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ۝ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا، ثم قال: أؤُنزل عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ۝ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ، يعني كما قال الله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32] يعني: النبوة، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لما قالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31]، مكة والطائف، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ

فالشاهد أن قوله: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ۝ أؤُنزل عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي، إذاً قوله: أؤُنزل عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا إنكار للرسول كيف يكون من البشر، وإنكار للرسالة والوحي الذي هو القرآن، إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ، فيشمل ذلك، فيكون إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ دعوى الرسالة، وما في مضامينها من الوحدانية، وما أوحي إليه من القرآن، إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ، كما قال الله : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، إفك، وهذا اختلاق.

قال تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [سورة الزخرف:32]، ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم قال الله تعالى: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أي: إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذابَ الله تعالى ونقمته، سيعلمون غب ما قالوا، وما كذبوا به يوم يُدَعُّون إلى نار جهنم دَعّا.

ثم قال تعالى مبيناً أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء، الذي يعطي من يشاء ما يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده، ويختم على قلب من يشاء، فلا يهديه أحد من بعد الله، وإن العباد لا يملكون شيئاً من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير؛ ولهذا قال تعالى منكراً عليهم: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي: العزيز الذي لا يرام جنابه، الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد.

وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ۝ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ۝ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً [سورة النساء:53-55]، وقوله تعالى: قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا [سورة الإسراء:100]، وذلك بعد الحكاية عن الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري ﷺ، وكما أخبر عن قوم صالح حين قالوا: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ۝ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ [سورة القمر:25-26].

وقوله تعالى: أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ أي: إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما، ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم: يعني طرق السماء.

وقال الضحاك -رحمه الله: فليصعدوا إلى السماء السابعة.

يصعد إلى السماء السابعة، يمكن أن يرجع إلى قوله: يعني طرق السماء، والأسباب في اللغة جمع سبب، وهو كل شيء يتوصل به إلى غيره، يتوصل به إلى المطلوب، يقال له: سبب، فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ فالطرق التي يصعد بها إلى السماوات وإلى أبواب السماء يقال لها: أسباب، "ولو رام أسباب السماء بسلم"، فهذا يقال للطرق التي توصل إلى ذلك.

وبعضهم يقول: المراد بالأسباب هنا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ يعني: في الكمالات، أسباب الكمال، وما إلى ذلك من الفضل ونحوه، وبعضهم يقول: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ يعني: أسباب القوة إن كانوا يظنون أن ذلك يمنعهم، ولكن هذا كله فيه بُعد، وإنما المعنى المشهور الذي عليه جمهور المفسرين وهو المتبادر، فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ أسباب السماوات، وبعض أهل العلم يوضح ذلك أكثر، يقول: فإنهم إذا كانوا يملكون خزائن الله -تبارك وتعالى- فإن من شأن المالك أن يتفقد مملكته، فليرتقوا في الأسباب وليصعدوا إلى الملأ الأعلى ويتفقدوا ما لهم من الأملاك والخزائن، لكنهم أعجز وأضعف من ذلك كله.

ثم قال : جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ أي: هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين، وهذه الآية كقوله -جلت عظمته: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ۝ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر:44، 45] وكان ذلك يوم بدر بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [سورة القمر:46].

هنا جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ، هنا الحافظ جعله كقوله: أَمْ يَقُولُونَ إلى قوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ... وأن ذلك كان في يوم بدر، وأن الآية تشير إلى هذا، وإلى ذلك ذهب ابن جرير -رحمه الله، جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ، فحُمل على ما وقع لهم في يوم بدر، فيكون ذلك من قبيل الإخبار بالغيوب المستقبلة، والشنقيطي -رحمه الله- له كلام في مثل هذه الآية مع أنه لا ينكر هذا المعنى بل يثبته ويزيد عليه، وهذا هو الفرق بين العالم وغير العالم، الشنقيطي -رحمه الله- يقول: وفي الإشارة هنا إلى البعيد جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ إلى البعيد ما يفهم منه أو قد يفهم منه أن المراد بذلك ما سيق في زمان مستقبل بعيد، يعني هذا العصر من دعوى الصعود إلى القمر، فالله -تبارك وتعالى- يقول: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [سورة الرحمن:33]، ثم ذكر ما يكون لهم بعد ذلك يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ [سورة الرحمن:35].

فالشنقيطي -رحمه الله- يقول: إن ذلك لا يمكن، يعني الصعود إلى القمر، وإنهم لو حاولوا الوصول إليه لجاءهم الشواظ من النار والنحاس، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الآية لا تدل على هذا ولا علاقة لها بهذا المعنى، وإنما جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ما يقع لهؤلاء من الهزيمة النكراء، وقد حصل ذلك في يوم بدر وفي غيره، وإن كانت هزيمتهم أوضح وأظهر وأجلى وأقوى وأنكى في يوم بدر، فإنه بعد يوم بدر لم يحصل لهم مثل هذه الهزيمة، يعني في أحد انتصروا، وفي الأحزاب ذهبوا بالريح، وفيما بعد ذلك قال النبي ﷺ يعني بعد الأحزاب: اليوم نغزوهم ولا يغزونا»[6]، وما كان من فتح مكة لم يكن ثَمّة قتال بالمعنى المعروف من مواجهة الجيوش لبعضها، فالهزيمة النكراء كانت يوم بدر، وهي النكاية العظمى التي وقعت من قتل سادتهم وكبرائهم في أمر لم يتوقعوه ولم يخطر لهم على بال، ولم يدُر في خيال، حتى في أحلام المنام ما رأوه، ما توقعوا هذا ولا دار في خلدهم.

أما قضية الصعود إلى القمر ونحو ذلك فالآية لا علاقة لها بهذا، والإشارة إلى البعيد أي ما سيكون في المستقبل، جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ، أما قضية الصعود إلى القمر فهذا الذي يظهر أن القرآن لم يتحدث عنها أصلاً، لكن هل ما وقع من الصعود إلى القمر صحيح أو لا؟ الله أعلم بهذا، لا نعلم، وقد كتب كتاب من الغرب كتابات قوية تشكك في هذا، وذكروا أدلة لإبطال هذه الدعوى، من الغرب، من الكفار، عيونهم زرقاء، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، قالوا: هذا غير صحيح.

وقالوا: أقرب ما يدل على كذب هذا الكلام أن في القمر ظلًّا، والقمر أصلاً ما فيه ظل، ومن صورهم التي ظهرت في الفضاء فيها ظل، والقمر أصلاً ما فيه ظل، فالشمس لا تظهر وينعكس الظل هناك، إذا انتقلوا من الغلاف الجوي ظلمة، فمن أين جاء هذا الظل، وذكروا أن هذا عملوه في صحراء نيفادا، وأن القضية كلها تمثيل، ولا حقيقة لها، وقالوا: لماذا لم يتكرر هذا مع تطور العلم، وتقدمه والطموح المستمر على المعرفة والاستزادة واكتشاف الفضاء وما إلى ذلك؟

هي مثل بيضة الديك، مرة لأمريكا ومرة لروسيا، ما في محاولات أخرى، ما في دول أخرى تقدمت وحاولت أيضاً أن تغرس علمها على القمر، ما أحد استطاع ولو بدفع أجرة، فقط هؤلاء ثم لا تتكرر انتهت! قالوا: مكلفة، طيب والآن إمكانيات أكبر، ويبذلون على البحوث العلمية ووكالة الفضاء المليارات، لماذا لا يكررون هذه الأشياء بأشياء جديدة وتجارب واكتشافات؟! الله أعلم، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [سورة الإسراء:36]، فما كل ما يقولونه نحن نصدقه، لكن القرآن ليس فيه ما يدل على هذا، يعني من الامتناع، امتناع إمكانية ذلك، أو من حصوله، فالعلم عند الله .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ۝ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُولَئِكَ الأحْزَابُ ۝ إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ۝ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ۝ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ[سورة ص:12-16].

يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء القرون الماضية، وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة.

في الأصل لم يتطرق لقوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ۝ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ، هو باعتبار أنه تكلم على هذه الأشياء في مواضع سابقة، فقوله -تبارك وتعالى- هنا: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ، فرعون هنا قال: ذُو الْأَوْتَادِ، قيل له: ذُو الْأَوْتَادِ بعضهم يقول: كانت له أوتاد للتعذيب يعذب بها الناس، فمن أراد أن يعذبه عذبه، ومن خالفه فأراد أن يبطش به وتد يديه ورجليه ورأسه، فهذه الأوتاد للتعذيب، فإذا خالفه أحد وتد رأسه ورجليه ويديه على الأرض بهذه الأوتاد، والوتد ما يحصل به تثبيت الشيء، فالمسمار يقال له: وتد، والحديدة التي تثبت بها الخيمة يقال لها: وتد، والجبل يقال له: وتد، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [سورة النبأ:7]، فهذه الأشياء التي يحصل بها التثبيت، فهذا بعض المفسرين يقول: هذه الأوتاد أوتاد يثبت بها الشخص الذي يريد أن يعذبه، يثبت يديه ورجليه ورأسه في الأرض، فقيل له: ذُو الْأَوْتَادِ.

وبعضهم يقول: الأوتاد هنا بمعنى الجنود والجموع والجيوش التي تثبت ملكه، عنده جيوش وجنود وجموع يثبتون ملكه فقيل لهم: أوتاد، كما أن الأوتاد تثبت الخيمة مثلاً أو ما يضرب بالوتد، فالأوتاد تستعمل للتثبيت فكذلك هؤلاء الجنود الذين يقوون أمره، والعرب يتوسعون في الكلام فيعبرون عن من لهم ثبات وقوة وتمكن يقال: هؤلاء لهم عز ثابت الأوتاد، لهم ملك ثابت أو راسخ الأوتاد، عز ثابت الأوتاد، ملك ثابت وراسخ الأوتاد، فهذا العرب تتكلم به، وقد ذكر هذا المعنى ابن قتيبة -رحمه الله.

وبعضهم يقول: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ الأوتاد بمعنى البناء المحكم، يقال له ذلك، يعني: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ يعني: ذو الأبنية المحكمة.

وهل هذه الأبنية المحكمة المقصود بها الأهرام أو غير ذلك؟ هو يقول: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [سورة الزخرف:51] تحت قصوره يعني، كانت له قصور، أما هذه الأهرام فقد مضى الكلام عليها في مناسبات سابقة، وأن كلام أهل العلم فيها كثير، وأن كلامهم يرجع إلى أنها لا يعرف لها تاريخ، ولذلك قال كثيرون: إن ذلك لعله كان قبل الطوفان، ومن يقولون: إن إدريس ﷺ كان قبل نوح -عليه الصلاة والسلام- يقولون: إن الذي بناها إدريس، فالعلم عند الله ، ويقولون: لو كانت بعد الطوفان لعرف تاريخها وخبرها، والله أعلم.

والذين قالوا: إن الذين بنوها هم الفراعنة هم الذين جاءوا مع البعثة الفرنسية، جاء مائة وستة وأربعون عالماً مع نابليون، وهم الذين نبشوا هذه الأشياء، مع أنها كانت معروفة من قبل، وما ذكره السيوطي في حسن المحاضرة من المحاولات لاكتشافها ومعرفتها، وأن الناس من قبل قرون في أيام الدولة العباسية دخلوا فيها، وفتحوا بعض الأهرام، ورأوا التوابيت، ورأوا ما في مضامينها، وأنهم حاولوا أن يكسروا هذه الأهرام، وعجزوا عن ذلك؛ لضخامتها، وأنها كانت مدفونة في أغلبها، فالسيوطي ذكر هذا.

والمحاولات من المأمون وغير المأمون، والذين فتحوها ودخلوها قبل الفرنسيين، وقبل اكتشافات هؤلاء، فجاء الفرنسيون وقالوا: هذا رمسيس، وهذا برمسيس، وجاءوا للناس بهذه الأشياء، فهز الناس رءوسهم وقالوا: نعم، وقالوا: هذا فرعون موسى، وهذا كذا، وهذا فلان، قالوا: نعم، جلسوا يؤمِّنون على ما قاله هؤلاء، وجاءوا لهم بالكتابات، وقالوا: نحن حللنا هذه الألغاز وقرأنا هذه الكتابات القديمة، وهذه تعني كذا، وهذا يعني كذا، هذا مثل ما نُقل عن بعضهم لما سئل عن لون كلب أصحاب الكهف، قال: ما أعرف، فقيل له: لو قلت أبقع لما وجدت من يقول: لا، فالله أعلم، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئولاً [سورة الإسراء:36].

فبعض السلف كالضحاك يقول: البنيان يقال له: أوتاد، وبعضهم يقول: ملاعب، كان عنده ملاعب، مثل الملاعب الموجودة عند الرومان، ولربما لا زال بعض بقاياها موجوداً، ملاعب ضخمة يستعملونها للعب ونحو ذلك، ولربما للصراع والنطاح، يأتون كما كان يفعل اليونان، يأتون باثنين من المماليك، ويجعلونهم يقتتلون، يعطون كل واحد سلاحاً، والناس تتفرج، جماهير حاشدة على المدرجات، وأحياناً يأتون برجل مع سبع -مع أسد- ويتصارع معه وهم يتفرجون ويتسلون، ويقال: خلص نفسك، وأحياناً يأتون برجل مع ثيران ويعطونه قماشاً أحمر، ويتصارع معها فتنطحه وهكذا، والجماهير تتفرج، فكان عند الأولين ملاعب، وفيها ألوان من العبث، ومن أراد أن يقرأ يجد ذلك في التاريخ، وما كانوا يعافسونه من ذلك.

ابن جرير -رحمه الله- جعله محتملاً للمعنى الأول، الذي هو أنه له أوتاد يعذب بها الناس، ويحتمل أن ذلك بمعنى أنه كان له ملاعب، وأن الملاعب يقال لها: أوتاد، وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ.

قال: وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ، الأيكة: هي الغيطة، الشجر الكثيف الكثير الملتف يقال له: أيكة، الشجرة الملتفة يقال لها: أيكة، وغيطة، وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ، وهم قوم شعيب -عليه الصلاة والسلام، وهل أصحاب الأيكة هم قوم شعيب الذين أرسل إليهم، أو أن هؤلاء غير أصحابه، يعني هل أرسل شعيب إلى أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة، أو أن ذلك أصلاً يرجع إلى شيء واحد، فتارة نسبوا إلى البلد "مدين" -وقيل: القبيلة، وتارة نسبوا إلى الأيكة.

وقوله تعالى: أُولَئِكَ الأحْزَابُ أي: كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فما دافع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك.

يعني بعض أهل العلم يقول: إن قوله -تبارك وتعالى: أُولَئِكَ الأحْزَابُ يعني: الحزب أصله يقال لجماعة من الناس فيها غلظ، هذا في اللغة، جماعة فيها غلظ، والجماعة التي فيها غلظ كما هو المصطلح المعاصر في كلمة حزب: رأس وقاعدة، يتحزب بعضهم لبعض، بمعنى ليست كل مجموعة من الناس يقال لها: حزب، الناس حينما يجتمعون في منى أو عرفة لا يقال لهم: حزب، لكن الطائفة والجماعة ذات غلظ في أصل اللغة يقال لها: حزب، والاصطلاح المعاصر فلسفة الحزب: رأس وقاعدة.

أُولَئِكَ الأحْزَابُ، فهؤلاء الأمم أصحاب الأيكة وفرعون وما إلى ذلك أُولَئِكَ الأحْزَابُ، كما تقول: أولائك الرجال، لمّا تذكر بعض الكبار، أولائك الرجال، تقول: تلك المكارم، وهكذا، وتقصد أن هؤلاء الذين استحقوا الأوصاف الكاملة من هذا المعنى، أُولَئِكَ الأحْزَابُ.

ولهذا قال : إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ فجعل علة هلاكهم هو تكذيبهم بالرسل، فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر.

وقوله تعالى: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ قال مالك عن زيد بن أسلم: أي ليس لها مَثْنوية أي: ما ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أي: فقد اقتربت ودنت وأزفت، وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يُطوِّلها، فلا يبقى أحد من أهل السماوات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله .

في قوله: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً، هذه الصيحة هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: إنها نفخة الفزع، وعرفنا من قبل أن ابن كثير يرى أن النفخ في الصور ثلاث مرات، نفخة الفزع وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ [سورة النمل:87]، والنفخة الثانية التي هي نفخة الصعق، والنفخة الثالثة التي هي نفخة البعث، وأن الذي عليه عامة أهل العلم أنهما نفختان: نفخة الصعق ونفخة البعث.

فالحاصل أن الحافظ ابن كثير هنا يقول: وما ينظر هؤلاء -بناء على أن ذلك يرجع إلى كفار قريش- إلا نفخة؛ لأن أولائك الأحزاب هلكوا وماتوا وانتهوا -الأمم السابقة- فما تدركهم نفخة الفزع، أو النفخة الأولى على الأقل، عند ابن جرير مثلاً وعند الجمهور أنها نفخة الصعق، يعني: سواء قلنا: إن النفخة الأولى هي الفزع أو قلنا: إنها نفخة الصعق، الذين ماتوا وهلكوا هل تدركهم نفخة الصعق أو نفخة الفزع يصعقون؟

الجواب: لا نفخة قبل يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ، فهذه تكون قبل القيامة، يصعقون جميعاً، يموتون جميعاً، لما ذكر النبي ﷺ: أن الرجل يليط حوضه، قد حلب لقحته فلا يشرب منها، هذا يكون بين يدي الساعة، فيصعقون، عند ابن كثير هي نفخة الفزع، وعند الجمهور ومنهم ابن جرير أنها نفخة الصعق، هذا بناءً على أن هؤلاء هم كفار قريش، إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ، فأولائك الأحزاب أولائك الأمم لا تدركهم هذه النفخة، ويكون ذلك للأحياء، يهددهم بها.

وبعض أهل العلم -لا أعرف كيف- قال: إن ذلك يرجع إليهم، وإن هذه النفخة هي نفخة البعث، لما أهلكهم الله ما ينظرون بعد ذلك ينتظرون وهم في الأجداث أو هم في عالم البرزخ إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية فيقومون للحساب، ويحصل لهم العذاب، وهذا بعيد.

وكذلك قول من قال: إن المراد وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً، صيحة العذاب الذي ينزل بهم وليس المقصود بها الصعق، وإن العذاب الذي يفجأ الناس يقال له: صيحة، لكن هذا فيه بُعد -والله تعالى أعلم-؛ لأنه قال: إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً، فالمتبادر إلى الذهن أنها النفخة، النفخ في الصور، وإن كان قوم أهلكوا بالصيحة صاح بهم الملك، فالله تعالى أعلم، لكن هذا هو المتبادر، ولو أن قائلاً قال بذلك لم يكن بعيداً، والله أعلم.

وقوله هنا: مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ هنا قال: عن مالك عن زيد بن أسلم: أي ليس لها مثنوية.

ليس بمعنى التكرار، أنها ثانية، لا مثنوية يعني لا تأخر ولا تباطؤ ولا رجوع أن ذلك يقع ولابد، ولا رجوع فيه؛ ولهذا قال مجاهد ومقاتل: الفواق بمعنى الرجوع، بل بعض أهل العلم أرجع معنى الفواق إلى هذا، إلى الرجوع، قالوا: الآن لما يقال: فُواق ناقة، وفَواق ناقة، بالضم والفتح في الفاء فَواق وفُواق، فواق ناقة، ما بين الحلبتين يقال له ذلك، استُعملتْ هذه فَواق وفُواق قالوا: إنه ما بين الحلبتين حينما يحلب يرجع اللبن إلى الضرع، وإنما هو لبن جديد.

حلبة ثم حلبة، ما بينهما، ويرجع اللبن يتراد إليه، فُواق ناقة، وما بين الحلبتين، فَواق وفُواق، فجعلوه بمعنى الرجوع، رجوع الحليب ثانية إلى الضرع، ليس الذي خرج، وإنما جديد يرجع فتكون حلبة ثانية، فَواق ناقة وفُواق ناقة، فهو بمعنى الرجوع، مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ أي: رجوع، وبعضهم فسره بالإفاقة، مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ، والذين أرجعوا معنى هذه المادة في الأصل إلى الرجوع قالوا: هذا الذي يفيق من المرض أو الإغماء أو غير ذلك يرجع إلى وعيه، يرجع إلى عافيته، يرجع إلى صحته، أفاق من علته، أفاق من الإغماء، أفاق من نومه، أفاق من غفلته، بمعنى الرجوع، بمعنى رجع إلى حاله التي كان عليها، أو رجع من تلك الحالة التي كان فيها.

وهذه مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ فيها قراءتان، قراءة الجمهور مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ بالفتح، وقراءة حمزة والكسائي بالضم مَّا لَهَا مِن فُوَاقٍ، وبعض أهل العلم يقول: القراءتان بمعنى واحد، وأنهما لغتان، وبعضهم فرق بينهما كالفراء وأبي عبيدة، وقالوا: إنها بالفتح بمعنى الراحة، مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ يعني: راحة، ما يحصل لهم فيها راحة، وكما يفيق المريض ونحو ذلك، وبالضم مَّا لَهَا مِن فُوَاقٍ أي: انتظار وإمهال، وإنما تأتي مجهزة، وابن جرير يقول: ما لها من فتور ولا انقطاع.

فلا يبقى أحد من أهل السماوات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله .

وقوله -جل وعلا: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ هذا إنكار من الله على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب، فإن القِطّ هو الكتاب وقيل: هو الحظ والنصيب.

قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد: سألوا تعجيل العذاب، زاد قتادة: كما قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32].

وقيل: سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة؛ ليلقوا ذاك في الدنيا، وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب.

وقال ابن جرير: سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا، وهذا الذي قاله جيد، وعليه يدور كلام الضحاك وإسماعيل بن أبي خالد، والله أعلم.

يعني ابن جرير -رحمه الله- جمع بين المعنيين، فهنا الله يقول: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ، فالقط هنا يقول: هو الكتاب، وقيل: هو الحظ والنصيب، وعبارات المفسرين: سألوا تعجيل العذاب، سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة، وهذه المعاني ليست متخالفة، فإن أصل القط هو الكتاب الذي يكتب فيه نصيب الإنسان أو العطاء الذي يعطيه الملِك، مثلاً يكتب ذلك في رق أو نحو هذا، كما قال الأعشى:

ولا الملكُ النعمانُ حين لقيته بغبطته يُعطِي القطوطَ ويأفقُ

يعطيهم رقاعًا، كتابات، كل واحد فيها جوائز الملك التي يعطيها الوفود، ويأفق: بعضهم قال: يأفق يعني: يفاضل في العطاء بين هؤلاء المعطَيْن، فقالوا: عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا يعني: نصيبنا، سواءً كان من العذاب أو كان من النعيم، فهم يستعجلون بالعذاب كما قال الله : يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [سورة العنكبوت:54]، فاستعجلوا بنصيبهم لا أنهم يؤمنون به، وأرادوا فعلاً أن يتحقق لهم في الدنيا حتى لو كان عذاباً، وإنما قالوا ذلك على سبيل التكذيب والسخرية والاستبعاد، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا، فهذه الأقوال التي ذكرها هنا ليست متخالفة، فهي ترجع إلى هذا -والله تعالى أعلم، وابن جرير كما ترون جمع بين المعنيين، نصيب في الخير والشر؛ لأن بعضهم خصه بالخير، بالعطاء، وما أشبه ذلك، لكن القرآن دل على أنهم استعجلوا أيضاً بالعذاب.

ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد قال الله تعالى لرسوله ﷺ آمراً له بالصبر على أذاهم ومبشراً له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر...
  1. بدائع الفوائد، لابن القيم (3/ 174).
  2. رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، برقم (2533).
  3. رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب قوله ﷺ: لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم، برقم (2537).
  4. رواه ابن أبي حاتم في الزهد، برقم (52).
  5. رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (21/ 150)، وأحمد في المسند، برقم (3419)، وقال محققوه: " إسناده ضعيف، عباد بن جعفر -وهو يحيى بن عمارة، جزم بذلك البخاري ويعقوب بن شيبة وابن حبان، ويقال: يحيى بن عباد- لم يروِ عنه غير الأعمش، ولم يوثقه غير ابن حبان، فهو في عداد المجاهيل، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين"، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (11437).
  6. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (18308)، وقال محققوه: " إسناده صحيح على شرط الشيخين، يحيى: هو ابن سعيد القطان، وعبد الرحمن: هو ابن مهدي، وسفيان: هو الثوري، وأبو إسحاق: هو السَّبِيعي، وقد صرَّح بالسماع"، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (6484)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (5879).

مواد ذات صلة