بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [سورة ص:45-29]: يقول تعالى مخبراً عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ يعني بذلك: العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أُولِي الأيْدِي يقول: أولي القوة وَالأبْصَارِ يقول: الفقه في الدين.
وقال قتادة والسدي: أُعطُوا قوة في العبادة وبَصرًا في الدين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ، قال الحافظ -رحمه الله: يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة، يعني أُولِي الأيْدِي يعني: أصحاب القوة العملية، وَالأبْصَارِ ذلك يعني القوة العلمية، يعني البصيرة في الدين، وباجتماع هذين الأمرين يكون الكمال للعبد.
فبحسب قوته العملية مع قوته العلمية يكون كماله، وذلك أن القوة العملية من غير بصيرة لا شك أن ذلك نقص يوقعه في ألوان الانحرافات في السلوك والاعتقاد والعمل.
وكذلك إذا كان هذا الإنسان لديه قوة علمية وبصيرة ولكنه ليس له عمل فإنه يكون ناقصاً؛ لأن المقصود من العلم العمل، مع أن البصيرة ليست هي مجرد العلم، ولكنها تعني نوراً يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الحق والباطل، ومعدن الحق ومعدن الشبهات، فيتعرف بذلك النور حقائق الأشياء على ما هي، ولا يلتبس عليه الحق بالباطل، وهذا لا يتأتى للإنسان إلا بعمل وعبادة، واجتهاد في طاعة الله ، وتوقي الحرام مع حفظ حدود الله ، بالإضافة إلى ألوان المجاهدات مع العلم.
فالاجتهاد في العمل وحده لا تنفتح معه البصيرة وتكتمل، كما أن الاجتهاد في العلم وحده بالنظر البحت بعيداً عن العمل واللجأ إلى الله -تبارك وتعالى، وطلب التوفيق منه، والإخبات وحياة القلب وما إلى ذلك، كل هذا لا تنفتح معه البصيرة، فالله أثنى على هؤلاء الكُمل من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بهذين الوصفين:
أُولِي الأيْدِي أصحاب القوة العملية في طاعة الله ، وهذه الطاعة والقوة العملية يدخل فيها التعبدات الخاصة قيام الليل وصيام النهار، وألوان العبوديات القاصرة، ويدخل فيها العبادات المتعدية من الدعوة إلى الله ، فهم أقوياء في دعوتهم، نشطاء لا يتوقفون، لا يكل الواحد منهم ولا يمل من تبليغ دين الله ، ومجاهدة أعدائه.
أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ، إذاً الجاهلون قد يُفسدون ولا يصلحون بأعمالهم واجتهاداتهم سواء كان ذلك في دعوتهم أو في عبادتهم الخاصة، وما إلى ذلك، يقعون في البدع، يقعون في المخالفات المتنوعة، وإذا عمل في الدعوة جاء بمخالفات وأمور، حتى إنك في كثير من الأحيان قد تحتاج إلى احتساب على هؤلاء كما تحتسب على كثير من أصحاب المنكرات في أمور مخالفة، ولربما تكون ظاهرة أمام الناس في إعلانات، وهي مخالفات وأمور منكرة في الشرع تتعجب كيف تصدر عن طريق هذه الجهة الخيرية أو الدعوية التي قصد أصحابها طلب ما عند الله -تبارك وتعالى، لكن بسبب الجهل يقعون في مثل هذه الأمور.
فإن اشتغل في أمور إغاثية أو نحو ذلك تصرّف في الأموال تصرفات لا تبرأ بها الذمة، وهو يريد ما عند الله ، فيتحمل في ذمته أشياء بسبب هذه الاجتهادات التي لم تصدر ممن تأهل للاجتهاد والنظر في مثل هذه الأمور، فيرتكب أموراً يلحقه فيها الحرج باجتهاده، وقل مثل ذلك إذا اشتغل بعمل من الأعمال القاصرة أو المتعدية، فإذاً لابد من اجتماع الأمرين، فالكمال بحسب ما يحصل للعبد منهما أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ عمل ببصيرة، والحديث في مثل هذا ذو شجون ويطول، ولكن ليس هو المقصود في مثل هذه المجالس.
فما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، قال هنا: يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع، والقوة في العبادة، والبصيرة النافذة، هذا الذي عليه عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم، وهو اختيار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله، ونقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أُولِي الأيْدِي يقول: أولي القوة والعبادة، وَالأبْصَارِ يقول: الفقه في الدين، وهذا مثل الذي قبله.
وقال قتادة والسدي: أُعطُوا قوة في العبادة وبصراً في الدين، وهذا كله يرجع إلى ما سبق، وهذا هو قول الجمهور، بل نقل النحاس اتفاق أهل العلم على أن المراد بالأبصار –البصائر- في الدين العلم، يعني: لم يقل أحد مثلاً: إن المقصود بالأبصار بصر العين مثلاً، ليس هذا هو المراد بحال من الأحوال، لكن الذي اختلفوا فيه هنا هو الأيدي، أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ.
فإن الجمهور يقولون: الأيدي يعني القوة في العبادة، والجانب العملي، يعني القوة في الدين في خاصتهم وفيما يكون متعدياً في دعوتهم وجهادهم وبذلهم وما إلى ذلك.
وبعضهم يفسر الأيدي هنا بالنعمة، أُولِي الأيْدِي تقول: فلان له أيدٍ على الناس يعني: له فضل ونعمة وإحسان على هؤلاء الناس، فهم يحسنون إلى الناس بألوان الإحسان، لهم أيادٍ بيضاء على الناس.
وبعضهم يفسر الأيدي أيضاً بالنعمة، لكن يحمل ذلك على أنهم أُولِي الأيْدِي يعني: الذين أنعم الله عليهم، يعني أنهم من المُنعَم عليهم، الذين حصلوا حظاً وافراً من نعم الله عليهم، هؤلاء كلهم يفسرون الأيدي بالنعم، لكن الأولين يقولون: المقصود إفضالهم على الناس وإنعامهم، والآخرون قالوا: المقصود أن الله أنعم عليهم، أُولِي الأيْدِي يعني: الذين أنعم الله عليهم وحباهم وأولاهم وأعطاهم وامتن عليهم بكثير من النعم.
وكأن ابن جرير -رحمه الله- في بعض كلامه يميل إلى تفسير الأيدي بالنعم، أصحاب النعمة يعني: الذين أنعم الله عليهم، كأنه يميل إلى هذا، مع أنه في بعض كلامه يقول ما ظاهره موافقة من قالوا: القوة العلمية والقوة العملية.
والقراءات المتواترة في هذا الموضع، أُولِي الأيْدِي قرأ بالياء على قراءة الجمهور، وعلى هذا فهي جمع يد، الأيدي جمع يد، ولكن في قراءة أخرى غير متواترة مروية عن ابن مسعود والأعمش والحسن البصري {الأيد}، وهذه القراءة تحتمل، فالأيدي جمع يد، ومن فسره بالنعمة على هذه القراءة فله وجه الأيْدِي، لما ذكر الله داود قال: ذَا الْأَيْدِ يعني: ذا القوة، وقال: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [سورة الذاريات:47] بدون ياء، والأيد في لغة العرب القوة، الأيد غير الأيدي، الأيدي جمع يد، والأيد بدون ياء تعني القوة في لغة العرب، هذا ليس بتأويل، هذه مادة وهذه مادة، هذه لفظة وهذه لفظة، ليس هذا من التأويل في شيء.
فهنا عندنا في هذا الموضع أُولِي الأيْدِي هذا ممكن أن يحمل على القوة، أُولِي الأيْدِي ويمكن أن يحمل على النعم وما إلى ذلك، والآية تحتمل أن يكون المعنى -كما سبق- أصحاب القوة العلمية والعملية.
والمعنى الثاني: أنهم أصحاب إحسان إلى الناس، إلا على قول من قال: المقصود بالأيدي أن الله أنعم عليهم وأحسن إليهم، أصحاب إحسان إلى الناس، وبصائر في الدين، فيكون بذلهم وإحسانهم ونفعهم على بصيرة، كما قال الله : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي [سورة يوسف:108]، ولا شك أن من أعظم الإحسان إلى الناس تبليغ دين الله، وتعليم الناس دينهم، ودعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى، وهداية الناس، تقديم الهداية للناس هذه أعظم ما يمكن أن يقدم لهم، لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم»[1]، فهذا من أياديهم البيضاء على الناس.
أُولِي الأيْدِي فيكون ذلك على بصيرة، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي، فلا يكون ذلك على جهل، وهذه الدعوة التي يعملون بها هي من جملة العمل عند من فسر ذلك بأصحاب القوة العملية كما سبق، فيكون هذا القول الثاني مضمناً في القول الأول، فالقول الأول أعم من هذا القول الثاني.
والآية فيها هذا الاحتمال والعلم عند الله .
قال: وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ قال مجاهد: أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هَمّ غيرها، وكذا قال السدي: ذكرهم للآخرة وعملهم لها.
وقال مالك بن دينار: نزع الله من قلوبهم حب الدنيا وذكرها، وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها.
وقال قتادة: كانوا يُذَكّرون الناس الدار الآخرة والعمل لها.
هنا هذه صفة أخرى ذكرها، صفة ثالثة، الأولي أُولِي الأيْدِي الثانية: وَالأبْصَارِ أصحاب البصائر، ثم قال: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ.
قال مجاهد: جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هَمّ غيرها، يعني: بمعنى هذا فيه معنى الإخلاص، يعني: أنهم لا يريدون بعملهم سوى الله -تبارك وتعالى، العمل للدار الآخرة، لا يعملون من أجل أن يحصلوا عرضاً من الدنيا.
وهذه صفة عظيمة، من أعظم أوصاف الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- من الرسل وأتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وذلك مضمن في قوله تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116]، فليس المعيار هو الكثرة، فيبحث الإنسان عنها ويضيع آخرته، وينسى ما خلق من أجله، فالطريق هو لزوم السنة ظاهراً وباطناً، وطلب ما عند الله -تبارك وتعالى، قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ كما سيأتي.
فهذا الأجر تارة يكون مالاً، وتارة يكون رئاسة، وتارة يكون هذا الأجر جاهاً يحصله وما إلى ذلك من أمور هي حظ للنفس، أعظم من المال؛ لأن المال إنما يبذل من أجل تحصيل هذه المطالب والمكاسب الدنيّة، فهنا الله يقول: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، هم يعملون للآخرة، يريدون بعملهم هذا ما عند الله -تبارك وتعالى، لا أن يُقدَّموا في الناس، ولا أن يكون لهم منزلة وحظوة في قلوب الخلق، فهذا هو الرياء الذي يبطل الأعمال.
قال: وكذا قال السدي، يعني: ذكرهم للآخرة وعملهم لها، ذِكْرَى الدَّارِ، يعني أن الآخرة بين أعينهم، لا يفارق ذكرها قلوبهم، ملازمة لقلوبهم، وإذا كان الإنسان يتذكر اليوم الآخر دائماً فإن أعماله وأحواله تكون على حال من الاستقامة والصلاح، ولذلك تجد دائماً في القرآن الارتباط بين اليوم الآخر والإيمان بالله، فالإيمان باليوم الآخر محرك للعمل والامتثال، والذين ينعي القرآن عليهم انحرافهم يعلل ذلك في كثير من المواضع بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإذا كان الإنسان لا يؤمن باليوم الآخر فإنه لا يؤمن بأنه سيكون حساب وجزاء على الأعمال ومن ثَمَّ يعمل ما يحلو له، ولا يرعوي ولا يقف عند شيء.
قال: وقال مالك بن دينار: نزع الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها، وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها.
وقال قتادة: كانوا يُذكِّرون الناس الدار الآخرة والعمل بها.
هذه الأقوال متقاربة، يعني أنهم يشتغلون بالدار الآخرة ويعملون من أجل الدار الآخرة، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما كانوا يعملون للناس دورات كيف تثمر أموالك، وكيف تبني مستقبلك الدنيوي، وكيف تستطيع أن توفر أرصدة، وكيف تستطيع أن تدير حياتك المعيشية اليومية، وما إلى ذلك، هذه مطالب دنيوية مطلوبة، لكن يوجد من أهل الدنيا من أهل الحذق من يتولى هذا على أكمل الوجوه وأتمها كأنهم خلقوا لهذا.
أما الدعاة إلى الله فلا يصح أن يتحولوا إلى بهلوانيين ومهرجين، ويقدمون مثل هذه الأمور، فهم ليس هذه مهمتهم، مهمة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- تختلف تماماً عن هذا، والإنسان لابد أن يعرف الثوب الذي يلبسه ويخرج به إلى الناس، ليست أعمال الداعية إلى الله أنه يتحول إلى مدرب في الأمور الدنيوية، والناس في غاية الحرص على هذا.
ولهذا كما قال الشاطبي -رحمه الله: لم يأت في القرآن تكرر الحث على الأكل والشرب والنكاح وما إلى ذلك؛ لأن هذه تطلبها نفوس الناس جبلّة، لا يحتاج الناس إلى أمر وحث عليها ووعيد لمن تركها، مع أن القدر الذي يقوم به حياة الناس واجب، لكن ما جاء القرآن بالحث على هذه الأشياء، وإنما إذا ذكرت فإن ذلك يذكر في مقام الامتنان على الناس، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [سورة البقرة:168]، وفي مقام التفضل عليهم، وما إلى ذلك، لا يحتاجون أن يقال لهم: كلوا، اشربوا، إلا في مقام الامتنان والإفضال أو التعليم والتوجيه لأمر يتصل بذلك وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأعراف:31] مثلاً، لكن هم بحاجة إلى العمل الصالح، والتذكير باليوم الآخر.
فهنا إذاً إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، "خالصة" هذه تحتمل أن تكون صفة لموصوف محذوف، أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ، وتكون الباء للسببية، أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ، بسبب خصلة خالصة، أخلصناهم بسبب خصلة خالصة، ما هذه الخصلة الخالصة؟ هي ذِكْرَى الدَّارِ.
وهذه الآية قرأ نافع وهشام عن ابن عامر بإضافة خالصة إلى ذكرى، يعني من غير تنوين، بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ، فهذه قراءة في الآية، والقراءة الأخرى التي نقرأ بها، وهي قراءة الجمهور بالتنوين، بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، فعلى القراءة بالتنوين جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار، يعني خلص لهم تذكر الدار الآخرة، يعني: أنهم يتذكرون التأهب للآخرة، ويعملون من أجلها، ويزهدون في الدنيا وحطامها.
وعلى الإضافة من غير تنوين، كأن المعنى يكون أخلصنا لهم، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ، أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار الآخرة بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ، المقصود أنه كان اشتغالهم في التأهب للآخرة، وأن عنايتهم كانت متوجهة إليها، فهذا يدل على إخلاصهم لله ، وأنهم لا يريدون الدنيا، ولا يعملون من أجلها، لا بعملهم هذا الذي يقدمونه في دعوتهم، وليس ذلك أيضاً مستحوذاً عليهم غالباً -على حالهم- التفكير في الدنيا، والاشتغال بها، إنما يأخذون منها بقدر الحاجة مما يبلغهم، ولكنها لا تدخل قلوبهم.
فإذا دخلت الدنيا في القلوب، واشتغلت القلوب بها تفكيراً ونظراً واهتماماً وما إلى ذلك فهذا عن الزهد بمنأى، فيكون هذا الإنسان في قلبه تعلق بهذه الحياة وحطامها، أما المزاولات العملية فالرسل كانوا يمشون في الأسواق، والنبي ﷺ يقول: حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب»[2]، إلى آخره، فهذا كما قال شيخ الإسلام في كتاب العبودية: إن هذا بمنزلة الكنيف الذي يجلس عليه -أعزكم الله- والدابة التي يركبها، ولكنها لا تدخل إلى قلبه، فالدنيا إذا دخلت القلب أفسدته وأشغلته وصرفته عن ذكر الله وطاعته وعبادته، وهذا أمر يعرفه الإنسان من نفسه، وهو مشاهد لا ينكره أحد، والله المستعان.
لكن هذه الآية جامعة، ونحن نغفل عنها كثيراً في دعوتنا وعملنا واشتغالنا، ومزاولاتنا، يحتاج الإنسان أن ينظر في نفسه، وينظر في اهتمامه، وينظر في توجه قلبه إلى أين يتوجه، ليس المقصود أن الإنسان يلتفت إلى الناس، وينظر إلى الناس، ويقول: هؤلاء يريدون الدنيا أو يريدون الآخرة، إنما ينظر إلى نفسه هو ماذا يريد، النفس تحتاج إلى مجاهدة كبيرة في كل الأعمال التي يراد بها وجه الله -تبارك وتعالى- فضلاً عن الأعمال التي قد يختلط فيها طلب هذا وهذا على سبيل التبع، يطلب الدنيا تبعاً للآخرة فيما يجوز الالتفات فيه إلى المطالب الدنيوية، لكن في الأعمال المحضة التي يراد بها ما عند الله يحتاج الإنسان إلى مجاهدة كبيرة، وحبس لهذه النفس، وصبر على طاعة الله، وإلا فقد يقوم ويقعد ويذهب ويجيء، وينشغل عن أهله، وعن كثير من اللذات، وهو يطلب لذة كبرى من لذات هذه الحياة الدنيا، الجماهيرية والناس يشيرون إليه بالأصابع، وما إلى ذلك، أنه يُعرف ويُذكر -نسأل الله العافية، وما يغني عنه مثل هذا، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار.
في كلام ابن جرير في قوله: أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ، قال: ويعني بالأيدي القوة، يقول: أهل القوة على عبادة الله وطاعته، ويعني بالأبصار أنهم أهل أبصار القلوب، يعني: أولو العقول للحق، يعني: الأبصار.
هذا -كما ذكرتُ- موافق لكلام ابن كثير -رحمه الله، وذكَرَ الأقوال ثم قال: فإن قال لنا قائل: وما الأيدي من القوة، والأيدي إنما هي جمع يد، واليد جارحة، وما العقول من الأبصار، وإنما الأبصار جمع بصر؟ قيل: إن ذلك مَثَل، وذلك أن باليد البطش، وبالبطش تعرف قوة القوي، يعني حتى على قراءة الياء، ولهذا الجمهور فسروه بالقوة، وهم لا يقرءون بهذه القراءة الشاذة الأخرى التي هي غير متواترة {الأيد} التي هي بمعنى القوة، يعني حتى قراءة الياء الجمهور حملوه على معنى القوة، وأنه جمع يد لكن ليس بمعنى النعمة، فإن اليد يكنى بها عن القوة كما هو معلوم، ولكن ذلك إذا جاء في صفة الله ففيه إثبات صفة اليد، وقد يكون فيه معنى زائد على ذلك، لكن أولاً نثبت الصفة، ثم ننظر في المعاني المكملة.
يقول: فلذلك قيل للقوي: ذو يد، وأما البصر فإنه عَني به بصر القلب، وبه تنال معرفة الأشياء، فلذلك قيل للرجل العالم بالشيء: بصير به، يقول: وقد يمكن أن يكون عَنى بقوله: أُوْلِي الْأَيْدِي أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة.
فكأنه في بعض كلامه الذي يرجحه هو الأول الْأَيْدِي بمعنى القوة، لكنه هنا ذكر المعنى هذا: أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة، فجعل الله أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا أيدياً لهم عند الله تمثيلاً لها باليد تكون عند الرجل، ثم ذكر القراءة الشاذة:
قال: وقد يحتمل أن يكون ذلك من التأييد {الأيد، وأن يكون بمعنى الأيدي ولكنه أسقط منه الياء، كما قيل: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ [سورة ق:41] بحذف الياء، إذاً هو يذكر القول الأول ابتداءً، الأيد يعني القوة، وذكر الاحتمال الآخر فيها أُوْلِي الْأَيْدِي، لكن قوله هنا في المعنى الأخير يعني كأنه عند التأمل الذي ذكره احتمالاً فيه فرق بين قوله وقول من قال: أُوْلِي الْأَيْدِي يعني الذين أنعم الله عليهم، هو يقول: أصحاب أيدٍ عند الله، عندهم أعمال صالحة يدخرونها عند الله، لاحظ هذا الفرق الدقيق -والله أعلم، كأننا إذا أردنا أن نفصل هذه الأقوال نجعلها على قسمين: القوة أو الأيدي على الناس بالإحسان إليهم، ألوان الإحسان، أو بإنعام الله عليهم، أو بأن لهم أيدياً عند الله -تبارك وتعالى- لا على وجه -لا على معنى- أنهم محسنون إلى ربهم -تبارك وتعالى، فالله غني عن خلقه وعن عملهم، ليس لأحد يد على الله، ولكن عندهم أيدٍ يدخرونها عند الله يرجون بها ثوابه، بهذا الاعتبار، والله أعلم.
يعني هنا لمن المجتبين، الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ، مضى معنا الكلام على أولي العزم من الرسل، وأن الجمهور يقولون: هم الخمسة، ويجمعون بين الآيتين في قوله: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:35]، مع قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى [سورة الأحزاب:7]، هؤلاء الخمسة -عليهم الصلاة والسلام، فالآيتان ليس بينهما ارتباط، هذه في مقام الإيحاء، وتلك أمر من الله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ بالصبر العظيم مقتدياً بذلك بأولي العزم من الرسل، ولم يسمهم.
فكثير من أهل العلم يقولون: هم الخمسة الذين ذُكروا في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
وبعضهم يزيد على هؤلاء فيذكر أنبياء آخرين، لا يقتصر على الخمسة، وبعضهم يقول: كل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم من أولي العزم.
وبعضهم يقول: المقصود بأولي العزم من الرسل هم أصحاب العزائم العظيمة من غير تحديد، مَن عُرفوا وتميزوا واشتهروا بالعزائم الكبيرة والصبر العظيم على الأذى في سبيل تبليغ دين الله -تبارك وتعالى، فلاحِظْ هؤلاء الرسل الذين ذكرهم الله هنا بعدما ذكر داود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام، وأيوب ﷺ، قال: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ، ولما ذكر يوسف ﷺ، وذكر خبره وما وقع له مع امرأة العزيز قال: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [سورة يوسف:24] على هذه القراءة، فأخلَصَهُم: اجتباهم واصطفاهم من بين سائر الناس.
فهذا كله يمكن أن يقال معه -والله تعالى أعلم: إن أولي العزم من الرسل لا يحصرون بخمسة، ولا شك أن هؤلاء الخمسة -عليهم الصلاة والسلام- هم من أجلهم وأعظمهم وأشرفهم، ولكن أولو العزم لا يحصرون بهؤلاء الخمسة؛ لأنه لا دليل على هذا الحصر، وأن الآيتين الأولى في الإيحاء، والثانية في الأمر بالصبر من غير تخصيص لأحد من الرسل باسمه، والله أعلم.
قال: وقوله تعالى: وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِقد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله : هَذَا ذِكْرٌ أي: هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر.
قال السدي: يعني القرآن الكريم.
هَذَا ذِكْرٌ يعني: القرآن، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ[سورة ص:49-54].
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في الدار الآخرة لَحُسْنَ مَآبٍ وهو: المرجع والمنقلب، ثم فسره بقوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ أي: جنات إقامة مفتحة لهم الأبواب.
والألف واللام هاهنا بمعنى الإضافة كأنه يقول: "مفتحة لهم أبوابها" أي: إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها.
يعني لما ذكر الله هؤلاء الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام- ذكر ما للمتقين من أهل الإيمان عموماً، فذكر لهم حسن المرجع والمنقلب عنده -تبارك وتعالى، وذكر طرفاً من هذا النعيم، جَنَّاتِ عَدْنٍ يعني: جنات إقامة لا يحصل منها زوال ولا فراق ولا موت، ولا انتقال، فإن الإنسان إنما يحصل له التكدير في هذه الحياة الدنيا ولو سكن عالي القصور حينما يتذكر أنه يفارقها.
لا أرى الموتَ يَسبقُ الموتَ شيءٌ | نغّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا |
فإذا تذكر الإنسان أنه سيفارق هذا كله فإنه يتكدر عليه النعيم، أن المسألة مؤقتة، هي مسألة وقت، ثم بعد ذلك سيُلف بخرقة ويوضع في لحد يدفنه فيه أقرب الناس وأحب الناس إليه، أما هذه الجنات، جَنَّاتِ عَدْنٍ فيعني: جنات إقامة، لا يحولون، ولا يزولون، ولا ينتقل نعيمها، ولا يتحول، مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ، يقول: أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها، هذا معنى ذكره الحافظ ابن كثير وهو ظاهر.
وكذلك أيضاً أبواب الجنة تفتح لسكانها من غير إعمال جارحة ولا يد ولا بذل جهد، تتفتح لهم الأبواب من غير أن يُعملوا في ذلك جوارحهم كما يقول الحافظ ابن جرير -رحمه الله: يعني من كمال النعيم أن الأبواب تفتح، كما أن قطوفها دانية تميل إليهم ثمارها اليانعة، ويجتنونها من غير تعب ولا حاجة إلى صعود ولا تسلق، وإنما كل شيء مذلل حتى الأبواب تفتح بمجرد مجيئهم إليها، مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ، أما النار -أعاذنا الله وإياكم منها- فإنها تكون عليهم مؤصدة فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ [سورة الهمزة:9]، فتغلق عليهم أبواب النار.
في مثل هذا يا إخوان لو نتدبر القرآن فيه أعظم التربية في طلب ما عند الله، والزهد في الدنيا، وأن يكون العمل خالصاً لله في مزاولاتنا المختلفة في اليوم والليلة، وما نشتغل به، كل المجالات في جهادنا وفي بذلنا وسعينا، وما إلى ذلك.
هذا النصر الذي تأخر في سوريا؛ لأننا بحاجة إلى مزيد من التمحيص، النفوس لم تتمحص بعد، تحتاج إلى مزيد من التمحيص، حتى حينما ننهض ونتبنى مثل هذا العمل، ونقوم في الذب عن هؤلاء وفي نصرتهم، وفي كذا، نحن بحاجة دائماً إلى أن نتمحص وأن نتخلى عن حظوظ النفس، وإلا فإن النصر يُبطئ، يتأخر، بل حتى لو حصل فإنه يكون منغصاً ناقصاً مكدراً، مثل الذي حصل في أماكن أخرى كما تعلمون، يحصل نصر ناقص، فيتفرق الناس، ويشتغل بعضهم ببعض، وأخشى أن تكون البوادر والبدايات اليوم قائمة في سوريا، -نسأل الله أن يدفع عن المسلمين الشر.
لكن حينما ينهض الأخيار في نصرة هؤلاء ينبغي أن يتفطنوا لهذا المعنى، يبتعد عن حظ النفس، فيمد يده مع كل إخوانه، ويقول: ما مني شيء ولا لي شيء، نحن نريد ما عند الله ، لا يكون له ويقول: لا، وأنا تبعي كتيبة، وأنا تبعي كتائب، وأنا تبعي كذا، وأنا عندي كذا، وما عندي شيء، ولا لي شيء، وما مني شيء، أنا المكدى وابن المكدى.
فإذا كان الأخيار وأهل الصلاح، أو أهل الجهاد، أو أهل الدعوة إلى الله لا زالت النفوس تحتاج إلى عمل وتهذيب من أجل أن لا تكون هناك حظوظ نفسية، أن يكون لي كيان، أن يكون لي أتباع، أن يكون لي، فيأتي الآخرون من أجل أن يتلطفوا وأن يبذلوا كثيراً من الجهد حتى يعني يكون هناك شيء من التفاهم والتواصل، هذا يعني أن النفوس لم تتجرد.
فإذا كان قيام الإنسان ليس خالصاً لله فمعنى ذلك أن النصر يتأخر، فأول ما يحتاج الناس إليه أن القادة والأخيار وأهل الصلاح، وأهل النجدة، أنهم يكونون قد تمحصت نفوسهم وتجردت، تريد ما عند الله، فانظر إلى هذه الآيات لمّا ذكر هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وذكر ما للمتقين جنات العدن هذه المفتحة لهم الأبواب، فإذا التفت الإنسان إلى هذا أعرض عن كل ما سواه.
يعني بمعنى كما يقول ابن القيم -رحمه الله: أن التربع نوع من الاتكاء، فذكر التربع، والاتكاء أوسع من التربع، يعني: إذا جعلنا التربع أحد أنواع الاتكاء، فالله أخبر أنهم مُتَّكِئِينَ، وإنما يتكئ الإنسان إذا كان مستريحاً في مجلسه، وهذا من التنعم والتمكن في المجالس؛ لأنه إذا كان الإنسان غير متمكن في المجلس أو مترقب، أو في حال من الوجل لا يتكئ، ولا يسترخي في الجلسة، وإنما يكون مشدوداً كأنه مُستوفِز، ولذلك قد يخاطب مثل هذا ويقال له: استرخ في جلستك، اجلس على سجيتك؛ لأنه مشدود.
يقول: متربعين فيها على سرر تحت الحجال، قلنا: هذا السرير الذي فوقه مظلة وعليه ستور، هذه يقال لها: حجلة، لا يكون ذلك إلا لسرير فوقه مثل السقيفة أو المظلة أو كذا، الآن يعمل وقديماً يعمل هذا للعروس، ونحو ذلك، هذه الأسرّة، ونحن لا نتصور أن المسألة أربعة أمتار في أربعة أمتار، هذه جنة عرضها السماوات والأرض، فكم مقدار مثل هذا؟ هذا شيء لا يمكن أن يتخيله عقل الإنسان.
قال: يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أي: مهما طلبوا وجدوا وحضر كما أرادوا، وَشَرَابٍ أي: من أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [سورة الواقعة:18].
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أي: عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن.
يعني هنا مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ قد يأتي من يقول: هذا يدل على أن الشراب يكون بعد الفاكهة، كما يقول بعضهم: إن قوله -تبارك وتعالى: وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ [سورة الواقعة:20، 21]، يدل على أن الفاكهة تكون أولاً ثم اللحم ثانياً، هذا فيه نظر؛ لأن هذا إنما هو في ذكر النعيم، والواو تدل على مطلق الجمع، ولا تدل على الترتيب، فلا يقول الإنسان: إن مثل هذه الأشياء قصد هذا الترتيب ليكون ذلك في الخارج متناولاً على هذه الطريقة التي ذكرها القرآن مثلاً، أنّ هذا بعد هذا، إنما الواو لمطلق الجمع، فالإنسان يأكل فاكهة ولحماً أولاً هذا، أو هذا ثانياً، لا إشكال في هذا، إنما يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة من أهل الطب والعارفين في هذه الجوانب في أمور الغذاء وما إلى ذلك، لكن القرآن لم يكن القصد في هذه المقامات بيان ما يتناول أولاً، وما يكون ثانياً، ليس هذا هو المراد.
هنا أَتْرَابٌ يعني هذا المشهور أن المقصود به التساوي في السن والعمر، يعني هن متساويات في سن واحدة، لا يحصل لهن هرم، لا يتغير حسنها وجمالها، تكون كبيرة في السن مع الأيام والليالي، لا، وإنما هي باقية على سن معين في حسن يتجدد.
وبعضهم يقول: أَتْرَابٌ يعني: متساويات في الحسن، يعني كلهن قد بلغن الغاية في الجمال، أَتْرَابٌ، وبعضهم يقول: إن المراد أتراب متآخيات لا يتغايرن ولا يتحاسدن كما هو الحال في الدنيا، فإن ذلك مما ينغص ويكدر على الأزواج، يتزوج الرجل المرأتين والثلاث والأربع، وقد يكنّ أو يكون بعضهنّ في غاية الجمال، ولكن هذا الجمال منغص بأمور كثيرة تعرفونها، ومنها هذه المغايرة والحسد والتكدير والتنكيد، فهو تزوج من أجل أن يلتذ ويسعد ويُسر، فإذا دخل بيته وجد أسباب التنغيص والأذى، ويسمع ما يسوءه من الكلام بسبب الغيرة، فهؤلاء لا يتغايرن.
لكن المشهور هو الأول أَتْرَابٌ في سن واحدة، ولا شك أن هذه الغيرة غير موجودة؛ لأن الله -تبارك وتعالى- أخبر عن نعيم الجنة وما فيها وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [سورة الحجر:47]، فالجنة لا يوجد فيها غل ولا حسد، ولا ما يؤذي النفوس، وقضية الحسن أنهن في غاية الحسن إلى آخره هذا أيضاً جاءت النصوص موضحة له في الجمال، أن المرأة من أهل الجنة لو اطلعت على الدنيا لأضاءتها، وأنه يُرى مخ ساقها من شدة صفاء الجلد، وشدة البياض، فهذا كله ثابت، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ.
فالحاصل أنه ذكر لهم الملاذ الثلاث: الأكل والشرب والنساء {النكاح}، والعرب يقولون: الأطيبان، وغالبهم يقصد بذلك الطعام والشراب والنكاح، الأطيبان، فذكر لهم هذه الأشياء الثلاثة، وغالب سعي الناس في الدنيا في طلبهم لها -طلب المال- هو من أجل هذه الأمور الثلاثة، فهو يعمل لماذا؟ هؤلاء الناس الذين يعملون ويتاجرون ويكتسبون ويحصلون الأموال ويجمعونها لو سألتهم عن مطالبهم هل يجمعونها ليتصدقوا بها في سبيل الله؟ لا.
تختصر هذه الجهود العظيمة والأوقات العظيمة في هذا البطن والفرج، يبغى يأكل ويشرب ويتزوج باختصار، هذه الغاية والهدف من جمع الدنيا، أما الذي يجمع ويقول: من أجل أن أتصدق، يقال له: الله لم يطالبك بجمع الدنيا حتى تتصدق بها، لكن من حصلت له فعليه أن يبذل وأن يتصدق، ويحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه، لكن أن يجمع ليتصدق، يقال: لم تؤمر بهذا أصلاً.
قال: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ أي: هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هي التي وعدها لعباده المتقين الذين يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار.
ثم أخبر -تبارك وتعالى- عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا انقضاء ولا زوال ولا انتهاء فقال تعالى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ كقوله : مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [سورة النحل:96]، وكقوله -جل وعلا: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود:108]، وكقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع، وكقوله : أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ والآيات في هذا كثيرة جداً.
يعني لذات الدنيا والنعيم، الثمار تذبل وتنقضي، والأموال تنقضي، فإذا جاء الإنسان يريد أن يلتذ بماله، ويتنعم فيه، ويذهب ويأكل ويشرب ويسافر، ويتنقل وما إلى ذلك فهو يحسب الحسابات، كم أنفق، وكم بقي، ومتى ينفد هذا المال؟ فهو في كل شيء يحسب حساباً لما بقي عنده وما ذهب، أما في الجنة فـ مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ.
هذه القضية منسية، هذه ليست في القاموس، لا يوجد شيء ينتهي وينفد، ولا يوجد شيء يعطب ويذبل، ولا يوجد شيء يمل، ولا يوجد ما ينغص، يعني الإحصاءات تقول: إن أكثر من70% من المسافرين يصابون بأمراض في الجهاز الهضمي وغيره بسبب تغير الأجواء، وتغير الطعام والنظام الذي اعتاد الناس عليه، وما إلى ذلك، فهم في أسفارهم يتنغصون، تصيبهم أمراض وأوجاع، وما إلى ذلك، وقد يرجع من سفره وما حصل له التذاذ وسرور بسبب هذا أو غيره، أما في الجنة فهذا لا يوجد، لا يوجد تنغيص، لا يوجد انتهاء وانقضاء لهذه اللذات، ولا يوجد خوف ولا قلق ولا حزن.
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [سورة ص:55-64].
لما ذكر تبارك وتعالى مآل السعداء ثَنّى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم، فقال : هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ وهم: الخارجون عن طاعة الله المخالفون لرسل الله -صلى الله عليهم وسلم، لَشَرَّ مَآبٍ.
كما هي عادة القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب، فإذا ذكر حال السعداء ذكر حال الأشقياء ليجمع العبد بين الخوف والرجاء، قال: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، بعضهم يقول: إنه خبر لمبتدأ محذوف، يعني الأمر هذا: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، ويحتمل أن يكون مبتدأً وخبره محذوف، يعني هذا كما ذُكر هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، أو هذا ذكر، يكون هذا مبتدأ وذكر خبراً، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.
وابن جرير -رحمه الله- يقول: هذا الذي وصفت لك للمتقين، هذا الذي وصفت لك أو الذي وصفت لكم للمتقين هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ يعني ما سبق للمتقين، هذا للمتقين التي هي جنات عدن مفتحة لهم الأبواب، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ وهم الخارجون عن طاعة الله والمخالفون، كل من تجاوز الحد الذي رسمه له الشارع فيكون قد طغى، "ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي"، من تجاوز ما حده الله -تبارك وتعالى- له فإنه يكون قد طغى، وهذا التجاوز يكون بالزيادة عليه، يعني بالغلو فيه، أو بالنقص والتقصير، وذلك بالجفاء، فهذا كله يكون من الطغيان، وإنما يكون الاعتدال بلزوم ما حده الله -تبارك وتعالى، بلزوم الصراط المستقيم.
كلمة "صَلَي" صلْيُ النار يعني الدخول، لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [سورة الليل:15]، وتعني أيضاً الاحتراق ومقاساة حر النار -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها، وتقول: شاة مصلية يعني مشوية، يَصْلَوْنَهَا يدخلونها ويقاسون حرها، إذا جمعت بين المعنيين.
فَبِئْسَ الْمِهَادُ هنا لم يتكلم عن المهاد، في الأصل ذُكر شيء؟ فَبِئْسَ الْمِهَادُ يحتمل أن يكون المعنى فَبِئْسَ الْمِهَادُ يعني: بئس ما مهدوا به لأنفسهم من الكفر بالله ، وتعدي حدود الله، والعمل بمساخطه، ومحاربة أوليائه، ورسله، فيكون الواحد منهم قد مهد لنفسه حتى حصل هذا العذاب؛ ولهذا سماه الله اشتراءً، قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16]، اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى يعني: آثروا الضلالة على الهدى فاشتروها، وقد مضى الكلام على هذا المعنى.
والمهاد أيضاً يحتمل أن يكون المقصود الموضع فَبِئْسَ الْمِهَادُ، وذلك أن النار تكون كالمهاد الذي يكون للصبي، والمهاد يشتمل على هذا الصبي من جميع جوانبه، يمهد يلف فيه، فالنار تحرقهم من جميع الجوانب، وتشتمل عليهم اشتمال المهاد على الصبي، كما قال الله : لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [سورة الأعراف:41]، فالنار تحرقهم من كل ناحية، ولهذا فسره ابن جرير فَبِئْسَ الْمِهَادُ قال: بئس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم وهو جهنم، والمعنيان بينهما ملازمة، فإن هذا الفراش الذي افترشوه من النار كان بسبب ما قدموه ومهدوه لأنفسهم، فبينهما ملازمة.
قال: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ أما الحميم فهو: الحار الذي قد انتهى حره.
أيضاً في قوله: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ، أيضاً بعضهم يقول: هذا مبتدأ، والخبر: حميم وغساق، يكون الخبر: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، فَلْيَذُوقُوهُ، بعضهم يقول على هذا التقدير: فيه تقديم وتأخير، يعني: هذا حميم وغساق فليذوقوه، والقاعدة: "أنه مهما أمكن حمل الكلام على معنى يكون فيه مرتباً كما ذكر الله فهو أولى من دعوى التقديم والتأخير"، وهذا من القواعد الترجيحية، فإن القواعد الترجيحية المقصود بها ما كان مبناه على هذه الزنة، إذا دار الكلام بين الإعمال والإهمال فالأصل الإعمال، إذا دار بين التأسيس والتوكيد فالمقدم التأسيس، هذا يسمى القواعد الترجيحية، لا كل ما يرجح به.
فالشاهد هنا هَذَا فيكون مبتدأ، والخبر حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، هذا على كلٍّ ذكره بعضهم كالفراء والزجَّاج، وبعضهم جوز معنى آخر كالنحَّاس يعني أن يكون "هذا" خبراً، يعني الأمر هذا، هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ، الأمر هذا، ويكون حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ خبراً أو خبرين لمبتدأ محذوف، أي الأمر هذا هو حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، ويحتمل أن يكون حَمِيمٌ مبتدأ، حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، والله أعلم.
يعني كما قال بعض السلف: الذي قَتل ببرده، يَقتل، طبعاً لا يوجد قتل في النار؛ لأنهم لا يموتون فيها، لكنه من شدة برده فأهل النار يعذبون بنوعي العذاب: الحار الحميم، والزمهرير وهو البرد الشديد الذي يقتل، هؤلاء الذين قالوا هذا قالوا: ومنه قيل لليل غاسق وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3]، باعتبار أنه أبرد من النهار، وليس المقصود الاستعاذة هنا لكونه أبرد، إنما الليل لظلمته تنتشر فيه الشياطين والأشرار، والهوام والسباع، وما إلى ذلك، ينتشرون في الظلام، شياطين الإنس والجن.
وهكذا قول من قال: إنه الثلج الذي قد انتهى برده، يعني لشدة برودته، تناهى في البرودة، كما يقوله بعض السلف كمجاهد ومقاتل، هذا الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- بصرف النظر عن التفاصيل الدقيقة، وهو الأقرب باعتبار أنه قابله بالحميم، حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، يعني يحصل لهم الحر الشديد، الحرارة التي تصهر الجلود والأحشاء، ويحصل لهم أيضاً البرد الشديد الذي لا يطاق.
وبعضهم يحمل الغساق على معنى آخر يرتبط بالحميم، يعني لا يكون البرد وإنما بمعنى مرتبط بالحميم، كأنه نتيجة له، فيقولون: هو ما سال من جلود وعيون هؤلاء -أهل النار- من القيح والصديد، ولهذا يقولون: غسقت عينه إذا سالت وانصبت، ويقولون: إن الغساق هو الانصباب، حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، حميم ماء أو شراب في غاية الحرارة يصهر، وكذلك غساق ما يخرج من عصارتهم وصديدهم، وما إلى ذلك فيشربونه ويسقونه، هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله.
وبعضهم فسره بمعنى أيضاً يرتبط بالحميم قال: هو المنتن، كأن هؤلاء ذكروا صفة من صفاته، يعني لا يخرج عن هذا القول، فهذا الغساق منتن الرائحة، فهو لا يطاق، وبعضهم يقول: إن الغساق هو عين في جهنم، يعني تذيب أبعاضهم وأبشارهم وما إلى ذلك.
وبعضهم كقتادة يقول: ما يخرج من فروج أهل النار -النساء الزواني- من نتن لحوم الكفار، يعني هذا مثل قول من قال: منتن، النتن وما إلى ذلك، فيذوقون هذا أو يشربونه، وهكذا قول من قال: إنه عصارة أهل النار، أو قول من يقول: إنه ما يسيل من دموعهم -نسأل الله العافية.
والأحاديث الواردة في صفة الكافر في النار، وأن مقعدة كما بين مكة والمدينة، وأن ضرس الكافر في النار كجبل أُحد سبعة كيلو في ثلاثة كيلو، سبعة في ثلاثة، هذا الضرس، وجاء في عضد الكافر وجلد الكافر، جلد الكافر مسيرة ثلاثة أيام، هذه الأقوال ترجع إلى أنه مرتبط بالحميم، وليس المقصود شديد البرودة، فالآية في مجملها أن الغساق إما أن يكون شديد البرودة، زمهريراً، والقرينة على ذلك أنه قابله بالحميم، فذكر المتقابلين، أو يكون المقصود معنىً يرتبط بالحميم، الغساق: ما يكون نتيجة لهذا الحميم من صديد أو نتن أو عصارة أو دموع أو غير ذلك، يعني نعيم أهل الجنة مفتحة لهم الأبواب، وقاصرات الطرف إلى آخره، وهؤلاء في هذه الحال.
قال: ولهذا قال : وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ أي: وأشياء من هذا القبيل الشيء وضده يعاقبون بها.
وقال الحسن البصري في قوله: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ألوان من العذاب.
وقال غيره: كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصَّعود والهوى إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة والمتضادة والجميع مما يعذبون به ويهانون بسببه.
يعني مثل هذا الحميم والغساق، باعتبار أن الحميم الحار، والغساق هو الزمهرير، يعني العذاب في أمور متقابلة متناقضة، وبعضهم يقول: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أي: عذاب آخر، أو مذوق آخر، أو نوع آخر، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ يعني: مثل هذا، الشكل هو المثل.
وفي قراءة متواترة لأبي عمرو: وَأُخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ أُخر يعني من ألوان وصنوف العذاب، يعني ليس فقط يعذبون بالزمهرير والحميم، وإنما يعذبون بأشياء أُخَر متقابلة ومتنوعة.
يعني هذا قول أهل النار، هذا هو الظاهر وهذا الذي عليه عامة المفسرين، وهو قول الجمهور، أن هذا قول أهل النار، يعني الدفعة التي دخلت، الأولى مثلاً وهم الكبراء والرؤساء، الذين أخبر الله عن قيلهم وجدالهم في النار، وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [سورة غافر:47]، يتخاصمون فيها، فالضعفاء يدعون ويطلبون الله -تبارك وتعالى- أن يضاعف للكبراء، والمضلين، والسادة الذين أضلوهم، أن يضاعف لهم العذاب، وأولئك يتبرءون منهم ويقولون: أنتم تستحقون هذا، وأنتم قدمتموه لأنفسكم، وأنتم الذين عملتم، وأنتم، وهم لا يغني عنهم شيئاً كون هؤلاء يضاعف عليهم العذاب أو لا يضاعف، وماذا يستفيدون إذا كان هؤلاء يضاعف لهم العذاب، فهم في عذاب، وكل واحد يشعر أنه لا يعذب أحد كعذابه، وقال الله : لِكُلٍّ ضِعْفٌ [سورة الأعراف:38]، فهذا قول الأولين الكبراء والقادة، هذا قول الجمهور.
بعضهم يقول: إن هذا القول المشار إليه في هذه الآية: لَا مَرْحَبًا بِهِمْ، يعني الذين يقولون: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، من الذي يقول مثل هذا الكلام؟، يقول: هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض، عندنا هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ يحتمل أن يكون من قول أهل النار، يقول بعضهم لبعض: هذا فوج جديد جاء للنار؛ لأنهم يقْدمون أفواجاً، ويحتمل أن يكون القائل بذلك هم خزنة النار، كلما جاءوا بدفعة قالوا: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، فيجيبون لَا مَرْحَبًا بِهِمْ.
قال: كما قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض، فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ أي: داخل معكمقَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أي: فيقول لهم الداخلون: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا.
يعني وكما سبق أن كثيراً من المفسرين يقولون: إن الذين يقولون: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ هم الأتباع، وأن الأولين هم الرؤساء، هذا فوج مقتحم معكم، لا مرحباً بهم، لا يرحبون بالأتباع، والأتباع -نسأل الله العافية- أيضاً يقولون لهم: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ، فهم يحصل بينهم هذه الوقيعة والشتم، والتبرؤ في النار، فما ينفعونهم حينما كانوا يطيعونهم في الدنيا ويستجيبون لهم، ويسارعون في تحقيق مطلوباتهم.
أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا يعني: من دعوتكم وإضلالكم، دعوتكم لنا إلى الكفر والضلال، أنتم أضللتمونا، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، أنتم قدمتموه لنا بالإضلال.
يعني الذي يقول هذا: قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا هم الأتباع؛ لأن الرؤساء والقادة لا يدعون على أنفسهم، فهم الذين أضلوا هؤلاء، فهم يقولون، الأتباع يقولون: مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ.
كما قال الله عن قيلهم أيضاً: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [سورة الأحزاب:68].
قال: وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ [سورة ص:62، 63] هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفتقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا: ما لنا لا نراهم معنا في النار؟.
قال مجاهد: هذا قول أبي جهل يقول: ما لي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً، وهذا ضرْب مثَل، وإلا فكل الكفار هذا حالهم: يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار، فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا: مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أي: في الدار الدنيا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ يسلون أنفسهم بالمُحال، يقولون: أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم.
يعني في قول ابن كثير -رحمه الله: هذا ضرْب مثَل يقصد أنه من قبيل التفسير بالمثال، يعني أن قول من قال: إن أبا جهل والكبراء مثلاً كأبي لهب ونحو ذلك يقولون: ما لنا لا نرى رجالاً كبلال وعمار ونحو ذلك؛ لأنهم كانوا يحتقرونهم ويستهزئون بهم في الدنيا، ما لنا لا نراهم معنا في النار، افتقدوهم، يقول: هذا ضرب مثل، يعني من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فهذا في عموم الكفار، فالكبراء وأهل الإضلال ونحو ذلك، بل أهل النار عموماً يفقدون أناساً كانوا يسخرون منهم في الحياة الدنيا، لكن لما كانت السخرية غالباً إنما تقع من القادة والكبراء فإن كثيراً من السلف من المفسرين يذكرون أن الذين قالوا ذلك هم القيادات، هم الكبراء، هم أصحاب التوجيه والرأي وما إلى ذلك، يقولون: مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ في الدنيا، ويقولون: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11]، فهم يحتقرونهم ويزدرونهم ويرون أنهم ليسوا على شيء.
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا، في قراءة متواترة لأبي جعفر ونافع والكسائي بالضم، يعني: أَتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا من التسخير، يعني مسخرين لنا، كأعبُد وخدم ومماليك، وما إلى ذلك، أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا القراءة التي نقرأ بها يعني: محلاً للاستهزاء والتندر والسخرية بهم، وما كانوا عليه من حال وهيئة وعمل، يعني جعلوهم محلاً للتندر والاستهزاء، وشغلهم ذلك عن عبادة الله وطاعته وتوحيده، كما مضى الكلام على هذا في بعض المناسبات.
حَتَّى أَنسَوْكُمْ يعني: اشتغلوا في الدنيا بالسخرية والتندر بهؤلاء وكتابة المقالات والأعمدة، ليس له شغل إلا الأخيار حتى أنسوه ذكره، يكون بمعنى إلى الفاعل أو إلى المفعول، حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي أنسوهم ذكر الله فلم يذكروه، أو أنسوهم ذكره الذي هو مذكور الرب -تبارك وتعالى- وهو القرآن تكلم به فلم يقرءوه ولم يعملوا به، ولم يرفعوا بذلك رأساً، فهم مشغولون بهؤلاء الصالحين، وبهؤلاء الأخيار يتندرون بهم، ويسخرون منهم، ويكذبون عليهم، ويستهزئون بهم حتى أنسوهم طاعة الله وعبادته.
فهنا يقولون: أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ، وزيغ البصر يعني: ميل البصر عن مراده، يعني هم في النار لكن لا نراهم، أين هم؟ لماذا لا يكونون معنا ولا نشاهدهم في النار؟ ما لنا لا نراهم معنا في النار؟ قال مجاهد: هذا قول أبي جهل، إلى آخره، -والله المستعان، وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أي: في الدار الدنيا، أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ، يقول: يسلون أنفسهم بالمُحال، يقولون: أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم.
قال: فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله : وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ إلى قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [سورة الأعراف:44-49].
وقوله تعالى: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي: إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ[سورة ص:65-70].
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله: إنما أنا منذر لست كما تزعمون وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ أي: هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه. رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي: هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أي: غفار مع عزته وعظمته.
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أي: خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم.
أو ما أنذرتكم به من العقاب، ما بينته لكم من التوحيد، وبعضهم يحمل ذلك على القرآن، هذا قاله جماعة من السلف، نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني: هذا القرآن، وهذا يتضمن ما قبله؛ لأن القرآن فيه إرسال النبي ﷺ وهو وحي من الله له، وكذلك فيه هذه النُّذر التي هذا الموضع منها، وهذا الأخير أنه هو القرآن هو اختيار ابن جرير، قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني: هذا القرآن وما تضمنه من خبر عن صفة النار وأهلها وما يحصل من خصام، وما فيه من الدعوة إلى الإيمان والتوحيد.
قال: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي: غافلون.
وقوله تعالى: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي: لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى؟ يعني: في شأن آدم -عليه الصلاة والسلام- وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه.
يعني هذا يتعلق بما حصل من هذه المجاوبة والحوار بالملأ الأعلى في شأن آدم ﷺ، فهي الآيات التي فصلها الله بعد ذلك، وهنا قال الله : إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أي: مبين لكم إنذاره إياكم، مُّبِينٌ مبين لكم إنذاره إياكم، ومبين تأتي بمعنى "بيّن" أي بيّن النذارة، فتكون قاصرة، بيّن النذارة ظاهر واضح؟، وتأتي بمعنى متعدٍّ، يعني مبين للحق والهدى والرشاد وما إلى ذلك، فعلى الأول قول كعب بن زهير في بردته المعروفة:
... | عِتقٌ مُبِينٌ وفي الخديْن تسهيلُ |
عتق مبين أي: عتق بيّن وظاهر، في صفة هذه الناقة، عتق مبين وفي الخديْن تسهيل.
وعلى المعنى الثاني: مبين يعني مبين لغيره، هذا أصل مادة "بان" تأتي لهذا وهذا.
وهو قوله تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص:71-85].
هذه القصة ذكرها الله -تبارك وتعالى- في سورة "البقرة" وفي أول "الأعراف" وفي سورة "الحجر" و"سبحان" و"الكهف"، وهاهنا، وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم بأنه سيخلق بشراً من صلصال من حمأ مسنون، وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراماً وإعظاماً واحتراماً وامتثالاً لأمر الله ، فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس، ولم يكن منهم جنساً كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه، فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه فيه، وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه. وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه، وسماه "إبليس" إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة.
أبلس: يعني يئس.
هنا في قوله تعالى في هذه الآيات: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ هذا قبل خلق آدم -عليه الصلاة والسلام، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ [سورة البقرة:34]، فهذه الآيات ليس بينها منافاة، هذا يدل على أنهم أُمروا بالسجود قبل خلقه، وفي المواضع الأخرى أنهم أُمروا بالسجود بعد خلقه.
فيقال في الجمع بين هذه الآيات: إن الله -تبارك وتعالى- أعلمهم قبل خلقه أنه سيخلقه، فإذا خلقه فهم مأمورون بالسجود له، فلما خلقه أمرهم بعد الخلق بالسجود، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ، أعلمهم قبل الخلق، وأنه إذا خلقه فعليهم السجود، فلما خلقه واكتمل خلقه أمرهم بالسجود فسجدوا.
قال الله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، وأكده بهذين التأكيدين، أقوى صيغة في التأكيد "كل وجميع"، فجاء بهما جميعاً، بعض أهل العلم يقول: إن كل واحدة لها معنى، بناءً على قاعدة التأسيس مقدم على التوكيد، يعني سجدوا كلهم، الأولى للإحاطة، يعني: ما تخلف أحد، والثانية في التوقيت، يعني: سجدوا جميعاً في وقت واحد، وليس على أوقات مختلفة، كلهم سجدوا في وقت واحد كما يسجد الناس خلف إمامهم، هكذا قال بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: الثانية تأكيد ومبالغة في التأكيد؛ لأن الملائكة جميعاً قد سجدوا، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ.
فأضاف خلق آدم -عليه الصلاة والسلام- إلى يديه بالتثنية، وقد صح عن النبي ﷺ ما يدل على أن الله باشر خلق آدم -عليه الصلاة والسلام- بيده، أن الله خلقه بيده، فهذا فيه اختصاص لآدم، وكذلك بنى جنة عدن بيده، هذا بخلاف الإضافة بالجمع، خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [سورة يس:71]، مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا، أضافه إلى الأيدي، فهذا لا يعني المباشرة، وإنما أضافهم إليه -تبارك وتعالى- أنه خلق، يمتن عليهم أنه خلق هذه الأنعام، فإذا أضافه إلى اليد بالتثنية فهذا يقتضي المباشرة، وهذا جاء في خلق آدم ﷺ، أما بصيغة الجمع فإن ذلك لا يقتضي المباشرة.
يقول: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ، يقول هنا: أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قبل ذلك، يعني فكان هذا الامتناع من السجود إنما هو أثر لهذا العلو والترفع الذي كان صفة لك قبل أن تؤمر بالسجود لآدم ﷺ، يعني: هل استكبرت فطرأ لك ذلك ولم يكن وصفاً متحققاً فيك قبل ذلك، وهو الاستكبار، أستكبرت الآن، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ يعني: كنت كذلك صاحب علو وتكبر على ربك -تبارك وتعالى، فكان من نتيجة ذلك وأثره الامتناع عن السجود لآدم ﷺ.
قال: وقال: لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ كما قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً.
هنا لم يتطرق لقوله تعالى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ، وقد مضى الكلام على هذا في مناسبات عدة، وكلام العلماء في أن أول من قاس قياساً فاسداً، وقابل النص بالرأس هو إبليس –لعنه الله، ويرد العلماء على إبليس من وجوه مختلفة كثيرة في قياسه الفاسد هذا في أن النار أشرف من الطين، ويبينون أن إبليس أخطأ في هذا القياس، وأن الواقع أن الطين أفضل من النار، فيقولون: النار من طبعها الخفة، والطين من طبعه الرزانة، والنار لا تكون إلا من عنصر من الأرض، أما الطين فلا يكون قيامه بالنار.
ويقولون: النار لا تأتي على شيء إلا أتلفته وأحرقته، من طبعها الإحراق والإتلاف، وأما الطين فتوضع فيه الحبة فتكون شجرة، وتوضع النواة فتكون نخلة مثمرة، وما إلى ذلك، فالحاصل أن العلماء يردون على إبليس في هذا القياس الفاسد، ويبينون أنه أخطأ في قوله هذا.
قال هنا: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، قد مضى الكلام على الرجيم في الكلام على الاستعاذة، وذكرنا هناك أنه يحتمل معنيين: الأول: أنه مرجوم إما بالسب واللعن، وإما بالشهب التي ترمى على الشياطين، وأن الرجم يأتي بمعنى الطرد والإبعاد، فهو مُبعَد مطرود من رحمة الله -تبارك وتعالى، فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وبعضهم يقول: رَجِيمٌ، فعيل بمعنى فاعل هنا، ما هو مفعول، يعني يرجم الناس بالوساوس والخواطر السيئة وما إلى ذلك، لكن هذا القول فيه ضعف، يعني الأول أشهر.
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، بعضهم يقول: إلى النفخة الأولى التي يموت فيها الخلائق، يعني نهاية الحياة الدنيا بالنفخة الأولى.
وبعضهم يقول: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، البعث يكون بالنفخة الثانية، حيث تلتقي الأرواح بالأجساد، ويبعث الناس من قبورهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فالله قال له: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الوقت الذي حدده الله وأراده.
قال: كما قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً [سورة الإسراء:62] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا [سورة الإسراء:65].
وقوله -تبارك وتعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع "الحق" الأول، وفسره مجاهد بأن معناه: أنا الحقُّ، والحقَّ أقول، وفي رواية عنه: الحقُّ مني، وأقول الحقَّ.
وقرأ آخرون بنصبهما.
الآن يقول: قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع الحق الأول، قال: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ، هذه قراءة متواترة هي التي نقرأ بها، قراءة عاصم، وبها قرأ حمزة أيضاً من السبعة، وهي قراءة مجاهد بن جبر من التابعين، قال: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ، قال: برفع الحق الأول، وفسره مجاهد بأن معناه: أنا الحقُّ، قال: فَالْحَقُّ يعني: فأنا الحقُّ، وَالْحَقَّ أَقُولُ، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
قال وفي رواية عنه يعني عن مجاهد: الحقُّ مني وأقول الحقَّ.
فأنا الحق، قال: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ أنا الحقُّ، وعلى هذا يكون الحق خبراً لمبتدأ محذوف، "أنا" مبتدأ، الحقُّ: خبر، أو الحقُّ مني، الحق: مبتدأ وما بعده يكون خبراً، الحق مني، أو يكون الخبر مذكوراً، فالحقُّ لأملأن جهنم، فالخبر: لأملأن، نحن لا نشتغل بالإعراب، ولكن ما يتوقف عليه فهم المعنى، أحياناً لا يتصور المعنى إلا بالإعراب، قال: وَالْحَقَّ أَقُولُ.
قال: وقرأ آخرون بنصبهما.
يعني: قرأ آخرون بنصبهما، قال هنا: قَالَ فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ أَقُولُ، وهذه أيضاً قراءة متواترة قرأ بها بقية السبعة، يعني هذه قراءة الجمهور، فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ أَقُولُ، بأي اعتبار فَالْحَقَّ؟ بعضهم يقول: هذا قسم، أن الله أقسم بالحق، قال: فَالْحَقَّ يعني كأن الأصل قال: أقسم بالحقِّ، قال: فبالحقِّ، فلما حذف حرف القسم الباء انتصب بنزع الخافض، فَالْحَقَّ.
وبعضهم يقول: ليس فيها قسم، وإنما الأولى تكون منصوبة على الإغراء، الزموا الحقَّ، أَقُولُ، يعني: وأقول الحقَّ، فَالْحَقَّ الزموا الحقَّ، وَالْحَقَّ أَقُولُ يعني: وأقول الحقَّ، مفعول به منصوب، والله أعلم.
وهنا قال السدي: هو قسم أقسم الله به، إذا كان قسماً فيكون على النصب باعتبار أنه بنزع الخافض كما سبق، والخافض هو حرف الجر فحين يحذف ينتصب الفعل، ولا يكون مجروراً في اللفظ.
قال: قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة:13]، وكقوله : قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا [سورة الإسراء:63].
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ[سورة ص:86-88].
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجراً تعطونيه من عرض الحياة الدنيا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي: وما أريدعلى ما أرسلني الله به ولا أبتغي زيادة عليه، بل ما أمرت به أديته ولا أزيد عليه ولا أنقص منه وإنما أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة.
قال سفيان الثوري عن الأعمش، ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال: أتينا عبد الله بن مسعود فقال: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله قال لنبيكم ﷺ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، أخرجاه.
وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يعني: القرآن ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما.
في قوله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ يعني القرآن وما تضمنه من الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، فالرسل -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يقولون لأقوامهم ذلك، يعني أنهم لا يسألونهم على دعوتهم إلى الله أجراً، فهذه الآية تتضمن أصلين كبيرين من أصول الدعوة:
أنها مجاناً بلا مقابل، أيًّا كان هذا المقابل، قد لا يأخذ من الناس مباشرة يقول: أعظكم فتعطونني، لكن قد يأخذ من القنوات، قد يأخذ من الشريط، وتتحول المسألة إلى تجارة، تحصيل للأموال بسبب هذه الدعوة.
وللأسف بعضهم يفتخر في قناة يتكلم يقول: كان دخله سبعة آلاف، والآن متوسط الدخل في الشهر مائة ألف، هذا ينزع القبول مما يقول، ولا يكون على كلامه نور، والقلوب تدفعه وترفضه، ولا يحتمل الناس أن يسمعوا منه دقائق، مباشرة إذا رأوه غيروا القناة، وإذا رأوا كلاماً له مكتوباً أو نحو ذلك في موقع من المواقع، أو نحو ذلك مباشرة بحثوا عن غيره، ينطفئ نور الكلمة، بعدما يكون الإنسان له أقوال وكلام يشرق ويغرب، وله قبول، تحولت القضية إلى تجارة، وهنا تنطفئ نور الكلمة.
لذلك أقول: مهمة الدعاة إلى الله ، مهمة المصلح أنه يقدم للناس الدعوة مجاناً، ما يأتيه مقابل منها، وإلا فإن ذلك مؤذن بالنهاية الحتمية، والله يغرس لهذا الدين غرساً يقوم بذلك الدعوة إلى الله، ونشر الخير، وما إلى ذلك، ويذهب أولائك وينساهم الناس، فالإنسان عليه أن يختار إما ما عند الله، وإما ما عند الناس، فالدعوة مجاناً.
الأمر الثاني: التكلف، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، التكلف في كل شيء؛ ولهذا أخرج البخاري في الصحيح عن عمر : "نُهينا عن التكلف"[3]، وإذا جاءت هذه الصيغة "نُهينا" فإن الذي نهاهم هو النبي ﷺ، وهذا مطلق، "نُهينا عن التكلف"، وما حدد شيئاً، والأصل حمل مثل هذا على عمومه؛ لأنه حذف فيه المقتضى، فيحمل على أعم معانيه.
التكلف في العلم، ألا يقول الإنسان ما لا يعلم، ليس باللازم أن يجيب الإنسان على كل ما سُئل عنه، أو إذا سئل تورع فإنه يجيب بجواب ضبابي لا يأخذ منه السامع حقاً ولا باطلاً؛ لئلا يقول: لا أعرف، لا يجيب عن المسألة بخصوصها، لكن يتكلم بكلام يحوم حول السؤال، لكنه لم يجب، فلماذا لا يقول الإنسان: لا أعلم.
وكذلك أيضاً التكلف حينما يتصنع؛ لأن أصل معنى التكلف التصنع، أن يأتي الشيء بكلفة، فليس بالضرورة أن الإنسان يكون له حضور في كل مناسبة، في كل حدث يحصل، أحياناً الإنسان لا تحضره النية، وأحياناً الإنسان ليس عنده ما يقوله، ما يضيفه، أحياناً قد تكون تعليقات شفوية وليست بكلام يكتب، في مجلس في مذاكرة بين أهل علم، فيتحدثون في موضع يتشاورون فيه، فالكلام الذي سيقوله قاله فلان، لا داعي لأن يسجل حضوراً، انتهى خلاص ما عندي شيء، يكون الإنسان في مؤتمر أحياناً، أو ملتقى، ويتكلم الناس ويعلقون على الموضوع الذي طرح، ليس عنده شيء، لا يتكلم، يعيد كلاماً قاله غيره، فهذا نُهي عن التكلف، وأحياناً يقال كلام لا معنى له ولا قيمة له فقط تسجيلاً للحضور، أني علقت في هذا الحدث، تكلمت في هذه المناسبة، علقت على كتابة فلان، فهذا كله من التكلف، "نُهينا عن التكلف".
والإنسان إذا كانت لا تحضره نية لا يتكلم، إنسان ليس عنده إضافة جديد، ليس عنده شيء له قيمة، تحدث الناس عن هذا المعنى بما فيه الكفاية، لماذا كل واحد لابد أن يتكلم؟! يسعه السكوت وأن يشتغل بذنوبه.
ومن الخطأ أن يتوهم الإنسان أنه لابد أن يكتب في كل شيء، ويشارك في كل شيء، وأن يكون حاضراً في كل مناسبة، وللأسف الوسائل هذه، الاتصال والتواصل بين الناس اليوم أصبحت تدفعهم دفعاً لأن يكتبوا في كل مناسبة، كل ما يقع من المناسبات، كل واحد لابد أن يسجل حضوراً ويكتب وما إلى ذلك، ومن عرف أن هذا سيعرض عليه ويحاسب فيه على نيته، ويحاسب فيه على مضامينه أيضاً فلا يكتب إلا ما يكون الجواب حاضراً، إذا حضرت الصحيفة وقيل له: ما أردت بهذا؟ ما هذا الذي كتبت؟ الجواب حاضر، أمّا أن يهرف الإنسان في كل شيء ويثرثر في كل شيء فهذا غير صحيح إطلاقاً، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، هذا ينبغي أن يكون سمة لأهل العلم، والدعاة إلى الله .
قال: وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يعني: القرآن ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما، وهذه الآية كقوله تعالى: لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [سورة الأنعام:19]، وكقوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17].
وقوله تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أي: خبره وصدقه بَعْدَ حِينٍ أي: عن قريب، قال قتادة: بعد الموت، وقال عكرمة: يعني يوم القيامة، ولا منافاة بين القولين؛ فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة.
آخر تفسير سورة "ص"، ولله الحمد والمنة، والله أعلم.
وهذه طريقة حسنة في الجمع بين القولين، وعلى هذا مشى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، باعتبار أن القولين لا منافاة بينهما، فمن مات قامت قيامته، والله أعلم.
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل، برقم (3009)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب ، برقم (2406).
- رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (13232)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3124).
- رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7293).