السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الآية:17‏ إلى قوله تعالى: {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} الآية:29
تاريخ النشر: ٠٩ / رجب / ١٤٣٣
التحميل: 9219
مرات الإستماع: 10081

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ۝ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ۝ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ۝ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [سورة ص:17-20].

يذكر تعالى عن عبده ورسوله داود -عليه السلام- أنه كان ذا أيدٍ، والأيدِ: القوة في العلم والعمل.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- والسدي وابن زيد: الأيدِ: القوة.

وقال مجاهد: الأيدِ: القوة في الطاعة.

وقال قتادة: أعطي داود -عليه الصلاة والسلام- قوة في العبادة وفقْهًا في الإسلام، وقد ذكر لنا أنه كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر.

وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى، وإنه كان أواباً[1]، وهو الرجّاع إلى الله في جميع أموره وشئونه.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ أورد أقوال السلف هنا، وفي غيرها مما ورد عنهم من أن الأيدِ القوة، وفي مجموعها أن الأيدِ القوة في العبادة وكذا أيضاً الفقه في الدين؛ ولهذا جمع بينهما الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بقوله: القوة في العلم والعمل، وذلك ما وصف الله -تبارك وتعالى- به خيار الخلق من الأنبياء الذين اصطفاهم من قوله -تبارك وتعالى: أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [سورة ص:45]، فجمع لهم بين هذا وهذا، فالأبصار بمعنى البصائر، يعني: العلم والفهم الذي يكون به الميز بين الحق والباطل، والأيد بمعنى القوة.

وبعض المنحرفين لربما يحتج على أهل السنة بأنهم يؤولون وينقلون أقوالاً عن السلف في هذه الآية أنهم فسروا الأيد بمعنى القوة، مع قوله -تبارك وتعالى: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [سورة الذاريات:47]، فيقول: لم يفسروا ذلك باليد التي هي الصفة المعروفة، والواقع أن هذه غير اليد، هذه الأيد بمعنى القوة، بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ أي: بقوة، وهذا ما وصف الله به داود -عليه الصلاة والسلام، فهذا ليس من التأويل في شيء.

وقوله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ أي: إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال -عز وجل: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سورة سبأ:10] وكذلك كانت الطير تسبِّح بتسبيحه وترجِّع بترجيعه، إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء ويسبح معه، وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح تبعاً له.

روى ابن جرير عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان لا يصلي الضحى فأدخلته على أم هانئ -رضي الله عنها- فقلت: أخبري هذا ما أخبرتني به، فقالت أم هانئ: دخل عليّ رسول الله ﷺ يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات، وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء، قريب بعضهن من بعض، فخرج ابن عباس وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ وكنت أقول: أين صلاة الإشراق؟ وكان بعدُ يقول: صلاة الإشراق.

ولهذا قال: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي: محبوسة في الهواء، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: مطيع يسبح تبعاً له.

قال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: مطيع.

قوله -تبارك وتعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ، قال: أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، والعشي يقول ابن جرير -رحمه الله: إنه من بعد العصر إلى الليل.

ويطلق العشي على ما بعد الزوال، من بعد الظهر، وكذلك لما بعد العصر، وسيأتي في قوله -تبارك وتعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ [سورة ص:31]، فهنا قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ يعني: في آخر النهار، وَالإشْرَاقِ يعني هنا فُسر بصلاة الضحى، والتسبيح يقال للصلاة، ويقال لصلاة الضحى: سبحة الضحى، وكذلك ما جاء عن ابن عمر: لو كنت مسبحاً لأتممت، أي: مصلياً، فلا شك أن الصلاة يقال لها: تسبيح.

ويقال التسبيح أيضاً للذكر الذي هو بمعنى التنزيه، سبحان الله ونحو ذلك، فالتسبيح هنا إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ، ليس معنى ذلك أن الجبال تصلي معه، وإنما المقصود تسبح بمعنى أنها تنزه الله -تبارك وتعالى- وتردد معه؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ، قال: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سورة سبأ:10]، فالتأويب بمعنى الترجيع والترديد، فيكون ذلك ترديداً للذكر، وليس المقصود -والله تعالى أعلم- أنها تصلي معه.

لكن هنا ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أخذ من قوله: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ صلاة الضحى، يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ، ويمكن أن يحمل هذا على الذكر طرفي النهار، فإن الذكر يكون في هذا الوقت أول النهار، ويكون أيضاً في آخره، بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [سورة النور:36]، فالغدو هو أول النهار، والآصال يكون بعد العصر، فهذا بمعنى هذا -والله تعالى أعلم.

فالمقصود أنها كانت تردد معه، تفسره الآية الأخرى، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ [سورة الإسراء:44]، وأخبرنا عن قول سليمان -عليه الصلاة والسلام: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [سورة النمل:18] إلى غير ذلك، فهذا كله على ظاهره، والنبي ﷺ قال: إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ بمكة قبل أن أبعث[2]، وكذلك ما جاء من حنين الجذع، والله قال للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت:11].

فالجبال كانت تسبح معه حقيقة، فيحمل على ظاهره، وليس هناك ما يدل على أن المقصود غير ذلك، وكذلك الطير كانت تردد معه التسبيح، وابن كثير -رحمه الله- يقول: أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، فابن عباس -رضي الله عنهما- حمل التسبيح على أعم معانيه، وذلك أن التسبيح مشترك، يقال للصلاة ويقال أيضاً للذكر الذي يكون بمعنى التنزيه، والمشترك لا إشكال في حمله على معنييه أو معانيه إن لم يوجد ما يمنع من ذلك، لكن سياق الآية -والله تعالى أعلم- إنما هو في التسبيح الذي هو الذكر.

قال: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، قال: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي: محبوسة في الهواء، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، قد تكون محبوسة في الهواء، وقد تكون تجتمع عنده على الأرض، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: مطيع يسبح تبعاً له.

وقال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: مطيع، وأصل الأوْب بمعنى الرجوع، وفسر بمعنى أنه مسبح، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: مسبح؛ وذلك لأجل تسبيح داود ﷺ، فهي تسبح بهذا الاعتبار، كل له أواب، فوضع الأواب موضع المسبح، كُلٌّ لَهُ والضمير يرجع إلى داود ﷺ، يعني: يسبح لتسبيحه.

يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ رددي معه، فالأوب بمعنى الرجوع، يعني أنها ترجع معه التسبيح، وبعضهم يقول: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ يعني: الضمير يرجع إلى الله ، وتقدست أسماؤه، بمعنى أن الجميع رجاع إلى الله تواب إليه، داود ﷺ وغيره، ولكن ظاهر السياق -والله تعالى أعلم- أن ذلك يرجع إلى داود -عليه الصلاة والسلام، لكن كأن هؤلاء نظروا إلى معنى الأوب والرجوع والتوبة وما أشبه ذلك، قالوا: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ إلى الله، ولكن الضمير هنا يرجع إلى غير مذكور.

والأصل أن الضمير إذا قيل: إنه يرجع إلى غير مذكور فإن ذلك إنما يكون مع وجود قرينة، الضمير إما أن يرجع إلى مذكور، وإما أن يرجع إلى غير مذكور، لكن إن كان يرجع إلى غير مذكور فلابد أن يوجد ما يدل عليه من القرينة أو السياق، وهنا لا يوجد ما يدل عليه، لكن كأنهم أخذوا من لفظة أواب، فهموا منها التوبة تواب، فقالوا: التوبة إنما تكون لله -تبارك وتعالى، ولكن إذا فهم ما سبق فلا إشكال، وهذا الذي عليه عامة المفسرين، أن ذلك يرجع إلى داود -عليه الصلاة والسلام، أَوَّابٌ أي: مسبح، يعني كونها تردد معه، كانت بهذه المثابة، والله أعلم.

ولا إشكال أن الصلاة والتسبيح هنا ذكر كل واحد على حدة، وأخبر الله -تبارك وتعالى- أنه يسجد له من في السموات والأرض، لكن إذا ذكر التسبيح وحده فإنه يحتمل هذا وهذا، فالمتبادر إلى الذهن أحياناً من السياق مثل هذا المقام يكون التسبيح بمعنى -بل هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق- الذكر الذي هو بمعنى التنزيه، لكن إذا وجد قرينة، لو كنت مسبحاً لأتممت[3] مثلاً ونحو ذلك، فإن ذلك يحمل على الصلاة.

لكن إذا أردت أن توجه أقوال السلف لاسيما ما جاء عن مثل ابن عباس -رضي الله عنهما- فيمكن أن تقول: هذا من قبيل حمل المشترك على معنييه، -والله أعلم، لكن قوله: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [سورة النور:41] لا يعني بالضرورة أن ذلك يعني أن التسبيح لا يكون بمعنى الصلاة، وهنا ذكر هذا وهذا، فيكون لهذا معنى ولهذا معنى.

وقوله تعالى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ أي: جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك.

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: كان أشد أهل الدنيا سلطاناً.

وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ قال هنا: جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع الوجوه، وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ يعني ثبتناه وقويناه وذلك لا يكون إلا بتحقق ما يُثبت أو يحصل به ذلك، يحصل به ثبات الملك، وقوة الملك، ورسوخه، وذلك بأمور لا تخفى، شددنا ملكه، ملكٌ وسلطان قوي ثابت ليس فيه ضعف واضطراب.

وقوله -عز وعلا: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ قال مجاهد: يعني: الفهم والعقل والفطنة.

وقال قتادة: كتاب الله واتباع ما فيه.

وقال السدي: الْحِكْمَةَ النبوة.

الحكمة تفسر بهذا وهذا، ولذلك تجد عبارات السلف فيها وكلام أهل العلم في المواضع المتفرقة يأتي لمعانٍ متعددة، والواقع أنها ترجع إلى معنى يمكن أن يلتئم من كون الحكمة في أصلها -أصل هذه المادة "الحاء والكاف والميم"- ترجع إلى المنع، ولذلك يقولون فيها: إنها مثلاً الإصابة في القول والعمل، فهذا الذي تحصل له الإصابة في القول والعمل يحصل له بذلك منع بهذه الحكمة من الشطط والخطل في القول والرأي والحكم وما إلى ذلك؛ ولهذا يقال في الحكم مما يرجع إلى هذه المادة.

وقد مضى الكلام على هذا في الكلام على اسم الله الحَكم والحكيم، وذلك أن الحكم يمنع أحد الخصمين من أخذ حق غيره، أو من التعدي على الآخر، والحاكم كذلك أيضاً، وحينما يقال: إن الحكمة وضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، فذلك أيضاً منع لمن كان موصوفاً بهذه الصفة من الخطل والخطأ والشطط في القول والعمل، فهذا يحصل بالعلم.

وهو يحصل في أجلى صوره بالنبوة، فهي أعلى وأعظم، فهي منحة إلهية تكون متضمنة للعلم، ويكون معها من الفهم والصواب، ووضع الأشياء في مواضعها وما إلى ذلك، كل ذلك متحقق في النبوة، ولهذا كانت الحكمة تأتي بمعنى النبوة، وتأتي بمعنى الفهم، وتأتي بمعنى العلم، وتأتي بمعنى الإصابة وما إلى ذلك، كل هذه المعاني التي يذكرها السلف صحيحة، ولهذا قال: الفهم والعقل والفطنة، قال قتادة، كتاب الله واتباع ما فيه، وقال السدي: الحكمة النبوة.

وقوله : وَفَصْلَ الْخِطَابِقال شريح القاضي والشعبي: فصل الخطاب: الشهود والأيمان.

وقال قتادة: شاهدان على المدعي أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل -أو قال: المؤمنون والصالحون- وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة، وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي.

وقال مجاهد والسدي: هو إصابة القضاء وفهم ذلك.

وقال مجاهد أيضاً: هو الفصل في الكلام وفي الحكم. وهذا يشمل هذا كله، وهو المراد واختاره ابن جرير.

هنا وَفَصْلَ الْخِطَابِ، هذه الأقوال التي ذكرها ما عدا الأخير يعني قول مجاهد: هو الفصل في الكلام وفي الحكم، ما قبل ذلك الأيمان والشهود، شاهدان على المدعي، أو يمين المدعى عليه، وهكذا، الأقوال أو العبارات التي نقلها عن السلف في هذا المعنى ترجع إلى شيء واحد، وهذا الذي عزاه الواحدي لأكثر المفسرين.

فصل الخطاب يعني: ما يتعلق بالحكم، الشهود والأيمان، فالقول الأخير الذي نقله عن مجاهد، قال: هو الفصل في الكلام وفي الحكم، الفصل في الكلام بعضهم قال: الإيجاز في الكلام، يقول قولاً فصلاً.

وبعضهم يقول: الفصل في الكلام يكون المراد به قول: أما بعد، يفصل بين جزءين من الكلام، أما بعد، يقولون: أول من قالها داود -عليه الصلاة والسلام، وليس ثمة ما يثبت ذلك -والله تعالى أعلم، وهكذا قول من قال: إيجاز المعنى، الكلام الكثير أو المعنى الكثير في القول أو الكلام الوجيز المختصر، وَفَصْلَ الْخِطَابِ.

مجاهد -رحمه الله- جمع هذه الأقوال فقال: هو الفصل في الكلام وفي الحكم، وابن كثير يؤيده، يقول: وهذا يشمل هذا كله، وهو المراد، واختاره ابن جرير، وذلك أن ابن جرير كما هي العادة يقول: إنه لا يوجد دليل يدل على أحد هذه المعاني، وكل ذلك يقال له: فصل الخطاب، فآتى الله داود -عليه الصلاة والسلام- هذا كله من الفصل في الكلام وفي الحكم بين الخصوم، والله تعالى أعلم.

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ۝ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ۝ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ۝ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۝ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ[سورة ص:21-25].

قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثاً لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله ، فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضاً.

ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من الإعراض عن الروايات التي امتلأت بها كثير من كتب التفسير للأسف من روايات لا تليق مع أحد من صالحي الأمة، فضلاً عن نبي من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، لا شك أن هذا الإعراض هو المتعين، ولكن ليس ذلك يعني أنه لا يفهم المعنى، ولا يريد الحافظ ابن كثير -رحمه الله- حينما يقول: يقتصر على قراءتها، أن المعنى لا يفهم، المعنى مفهوم، أنه جاءه خصوم، وعرضوا عليه هذه القضية، وأنه حكم فيها، لكن ما دواعي ذلك وما سببه، وهل كان هؤلاء من الملائكة أو كانوا من الإنس، هذا الذي عناه الحافظ ابن كثير -رحمه الله.

ومما يذكر من القصص أن الله أراد أن يعلمه وأن يبين له بهذه القضية أمراً كان قد وقع فيه، فهذا كله ينبغي أن يُعرَض عنه، أعني ما يذكر من القصص والأخبار التي لا تليق مع مقام داود -عليه الصلاة والسلام.

فقوله -تبارك وتعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فالخصم مصدر وهو يصدق على الواحد والجمع، كما يصدق على المثنى، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، وهما اثنان، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، ويصح التعبير عن الاثنين بضمير الجمع إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [سورة التحريم:4]، فقلوب جمع، سواء قيل: إن أقل الجمع اثنان أو قيل: إن ذلك يعبر به عن هذا في لغة العرب، وهنا وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ يعني: الخصوم، هؤلاء هل كانوا من الملائكة أو كانوا من الإنس؟

بعضهم كالنحاس يقول: لا خلاف بين المفسرين أن هؤلاء كانوا من الملائكة، هذا قول أكثر المفسرين، لكن بناءً على هذه الروايات الإسرائيلية أن القضية لم تكن خصومة حقيقية، وإنما كانت من قبيل ضرب المثل لداود -عليه الصلاة والسلام- ليتبين أمراً قد وقع فيه، هكذا قالوا، أنها ليست خصومة حقيقية بين اثنين، لكن جاءوا إليه ليبينوا له.

والواقع أنه ليس هناك اتفاق وإجماع بين المفسرين أن هؤلاء من الملائكة، وقد قال بعض المفسرين: إن هؤلاء كانوا من الإنس، وإنها كانت قضية حقيقية وخصومة وقعت بينهم فيما ذكر، فالله تعالى أعلم.

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، على قول أكثر المفسرين يكون ذلك كأنه من قبيل ضرب المثل، وليُتبين به أمرٌ آخر، وهذا يمكن أن يؤخذ منه بعض المعاني أو بعض الأشياء، لكنه لما كان ذلك لا يقطع به، فإن الجزم بذلك قد لا يخلو من إشكال، وأعني بهذا أنه هل يجوز مثلاً ذكر القصص غير الحقيقية للفائدة، وإيصال المعاني النافعة للناس، والناس يعرفون أنها قصة غير حقيقية؟

يعني هذا يُسأل عنه كثيراً، بعض الناس يقول: أنا أؤلف قصصاً أكتب قصصاً، بل حتى بعض الأمهات تقول: أنا أقص على أولادي قصصاً فيها فوائد -الأطفال الصغار، فهل يتطلب ذلك أن أقول: لنفترض، لنتصور، أو نحو ذلك من العبارات التي تدل على أنها غير حقيقية، أو يكفي أن أقول: كان في كذا، وحصل كذا، وذلك لم يحصل؟

ومن أهل العلم من قال: إن هذه ليست واقعة حقيقية، ولكن هؤلاء لا يقصدون أن قصص القرآن غير حقيقية، فهذا قول فاسد، ولا يقول به أحد من أهل العلم المحققين الثقات، وإنما الذين قالوا ذلك قالوا هذا في خصوص هذا الموضع، قالوا: إنما هو من قبيل ضرب المثل، ولم يكن ذلك واقعاً، ومضى الكلام على هذا، وقلت: إن الراجح حينها أنها قصة حقيقية، وأن هذا على ظاهره، وليس له صارف مثل هذا.

هنا في هذا الموضع: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ عند من يقول: إن ذلك كان من قبيل ضرب المثل والتقريب يمكن أن يحتج بهذا على أنه لا بأس، لاسيما أن السامع يعلم بذلك، ولا يحتاج أن يقدم بمقدمة، ويقول: لنفترض أو نحو هذا، وقد يحتج به أيضاً من يقول: إنه يجوز أن يحاكي، أو أن يقوم بمزاولات وأعمال تحكي شيئاً معيناً أو واقعاً معيناً أو حالاً معينة، أو وقائع مفترضة متصورة لإيصال معانِيَ يجسدها بهذه المزاولات، وهو ما يسمى اليوم بالتمثيل، بضوابطه عند من يجيزه بضوابط من أهل العلم، لا يعد ذلك من قبيل الكذب، فبعض أهل العلم يقول: يجوز، وأنه ليس من قبيل الكذب، وأنه من قبيل ضرب المثل، ويذكرون على هذا أشياء.

وفي كلام أهل العلم كابن القيم وغيره، يذكرون أشياء هي من قبيل ضرب المثل، يعني يجرونها على ألسن الحيوانات، وعلى ألسن بعض الكائنات والمخلوقات مما ينطق أو مما لا ينطق، حتى بعض الجمادات، فيحتج بعضهم بمثل هذه الأشياء، وأنهم لا يرون بها غضاضة، وليس الكلام في هذا، لكن على قول عامة أهل العلم، وما نقل النحاس عليه يعني ما يشبه الاتفاق، قال: لا خلاف بين المفسرين أنهما ملكان، فتكون تلك الواقعة غير حقيقية، يعني: لم تكن خصومة حقيقية، هذا المقصود، والعلم عند الله -تبارك وتعالى، قد يكون هذا وقد يكون هذا، وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ.

وقوله تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه، وهو أشرف مكان في داره، وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم.

قوله: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، المحراب قال هو: محرابه وهو أشرف مكان في داره، وبعضهم كيحيى في تفسيره يقول: إنه الغرفة إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، الغرفة، والغرف إنما تقال لما كان في الأعلى، يعني: كأنها أشرف المساكن، فهذا يرجع إلى هذا المعنى، وهكذا من قال: إنها صدور المجالس، فهذا يرجع إلى هذا المعنى، يعني: أشرف المجالس يقال لها: محاريب.

فالمحاريب تقال للأماكن الشريفة في المجالس، والبيوت، ولهذا قيل لمَا يكون في مقدم المسجد الذي يصلي فيه الإمام صدر المسجد يقال له: محراب؛ لهذا المعنى، الأماكن الشريفة في المجالس والبيوت ونحو هذا، فمن قال: الغرفة مثلاً، فهو يرجع إلى هذا المعنى، باعتبار أن الغرف أشرف المواضع، فكلامهم يرجع إلى شيء واحد، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فكان يجلس في هذا المكان الذي هو أشرف المواضع في بيته فتسوروا عليه، دخلوا عليه، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، قال: وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم، فلم يشعر إلا بشخصين..، ابن الأعرابي يقول: إن البنيان على هذا المحراب، أو على هذا المكان الذي دخلوا فيه قال: لا يستطيع أحد أن يتسوره، فلما تسوروا فزع منهم، كيف استطاعوا الوصول إليه!

وبعضهم يقول: إنه أمر خادمه أن يقف على الباب ولا يأذن لأحد، ففوجئ بدخول هؤلاء، فالحاصل أن داود ﷺ كان قد قسم الزمان بين عبادة، وصلاة، وجلوس إلى الناس، وراحة، فكان يفصل بين الناس في الخصومات، ودخل عليه هؤلاء في غير وقت جلوسه للناس، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، وأما ما يذكر في بعض الروايات الإسرائيلية في سبب ذلك فإن هذا لا يعول عليه بحال من الأحوال.

فلم يشعر إلا بشخصين قد تَسَوَّرا عليه المحراب أي: احتاطا به يسألانه عن شأنهما.

قال: تسورا عليه المحراب، أي: احتاطا به يسألانه عن شأنهما، احتاطا به يعني أحاطوا به، لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن التسور المقصود به معنى غير هذا، وهو الذي عليه عامة المفسرين، فتسوروا المحراب بمعنى أنهم لم يأتوا من الباب وإنما من السور، أتوا من سور الحائط؛ لأن السور هو الحائط المرتفع، فهؤلاء أتوه من أعلى السور ونزلوا عليه، فدخلوا عليه من غير باب المحراب، هذا الذي يذكره المفسرون، وهو معنى التسور.

وليس ذلك -والله تعالى أعلم- بمعنى الإحاطة به، لكن كأن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أخذ هذا من أصل هذه المادة، من أن السين والواو والراء تدل على معنى الإحاطة، أو أن من معانيها الإحاطة، ولهذا يقال: سور المدينة، ففيه معنى الارتفاع، وفيه معنى الإحاطة؛ لأنه يحيط بها، ومن ثَم قيل: السوار، لإحاطة أيضاً، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ يعني: كأنهم قد أحاطوه، لكن لو قال: تسوروا داود -عليه الصلاة والسلام- لكان هذا المعنى متجهاً، يعني: أحاطوا به عن يمينه وعن يساره، ولكنه قال هنا: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فهل معنى ذلك أنهم كانوا على يمين المحراب ويسار المحراب؟

الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن المقصود معنى آخر، وهو أنهم أتوه من أعلى السور، سور المحراب، قال: يسألانه عن شأنهما.

ومعنى وَلَا تُشْطِطْ يعني: لا تجُرْ في الحكم، نهي عن الجور، وَلَا تُشْطِطْ، فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ، وأيضاً أمروه ونهوه وهو نبي الله -عليه الصلاة والسلام، وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ، فمثل هذا لو أنه حصل لآحاد الناس لما تقبله أحد، وقد حصل لنبي الله داود -عليه الصلاة والسلام، فأهل العلم لهم أسوة بهذا -طلاب العلم.

وهذه التربية تستفاد من هذا الموضع من كتاب الله -تبارك وتعالى، فداود -عليه الصلاة والسلام- ما زجرهم، ولا آذاهم، ولا أمر بحبسهم، وكان يستطيع ذلك، ولكنه حكم بينهم بما أرادوا، وفصل في هذه القضية بما ظهر له، فقد يلقى طالب العلم من الناس شططاً وأذية، وسوء أدب في السؤال أو في وقت الاتصال أو نحو ذلك، وليس ثمة إلا الصبر، وكثير من الأحيان قد ينسى الإنسان مثل هذه المعاني، والله المستعان.

وقوله : وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ أي: غلبني يقال: عزّ يَعُزُّ إذا قهر وغلب.

يعِز يعني الشيء القليل، لكن عز يعُز بمعنى قوي وغلب، وعلى هذا المعنى، وقد مضى الكلام على هذا مراراً، والمثل المضروب فيه: من عَزّ بَزّ ومن غلب استلب، والعزة التي أثبتها الله للكافرين فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [سورة ص:2]، فوصف هؤلاء الكفار بأنهم في عزة، وقلنا العزة هناك بمعنى: الأنفة والترفع عن الحق، فهو معنى مذموم، التعالي على الحق، وليست العزة المعروفة التي تكون من أوصاف الكمال، فهذه منفية عنهم، وهي التي قال الله فيها: فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [سورة النساء:139]، وأثبتها أيضاً له -تبارك وتعالى- ولرسوله ﷺ، ولأهل الإيمان.

فهنا قوله: وَعَزَّنِي بمعنى العزة التي هي بمعنى الغلبة، وأما التي أثبتها للكفار هناك فليست بمعنى الغلبة، فهنا قال: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ أي: غلبني، فهو يتكلم بقوة وبعبارة أفصح من عبارة صاحبه وما إلى ذلك، ماذا قال له؟

هنا ما ذكر قوله: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ، فالذين يذكرون الروايات الإسرائيلية وما إلى ذلك يقولون: هذا فيه إشارة إلى معنى وقع من داود ﷺ، والواقع أنه منزه عن ذلك.

لكن المقصود بالنعجة بعضهم يقول: النعجة المقصود بها نعجة حقيقية، وهي أنثى الضأن، وأنهم اختصموا في هذا، وبعضهم يقول المقصود بالنعجة هنا المرأة، فهذا له تسع وتسعون امرأة، وهذا له امرأة واحدة، فيقول له: انزل لي عنها، طلقها حتى أتزوجها، واختيار ابن جرير -رحمه الله- أن المقصود بالنعجة المرأة في هذا الموضع، ولربما يتعجب الإنسان من مثل هذا أو يستنكف لاسيما النساء، تقول: كيف يقال عن المرأة: إنها نعجة؟

لكن لو علم النساء المعنى المراد لرحبن به، وفرحن بذلك، وسررن به، فماذا يقصد العرب حينما يقولون هذا؟

يقصد العرب بذلك البقرة الوحشية، فإن العرب تطلق النعجة على أنثى الضأن، وتطلقها على البقرة الوحشية، والمقصود بالبقرة الوحشية المها: وهي نوع من الظباء، عادة ما تشبه بها النساء، تشبه بها في بياضها، يقال: النساء البيض، يقال عن النساء البيض، ولذلك يقال للمرأة في بيئتنا الصحراوية يقال: وضحا من الوضح وهي الإبل البيض، يقال: وضحا، وتسمى المرأة بهذا، فالمها يشبهون المرأة بها -وهي التي يسمونها البقرة الوحشية- في بياضها، وفي عنقها، وفي جمال عينيها من سوادها ونحو ذلك، فهي في غاية الجمال، فيقال:

عيونُ المَها بين الرُّصافةِ والجِسرِ ...

وهذا كثير في شعر العرب، وفي منثور كلامهم، فهذا مقصودهم حينما يقولون: النعجة هي المرأة في هذه الآية، وليس المقصود أنثى الضأن، لا يقصدون هذا، وإذا اتضح هذا المعنى زال الإشكال وما قد يستهجن من قول بعض المفسرين أو يستبعد جداً، فإذا عرف أن المراد هو هذا المعنى هان وقعه على النفوس، والله المستعان.

قوله تعالى: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أي اختبرناه.

قوله: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ يعني هذا الذي حمل أكثر المفسرين على أن ذلك كان من قبيل ضرب المثل لداود ﷺ، لكن يمكن أن يقال: إنها كانت خصومة حقيقية، وإنهما لم يكونا ملكين، وإنما من الإنس، فوقع له فتنة بسبب ذلك، وهذه الفتنة قد يكون المراد بذلك -والله تعالى أعلم- أنه حكم قبل أن يسمع قول الخصم الآخر، فقد تكون هذه هي الفتنة والاختبار.

والله -تبارك وتعالى- يظهر لعباده ما يوجب افتقارهم إليه -تبارك وتعالى، وخضوعهم كما قال موسى ﷺ حينما كان في ملأ من بني إسرائيل وسألهم: من أعلم الناس؟ فحصل ما حصل من اتباعه الخضر، كما حكى النبي ﷺ ذلك مفصلاً، وقد جاء في كتاب الله -تبارك وتعالى، فقوله:أَنَّمَا فَتَنَّاهُ، ومعلوم أن الظن يأتي بمعنى العلم، كما قال الله : الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة البقرة:46]، يعني: يعلمون ويتيقنون.

وقوله تعالى: وَخَرَّ رَاكِعًا أي: ساجداً وَأَنَابَ.

الركوع هنا بعضهم كابن العربي -رحمه الله- يقول: لا خلاف أن المقصود به السجود، والواقع أن هناك من خالف في هذا، فبعضهم قال: وَخَرَّ رَاكِعًا يعني: الركوع المعروف، والركوع يقال للسجود، ويقال أيضاً للصلاة، فهذا الانحناء يقال له: ركوع، وبعضهم يقول: والسجود هو وضع الجبهة على الأرض، والواقع أنه يعبر بهذا بالركوع عن السجود، وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [سورة البقرة:58]، وليس المقصود أنهم يدخلون وقد وضعوا جباههم على الأرض، وإنما المقصود يدخلون في حال من الانحناء الذي هو بمعنى الركوع، خضوعاً لله -تبارك وتعالى، وشكراً على نعمة الفتح، فيقال السجود لهذا، ويقال الركوع أيضاً لهذا، ولا إشكال، وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ.

ولفظة "خر" تشعر بأن المقصود إلى الأرض، أهوى إليها ووضع جبهته على الأرض، وَأَنَابَ يعني: رجع إلى الله -تبارك وتعالى- وتاب.

فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ أي: ما كان منه، مما يقال فيه: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

يعني هذه العبارة قد يُتحفظ عليها وقد توجه وتحمل على معنى، وإن كان يذكرها كثير من أهل العلم، ولكن العبارة ليست كما ينبغي -والله تعالى أعلم، فإن حسنات الأبرار لا تكون سيئات في حق المقربين، وإنما الحسنات تتفاوت وتتفاضل، وقد يكون الشيء مفضولاً، ولكنه يكون فاضلاً في حق بعض الناس، أو في بعض الأوقات، أو بعض الأحوال، أو بعض المواضع.

فقوله: حسنات الأبرار سيئات المقربين، حسنات الأبرار لا يقال عنها: إنها سيئات، ولا توصف بهذا بحال من الأحوال، وإنما قصدوا بذلك أن داود -عليه الصلاة والسلام- لم يقع منه معصية، وهكذا يقولون في المواضع التي يذكر الله فيها هذا المعنى.

والواقع أنه لا حاجة لمثل هذا التكلف -والله تعالى أعلم، فالله قال عن آدم ﷺ وهو نبي من الأنبياء، قال: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طه:121]، فهذا صريح، وآدم ﷺ رجع إلى الله ، قال الله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37]، رجع عليه بالتوبة، فحصل من آدم معصية وهي الأكل من الشجرة.

ومن الفوائد المنقولة من كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن حال الإنسان بعد المعصية قد تكون أفضل من حاله قبلها، فتحصل له المعصية فيحصل له انكسار، وتذهب عنه الغفلة ويزول عنه العجب، ورؤية النفس والترفع بالطاعة، وما إلى ذلك، فتكون حاله أحياناً بعد المعصية أفضل من حاله قبلها، ويكون له من أجر التوبة وكذلك ما يحصل من الاستغفار، بالإضافة إلى أنه يتذكر دائماً هذه المعصية فيجدّ ويجتهد في الطاعات، فيكون ذلك رفعة له.

وليس كل الناس كذلك، فهنا الله -تبارك وتعالى- أخبر عن داود ﷺ أنه وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، وَخَرَّ رَاكِعًا: خر ساجداً؛ توبة إلى الله، والنبي ﷺ أخبر أن هذه السجدة كانت توبة من داود -عليه الصلاة والسلام، قال: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ، والغفر يدل على وقوع أمر يُتاب منه، أو يستوجب التوبة، أو يتطلب التوبة، ولكن هل يلزم أن تكون التوبة من معصية في كل الأحوال؟

الجواب: لا، وقد مضى الكلام في الأعمال القلبية على هذه الجزئية في التوبة، من أن التوبة قد تكون من المعصية، تكون من الكفر، تكون من الكبائر، تكون من الصغائر، وتكون من فعل المكروه، ومن خلاف الأولى، وذكرت حينها بعض الأمثلة على ذلك، وكذلك في التوكل، في الكلام على الكيف وطلب الرقية، وحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، هل لأحد ممن وقع في ذلك أن يستدرك؟

الجواب: نعم، يمكن أن يتوب، وذكرت الدليل على هذا وهو أن عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنه- كانت تسلم عليه الملائكة، ثم بعد ذلك اكتوى فلم يعد ذلك التسليم، لم يعد يسمعه، ثم بعد ذلك تاب، فلما تاب رجع إليه، فالتوبة تنفع من هذا، مع أن الذي فعله ليس بمعصية، يعني: لو أن أحداً اكتوى ثم تاب فيكون قد تاب من فعل المكروه، وقد يتوب الإنسان من فعل خلاف الأولى، وقد يتوب من ترك بعض السنن، إنسان يفرط بالوتر، أو بالسنن الرواتب أو نحو ذلك، فيتوب من هذا، فهذه توبة صحيحة لا إشكال فيها؛ لأن التوبة بمعنى الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى، فالرجوع يكون تارة من المعصية، وتارة يكون من التقصير بأي وجه كان.

سجدة "ص" ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: السجدة في "ص" ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله ﷺ يسجد فيها.

ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وروى النسائي أيضاً عند تفسير هذه الآية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن النبي ﷺ سجد في "ص" وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكراً([4]، تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات.

وروى البخاري عند تفسيرها أيضاً عن العوّام قال: سألت مجاهدا عن سجدة "ص" فقال: سألت ابن عباس -رضي الله عنهما: من أين سجدت؟ فقال: أوَمَا تقرأ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [سورة الأنعام:84]، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [سورة الأنعام:90] فكان داود -عليه الصلاة السلام- ممن أُمِر نبيكم ﷺ أن يقتدي به، فسجدها داود -عليه الصلاة السلام- فسجدها رسول الله ﷺ[5].

وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قرأ رسول الله ﷺ وهو على المنبر "ص" فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزّن الناس للسجود، فقال ﷺ: إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تَشَزّنْتُم[6].

يعني تهيأتم للسجود.

فنزل وسجد، وتفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيحين.

وقوله تعالى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ أي: وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله بها وحسن مرجع وهو الدرجات العاليات في الجنة؛ لتوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح: المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا([7].

هنا أثبت الله -تبارك وتعالى- لداود -عليه الصلاة والسلام- بعد توبته المغفرة، وكذلك الزلفى وهو القرب من الله -تبارك وتعالى، وكذلك حسن المرجع إليه، فهذه بعض آثار التوبة.

يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[سورة ص:26]، هذه وصية من الله لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده -تبارك وتعالى- ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد تبارك تعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد.

روى ابن أبي حاتم عن إبراهيم أبي زرعة -وكان قد قرأ الكتاب- أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسَب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول، وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان، قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود -عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ الآية.

وقال عكرمة: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ هذا من المقدم والمؤخر لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا.

وقال السدي: لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب. وهذا القول أمشى على ظاهر الآية، والله الموفق للصواب.

النسيان يأتي بمعنى الذهول عن المعلوم، ويأتي بمعنى الترك، وقد مضى هذا مراراً، نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ يعني: تركوا وأعرضوا عن العمل له والاستعداد للقاء الله -تبارك وتعالى.

هنا قوله -تبارك وتعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ، خليفة يعني: تخلف من قبلك من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وقد مضى الكلام في قوله -تبارك وتعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] يعني: يخلف بعضهم بعضاً، وأنه لا يقال الإنسان خليفة الله في الأرض، وأن هذا لا يصح، وإنما يخلف بعضهم بعضاً.

يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لم يذكر في مقابل الحق إلا الهوى، فدل على أنه ليس هنا إلا اتباع الحق أو اتباع الهوى، فكل من لم يحكم بالحق فهو حاكم بالهوى، وهذا معنى يحتاج الناس إلى تذكره والوقوف عنده في مثل هذه الأيام، ليس هناك إلا الحق، اتباع الحق، وهو شرع الله -تبارك وتعالى- المنزل، أو اتباع الأهواء، فهذه التي يروج لها، ويسوّق لها في مشارق الأرض ومغاربها من حكم الشعب للشعب، وأن الديمقراطية هي الخيار الأمثل، والأفضل، وأن الحرية بإطلاق هكذا، وما إلى ذلك مما تسمع هتاف الملايين يطالب به، أو أولائك الذين يَعِدون عِدة لهؤلاء الناس من أنهم سيحكمون بينهم بالديمقراطية، وأن الشعب هو المرجع، وأن الشرعية تستمد من الشعب، وما إلى ذلك، هذا كله داخل في قوله: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ.

فكل من لم يتبع شرع الله -تبارك وتعالى- ويحكّم ذلك في خاصة نفسه، وفيمن تحت يده فإنه يكون إن لم يفعل ذلك يكون متبعاً للهوى، ومن ثم فإن ذلك يضله عن سبيل الله، ثم انظر الوعيد الذي رتبه بعد هذا، قال: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، نسوا الآخرة، والعمل للآخرة، وصارت الغاية والهمة متوجهة إلى أمور دنيوية من الحريات والمعايش وما إلى ذلك، دون النظر إلى العمل للمعاد، وما يكون من الحساب والجزاء، كل هذا بمنأى، وتجد للأسف الشديد غفلة كبيرة عن مثل هذه المعاني، وإعراضاً عن شرع الله -تبارك وتعالى، وتصريحاً بمخالفته، وترك العمل والتحاكم إليه، ومن كان بهذه المثابة لا يرجى له أن يسدد ويوفق، وأن يجري على يده الخير والبر والمعروف، والله المستعان.

وما ذكره عن الوليد بن عبد الملك لما قال لإبراهيم: أيحاسَب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول؟ يعني هذا السؤال أصلاً كيف ورد، يعني ما منشأ هذا السؤال: أيحاسب الخليفة؟ وهل في هذا تردد، لكنه ينبئ عن معنى، وهو الحال التي يصل إليها بعض الناس أحياناً، ولربما يزين له ذلك بعض من حوله، فربما بلغ الحال أنه قد يشعر أنه فوق هذه المرتبة، وأنه لا يحاسب.

وأصحاب عقيدة الحلول والاتحاد هذه العقيدة الفاسدة القائلين: إن الله -تبارك وتعالى- حل بجميع الخلق، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: إن القول بالحلول وقع به طوائف مثل النصارى حينما قالوا: حل بالمسيح، قال: ووقع به بعضهم حيث زعم أن الله -تبارك وتعالى- حل بالحاكم، ومن ثم فإنه لا يخطئ ولا يتطرق إليه الخطأ، ولا تصدر منه المعصية، ومن ثم فكل ما يقوله إنما هو مظهر من مظاهر الحق، وأن ذلك صادر عن حكم الله -تبارك وتعالى، فهو لا يسأل عما يفعل، وهذه مصيبة.

والذي يوقع في هذا أحياناً النفاق الحامض، وأحياناً الغلو في تبجيل وتعظيم الحاكم فوق ما أمر الله -تبارك وتعالى- به، فإن الله -تبارك وتعالى- أمر بالطاعة، وإنما تكون الطاعة بالمعروف، فإذا وصلت الحالة إلى حال من الغلو في ذلك فإنه قد نصل إلى مثل هذه الأحوال التي قد يستشعر فيها مثل هذا مشاعر غير عادية، فيرِد مثل هذا السؤال: أيحاسب الحاكم؟ ولماذا لا يحاسب؟ أليس من البشر؟ أليس من خلق الله ؟! والله يقول لداود ﷺ يأمره بأن يحكم بين الناس بالحق، ولا يتبع الهوى.

فالاعتدال في الأمور والتوسط، وللأسف تجد هذا الغلو يورث عند الناس ردود أفعال عنيفة مجافية للحق، فتجد الناس بين إفراط وتفريط، هذا يغلو ويقدس الحاكم وينزهه، ويقول: لا يمكن أن تصدر منه المعصية، ولا الخطأ وما إلى ذلك، فيتسبب عن ذلك نزعة أخرى في الطرف الآخر، فيستنكر كل ما يمكن أن يقال، ما جاء في النصوص صريحاً واضحاً مما أمر به النبي ﷺ من السمع والطاعة ونحو ذلك، والأحاديث التي فيها وإنْ ضرب ظهرك وأخذ مالك[8].

فبعضهم يتندر بمثل هذه الأحاديث، -نسأل الله العافية، وبعضهم يحمل ذلك على محامل مستكرهة، وهذا انحراف وخطأ، وذاك أيضاً انحراف وخطأ، وهكذا دائماً تجد الانحرافات، الخوارج والمرجئة، هؤلاء يقولون بقول يتطرفون فيه بهذه الناحية، والآخرون يقابلونه بانحراف آخر، لكنه سؤال عجيب يعني يقف عنده الإنسان أحياناً ويتعجب راداً، كما يقال التحليل النفسي لمن صدر منه مثل هذا القول كيف صدر، وما خلفية هذا القول، وما الدوافع له، أيحاسب الحاكم؟!

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ۝ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ۝ كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ[سورة ص:27-29].

يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثاً، وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر؛ ولهذا قال تبارك تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أي: ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم.

ثم بيّن تعالى أنه من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين فقال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ أي: لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر، وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لابد من معاد وجزاء، فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلابد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك داراً أخرى لهذا الجزاء والمواساة، ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ أي: ذوو العقول وهي الألباب جمع لب، وهو العقل.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، بَاطِلا يعني: من غير حكمة، يعني أن الله خلقها عبثاً، قال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يذكر معنى وقد دل عليه القرآن وذكره كثير من أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن المعاد يمكن أن يستدل عليه بالعقل، يمكن إثبات المعاد بالعقل، وحاصل ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا.

وقوله -تبارك وتعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ، هذا الاستفهام إنكاري، يعني: أن هذا لا يكون، ودل ذلك على أن مثل هذا الأمر أنه قبيح في نفسه، وهذا يستدل به أهل السنة والجماعة على أن من الأشياء ما يكون له قبح ذاتي.

ومسألة التحسين والتقبيح مضى الكلام عليها في بعض المناسبات، وأن المعتزلة يضطردون على قواعدهم ويقولون: إن التحسين والتقبيح كل ذلك مرجعه إلى العقل.

وأن الأشاعرة لما كانوا يتناقضون خالفوا أصلهم في هذا من تقديم العقل على النقل، وقالوا: إن مرجع التحسين والتقبيح إلى النقل، فجاءوا بأمور لا يمكن أن يقبلها العقلاء، قالوا: لو أن الله حسن الزنا وأقره لكان حسناً، ولو أن الله حسن الظلم والعقوق والكذب والفجور لكان حسناً، يقصدون بذلك لو أن الله أمر به لكان حسناً، فهم عندهم الحسن والقبح مرتبطان بالأمر والنهي.

وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن هناك مقدمة قبل ذلك، وهي أن من الأشياء ما يدرك حسنه أو قبحه بالعقل، هم يقولون: لا مدخل للعقل في هذه الأشياء إطلاقاً، وهذا الكلام غير صحيح، وإنما وقعوا في ذلك بسبب بعض المناظرات مع المعتزلة.

فالأشياء على نوعين: منها ما لها حسن أو قبح ذاتي تدركه العقول، مثل الظلم والكذب والفجور، السرقة، وما إلى ذلك، فهذا يدركه العقل، وهناك أشياء لا يدركها العقل فنهى عنها الشرع فدل على أنها قبيحة، فهنا نقول: إنها قبيحة؛ لأن الشرع نهى عنها، والشرع لا ينهى إلا عن شيء قبيح، فهذه هي خلاصة الكلام في هذه المسألة.

فأهل السنة يقولون: إن العقل له مدخل في التحسين والتقبيح حيث يدرك حسن أو قبح الأشياء التي لها حسن أو قبح ذاتي، كالعدل مثلاً فهو حسن، الصدق حسن، وما إلى ذلك، فهذه لها حسن ذاتي يدركه العقل، وهناك أشياء لا يدركها العقل، فما أمر به الشارع فهو حسن، وما نهى عنه فهو قبيح، ولا يمكن أن ينهى عن العدل والصدق والفضيلة وما إلى ذلك من العفاف والمعاني الكاملة، أو يأمر بأمور باطلة وفاسدة كالظلم والفجور والفواحش وما إلى ذلك، لا يمكن أن يحصل هذا، فكل ما أمر به الشرع فهو موافق للعقول الصحيحة، فيما كان للعقل فيه مجال أن يدركه.

وقوله: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ [سورة السجدة:18]، فنفى الله -تبارك وتعالى- التسوية بين هؤلاء وهؤلاء؛ لأن هذا خلاف الحكمة والعدل.

في قوله: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ، وصف الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب هنا بأنه مبارك، وذكر علة الإنزال قال: لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ، فتدبر الآيات بمعنى التفكر والنظر فيما دلت عليه وما تضمنته، وما حوته من ألوان الهدايات والعبر والعظات والمعاني والحكم والأحكام.

وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ، فالتذكر نتيجة للتدبر فإنه إذا تدبر حصل له التذكر، هنا قال: لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، وفي القراءة الأخرى {لتدبروا آياته}، فهذه إحدى الآيات الأربع في التدبر، أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، فهي عامة للجميع، وفي الآيات الأخرى وردت آيتان في المنافقين وهي قوله -تبارك وتعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82]، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [سورة محمد:24]، وفي موضعٍ ذكرَ الله ذلك في حق الكافرين أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:68]، فهنا ذكر الله -تبارك وتعالى- علة إنزال القرآن، وهي التدبر، ومن ثَم التذكر الذي يعقبه العمل والامتثال، والله المستعان.

  1. رواه مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم، برقم (1159).
  2. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
  3. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689).
  4. رواه النسائي، كتاب صفة الصلاة، باب سجود القرآن السجودُ في ص، برقم (957)، وقال الألباني: "وإسناده صحيح" صحيح أبي داود  (5/ 154)، في كلامه على حديث برقم (1270).
  5. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ [سورة الصافات:139]، برقم (4807).
  6. رواه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب السجود في "ص"، برقم (1410)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1455)، وابن حبان في صحيحه، برقم (2765)، وصححه الألباني في صحيح أبي داوود، برقم (1271).
  7. رواه البزار في مسنده، برقم (2340).
  8. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، برقم (1847).

مواد ذات صلة