بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول الله تعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ [سورة ص:30-33].
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً أنه وهب لداود سليمان، أي: نبياً كما قال : وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ أي: في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره، فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر.
وقوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله .
وقوله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ أي: إذ عرض على سليمان -عليه الصلاة والسلام- في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات.
قال مجاهد: وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة، والجياد: السراع، وكذا قال غير واحد من السلف.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، يقول: ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله ، فسليمان -عليه الصلاة والسلام- أعطاه الله -تبارك وتعالى- من الكمالات أموراً كثيرة لا تخفى، وقد قص الله -تبارك وتعالى- خبره في هذه السورة وفي سورة الأنبياء، وذكر أنه أعطاه ملكاً استجابة لدعائه، حينما قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [سورة ص:35]، فأعطاه الله ذلك كله، مع ما أعطاه من ألوان النعم، حيث سخر له ما سخر، ومع ذلك فالله -تبارك وتعالى- يثني عليه بأنه أَوَّابٌ.
يعني لم يكن الثناء بالعطاء الدنيوي والملك، مع أن سليمان -عليه الصلاة والسلام- كما سيأتي حينما سأل المُلك الذي لا ينبغي لأحد من بعده فإنه لم يسأل ذلك حباً في الدنيا وتعلقاً بها، وإنما سأل ذلك لمعنى شريف، ويأتي الكلام على هذه المسألة، فهذا معنى يحتاج الإنسان أن يقف عنده وأن يعلم أن العطاء الدنيوي مهما بلغ فإن هذه الأوصاف الكاملة من الأوبة إلى الله، كثرة الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى، والإنابة إليه، والعبادة له هي الأعظم والأكمل والأوفى من العطاء الذي يعطيه الله لعباده.
وقوله -تبارك وتعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، العشيّ: من الظهر أو العصر إلى آخر النهار، كل هذا يقال له: العشي.
وقوله -تبارك وتعالى- في الآية التي قبلها: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ هذا في سليمان -عليه الصلاة والسلام، كما ذكر الحافظ ابن كثير، مع أن بعض المفسرين يقول: هذا في داود ﷺ، وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أي: داود، والذي عليه عامة أهل العلم أن المقصود به سليمان -عليه الصلاة والسلام، نِعْمَ الْعَبْدُ هو، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو سليمان -عليه الصلاة والسلام.
والذين يقولون: إنه داود قالوا: هذا في معرض ذكر ما أنعم الله به على داود، وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ أنعم الله عليه وتفضل وأعطاه هذه الهبة العظيمة، وهو هذا الولد الذي ورثه في النبوة، لكن هذا لا يخلو من بعد -والله أعلم.
لكن معوَّلهم ذِكْر ما أعطى داود -عليه الصلاة والسلام، والواقع أن هذا شروع في الكلام على خبر سليمان -عليه الصلاة والسلام، وما أنعم الله به عليه، فكان هذا مدخله.
وقوله: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ يقول: الخيل الصافنات، قال مجاهد: وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة، هذا معنى مشهور، وقال به بعض أصحاب المعاني كالزجَّاج، وبعضهم لم يقيد ذلك بما ذكر من الخيل، وإنما عمم الصافن في الواقف من الخيل أو غيرها، الصافنات يعني: الواقفات، هذا قال به بعض أصحاب المعاني كالفراء، وقال به من السلف قتادة.
وبعضهم قيده بقيد آخر كأبي عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- قال: هو الذي يصُفّ يديه ويسويهما، يعني ما قال: يقف على ثلاث مثلاً وطرف حافر الرابعة، أو يقف على ثلاث مطلقاً، وإنما قال: يصُفّ يديه، صافنات بمعنى أنها تصُفّ، تجمع يديها وتُسويهما.
فالمشهور -والله أعلم- هو الأول، ولكن هؤلاء جميعاً من أئمة اللغة الكبار، واختلفوا في تحديد معنى الصافنات تحديداً دقيقاً، لكن هذه المعاني التي ذكروها تشترك في كونها واقفة وإن اختلفت في صفة الوقوف، والأمر في ذلك يسير، والخيل كما تعلمون حتى في نومه يكون واقفاً.
قال: الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، الجياد هنا قال: السراع، وكذا غير واحد من السلف، هذا يقال للفرس إذا كانت شديدة العدو –السرعة، يقال له: جواد، وتجمع على جياد، وبعضهم يقول غير هذا، يقول: الصافنات الجياد التي توصف بطول العنق، وهذه من صفات الجمال والكمال في الخيل، وليس في مزايين الإبل، فطول العنق في الخيل مأخوذ من الجِّيد وهو العنق، لصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، ولعل الأول -والله أعلم- هو الأشهر.
الرقاع: يعني الجلود، من جلد.
يعني الآن هل يؤخذ من هذا الإقرار؟ أن النبي ﷺ أقرها على ذلك، وأن هذه الخيل لسليمان -عليه الصلاة والسلام- كان لها أجنحة، يعني أن ضحكه ﷺ كان للإقرار؟
الذي يظهر أنه ليس كذلك، إنما كانت صغيرة فكأنه كان يعجب من قولها، وإلا فإن الصارف له عن أن يكون من قبيل الإقرار أنه لو كان ذلك واقعاً وحاصلاً وموجوداً لما تعجب منه النبي ﷺ، خيل لها أجنحة! لو كانت خيل سليمان -عليه الصلاة والسلام- لها أجنحة لما تعجب النبي ﷺ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى -والله تعالى أعلم- أنها لو كان لها أجنحة لكان ذلك أولى بالوصف في ذكر كمالها، وما يخرج عن عادة مثلها، أن يذكر هذا في صفتها، فإن الله -تبارك وتعالى- قال: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، فذكر أمراً معهوداً في الخيل، فلو كان فيها صفة خارجة عن هذا وهي من أعجب الأشياء؛ لأن الخيل هي أسرع ما يكون من الدواب، ولذلك تستعمل في الإغارة على الأعداء، كما قال الله : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [سورة الحشر:6]، فالخيل للإغارة، فلو كان لها أجنحة لكان ذلك أعظم في فتكها ونكايتها في العدو، فهي كانت في ذلك الوقت سلاحاً ضارباً في الحرب، لو كانت من ذوات الأجنحة لكان الشأن أكبر وأعظم.
وماذا يؤخذ من هذا الحديث، وإن كان ليس هذا هو المقصود، يعني أننا لا نستطرد في مثل هذه الأشياء لكن التوسعة في لعب الأطفال، وهل يقيد هذا في العرائس البنات، أو حتى الحيوانات؟
يؤخذ منه أنه حتى الحيوانات في لعب البنات لا إشكال فيها -والله أعلم، وهذا تستغربونه؛ لأنكم لربما تسمعون دائماً أن المرخص به هو العرائس، لكن ما تقولون في هذا؟ خيل لها أجنحة، فأقرها النبي ﷺ، ولكن عائشة لما وضعت الستار الذي فيه الصور لذوات الأرواح وقف بين البابين وغضب، ورفض الدخول -عليه الصلاة والسلام- حتى شقته، فعد ذلك من المنكر العظيم، لكن في هذه ضحك ﷺ وأقرها، وما قال: أتلِفيه، وهي خيل، فيرخص في لعب البنات بمثل هذا، يعني لا يُخص بالعرائس البنات، لو كان عند البنت لعبة أخرى من الحيوانات ونحو هذا فلا إشكال في هذا، والله أعلم.
هنا قوله: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، عُرضت عليه بالعشي، والعشي يكون بعد الظهر، أو بعد العصر، وعلى هذا المعنى الذي ذكر يكون ذلك بعد الظهر حيث فاتت صلاة العصر، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ.
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، أحببت: بعضهم كالفراء يقول: إنه مضمن معنى آثرت، ونحن سبق لنا الكلام على التضمين في مناسبات شتى، أن يضمن الفعل معنى الفعل، وقلنا: إن هذا أبلغ من تضمين الحرف معنى الحرف، وإن هذا يُحتاج إليه في التعدية، يعني هنا: أَحْبَبْتُ، أحببت عن، فهنا يمكن أن يقال: إن أحببت مضمن معنى فعل آخر يصح تعديته بعن، فيكون فيه معنى أحببت ومعنى آخر: آثرت، فقال: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، والذين يقولون بتضمين الحرف معنى الحرف، يقولون: إن "عن" من حروف الجر، مضمن معنى حرف آخر وهو "على" ويستريحون، يعني: أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يعني: على ذكر ربي.
وقوله: أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ، الخير يقولون: المقصود بها الخيل، أنها هي المقصودة بقوله: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، وقالوا: لكثرة خير الخيل قيل لها: خير؛ ولذلك يقال: الخيل والخير، يقولون: هما بمعنى واحد، يعبر عن الخيل وتسمى بهذا وهذا، إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ.
فالتي توارت بالحجاب بعضهم يقول: الشمس، وعليه فالضمير يرجع إلى غير مذكور، الشمس لا ذكر لها، فيكون هذا أحد أمثلة عود الضمير على غير مذكور، لكنه يفهم من السياق، مثل: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي، يقول: حتى سهوت عن ذكر ربي، حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ.
وبعضهم يقول: إن الضمير في قوله: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ يعود إلى الخيل، أنها انطلقت إلى مدى حتى غابت فلم يعد يراها، ثم قال: رُدُّوهَا عَلَيَّ؛ لأنها ذهبت شوطاً وأبعدت حتى غابت عن ناظره، ثم قال: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ، كما يفعل أصحاب الخيل، على هذا المعنى الثاني: يمسح أعناقها ويسمح سوقها، والخيل إذا انطلقت تجري وأسرعت فإنها تعرق، كما هو معلوم، وأصحاب الخيل يعرفون هذا، ويمسحونها، على هذا المعنى، فهذان قولان معروفان.
والأشهر أنها الشمس حتى فاتته صلاة العصر، وبعض أهل العلم ينكر هذا ويقول: هذا لا يكون من نبي أن يشتغل بشيء من عرض الدنيا عن صلاة العصر، ويقولون: المقصود بها الخيل، وأنه لم يقم بنحرها، وإنما كان يمسحها كما هي عادة أهل الخيل، وأنه لا ذنب لهذه، يعني يستشكلون القول بأنه قام بعقرها ونحرها، ويقولون: لا معنى لهذا ولا ذنب لها، وأن هذا من تضييع المال وإفساده، فكيف يقوم به نبي معصوم؟!
والذين يقولون: إنها الشمس غابت، وإنه قام بعقر الخيل، يقولون: هذا لا إشكال فيه، فإن اشتغاله بها لم يكن من قبيل الاشتغال بالدنيا ومحبة الدنيا وعرض الدنيا، فعنده ملك وعنده من الأزواج والجواري الحسان الشيء الكثير، وإنما كان ذلك لاشتغاله بالجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى، كما أن النبي ﷺ اشتغل في المعركة عن الصلاة فما صلاها إلا بعد المغرب، شغلوه عن صلاة العصر، فكان هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يشتغلون بمحابّ الله ومرضاته.
كما جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يجهز الجيش في الصلاة، وقد تكلم أهل العلم على هذا ومنهم الشاطبي في الموافقات، فهل هذا يكون من قبيل النقص أن يشتغل في صلاته عن أمر هو خارج عنها؟
وتكلم على هذا الحافظ ابن القيم بكلام قد يضيق عنه العطن، وذكر أن ذلك كمال في حقه وليس بنقص، فاجتمع في قلبه الإقبال على الصلاة مع الاشتغال بمحابّ الله -تبارك وتعالى، فهو يجهز الجيش وهو في صلاته مع أنه مقبل عليها، وأن ذلك يجتمع في القلوب الكبيرة، كما يجتمع الرضا بقدر الله مع الرقة والرحمة.
وهذا لا يتأتى لكثير من الناس، ولهذا تكلم على ما جرى ووقع من الفضيل بن عياض لما مات ولده ضحك، فلما سئل عن هذا يعني علله بأنه يحب أن يرى الله -تبارك وتعالى- منه الرضا بالقضاء، فقال: هذا نقص، والكمال هو ما كان عليه النبي ﷺ حيث دمعت عينه ورق قلبه رحمة لهذا الميت مع أنه كامل الرضا، فتجتمع الرحمة والرضا، وأن كثيراً من الناس لا يحتمل هذا، فإما أن يحصل في قلبه هذا أو هذا.
وكذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذه المسألة في القلوب الكبيرة من اجتماع العقوبة للإنسان الذي أساء وارتكب ما يوجب عليه العقوبة أو الحد كقطع اليد ونحو ذلك، وأنه في الوقت نفسه يُحَب بقدر ما عنده من إيمان، ويُعطَى من بيت المال ما يكفيه ويغنيه عن السرقة أو ارتكاب الجريمة، وذكر أن مثل هذا يجتمع في قلوب أهل السنة والجماعة، يعني: البغض من وجه والحب من وجه، وإقامة العقوبة عليه من وجه والرحمة به من وجه والإحسان إليه.
وابن جرير -رحمه الله- يرجح القول المشهور أن التي توارت بالحجاب هي الشمس.
ذكرت هذا: ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر، والذي يُقطع به أنه لم يتركها عمداً بل نسياناً كما شُغل النبي ﷺ يوم الخندق عن صلاة العصر. وهذا كلام ابن جرير قال: حتى سهوت عن ذكر ربي، قطعاً هو لم يتركها عمداً.
قال: قال الله تعالى: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ.
قال الحسن البصري: قال: لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك، ثم أمر بها فعقرت، وكذا قال قتادة.
وقال السدي: ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف.
وهذا كما سبق هو المشهور، وبه قال من أصحاب المعاني الفراء، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وعلى هذا إذا قلت: إنه عقر الخيل، فمعنى ذلك أن المقصود بـ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ هي الشمس، ولم يفعل ذلك عقوبة للخيل، يعني هذا من إجابات القائلين بهذا القول على الاعتراض الذي ذكرت آنفاً، ما ذنب هذه الخيل؟ هو لم يفعله عقوبة لها، فهي لا ذنب لها، قالوا: ولكنه جعل ذلك في سبيل الله، بمعنى أنه أطعمها الفقراء والمساكين، والخيل كما هو معلوم يجوز أكلها، والله تعالى أعلم.
ولذلك يبنون على هذا القول ويرتبون عليه في أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، يقولون: لما عقر الخيل لله -تبارك وتعالى- طلباً لمرضاته عوضه الله بالريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب.
هذا عكس المعنى السابق، وهو مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بهذا الإسناد، وقال به أيضاً من السلف الزهري وقتادة.
قال: وهذا القول اختاره ابن جرير قال: لأنه لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها.
وهذا الذي رجّح به ابن جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضباً لله بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة.
بهذا أجاب آخرون كالزجاج، ولكن لا يلزم أن يقال بالضرورة: إن ذلك كان عقوبة لها، وإنه كان جائزاً في شرعهم، بل في مضامين جواب غيره أن ذلك -كما سبق- فعله تقرباً إلى الله -تبارك وتعالى، نحر هذه الخيل وعقرها، وبالمناسبة كلمة "النحر" تستعمل في الإبل وغيرها، حتى في الغنم، وإن كان المشهور أن النحر يكون في الإبل، والذبح في الغنم والبقر، والجواب السابق الذي ذكره أنه في مضامين كلام بعض أهل العلم أنه فعل ذلك تقرباً إلى الله وليس عقوبة للخيل.
ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوها شهر ورواحها شهر، فهذا أسرع وخير من الخيل.
وروى الإمام أحمد عن أبي قتادة وأبي الدهماء -وكانا يكثران السفر نحو البيت- قالا: أتينا على رجل من أهل البادية، فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله ﷺ فجعل يعلمني مما علمه الله وقال: إنك لا تدع شيئا اتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله خيرا منه[3].
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ[سورة ص:34-40].
يقول تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ أي: اختبرناه، وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا، لم يبين الله تعالى حقيقة هذا الجسد الذي ألقاه على كرسيه، فنحن نؤمن أن الله تعالى اختبره بإلقاء الجسد على كرسيه، ولا نعرف ما هو، وكل ما قيل حوله فهو من الإسرائيليات، لا نعرف صدقه من كذبه، والله أعلم.
هنا في هذا الموضع كلام كثير وروايات كثيرة جداً من الإسرائيليات، فيما وقع لسليمان -عليه الصلاة والسلام- من هذا الفَتْن والاختبار، جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ، ما هذا الاختبار الذي وقع، وما هذا الجسد الذي ألقي على كرسيه؟
هذه الروايات الإسرائيلية الكثيرة لا يمكن أن يفسر القرآن بشيء منها، والله -تبارك وتعالى- أبهمه هنا، فلا حاجة للاشتغال بتحديده، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: إن هذه الروايات الإسرائيلية مما لا نعرف صدقه من كذبه، بل نعرف كذب كثير من هذه الروايات؛ لأنها لا تليق بمقام النبوة بحال من الأحوال.
واليهود كما هو معلوم يقدحون بأنبياء الله -تبارك وتعالى- وينسبون إليهم ما يتنزهون عنه، وما نزههم الله وبرأهم منه، يذكرون أشياء لا تليق بحال من الأحوال، قصة الجرادة، امرأة يقال لها: الجرادة، وأشياء من هذا القبيل، ويدل على كذبها وتهافتها التناقض الواقع فيها، مختلقات وأكاذيب، ومفتريات تقدح في مقام هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، من كل وجه، سواء قالوا بأنه أراد أن يتزوج امرأة كافرة، فطلب منها أن تسلم، وأنها أخبرته أن القتل أقرب إليها من الإسلام وأحب، وأنه تزوج لشدة جمالها تزوج منها، إلى آخره، وأن الله عاقبه بهذا، هذا كذب ولا يليق بمقام النبوة.
وكذلك ما يذكرون من الأكاذيب والأباطيل أنه لما خرج من الحمام أعطى الجرادة خاتمه، وأنه جاء شيطان، وتمثل بصورة سليمان، وأنه أخذه منها وجلس على سريره، فهذا هو الجسد، شيطان، وجاءت تسميته بأسماء مختلفة في هذه الروايات المختلقة، ويذكرون في هذا أن سليمان -عليه الصلاة والسلام- لما خرج إليها أنكرته وما عرفته، وكذبته، وأنه صار طريداً لا يجد شيئاً، حتى لا يجد شيئاً يأكله، وأن الناس أنكروه، وأنه ذهب إلى امرأته ليطلب منها شيئاً يأكله، فأعطته سمكة، فلما شق بطنها وجد فيه الخاتم، وأن معنى أَنَابَ أي: رجع إلى ملكه، أو أنه صار يشتغل، فحمل لرجل يصيد السمك على أن يعطيه سمكة من هذا السمك كأجرة، فأعطاه سمكة فلما شق بطنها وجد خاتمه فيه، فرجع إليه ملكه، وهذه كلها أكاذيب، كيف يصير، كيف يتسلط الشيطان على نبي من أنبياء الله ، ويجلس على كرسيه؟!
بل يذكرون أقبح من هذا، وأقذر من هذا، يذكرون أشياء يتنزه عنها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، والله لا يفعل ذلك بأنبيائه، قالوا: إنه سأل أزواجه عن شيء إن كنّ ينكرن شيئاً مما يفعله، فقلن: كان لا يأتينا في حال الحيض والآن يأتينا في حال الحيض، يعني أن هذا الشيطان سلط حتى على زوجاته، وإنما ذكرت هذا لبيان تهافت هذه الأشياء؛ لأن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: لا نعلم صدقه من كذبه، فأردت أن أبين أننا نعلم كذب هذه الأشياء، ولا نتوقف فيها.
وكما مضى في بعض المناسبات أن الروايات الإسرائيلية على ثلاثة أنواع، ونحن لا نذكرها ولا نشتغل بها أصلاً، حتى لو كانت مما نتوقف فيه، لا نذكرها في تفسير كلام الله ، والسلف إنما يذكرون ما يذكرون منها من باب الاستئناس لا من باب الاعتماد، وهم لا يفسرون القرآن بها.
وللشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- كلام جيد في مقدمة اختصاره لتفسير ابن كثير، والكلام المعروف الذي ذكره الحافظ ابن حجر، وغير الحافظ ابن حجر: أن الإسرائيليات ثلاثة أنواع:
- قسم يخالف ما عندنا فنكذبه، كهذه الروايات.
- وقسم يوافق ما عندنا فيقبل.
- وقسم لم يرد ما يوافقه أو يخالفه فنتوقف فيه.
قالوا: وهذا الذي قال فيه النبي ﷺ: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج [4]، مع النوع الثاني الذي يوافق ما عندنا، فهذا الذي لا نصدق به ولا نكذب، لكن هذه الأشياء التي تقدح في الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- نكذبها، وهذه الروايات يذكرون أن الشيطان أراد أن يتسلط عليه، وذكروا أشياء، ومدارها على أن ملك سليمان وكل ما يتعلق بالجن والإنس حتى الزوجات ما كن يعرفنه إلا بخاتمه، يعني: كأنه لما خلع الخاتم تغير كل شيء، حتى أنكرته زوجاته، ما عرفوه، أنكروه، وأقرب الناس إليه وأخص الناس به أنكروه، فما عرفوه، فذهب لا يجد شيئاً يطعمه.
هل هذا يعقل أنه كان يسخر هذا الملك جميعاً بخاتم، إذاً هذا الخاتم وقع بيد شيطان فصار هذا التسخير لشيطان؟!
ولهذا يقولون في هذه الروايات، أو في بعض هذه الروايات: إن الشيطان هذا لما عرف أنه قد كشف حاله، فجاءوا ونسخوا كتب السحر، ووضعوها تحت كرسي سليمان، فلما رجع سليمان استخرجوها وقالوا: سليمان كان يسخر الجن بهذه الكتب، بالسحر يعني، وهذا يذكرونه عند قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ [سورة البقرة:102]، فهذا كله من الإسرائيليات التي لا يمكن أن تقبل ولا يصدق بها، والله تعالى أعلم.
فاختبرناه، قال: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا هذا الجسد أقرب ما يفسر به هو ما جاء عن النبي ﷺ بخبر سليمان لما قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، ولم يقل: إن شاء الله، فولدت امرأة بعض إنسان، يعني إنساناً ناقصاً في الخلق، قالوا: هذا هو المقصود، وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ يعني: رجع إلى الله وعرف أنه ترك الاستثناء، والعلماء يتكلمون على هذا عند قوله تعالى في سورة الكهف: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الكهف:23، 24] في أن الاستثناء لا يصح أن يكون منفكاً -كما هو قول الجمهور- متراخياً عن اليمين، قالوا: ولو كان ذلك يصح لقال سليمان بعده: إن شاء الله، والله أعلم.
وابن جرير -رحمه الله- فسره بأن هذا الجسد شيطان، ومعوَّله في ذلك هذه الروايات، وأن قوله: ثُمَّ أَنَابَ، ليس المقصود به التوبة، وإنما المقصود به أنه رجع إلى ملكه كما تقدم في قصة الخاتم، ولكن مثل هذا إنما مبناه على هذه الروايات الإسرائيلية، والله أعلم.
هو هذا وليس معناه أنه رجع إلى ملكه، وهذا هو المتبادر في القرآن، يعني إذا ذكرت الإنابة فالمقصود بها الرجوع والتوبة إلى -تبارك وتعالى.
أنه لا ينبغي لأحد من بعده، أنه يختص به، وبعضهم يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي، قالوا: لا يُسلب مني، لا يتمكن أحد أن يسلبه، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- بناءً على ما سبق.
فإذا قيل: إن المعنى الأول غير صحيح أي الذي ذكره في أن ذلك المقصود به شيطان، وأنه سلط على ملكه، وأن لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي يعني: أي يسلبه، لا، وإنما يكون في شيء يختص به، ويدل على ذلك الحديث الذي يشير إليه، أو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من قول النبي ﷺ.قال: وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله ﷺ.
روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: أنه قال: إن عفريتا من الجن تَفَلَّت عليّ البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تُصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان -عليه الصلاة والسلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي.
قال رَوْح: فرده خاسئاً[5]، وكذا رواه مسلم والنسائي.
هذا الحديث واضح، وهو مرتبط بالآية، ومن ثَم يُقال: إذا جاء التفسير عن النبي ﷺ فلا يصح العدول عنه بحال من الأحوال، فهذا تفسير نبوي مرتبط بالآية، ليس من اجتهاد المفسر الذي يصيب ويخطئ، فدل على أن هذا المُلك الذي سأله شيء يختص به، وإلا فلو كان المقصود أنه لا يسلب من بعدي، لا يتمكن أحد من سلبه فإن سليمان -عليه الصلاة والسلام- بعد وفاته انتقل الملك عنه وارتفع، ولا يوصف بعد موته بأن ملكه باقٍ وأنه لا يزول، وإنما ملك البشر يزول، ويبقى ملك الله -تبارك وتعالى، فيكون المراد أنه شيء يختص به، ولذلك ترك النبي ﷺ هذا العفريت.
ومن هنا يقال لأولائك الذين يزعمون أنهم يتسلطون على الجن برقية ونحو ذلك، يقال: هذه الرقى يمكن أن تسبب ضيقاً وإزعاجاً لهؤلاء الشيطان، فيخرجون من جسد هذا الذي تلبسوا به، لكن أن يصير هذا الإنسان الراقي ونحو ذلك أن يصير متسلطاً على هؤلاء الجن بحيث يتصرف فيهم فهذا الكلام غير صحيح.
وأقول هذا؛ لأن بعض هؤلاء يزعم أنه يفعل ذلك، وأنه يتسلط عليهم، وأنهم يطيعونه، وأنهم يستجيبون لما يقول، ويذكرون في هذا أشياء، وبعضهم قد لا يصرح بهذا، ولكن حاله تدل عليه، ويبدو أن غالب من يتعاطى الرقية ويشتغل بها أنهم يستعينون بالجن، بعضهم يصرح بهذا، ويزعم أنهم من الجن المسلمين، ويعرض الخدمات على من يثق به، وربما جاء إلى المريض أو المصاب أو الممسوس أو من يتوهم ذلك، وعرض عليه، بل وأخبره أنه يدفع إليه نفراً من الجن، سبعة أو أكثر، وربما مع أسرهم يصاحبونه حيثما ذهب، وأنهم يحمونه، وأنهم يقاتلون دونه، يقاتلون المردة من الشياطين، وما إلى ذلك من أمور ومختلقات الله أعلم بصحتها.
لكن الذي أعرفه وأتيقنه أن الأمر كما قال الله : وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [سورة الجن:6]، فهذا الشيء الذي نراه عياناً، أن هؤلاء الذين يتعلقون بهم ويلجئون إليهم، ولو زعموا أنهم من المسلمين، أن ذلك لا يزيدهم إلا رهقاً، فهم لا يبرءون من عللهم وإنما ينتقلون من بلاء إلى بلاء، ومن أمور الله أعلم بها من الأوهام الكبيرة -أي الواسعة، حتى ظن بعضهم أنه يخوض المعارك، وأخبروه أو أنهم أوهموه أو أنهم زينوا وصوروا له أن بيده سيفاً ضارباً، وأنه لا يزال يفتك بالمردة من الجن، وأنه يخوض المعارك في ليله ونهاره، وأنه قتل منهم خلقاً عظيماً، وأنه صار أقوى من هؤلاء الذين جاءوا لحمايته والذب عنه وما إلى ذلك من أمور.
هذه الأمور إذا دخل الإنسان بها فعند ذلك ستختلط عليه الأمور، وسيبقى في متاهة لا حد لها، لا يقف عند شيء، وبعض الذين يشتغلون بهذا من أوقات أو نحو ذلك لربما أوقعهم هذا في أنواع من السحر للأسف، وبعضهم صار يبيع الخواتم، وبعض هؤلاء قد يكون على عقيدة صحيحة قبل ذلك، ولربما يدعو إليها ويتحول بعد ذلك إلى عبد للشيطان، وإلى ساحر من السحرة، وأعرف من هذا أشياء وأشياء، تحوّل هؤلاء، وبعضهم أُخذ بجرمه، يعني بعضهم عوقب وحبس بهذا، والبداية كانت رقية، اشتغال بالرقية.
وأذكر أن الشيخ عبد الفتاح سلامة كان من العلماء السلفيين في مصر، من مؤسسي جماعة أنصار السنة المحمدية، من زملاء الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله، كان يقول: بعض الذين اشتغلوا عندنا بالرقى من أصحاب العقيدة الصحيحة، يقول: بعضهم تحول إلى سحرة ومشعوذين، وهكذا تلاعب الشيطان بالناس، والله المستعان.
فهؤلاء الذي يتوسعون في هذا ويسجلون أشرطة ويتكلمون، بل بعضهم كان يخوف الطلاب دائماً، ويوهم الطلاب ويرسل لهم رسائل مباشرة وغير مباشرة، في ثنايا الكلام أنه لديه قدرات ومتمكن من الجن، فكان حتى في الأشياء التربوية والتعليمية وما إلى ذلك يخبرني بنفسه أنه إذا رأى بين اثنين من الطلاب علاقة فيها ريبة جاء بأحدهما، وقال له: تخبرني الآن أو سيخبرني غيرك، هو لربما يلبس خاتماً، لكنه ليس فيه سحر، أنا أعرف أنه ليس به، لكن هؤلاء يظنون، فهو يوهمهم بطريقة أو بأخرى، فيجلس الطالب يبكي ويرتعد، ثم يخبره عن الخيط والمخيط وعن كل شيء، مما سأله عنه ومما عرفه، ومما لم يعرفه، ومما خطر في باله، وما استراب منه، وما لم يسترب، ويعطيه كل ما يتعلق بحياته، يقول له: ستخبرني وإلا كذا -يعني يهدده، ويتكلم معهم بأشياء يقول: عندي شيطان صغير أضعه في ميدالية، أنقله معي حيث شئت.
وأخبرني آخر أنه يؤذن فبمجرد ما يؤذن يحضر المارد، العلامة بينه وبين المارد هو الأذان، أخبرني بنفسه، قال: إن شئت حضر الآن، هذا في مكة، وذاك في المغرب، المارد في المغرب، وهذا في مكة في الحرم، رجل ملتحٍ ولابس عمامة، قال: بيني وبينه الأذان، كيف هذا المارد سُخر لك؟
قال: كان في إنسان ورقيته واستعنت بالله ، وطال ذلك، طال أمده، ثم بعد ذلك هداه الله وأسلم وصار طيّعاً لي يأتي حيث شئت، بمجرد ما أؤذن يحضر المارد، لا أحدث عن آخرين، أنا سمعته بنفسي.
فانظروا إلى أي حد بلغ هؤلاء في أمور قد تكون حقيقية فيتلاعب بهم الشياطين، وأمور قد تكون موهومة، لكنهم يتلاعبون بهم في كل حال، وقد يعطونهم في البداية أشياء ثم بعد ذلك يتحول الأمر إلى عبادة لهم، يستذلونهم، وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة النور:21].
قال: وروى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله ﷺ يصلي فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك، ثم قال: ألعنك بلعنة الله -ثلاثا- وبسط يَدَه كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك؟ قال ﷺ: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك -ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يتأخر -ثلاث مرات- ثم أردت أخْذَه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة[6].
وقوله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ قال الحسن البصري -رحمه الله: لما عقر سليمان -عليه الصلاة والسلام- الخيل غضباً لله عوضه الله ما هو خير منها وأسرع، الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر.
هذا المعنى جميل وجيد، وكما سبق في بعض المناسبات قد تجد المعنى الذي يروقك، ومثل هذا الموضع من المواضع التي تكون في التدبر هي مما يرفع الناس إليه أبصارهم، يعني: قوية ذات معنى يأسر النفوس، المعاني التي تذكر في التدبر هي أنواع.
وفي شهر شعبان الماضي جردت الكتب الخمسة التي صدرت عن مركز التدبر، ورأيت أن الأشياء التي تذكر هي على ثلاثة أنواع:
- نوع هو خطأ في التفسير أصلاً وفي المعنى، فُهمت الآية على غير وجهها، فذكر معنى بناءً عليه غير صحيح، فهذا ليس من التدبر، وليس من التفسير، وإنما هو غلط.
كقول بعضهم مثلاً: كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ يعني: أن الشرر الذي نراه في الدنيا بمجرد ما يتطاير ينطفئ ويذهب توهجه، بيمنا هذا يستمر في التوهج لقوته وشدة حرارته فيبقى على حاله كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ، هنا فسر الجمالة بأن لونها أصفر، بينما الصفر في ألوان الإبل المقصود به السواد، وقد مضى الكلام على هذا، إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء [سورة البقرة:69] يعني: سوداء، هنّ صفرٌ أولادها كالزبيب، كل هذا مضى، فهو فاهم أن الصفرة هي الصفرة المعروفة، وأن الشرر يتوهج، هذا الكلام غير صحيح، فهو مبني على معنى غير صحيح، فهناك أشياء من هذا القبيل.
- والنوع الثاني: ليس من التدبر، هي مجرد معانٍ في التفسير، تفسير للآية فقط.
- النوع الثالث هي أشياء من التدبر وهي على مراتب:
فالذي بهذه الصفة التي ذكرت، يعني ما يأسر السامعين هذه قليلة قد لا تتجاوز أصابع اليدين، أقصد في هذه الكتب الخمسة، وربما تختلف مقاييس الناس وأنظار الناس، فمثل هذه هي معنى يأسر النفوس، من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، لما عقر الخيل، لكن لاحظوا أنه على أحد المعنيين، ونرجع نكون مثل أصحاب الإعجاز، نحن نقول لهم: قولوا: على أحد المعنيين، فيذهب الزخم الذي أرادوه وقصدوه في ما ذكروا من الإعجاز لو قالوا: هذا على أحد القولين، هذا على قول فلان.
فكذلك في قضايا التدبر إذا قيل: هذا على أحد المعنيين، يعني لا يكون بقوة أن تذكر هذا جزماً بلا تردد، ومثل كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله، أحياناً يكون ليس على أحد القولين، وإنما يكون أحياناً فيه ما يعكر عليه، قول ابن القيم -رحمه الله- عند قوله -تبارك وتعالى، لكن الإنسان أحياناً ينسى نفسه.
ابن القيم -رحمه الله- لما تكلم على قوله تعالى في قصة إبراهيم ﷺ لما جاءته الملائكة وبشروا امرأته بالولد، فصكت وجهها وقالت: عَجُوزٌ عَقِيمٌ [سورة الذاريات:29]، هكذا أدب المرأة المسلمة مع الرجال، في كلمتين كل واحدة تضمنت علة تمنع من الإنجاب بمفردها، فكيف باجتماع الأمرين: عجوز وعقيم؟! فالمرأة لا تتوسع في الكلام مع الرجال الأجانب، معنى جميل.
لكن قوله في الآية الأخرى: قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:72]، هل يستطيع أن يذكر هذا المعنى في هذا الموضع، مع أن القصة واحدة؟ وإنما قالت كلاماً واحداً، ولكنه اختلف والمضمون واحد، بسبب أن المنقول من كلام هؤلاء المتكلمين من غير العرب إنما هو بمعناه، فتارة يذكر بسياق أطول، وتارة يختصر ويذكر المضمون، المقصود هو الترجمة، نقل المعنى، فمثل هذا المعنى جميل لكن قد ينغص هذا الجمال ما ذكرت.
قوله: رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، رخاءً يعني: رخوة بمعنى أنها لينة في هبوبها وجريها، فهذا المعنى الآن كونها رخاءً يرد عليه إشكال، وهذا معناها أنها رخوة لينة في هبوبها، لكن الآن في هذا المعنى هنا في سورة ص قد يشكل عليه قوله -تبارك وتعالى: رُخَاءً فبعض أهل العلم أجابوا عن هذا بإجابات.
فبعضهم يقول: إن قوله هنا: رُخَاءً هي: لينة، وهناك قال: عَاصِفَةً، أي رخاء في قوة العاصفة، فوصفها من حيث التأثير والسرعة، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سورة سبأ:12]، وقد مضى الكلام على هذا، أنها عاصفة، ووصفها هنا في لينها وفي سهولتها وما إلى ذلك بأنها رُخَاءً.
وبعضهم يقول: إن الموصوف هناك بكونها عاصفة هذا في رجوعها إلى الأرض التي بارك الله فيها، وهي موطن سليمان -عليه الصلاة والسلام- وهي الشام، إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سورة الأنبياء:71]، قالوا: قيده بهذا في سورة الأنبياء، فهي إذا كانت راجعة إلى الشام فإنها تكون عاصفة تسرع به، وأما في الذهاب فإنها تكون لينة رخوة وما إلى ذلك.
وبعضهم يقول: إن ذلك من أوصافها حيث إنها في حال رفعها لهم، يعني حينما ترفع الجيش تكون قوية عاصفة، فإذا ارتفعوا فإنها تكون رخوة لينة، يعني كما يعبر الآن في الطيران بالإقلاع، يكون الدفع قويا جداً، وإذا استقام سيرها وارتفعوا تكون رخوة لينة، وبعضهم يقول: هي رخوة في نفسها، ولكنها عاصفة في عملها، وتأثيرها حيث تؤدي ما تؤديه الريح العاصف، والله تعالى أعلم.
كما تقول: أصابك الله بخير، بمعنى أرادك بخير، حَيْثُ أَصَابَ حيث أراد، وهنا يرد سؤال وهو أنه في سورة الأنبياء قال: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وهنا قال: حَيْثُ أَصَابَ، فهي تنقله ليس فقط إلى الأرض التي هي الشام، وإنما هذا في رجوعها إلى مقر مملكته، وإلا فإنها تنقله منها إلى حيث أراد، وهذا من أعجب الأشياء، جيش بكامله يُنقلون على متن الريح، بما معهم من سلاح ودواب، ومؤن، وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ [سورة سبأ:13] وما إلى ذلك من أشياء، ينقلهم بالريح، فهذا من العطاء الذي أعطاه الله لسليمان -عليه الصلاة والسلام- والله يختص بفضله ورحمته من يشاء، فهذا من الأمور العجيبة.
كما قص الله في سورة الأنبياء بتفصيل أكثر من هذا، وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا [سورة الأنبياء:82]، هذه في الأنبياء وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ، العمل الذي دون ذلك هو كل الأعمال التي يزاولونها من البناء، ولا زالت بعض الأشياء حتى في شعر العرب القديم، يعني في أيام الجاهلية، وفي صدر الإسلام يذكرون بعض الآثار التي لا زالت موجودة في أطراف الشام وفي الأردن وفي تدمر ونحو ذلك.
يقولون: الشائع عند العرب أن هذا مما صنع الجن لسليمان -عليه الصلاة والسلام، أي أمور عجيبة قد لا يتوصل إليها البشر ولا يطيقونها، ولا تزال توجد بعض الآبار المنحوتة نحتاً دقيقاً في الصخر، يعني كأنها نحتت بآلات دقيقة، ملساء في قلب الصخر، فلا زالت موجودة إلى اليوم، يزعمون أن ذلك مما حفرته الجن لسليمان -عليه الصلاة والسلام.
وهذه أمور الله أعلم بها، ونحن أخبرنا القرآن أن ثمّة ممالك ممكَّنة وأمم قوية جداً، وأن الله قد أعطاهم من أسباب القوة والتمكين، وأنهم أثاروا الأرض وعمروها، فقد يكون عندهم من الوسائل والآلات، ونقوش هؤلاء -مُلك غير مُلك سليمان -عليه الصلاة والسلام- تدل على دقتهم، ينقشون على الحجر نقوشاً في غاية الدقة، يرسمون فيها ويصورون صور الطير وغير ذلك بشيء قد تعجز عنه الآلات، وهذه أيضاً الأهرام وما إلى ذلك من الأصنام الموجودة والمنحوتة بأحجام ضخمة جداً تدل على أمم ممكنة قوية، قد يكون عندهم من أسباب التمكين المادي ما لم يوجد في عصرنا هذا، ولكن الإنسان لا يعرف إلا عصره، ويظن أن هذا هو نهاية المطاف في القوة والتمكين، وما ذلك إلا لعجز الإنسان وضعفه وقصر نظره.
الأصفاد هي الأغلال، سواء كان المصفد بالسلاسل –الحديد- فشدت شداً موثقاً بقوة، يعني كلما شددته شداً محكماً موثقاً قوياً فقد صفدته، فهؤلاء من المردة الكبار، الشياطين العتاة، منهم من هو مصفد، وقد جاء بعض الآثار فيمن تتلاعب بهم الشياطين فتضلهم أن من هذه الشياطين ما هو موثق أوثقه سليمان -عليه الصلاة والسلام- في البحر، وأنه يوشك أن تُطلق، فتأتي وتحدث الناس.
وهذا الذي مشى عليه ابن جرير -رحمه الله، يعني: أعطِ من شئت واحرمْ من شئت من هذا الملك والعطاء، وهذا أعم من قول من قال: إن ذلك يتعلق بهؤلاء الجن والشياطين الذين سخروا له، بأنه يُبقي من شاء منهم، ويأسر من شاء منهم، ويستعمل في الخدمة أو الأعمال الشاقة من شاء منهم، ويمنن على آخرين فيطلقهم ولا يُحاسَب ولا يُسأل عن ذلك، والمُلك هو التصرف المطلق كما هو معلوم في كلام العرب.
يعني أن ذلك لم يُنقص من حظه في الآخرة، وهذه مسألة العلماء تكلموا عليها، تكلم عليها الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات، وتكلم الحافظ ابن القيم، العطاء الدنيوي هل يكون نقصاً في حظ الإنسان من الآخرة؟
فالذين يقولون: إنه ينقصه يحتجون بالآثار الواردة عن السلف، أشياء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يترك بعض الطيبات، والتوسع في المباحات فكأنه يتأول قوله -تبارك وتعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [سورة الأحقاف:20]، وكذلك ما جاء عن جماعة من السلف من الصحابة، لربما بكى الواحد منهم حينما يتذكر إخوانه الذين قتلوا، وما حصل لهم شيء من السعة في الدنيا وتحصيل المغانم، فكانوا يخافون أن يكون قد عُجلت لهم، أو عُجل لهم بعض أجورهم.
وكذلك ما جاء في بعض الأحاديث في كون الغزاة إذا حصّلوا الغنيمة فقد تعجلوا شطر أجرهم، فكل هذه الأمور مجتمعة يحتج بها من يقول: إن هذا العطاء الدنيوي وهذا التوسع في هذه الأمور المباحة وما إلى ذلك يكون نقصاً في حظ صاحبه، لكن هذا لا يرد في حق سليمان -عليه الصلاة والسلام: أولاً: لأن الله عقب ذلك بقوله: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى قرْب من الله -تبارك وتعالى، وَحُسْنَ مَآبٍ، حسن العاقبة، هنا عممها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في الدنيا والآخرة، حسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
وذكْر الدنيا هنا لا معنى له، وإنما في الآخرة، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ، فهذا يدل على أن ذلك لا يُنقص حتى على القول بأن العطاء الدنيوي الكثير يكون نقصاً في حظ صاحبه، فهذا غير وارد هنا.
الأمر الثاني: أن هذا المُلك الذي سأله سليمان، وما أشرت إليه قبلُ لم يكن تعلقاً بالدنيا وحباً لها وجمعاً لحطامها كما هو فِعْل لربما مَن قل حظه من معرفة الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة، وإنما طلب ذلك لمعنى، هذا المعنى بعض أهل العلم قال: إنه طلب ذلك ليسخره للجهاد في سبيل الله، والدعوة إليه والعمل بمرضاته، فهذا يكون قد طلبها للآخرة.
وبعضهم يقول: لما وقع له هذا الابتلاء أراد أن يعرف منزلته عند الله بعده فطلب هذا، فأجابه الله إليه، وبعضهم يقول ما هو قريب من هذا، يقولون: إنه طلب ذلك من أجل أن يكون له، يعني أن يخصه الله -تبارك وتعالى- بأمر يبين به فضله ومنزلته عند الله ، وهذا قريب من الذي قبله، فهذا يرجع إلى أنه ما طلب الدنيا، ما طلب هذا الملك من أجل التعلق بالحطام الدنيوي، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أبعد الناس عن هذا، ولهذا لما عرضت عليه ملكة سبأ الهدايا وبعثت بها إليه ردها كما سبق، وأخبرهم أن ما آتاه الله أفضل مما يعطونه ويقدمون إليه.
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [سورة ص:41-44].
يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مَغْرز إبرة سليماً سوى قلبه، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا فَسُلبَ جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها.
يعني رُمي بمزبلة، على مزبلة من مزابل البلدة، هذا كله من الروايات الإسرائيلية التي لا يعول عليها، الروايات الإسرائيلية في هذا أيضاً كثيرة جداً كما سبق في قصة سليمان -عليه الصلاة والسلام، وما ألقي على كرسيه مما ذكر الله ، فهنا هذه الروايات الإسرائيلية كثيرة في صفة البلاء الذي وقع لأيوب ﷺ، وما سبب هذا البلاء.
قوله -تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، أكثر ما يذكر هنا في ذلك من الروايات إنما هي مما تلقي عن بني إسرائيل، وقول أيوب -عليه الصلاة والسلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، هذه قراءة الجمهور، وقرئ بفتح فسكون (بنَصْبٍ وعذاب)، وقرئ أيضاً بضمتين (بنُصُبٍ وعذاب)، وهذه القراءات ترجع إلى معنى واحد، لا فرق بينها من جهة المعنى عند الجمهور، عامة أهل العلم يقولون: المعنى متحد، وإنما ذلك يرجع إلى اختلاف اللغات.
وبعضهم فرق فقال: إن هذه المادة إذا كانت بفتحتين قيل: (نَصَب) فهو التعب والعناء، وما كان بغير ذلك فإنه يكون بمعنى الشر، أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ يعني: بشر، وهنا ذكر النُّصْب وذكر العذاب، فذكر أمرين، فبعضهم يقول: هذا النُّصْب هو في الجسد، والعذاب في المال، ما وقع له من المرض في الجسد هذا هو النُّصْب، والعذاب ما وقع له في ولده وماله، يعني ما كان خارجاً عن جسده، وهذا الذي قال به كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله، وقال به جماعة من السلف كقتادة ومقاتل.
وبعضهم يقول غير ذلك، بعضهم يقول: إن الأول هو التعب، أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ يعني: بتعب، وَعَذَابٍ أي: ألم، أن العذاب هو الألم، وهنا أسند ذلك إلى الشيطان أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، أسنده إلى الشيطان، وبعضهم يقول: أسنده إليه تأدباً، وفي الآية الأخرى أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [سورة الأنبياء:83] فلم يسنده، والمراد بإسناده إلى الشيطان أن هذا كله يرجع إلى الروايات الإسرائيلية، وهي روايات كثيرة جداً لا يعول على شيء منها، لكن حتى يتضح ما تضمنته هذه الروايات مما يرجع إليه أقوال كثير من المفسرين في إسناد ذلك إلى الشيطان، ووجه ذلك.
بعضهم يقول: إن الشيطان كان هو السبب في وقوع هذا البلاء لأيوب ﷺ، وذلك أنه صدر من أيوب -عليه الصلاة والسلام- شيء من التقصير، فوقع له هذا البلاء؛ ليرفعه الله وليطهره، وما إلى ذلك، هكذا يقولون، على اختلاف في هذه الروايات، ما الذي حصل، يعني سواءً قيل: إنه استغاثه رجل مثلاً فلم يغثه، أو غير هذا مما يذكرون، وبعض هذه الأشياء التي يذكرونها لا تليق بحال من الأحوال بنبي من الأنبياء.
فالمقصود أن مرجع هذه الروايات جملة إلى هذه الروايات الإسرائيلية، إلى أن الذي حصل هو تقصير في حق الله أو في حق بعض خلقه مما أمر الله بالقيام به، فأدى ذلك إلى هذا الابتلاء، فأضاف ذلك إلى الشيطان، باعتبار أن هذا الخطأ الذي وقع أو التقصير الذي حصل أنه من تسويل الشيطان وتزيينه، فأضافه إلى الشيطان بهذا الاعتبار.
وجملة كبيرة من هذه الروايات على أن هذا الذي وقع له إنما كان من تسلط الشيطان، هذه روايات كثيرة، وفيها تفاصيل لا يعول على شيء منها، أن التسلط وقع على جسده، ووقع على ماله، ووقع على ولده، فأصابه الضر في جسده هذه السنين الطويلة، في الروايات الإسرائيلية طبعاً مختلفة، لكنه صح في الحديث أنها ثماني عشرة سنة، وفي تفاصيل ما وقع له في جسده كل ذلك يرجع إلى الروايات الإسرائيلية، لا يعول عليه.
المهم أنه وقع له الضر في ولده، مات ولده جميعاً، وفي ماله قالوا: كان له أموال كثيرة، وغنم، وبقر، وإبل، وأن ذلك جميعاً قد ذهب، ويذكرون تفاصيل في هذا لا يعول على شيء منها؛ لهذا قالوا: إن قوله: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، قال: النُّصْب في الجسد والعذاب ما كان خارجاً عنه، الذي هو في المال والولد، فذهب ماله وولده.
وبعضهم يقول: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ إن الشيطان زيّن لأتباعه فرفضوه، وتركوه، ولم يبق معه أحد، وبعضهم يقول: إن هذا الذي أضافه إلى الشيطان إنما المقصود به الوسوسة، أن الشيطان كان يوسوس له في حال المرض، ويقنطه من رحمة الله -تبارك وتعالى، وبعضهم يقول: إن هذا الذي وقع له من الشيطان حيث كان يأتيه الشيطان بعد وقوع الضر وبعد هلاك أنواع المال في كل مرة، وكذا الولد، كان يأتيه شياطين ويقولون له: إن ربك فعل بك كذا وكذا، فقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ.
قال: وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم جميعاً عن أنس بن مالك ، أن رسول الله ﷺ قال: إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم -والله- لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشفَ ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب -عليه الصلاة والسلام: لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق، قال: وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده...
يعني المقصود أنه بلغ هذه المنزلة، وهذه المرتبة من المراتب الكاملة، والخبيئة العظيمة، فإذا كان ينزه الله -تبارك وتعالى- من أن يذكر في موضع خصومة فيذهب يكفر عن هؤلاء فكيف يُظن به أنه أذنب ذنباً عظيماً فعاقبه الله بهذا الضر؟!
يعني إذا ذهب إلى الخلاء.
"على ذلك" يعني: هي لم تعرفه، مع ذلك تقول: أنت تشبهه حينما كان صحيحاً.
الأندر هو البيدر الذي يوضع فيه الحب فيداس ليخرج ويتخلص من سنبله، كما هو معروف، يعني يأتون بالحبوب القمح مثلاً أو نحو هذا فيوضع في هذا المكان –البيدر، وتدوسه الدواب، فيتخلص من سنبله، ثم بعد ذلك يجمعونه، كان له أندران.
قال: أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض[8] هذا لفظ ابن جرير.
هذا حديث صحيح، وهو غاية ما ورد في خبر أيوب ﷺ، مع الحديث الآخر المعروف المشهور أنه حينما كان يغتسل أنه وقع له جراد من ذهب فجعل يحثو[9].. إلى آخره.
فالشاهد أن مثل هذا الحديث دلَّ على سبب الدعاء، وأن ذلك بسبب ما قيل من أنه بسبب ذنب عظيم أصابه، ودلَّ على تحديد المدة، أنها ثماني عشرة سنة، وأنه بهذا الضر قد تغير حتى إن امرأته لم تعرفه لما عاد إلى حاله الأولى.
وروى الإمام أحمد عن أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب -عليه الصلاة والسلام- يحثو في ثوبه، فناداه ربه : يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال -عليه الصلاة والسلام: بلى يا رب ولكن لا غِنى بي عن بركتك[10] انفرد بإخراجه البخاري.
ولهذا قال -تبارك وتعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ، قال الحسن وقتادة: أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم.
هنا: آتيناه أهله ومثلهم معهم، بعضهم يقول: أحياهم له، وزاده مثل هؤلاء الأهل، وبعضهم يقول: لا، إن الله عوضه عنهم غيرهم وزاد على هؤلاء الذين عوضهم، يعني إذا كان أولاده مثلاً عشرة فإن الله عوضه بعشرة وزاده أيضاً عشرة، وقيل: جمَعَهم بعدما تفرقوا، إذ كانوا ما هلكوا.
قوله: وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ وفي سورة الأنبياء في نفس القصة ختمها بقوله: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [سورة الأنبياء:84]، وقد مضى هناك ذكْر معنى لطيف، وهو ما يستخرج بدلالة الإشارة عند الأصوليين بالجمع بين الآيتين، وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ووَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، فإذا جمعت بين هذا وهذا يساوي النتيجة أن العابدين هم أولو الألباب؛ لهذا يقولون: لو أوصى الرجل بماله لأعقل أهل البلد فإنه يُعطَى للأصلح والأعبد لله ، وأن أولي الألباب هم الذين عرفوا الله -تبارك وتعالى- وعبدوه وعملوا بطاعته.
هنا في قوله: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ، الضغث، هنا قال الحافظ ابن كثير: هو الشمراخ فيه مائة قضيب، والضغث يصدق على الشمراخ وغيره، لكن هذه الكلمة في أصلها تدل على أخلاط مجتمعة، قالوا: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ، فيكون قد بر بيمينه وحقق ذلك بشيء لا يضرها ولا يؤذيها.
والفقهاء -رحمهم الله- يستنبط بعضهم من هذا أن من حلف أن يضرب إنساناً مثلاً مائة ضربة أنه ممكن أن يأخذ شمراخاً وفيه مائة من القضبان، فيضرب به السياط، ويكون قد بر بيمينه، لكن هذا ليس محل اتفاق، بعضهم كالشافعي -رحمه الله- يقول: ما لم ينوِ أو يقيد ذلك بالشديد، فقال: ضرباً شديداً، أو نوى أن يضربه ضرباً بعصا أو سوط أو نحو ذلك فلا يجزئه أن يكون تحلّة قسم بضربة واحدة؛ لأن مقصوده هو أن يعاقبه عقوبة شديدة.
وهذا نموذج أو مثال على ما يستخرج من القصص من الأحكام، فإن العلماء -رحمهم الله- حينما تكلموا على أحكام القرآن فإن الغالب أنهم تكلموا على الآيات المباشرة التي سيقت لتقرير الأحكام، وهذا الذي يسمونه بالخمسمائة آية، كما ألف في هذا مقاتل وغيره، وعلى هذا جرى كثير من المؤلفين في أحكام القرآن، ولكن بعضهم كالقرطبي -رحمه الله- فسر القرآن بكامله ويستخرج الأحكام من مثل هذه المواضع -القصص.
فيقولون: لو تأتي مسألة شرع من قبلنا، وقد ورد في هذا حديث، في ضرب رجل مقعد، لو صح الحديث فيكون ذلك من شرعنا، لكن شرع غيرنا، شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا أو لا؟
المقصود أنه لا يوجد في شرعنا ما يخالفه، فإذا وجد ما يخالفه فليس بشرع لنا.
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في اللعب بالبنات، برقم (4932)، وأحمد في المسند، برقم (7881)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، إسماعيل بن عمر الواسطي من رجاله، ومَن فوقه من رجال الشيخين"، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3265).
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (4112).
- رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، برقم (994)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (5364).
- رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3461).
- رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الأسير -أو الغريم- يربط في المسجد، برقم (461).
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، والتعوذ منه، وجواز العمل القليل في الصلاة، برقم (542).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (7160)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وابن حبان في صحيحه، برقم (6365)، وقال محققه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (21/ 211-212).
- رواه البخاري، باب قول الله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] ارْكُضْ [ص:42]: اضْرِبْ، يَرْكُضُونَ [الأنبياء:12]: يَعْدُونَ، برقم (3391).
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ [الفتح:15]، برقم (7493)، وأحمد في المسند، برقم (8159)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".