بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى:
وقوله: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [سورة النور:2] أي: في حكم الله، لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية على ترك الحد، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز له ذلك.
قال مجاهد: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قال: إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان، فتقام ولا تعطل، وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، وعَطاء بن أبي رَبَاح، وقد جاء في الحديث: تعافَوُا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حَدٍّ فقد وَجَب[1].
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أي: فافعلوا ذلك: أقيموا الحدود على من زنى، وشددوا عليه الضرب، ولكن ليس مبرِّحا؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك، وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال: يا رسول الله، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال: والشاة إن رحمتها رحمك الله[2].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ الرأفة المراد بها رحمة رقيقة، فهي ترجع إلى معنى الرحمة في أصل المعنى، ولكنها تفترق عنها بأنها رحمة خاصة، رحمة رقيقة وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ وهذا الموضع في كتاب الله يرد فيه سؤال معروف وهو أن الرأفة تقع في قلب الإنسان من غير إرادة ولا تطلّب، فهي تقع في قلب الإنسان من غير قصد، وقد يريد دفعها ولا يستطيع، ومعلوم أن الشارع لا يأمر ولا ينهي إلا فيما يدخل تحت طاقة المكلف، فالندم والرحمة وما شابهه كل ذلك يقع في القلب، فالإنسان قد يندم ويحاول دفع الندم ولا يستطيع، وقد يرحم فيحاول دفع هذه الرحمة ولا يستطيع.
فخطاب الشارع إذا توجه إلى المكلف في أمر غير مقدور فإنه ينصرف إلى سببه أو إلى أثره، فهذا مثال، فهنا نهاهم عن الرحمة لهؤلاء، فمن رأى أحداً يقام عليه الحد ورحِمَهُ، فلا يقال: إنه أثم وإن هذا خلاف الإيمان وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وإنما نقول: يتوجه النهي في الخطاب هنا إلى أثر الرحمة -إقامة الحد- فيترك الحد رحمة، يترك الشخص فيقال: لا يقام عليه الحد، أو تخفيف الحد.
وعامة أهل العلم يقولون: المراد به إقامة الحد، يعني وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ يعني في حكمه وشرعه، وهذا المعنى صحيح، والمعنى الآخر صحيح –أيضاً، فيكون المنهي هو الأثر عموماً، فيدخل فيه ترك إقامة الحد، ويدخل فيه أيضاً تخفيف الحد، إما بالصفة وإما بالعدد، بالصفة فيما لو قال: يضرب هذا تحلّة قسم فقط، ضرباً خفيفاً، أو بالعدد فبدلاً من أن يجلد مائة جلدة قالوا: يكفيه عشر، فهذا لا يجوز.
وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ بعضهم يقول: في طاعته فالدين يأتي بمعنى الطاعة، (دنتُه فدان) يعني أطاع، وهذا يرجع إليه قول من قال: في شرعه الذي شرعه فيترك ذلك رحمة بهذا المحدود، والله عليم حكيم وهو أرحم بعباده منا، فمن رحمته بالمكلفين أن شرع إقامة هذه الحدود؛ ليصير المجتمع نظيفاً، ومن أجل تطهير هؤلاء الذين قارفوا ما قارفوا، فهذه الحدود كفارات كما ثبت عن النبي ﷺ فهذا من الرحمة بهم، ولذلك تجد الإنسان يؤدب ولده بالضرب أو الزجر والآلام وما شابه ذلك، وهو في غاية الرحمة به، والطبيب قد يبتر عضواً، يجرح، ويكون ذلك لمصلحة هذا المريض، قال: إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا قال: فِي دِينِ اللَّهِ أي: في حكم الله، أي لا ترحموهما وترأفوا بهما في شرع الله، فجمع -رحمه الله- بين العبارتين اللتين يعبر بهما أهل العلم عن معنى فِي دِينِ اللَّهِ بعضهم يقول: في شرعه، وبعضهم يقول: في حكمه، فجمع بينهما الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهذا من حُسن تفسيره ودقته في اختيار المعاني، والذي لم يطلع على أقوال أهل العلم وكلام السلف في الآية لربما يقرأ مثل هذه العبارة ولا يتفطن لما حوته من المعنى.
قال: وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية عن إقامة الحد، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد، فلا يجوز له ذلك، والإنسان إذا قرأ ينبغي أن تكون قراءته دقيقة، ولهذا طالب العلم تختلف قراءته عن العامي، وكثير من الناس يسأل، قد لا يتفطن لهذا أصلاً.
ثم ذكر قول مجاهد قال: إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل، وذكر حديث: تعافوا بالحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب والحديث صحيح، والمقصود وصول ذلك إلى السلطان، يعني إلى الحاكم نفسه الذي هو الأمير أو الخليفة أو الملك، أو إلى نائبه، إلى نائبه مثل القاضي، لكن الهيئة لا تعتبر بهذه المنزلة بحيث إذا وقفت الهيئة على قضية زنا مثلاً أو قذف أو نحو ذلك هل يعتبر هذا قد بلغ السلطان بحيث إنه لا يجوز الشفاعة فيه، ولا يجوز الستر ويجب إقامة الحد؟ فالهيئة ليست جهة مخوّلة بإقامة الحدود، فهي لا تنوب عن السلطان بهذا، إنما هي للتأديب، والمحافظة على أخلاق الناس وما شابه ذلك، لكنها ليست جهة منفذة للحدود، وإنما ذلك منوط بالقضاء.
ولذلك يرد السؤال عن هذا: إذا وقفنا على قضية زنا أو نحو هذا، هل لنا أن نستر أو هذه القضية تكون قد بلغت السلطان ويجب إقامة الحد فيها؟ يقال: يجوز لهم الستر بل يكون هو المتعين أحياناً، وكل حالة بحسبها.
قال: إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مثل هذا يرد في القرآن كثيراً، والمقصود به التخصيص والتحريض على الامتثال كما تقول للإنسان أحياناً تريد منه أن يفعل شيئا:ً إن كنت ابن الكرام فافعل كذا، والرجل يقول لولده: إن كنت ولدي فافعل كذا، وتقول للرجل: إن كنت رجلاً فافعل كذا، تقصد الحث والتخصيص إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: فافعلوا، فامتثلوا قال: وشدِّدوا عليه الضرب، ولكن ليس مبرحاً ليرتدع، وقد جاء في المسند عن قرة المزني قال: إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها فقال رسول الله ﷺ: والشاة إن رحمتها رحمك الله[3]، وهذا يدخل في عموم قوله: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء[4] من في الأرض ليشمل بني آدم وغيرهم، لكن هذه الرحمة ينبغي أن تكون مضبوطة بضوابط الشرع، فلا تؤدي إلى تضييع الدين، ترك إقامة الحدود.
وقوله: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هذا فيه تنكيل للزانييْن إذا جُلِدا بحضرة الناس، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإن في ذلك تقريعًا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورًا.
قال الحسن البصري في قوله: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني: علانية.
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قوله: فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس، معنى ذلك يكون أبلغ بزجرهما، والحكمة من حضور الطائفة هي أن ذلك أشد في الردع والزجر، هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير وذكره كثير من أهل العلم، ولاشك أن هذا واقع، وأنه صحيح وثابت، ولذلك تجد الكثير من الناس يود أنه لو ضوعف عليه الحد أضعافاً ولا يكون ذلك بحضرة الناس، ولكن فيه أيضاً من الحكمة زيادة على هذا وهو ردع الناس، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن المعصية إذا وقعت علانية -كانت المعصية ظاهرة- كانت العقوبة ظاهرة، فالناس حينما يعرفون ويطلعون على أن هذا قد فعل ما يوجب العقوبة، أو فعل ما يوجب الحد أو نحو ذلك فعندئذ تظهر عقوبته، من أجل أن يرتدع الناس، فهذه الحدود شرعت -والله أعلم- في مثل هذا لأمرين:
الأول: شرعت علانية زيادة في التنكيل وردع المكلف الذي واقعها.
والثاني: فيها زجر لغيره، فلو كانت تقام سراً، فالناس لا يطلعون ولا يرون، فإن مثل هذا يتخلف عنه هذا المعنى، وهو زجر المكلفين عن مواقعة مثل ذلك، فإذا رأوا أن هذا الإنسان يجلد، وهذا يرجم، وهذا تقطع يده، فإنهم بذلك يرتدعون، وكما قيل: العاقل من وُعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، فيتعظ الناس بما يرون، ويكون لهم في ذلك عبرة وعظة.
قال: ونقل عن الحسن وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ قال: يعني علانية، وهذا من قبيل التفسير باللازم وليس من قبيل التفسير المطابق؛ لأن الطائفة ليس معناها العلانية، لكن يلزم منه أن يكون ذلك علانية، فالسلف أحياناً يفسرون باللازم، وأحياناً بدلالة التضمن، وأحياناً بالمطابق، ولا يخفى المعنى المراد.
أما تفسير الطائفة من حيث هي فقد اختلف العلماء في ذلك وفي تحديده لاسيما في هذا الموضع وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في حضور عقوبة الزنا، لا تكون سراً، ولا تكون في مكان خاص، وإنما تكون علانية، والطائفة: عامة أهل العلم يقولون: تصدق على واحد فما فوق، وبعضهم يقول: إن هذه اللفظة فيها معنى الإحاطة، طاف، الطواف بالبيت، إنها من الطوّافين[5] ففيها هذا المعنى، فإطلاق الطائفة على واحد فما فوقه هو قول الجمهور.
وممن قال بهذا الإمام أحمد -رحمه الله، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير، إلا أن ابن جرير -رحمه الله- راعى في ذلك الخلاف؛ لأن من أهل العلم من قال: إنه هنا في هذا الموضع لو كانت الطائفة تطلق على واحد فما فوق فهنا لابد من اثنين، قال بعض العلماء هذا؛ لأن ذلك أقل الشهادة، طائفة، أقل الشهادة وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ هم لا يشهدون عليه لكن يشهدون عقوبته يعني يحضرون فقالوا: كل ما تقوم به الشهادة اثنان فلابد منهما.
وبعضهم قال: لابد من ثلاثة؛ لأن الثلاثة أقل الجمع، ولكن هنا لم يرد لفظ الجمع، على خلاف أصلاً في أقل الجمع هل هو ثلاثة أو اثنان، وبعضهم يقول: لابد من أربعة فما فوق؛ لأن حد الزنا لا يثبت إلا لأربعة فهنا في الحضور حضور هذه العقوبة لابد من أربعة، فهؤلاء فقط يحضرون العقوبة بعدما ثبتت الجريمة بالاعتراف أو بالشهادة شهادة الشهود الأربعة فالكلام هنا في الحضور فقط، فبعضهم يقول: لابد في هذه الطائفة في الزنا من أربعة؛ لأن ذلك أقل الشهادة به فابن جرير يراعي هذا ويقول خروجاً من الخلاف: يحسن أن لا يقل الحضور عن أربعة؛ لأنه أقل الشهادة بالزنا، فهنا ليس موضع شهادة بالزنا، يعني الذين أوجبوا أربعة مع اعترافهم بأن الطائفة من واحد، تصدق على واحد فما فوق قالوا: لابد من أربعة في هذا الموضع؛ لأنه أقل الشهادة بالزنا.
لكن هنا ليس موضع شهادة، فهذا قياس مع الفارق، والقياس مع الفارق لا يصح، وإذا أخذنا بظاهر اللفظ مثل كلمة "طائفة" ليس لها معنى شرعي، وإنما يرجع في ذلك إلى اللغة، وليس لها معنى في عرف المخاطبين بالقرآن، -معنى خاص- فإذا رجع فيها إلى اللغة وجد أن معنى الطائفة يصدق على الواحد فما فوق، المهم أن يكون الحد علانية فيوجد من يرتدع من المكلفين قلَّ العدد أو كثر -والله تعالى أعلم، وبعضهم يقول: لابد من عشرة، وهذا لا دليل عليه إطلاقاً، مع أنه قال به أئمة.
وأما القول بأنه أربعة فهذا هو المنقول عن مالك والشافعي وجماعة، وبعضهم يقول: لابد من خمسة، وهذا لا دليل عليه -والله تعالى أعلم، لكن يحسن أن يكون إقامة الحد في وقت يتوافد الناس فيه؛ من أجل تحقيق الحكمة الثانية من حِكَم إقامة الحد علانية، وهو أن يرتدع الناس، فيراه أكبر قدر، ويكون ذلك أبلغ في الزجر، والمحدود يتمنى أن يقام عليه الحد ولا يراه أحد إن أمكن، فلو قيل له مثلاً: سنقيم الحد عند مسجد الجامع الكبير مثلاً، فربما يتمنى أن يكون بعد الفجر؛ لقلة الناس، فيكون هذا أفضل بالنسبة إليه من كون الحد بعد صلاة المغرب، والله تعالى أعلم.
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [سورة النور:3].
هذا خَبَر من الله تعالى بأن الزاني لا يَطأ إلا زانية أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حرمة ذلك، وكذلك: الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أي: عاصٍ بزناه، أَوْ مُشْرِكٌلا يعتقد تحريمه.
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، يعني لا يطاوعه، هذا الموضع فيه إشكال كثير وخلاف طويل بين أهل العلم، وخلاصته: أن هذه الآية فيها إشكالات متعددة في المعنى؛ ولذلك فإن كلام أهل العلم فيها متردد بين كونها محكمة أو منسوخة، وكونها عامة أو خاصة، خاصة سواء في فرد معين أو في نوع من الناس، هل هي محكمة أو منسوخة؟ هل هي عامة أو خاصة؟ هل المراد بالنكاح الوطء أو المراد به الزواج والعقد؟ وعامة الخلاف بل كل الخلاف يدور حول هذه القضية بالذات هل هو العقد بالزواج أو المراد به الوطء؟
فإذا قلت بأنه الوطء يرد عليه إشكالات أو إشكال، وإذا قلت بأنه العقد يرد عليه إشكالات أكثر، والذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- أنه الوطء، واعتبرها من قبيل الخبر، إخبار عن الواقع أن هذا الزنا لا يقع ولا يوافقه إلا إحدى امرأتين إما امرأة مشركة لا تعترف بحكم الزنا أصلاً، تستحل الزنا، أو امرأة مسلمة تقر أن هذا حرام، ولكنها تتبع هواها من الناحية العملية، فتفجر، فهذه زانية، هذا إخبار عن الواقع.
فهذا الآن الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- لا يطأ، قال: هذا خبر من الله، العبارة دقيقة جداً، هذا خبر بمعنى أنه ليس بإنشاء، ليس بإنشاء لحكم، يعني أحياناً صيغة الخبر تكون بمعنى الإنشاء مثل وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ [سورة البقرة:233] يعني ليُرضعن، أمر في صيغة خبر.
فابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: هذا مجرد خبر لا يتضمن إنشاء حكم، بخلاف الذين قالوا بأن المقصود به العقد، قالوا: هذا خبر مضمن معنى حكم فيه نهى، إذا قلنا: إنه خبر أو إنه إنشاء أصلاً بأن "لا" هذه ناهية، وليست نافية لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً يقول: هذا إنشاء، صيغة إنشاء لا ينكح، نهى له عن النكاح، عن التزوج إلا بزانية أو مشركة، هذه خلاصة مدار كلام أهل العلم على تفرق أقوالهم وكثرتها في هذه الآية.
فإذا أخذنا هذا القول الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- ومن وافقه، وممن وافقه على هذا ابن جرير، قالوا: هذا إخبار عن الواقع، وليس بإنشاء حكم، والآية ليست بمنسوخة، وإنما هي إخبار أن الزاني لا يوافقه إلا من كان على شاكلته من الزناة أو من لا يعترف بالحكم أصلاً وهي المشركة، وهنا لا يرد موضوع النسخ ولا يرد موضوع التخصيص، ولكن هذا يرد عليه إشكال وهو أن الآية صارت بمعنى تحصيل الحاصل، أي أنه لا يقع إلا على واحدة تستحل الزنا أو تعرف حكمه وتقر به، ولكنها تغلب هواها فتفجر، قالوا: هذا أمر مدرَك وليس جديداً.
والذين قالوا بأن النكاح هنا بمعنى العقد، يرد عليهم أسئلة أكثر وموضع هذه الإشكالات هو في قوله "أو مشركة" يعني لو كانت الآية فقط لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً كنا انتهينا، نقول: لا يتزوج إلا زانية، لكن الإشكال في قوله: أَوْ مُشْرِكَةً فالزاني الذي يقر بحكم الزنا مسلم، ولا يجوز للمسلم أن يتزوج مشركة، وله أن يتزوج الكتابية، فموضع الإشكال أن الله قال: أَوْ مُشْرِكَةً فكيف يجوز للمسلم ولو كان زانياً أن يتزوج المشركة؟!
ومن هنا قال بعض أهل العلم: هذه الآية منسوخة، كانت ثم نسخت، وصار لا يجوز للمسلم أن يتزوج المشركة، وليس لأحد أن يخصص المشركة هنا بالكتابية؛ لأنه سينعكس أيضا في قوله: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ حتى لو كان كتابياً لا يجوز أن يتزوج مسلمة، وهذه أوضح، ولو كانت زانية، طيب إذاً ما المراد بقوله: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ؟
فالذين قالوا: المراد هنا الوطء أراحوا أنفسهم، وقالوا: ما يقع عليها إلا من كان مستحلاً وهو مشرك، أو من كان مطاوعاً لهواه وإن أقر بالحكم، لكن الذين قالوا: المراد به العقد وقع عندهم هذا الإشكال فبعضهم قال: منسوخة، ولكن القاعدة أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، هذه دعوى لا دليل عليها.
وبعضهم قال: هذه خاصة، واختلفوا في التخصيص، فبعضهم قال: خاصة في المحدود، وقد ورد حديث صحيح بأن الزاني المحدود لا يتزوج إلا زانية أقيم عليها الحد، وبعضهم يقول: هي خاصة برجل استأذن النبي ﷺ فنزلت الآية، استأذن أن يتزوج امرأة بغيًّا مشركة في بعض الروايات هذا خاص به، وقالوا: سبب النزول دل على التخصيص، فيقال لهم: العبرة بعموم اللفظ، وهنا اللفظ عام الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ، فقالوا: لا، "ال" هذه ليست للجنس، وإنما هي عهدية، الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً، وقوله: وَالزَّانِيَةُ التي هي فلانة التي سئلت عنها، لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فخصوا ذلك، والذين قبلهم خصوه بنوع وهو الزاني المحدود، وهؤلاء خصوه بحالة معينة أو بامرأة وقع الاستئذان بالتزوج منها، فسأل النبي ﷺ فنزلت الآية، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ولابن القيم -رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلام حسن في معنى هذه الآية، وإن لم يكن بمعنى واحد، وخلاصة كلام ابن القيم -رحمه الله- أن الله أمر بالعفاف والتزوج من العفائف فمن أقر بذلك وانقاد بقلبه، ولكنه لم يستجب عملياً فتزوج امرأة زانية، فإن ذلك إخلال بالكفاءة المطلوبة في عقد النكاح بين الزوجين، فالزواج باطل وهو يعاشرها بالزنا، واشتراط العفاف ذكره بعض أهل العلم، وهو منقول عن الإمام أحمد أن التزوج بامرأة تزني ولم تتب وإنسان عفيف لا يصح، فابن القيم حملها على العقد، يقول: إن تزوج إن عقد على امرأة عرفت بالزنا فهو إن كان مسلّماً بالحكم فهو زانٍ؛ لأن هذا العقد لا يصح، وإن كان غير مسلّم قال: أنا لا أعترف بهذا، وهذه حرية شخصية، ولا علاقة للدين بالزواج يقول: فهو مشرك، فهذه المرأة لا يجوز أن يتزوجها إلا من كان على شاكلتها، وهو الزاني، فلا يقدم على الزواج منها إلا من كان منكراً الحكم وهو التزوج من العفائف.
وهناك فرق بين هذا، وبين الكلام الذي قبله الكلام السابق في مسألة إن هذا من قبيل الخبر كما ذكره ابن كثير، هنا لا، هنا في التزوج وليس في المواقعة والوطء، معنى كلام ابن كثير أنه لا يقع عليها -يعني يفجر بها- إلا واحد على شاكلتها، وكلام ابن القيم يعني أنه لا يتزوجها بحيث يعقد عليها إلا إنسان ينكر هذا فهو مشرك، ينكر لزوم تزوج العفيفة، أو إنسان يقر بهذا ولكنه يحبها، وغلبه هواه فتزوجها فهو يعاشرها بالحرام فهذا زنا، والعقد باطل، فجملة "لا ينكح" محمولة على العقد، هذا خلاصة كلام ابن القيم.
ولفظة النكاح تأتي تارة يراد بها العقد فقط، وهذا ورد في القرآن في قوله: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ [سورة الأحزاب:49] فهذا نص صريح في إطلاق النكاح على مجرد العقد، وأكثر المواضع في كتاب الله هي في هذا المعنى فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [سورة النساء:25] يعني تزوجوهن، وأطلق على أكمل معانيه، وهو مجموع العقد والوطء، وهذا في قوله -تبارك وتعالى: فَلاَ تَحِلُّ لَهُ [سورة البقرة:230] المطلقة ثلاثاً، حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ولا يكفي لو عقد عليها آخر ثم طلقها، كما دل عليه الحديث: حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها[6]، لابد من الوطء مع العقد الصحيح حتى تحل للزوج السابق، فهنا أطلق النكاح "حتى تنكح زوجاً غيره" على أكمل معانيه، على مجموع الأمرين، ويرد في كلام العرب النكاحُ مراداً به الوطء فقط.
والأقرب أن تفسر الآية بنظائرها من القرآن إلا لقرينة، والإشكال الذي قد يرد على القول الآخر يمكن أن يجاب عنه فكلام ابن القيم -رحمه الله- فيه تخليص من هذه الإشكالات، حيث فسر النكاح بالتزوج، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فسرها بمعنى يختلف عن هذا، وله كلام طويل خلاصته يقول: إن الله -تبارك وتعالى- قال على أهل المنكر فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [سورة النساء:140]، وقال: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ وجيء لعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بأناس قد شربوا الخمر، وفيهم صائم فأمر بحدهم، فواحد منهم قال: أنا صائم، فقال: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: الزوج عشير، والعشرة بين الزوجين هي أبلغ العشرة، أعظم من مجالسة الصديق والصاحب، فالمرأة التي تبقى مع زوج وتعاشر زوجاً تعلم أنه يزني، يقول شيخ الإسلام: فلها حكمه -وهذا كلام قوي، لها حكمه؛ لأن الله قال: فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ، وقال: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ فلا يجوز لها أن تبقى معه، بل يجب أن تفارقه إذا لم يتب، وكذلك الرجل إذا علم من المرأة أنها تزني فلا يجوز له البقاء معها، بل يجب أن يفارقها فإن بقي معها فله حكمها ولو لم يكن يزني.
فأورد -رحمه الله- كلاماً في هذه المسألة يقول: الذي يزني تقل غيرته فلا يحتاط على المرأة، وقد ذُكر أن بعض النساء قالت لزوجها: هل ترضى أن أفعل مثلك؟ فقال: افعلي ما تريدين أنا لا أحجر عليك، فهذا شيء يرجع لكِ أنتِ، فشيخ الإسلام يقول: تقل غيرته فيكون ديوثاً نسأل الله العافية، ويقول: المرأة التي تعلم أن زوجها يزني يكون عندها نزعة انتقامية تجدون أنها تدفع لتنتقم منه، ولذلك تجد بعض النساء تفعل هذا وأحياناً تهم به، وتقول: أنا لولا الخوف من الله لأدبته، قد سمعت هذا كثيراً، هذا إذا كانت تخاف من الله، أما التي لا تخاف من الله فهي مثل زوجها يعاشر بالحرام منها -نسأل الله العافية.
ولذلك تجد في بلاد الكفار في بلاد الغرب حيث هذه الأمور تكون ظاهرة على السطح تجد الرجل يفجر وله صديقة، وصديق الزوجة وهي معه على صورة على الثلاجة، معلقة على الثلاجة، والزوج يراها صباحاً ومساء، يرى هذه الصورة -نسأل الله العافية- من هو هذا؟ هذا صديق الزوجة، فهذا خلاصة لكلام أهل العلم المتفرق في هذه المسألة، أما عباراتهم الكثيرة فهذا مما يطول ويمكن أن يرجع إلى ذلك في مظانه.
وهذا نوع من الزجر فكما أن الله أمر بمعاقبة الزانييْن بإقامة الحد، أمر بالمجانبة فالعفائف لا يتزوجن الزناة، وأهل العفة لا يتزوجون الزواني، فعندنا إذاً سبب النزول صح فيه الروايات، قصة عناق واستئذان النبي ﷺ التزوج منها، رجل استأذنه وهو أبو مرثد الغنوي في القصة المعروفة أنه كان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكان بمكة بغي يقال لها: عناق وكانت صديقة له، وكان وعد رجلا أن يحمله من أسرى مكة، وأن عناقَ رأته فقالت له: أقم الليلة عندي قال: يا عناق قد حرم الله الزنا فقالت: يا أهل الخباء هذا الذي يحمل أسراكم، فلما قدمتُ المدينة أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله أتزوج عناقَ؟ فلم يرد حتى نزلت هذه الآية: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً فقال رسول الله ﷺ: لا تنكحها[7]، وكذلك الذي استأذن النبي ﷺ لكي يتزوج أم مهزول وهي امرأة بغي، فهذا صح في سبب النزول لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والقول الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- وابن جرير ومن وافقهم قال به جماعة من الصحابة، ومن بعدهم فابن عباس صح عنه التصريح بأن هذا النكاح إنما المراد به الجماع، فيقول: النكاح هنا هو الجماع، وقال به كثير من أهل العلم، وهو اختيار ابن جرير، ودعوى النسخ لا تثبت، فالنسخ لا يثبت بالاحتمال.
وقدم الزاني في قوله: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً على الزانية، وفي الحد قدم الزانية فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، والسر في تقديم الزاني في الزواج إذا قلنا بأن الآية محمولة عليه كما هو قول ابن القيم -رحمه الله: هو أن الرجل سيد الموقف، فهو الذي يعقد ويخطب، فقدمه، فقال: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، يعني لا يتزوج إلا زانية، وفي الحد، قال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا يعني العلماء أجابوا عن ذلك إجابات متعددة، بعضهم قال: قدم الزانية في الحد باعتبار أن الزنا في ذلك الوقت أكثر في النساء، وهذا الكلام غير صحيح، وبعضهم يقول: قُدمت لأن معرّة الزنا في حقها أعظم من الرجل، تفضح نفسها وأهلها وعشيرتها، وتدنس الفراش، واختلاط النسب، وهذا له وجه.
وبعضهم يقول -وهذا لا يعارض ما قبله: لما كانت المرأة هي المبتدئة عادة قدمت، في الصحيح الرجل كيف يجترئ على المرأة أو يطمع فيها؟ كما قال الله : فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] إنما يطمع إن كان في قلبه مرض -المقصود به الميل المحرم إلى النساء- إذا رأى الإشارة منها، وهذه الإشارة قد تكون بالعبارة ترخيم تغنج في الكلام، أو بأمر آخر كالحركات والمشية، أو اللباس والحجاب؛ ولهذا قال: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [سورة النور:31] إلى آخر ما ذكر الله ، فالمرأة هي التي تجذب الرجل، وتستدعي ذلك منه، وهذا أجود ما ذكر في سبب هذا التقديم -والله أعلم.
وأيضاً في قوله -تبارك وتعالى: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشرِكٌ معنى التأكيد، يعني أنه من أجل ألا يُتوهم أن هذا الحكم موجه للرجل، وأنه مخاطب به، وإنما ذلك إلى المرأة، من الطرفين على حد سواء.
وقوله تعالى: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: تعاطيه والتزويج بالبغايا، أو تزويج العفائف بالفجار من الرجال.
وقال قتادة، ومقاتل بن حَيّان: حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا -وتَقَدّم ذلك- فقال: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وهذه الآية كقوله تعالى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [سورة النساء:25]، وقوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ الآية [سورة المائدة:5].
عبارات السلف وَحُرِّمَ ذَلِكَ الإشارة هنا تتوجه إلى أين؟ بعضهم يقول: وَحُرِّمَ ذَلِكَ هو على قولين فمن قال بأن المقصود بالآية: النكاح الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً، ثم قال: وَحُرِّمَ ذَلِكَ أي: التزوج بالبغايا، ومن قال المراد به الزنا، لا ينكح يعني لا يزني لا يطأ قال: وَحُرِّمَ ذَلِكَ أي الزنا.
ومن أهل العلم من حمل الآية على المعنيين وَحُرِّمَ ذَلِكَ قال: اسم الإشارة يحتمل؛ لأن الله تكلم عن الزنا قبلها الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ أي الزنا، فعبارة ابن كثير إذا نظرتَ فيها تجد أنه جمع بين القولين حرم ذلك أي الزنا والتزوج بالبغايا، ولهذا قال: أي تعاطيه تعاطي الزنا خاصة أنه حمل الآية أصلاً على أنّ "ينكح" من قبيل الإخبار، وأن المقصود بالنكاح الوطء، واضح؟ ولكنه حرم ذلك، أعاد الضمير، وهذا من تعميم المعنى وله نظائر.
وفي قواعد التفسير من هذا القبيل وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255] هل هو من علم الله أو علم ما بين أيديهم وما خلفهم؟ وأنه يحمل عليه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر:10] يرفع الكلم الطيب؟ أو يرفع العمل الصالح؟ قولان معروفان، قلنا: الآية تحمل على هذا وهذا، وكله صحيح، والمقصود أنه على القول بأن هذه الآية في العقد فإن ذلك يدل على تحريم تزوج العفيف من المرأة التي تزني أو الزانية التي لم تتب، ويحرم أن تتزوج المرأة برجلٍ فاجر يزني، والإمام أحمد يقول: العقد لا يصح، فإن وقع استتيب الرجل فإن تاب صح، وإن لم يتب فإنه لا يصح وأن معاشرتها له بالحرام.
ولا شك إذا كان هناك توبة من المرأة، زنت فتابت فيجوز أن تتزوج بل يجب عليها أن تتزوج بالعفيف ما تتزوج زانياً، والرجل إذا زنا وتاب فلا يجوز له أن يتزوج بزانية لم تتب، ويبقى الحديث الذي ورد في المحدود بأنه لا يجوز له أن يتزوج إلا زانية إلى آخره، في المحدود إن أقيم عليه الحد لا يتزوج امرأة عفيفة فهذا يحتمل أن يكون فيمن لم يتب، يعني أقيم عليه الحد لكنه ما تاب، فهذا الحد كفارة ولكن الرجل لم يتب، ولكنه عرف وظهر أمره فلا يتزوج امرأة عفيفة، ولكن من تاب تاب الله عليه، وأعظم ذلك الشرك بالله ، فإذا تاب الإنسان مُحي عنه الذنب، والله أعلم.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "والصواب: القول بأن هذه الآية محكمة يعمل بها لم ينسخها شيء، وهي مشتملة على خبر وتحريم، ولم يأت من ادعى نسخها بحجة ألبته، والذي أشكل منها على كثير من الناس واضح بحمد الله تعالى، فإنهم أشكل عليهم قوله: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً هل هو خبر أو نهي أو إباحة؟ فإن كان خبراً فقد رأينا كثيراً من الزناة ينكح عفيفة، وإن كان نهياً فيكون قد نهى الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة فيكون نهياً له عن نكاح المؤمنات العفائف، وإباحة له في نكاح المشركات والزواني، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعاً، فلما أشكل عليهم ذلك طلبوا للآية وجها يصح حملها عليه فقال بعضهم: المراد من النكاح الوطء والزنا فكأنه قال: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، وهذا فاسد فإنه لا فائدة فيه ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزنى إلا بزانية فأي فائدة في الإخبار بذلك، ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه.
ثم قالت طائفة: هذا عامُّ اللفظِ خاصُّ المعنى، والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة وهي عناق البغي وصاحبها فإنه أسلم واستأذن رسول الله ﷺ في نكاحها فنزلت هذه الآية، وهذا أيضا فاسد فإن هذه الصورة المعينة، وإن كانت سبب النزول فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه، ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها.
وقالت طائفة: بل الآية منسوخة بقوله:وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ [سورة النور:32]، وهذا أفسد من الكل؛ فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين ولا تناقض إحداهما الأخرى، بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى وحرم نكاح الزانية كما حرم نكاح المعتدة، والمحرمة، وذوات المحارم فأين الناسخ والمنسوخ في هذا؟
فإن قيل: فما وجه الآية؟ قيل: وجهها -والله أعلم- أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة، والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه، والإباحة قد علقت على شرط الإحصان فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله أو لا يلتزمه، فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه لم يصح النكاح فيكون زانياً، فظهر معنى قوله:الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً،وتبين غاية البيان وكذلك حكم المرأة.
وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة، ومقتضى العقل، فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانا ديوثا زوج بغى، فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا: زوج قحبة، فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك.
فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية والله الموفق"[8].
وقال الشنقيطي -رحمه الله: "قوله تعالى: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
قد قدمنا مراراً أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول، ذكرنا هذا في ترجمة الكتاب، وذكرنا فيما مضى من الكتاب أمثلة كثيرة لذلك، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة.
من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول، ذكرنا هذا في ترجمة الكتاب، وذكرنا فيما مضى من الكتاب أمثلة كثيرة لذلك، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك: أن العلماء اختلفوا في المراد بالنكاح في هذه الآية، فقال جماعة: المراد بالنكاح في هذه الآية: الوطء الذي هو نفس الزنى، وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: إن المراد بالنكاح في هذه الآية هو عقد النكاح، قالوا: فلا يجوز لعفيف أن يتزوج زانية كعكسه، وهذا القول الذي هو أن المراد بالنكاح في الآية التزويج لا الوطء في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحته، وتلك القرينة هي ذكر المشرك والمشركة في الآية; لأن الزاني المسلم لا يحل له نكاح مشركة، لقوله تعالى: وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [سورة البقرة:221]، وقوله تعالى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [سورة الممتحنة:10]، وقوله تعالى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، وكذلك الزانية المسلمة لا يحل لها نكاح المشرك؛ لقوله تعالى: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ، فنكاح المشركة والمشرك لا يحل بحال، وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح في الآية التي نحن بصددها الوطء الذي هو الزنى، لا عقد النكاح; لعدم ملائمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة، والقول بأن نكاح الزاني للمشركة، والزانية للمشرك منسوخ، ظاهر السقوط؛ لأن [سورة النور مدنية، ولا دليل على أن ذلك أُحل بالمدينة ثم نسخ، والنسخ لابد له من دليل يجب الرجوع إليه"[9].
هذا يذكر في أسباب النزول وليس بصريح؛ لأنه فعلاً هو سبب النزول قرأ عليه ﷺ وقد نزلت قبل ذلك، وهذا الجمع بين هذا وهذا في الرواية الأخرى الصحيحة في قصة مرثد الغنوي -ا- في التزوج من عناق، ذاك فيه التصريح بسبب النزول، قد تكون نزلت في مرثد، ثم جاء هذا يسأل في أم مهزول هذه فقرأ عليه ﷺ الآية.
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله ﷺ: لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله[11]، وهكذا أخرجه أبو داود في سننه.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النور:4، 5]، هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة، وهي الحرة البالغة العفيفة، فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضاً.
يقول الله : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ بين -تبارك وتعالى- حكم الزاني هذه الجريمة ما هي عقوبتها، وما ينبغي من التباعد لمن يواقع ذلك مِن ترْك التزوج من هؤلاء، وبين هنا حكم من رمى غيره بهذه الفاحشة من أجل أن تبقى الأعراض مصونة محفوظة، لا لهو فيه لا يتكلم فيها من شاء؛ لئلا يخف ذلك على الأسماع، ولهذا قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [سورة النور:19]، كما سيأتي، توعدهم فقال: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ومن إشاعة الفاحشة التحدث بها في المجالس، بل إن بعض أهل العلم يقول: إن الآية التي نسخ لفظها في حكم الزاني المحصن "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبته نكالاً من الله": الحكمة في نسخ اللفظ لتُنزَّه الأسماع وتصان عن هذا تزوج ويزني، هكذا قال بعضهم بغض النظر عن صحة هذا الاستنباط، وابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة ثم بين المحصنة فقال: هي الحرة البالغة العفيفة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ هناك من أجل إقامة الحد شروط لابد أن توجد، وبعض هذه الشروط متفق عليها، وبعض هذه الشروط مختلف فيها، وهناك شروط في القاذف، وهناك شروط في الكلام الذي يقال، ما ضابطه حتى يكون ذلك قذفاً؟ وهناك شروط في المقذوف.
فالقاذف يقول الفقهاء: لابد أن يكون عاقلاً بالغاً، فالمجنون إذا رمى غيره بالزنى رفع عنه القلم، وكذلك الصغير لا يقام عليه الحد لكنه يؤدب ويُنهى عن هذا، ويؤخذ على يده لكن لا يقام عليه الحد، وهذا لا إشكال فيه، والكلام الذي يعتبر قذفاً العلماء مختلفون في التعريض، بعضهم يرى أنه قذف كالإمام مالك -رحمه الله، وبعضهم لا يرى أنه قذف، والأقرب أنه يستفصل فإن أراد بها القذف فإن ذلك يكون قذفاً مثل عبارات الطلاق، كنايات الطلاق، تقصد الطلاق إذا كان كناية عن الطلاق.
فإن كانت العبارة صريحة القذف فإنه لا يقبل منه إن كان أراد شيئاً آخر، وإن كانت كناية يستفصل، وهذا قد يختلف باختلاف الأعراف في الكلام، قد يقول هذا الكلامَ إنسانٌ في بيئة لا يعد عندهم هذا من القذف، إنما يقصدون أن هذا إنسان قليل الخلق والأدب والدين لا ذمة له، وقد يكون في بيئة أخرى هذا الكلام يعتبر من القذف فتراعى مثل هذه.
ولهذا تجد بعض الحالات أحياناً التي يكون فيها دعوى قذف يطلب من هذا الإنسان المدعي أن هذا من قبيل القذف أن يأتي بما يثبت هذا في عرف القاذف؛ لأن القاذف قد ينكر هذا، ويقول: هذا عندنا في كلامنا هذا لا يعتبر من القذف، فيأتي بما يثبت ذلك، هذا قذف أو ليس بقذف؟ وليس بعرف المقذوف؛ لأن كلام كل متكلم يحمل على عرفه هو، وليس على عرف السامع إلا في كلام الله إن لم يوجد معنى شرعي فإنه يحمل على المعنى العرفي عرف المخاطبين في القرآن في زمن النزول في زمن النبي ﷺ.
فالشاهد أن الكلام الذي يقذف به هو الزنى صراحة وبعضهم يقول: اللواط، فلو قذفه بكناية يستفصل، أو بنفي نسبه من أبيه أبلغ، أو نفي نسب ولده منه، فلو قال واحد للبعيد لولد إنسان قال: هذا ولد حرام، يعني ولد زنى اتهام بالزنى لأمه، فمثل هذا يعتبر قذفاً، أما الشيء المقذوف: العلماء يذكرون فيه شروطاً، بعض هذه الشروط في إقامة الحد مثل أن يكون هذا المقذوف حراً؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ: من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال[12].
المقصود لا يقام عليه الحد في الدنيا، وهذا نقل فيه بعض أهل العلم الإجماع، فلابد أن يكون حراً، وليس معنى ذلك أنه يجوز له أن يقذف العبد، لا، وإنما لا يقام عليه الحد، واشترط أيضاً الفقهاء أن يكون المقذوف بالغاً، لكنهم اختلفوا لو قذف البنت التي يوطأ مثلها، وإن لم تكن بالغة يعني أن جسمها يمكن أن يوطأ وليست ببالغة، فبعضهم يرى أن هذا من القذف، وممن قال بهذا الإمام أحمد -رحمه الله، وكذلك أن يكون المقذوف مسلماً، وليس معنى ذلك أنه يجوز له أن يقذف الكافر أو الكتابي وإن اختلفوا في بعض الصور، لو قذف كتابية مثلاً وزوجها مسلم هذا سيرجع إلى عرضه هو متهِمٌ امرأتَه، إنسان يأتي ويقذف امرأة مسلم وهي كتابية فهذا يتضرر منه المسلم.
فبعض السلف قال: إن هذا يعتبر من القذف، مع أن الجمهور على أنه ليس من القذف، هو قذف لكن هل يقام به الحد الجمهور يقولون: لا، وبعضهم يقول: إن كان لها ولد مسلم؛ لأن هذا سيتضرر منه الولد، والجمهور على خلافه.
فالشاهد أنهم يشترطون الحرية، والإسلام، والبلوغ، والعقل، وأن يكون عفيفاً من هذه التهمة التي رُمي بها، يعني لو أنه قذف امرأة معروفة بالزنا أصلاً لا يقام عليه الحد، وليس معنى ذلك أن الإنسان له أن يطلق لسانه ويتكلم في أعراض الناس ويقول هذه ما هي مسلمة، هذه فاجرة، وهذه امرأة رقاصة، وهذه كذا، وهذه كذا، هذا أمر لا يكون من المؤمن، فالمسلم ليس بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء، فمجموع هذه شروط تسعة مقسمة على هذه الأقسام القاذف والمقذوف، والمقذوف به على خلاف في التفاصيل، على خلاف في بعضها.
ومسائل أخرى تتعلق في هذا مثل العبد لو قذف الحر، الله يقول: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً في الزنا قال: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [سورة النساء:25]، لو أن هذه الأمَة أو العبد قذف حراً هل يقال: عليه نصف ما على الحر من العذاب؟ عامة أهل العلم يقولون: نعم، قياساً على حد الزنا، فلنزول مرتبته خفف عنه الحد مع أن هذا ليس محل اتفاق -والله تعالى أعلم.
وهناك مسائل كثيرة لسنا بصددها، وابن كثير يقول: هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة، ذكر ثلاثة شروط: حرة، بالغة، عفيفة، وما ذكر العقل ولا ذكر الإسلام، فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد، هذا الآن جواب يعني على سؤال، وهو قوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ لو قال قائل: مفهوم المخالفة: الذين يرمون المحصنين إذاً لا ينطبق عليهم هذا، المحصنات صفة، هذا مفهوم صفة، ومفهوم الصفة معتبر.
فابن كثير يقول: الرجل مثل المرأة لا فرق، وخص المحصنات بعض أهل العلم يقول: خص المحصنات؛ لأن قذفهن أشنع، قذف المرأة أعظم من قذف الرجل، وبعضهم يقول: إن المراد هنا بالمحصنات أي النفوس المحصنات، وبعضهم يقول: الفروج المحصنات، وهذا لا يخلو من تكلف، وإنما المحصنات: النساء المحصنات كما قال الله -: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [سورة النساء:25] لكن لما كان ذلك أشد في النساء ذكر النساء، وإلا فالرجال كذلك إذا قذف رجلاً.
فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضًا، فإن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله، رُدّ عنه الحد؛ ولهذا قال تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ المجالدة: أصل ذلك يقال جلد وكذا هو ضرب الجلد، أو الضرب بالجلد، ثم صار ذلك يُتوسع في الاستعمال فيه وصار يقال: للضرب بالعصا وبالسيف تقول: مجالدة والسيوف: لجالدونا عليها بالسيوف، فكل ذلك يقال له: جلد لو كان بسوط أو بعصا أو نحو ذلك فلا إشكال، كل ذلك يقال له: جلد.
فأوجب على القاذف إذا لم يُقم بينة على صحة ما قاله ثلاثة أحكام:
أحدها: أن يجلد ثمانين جلدة.
الثاني: أنه ترد شهادته دائما.
الثالث: أن يكون فاسقًا ليس بعدل، لا عند الله ولا عند الناس.
ثم قال تعالى: إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، هذا الاستثناء: هل يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة؟ أما الجلد فقد ذهب وانقضى، سواء تاب أو أصر، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف، فإذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق، ونص عليه سعيد بن المسيب -سيد التابعين- وجماعة من السلف أيضًا.
وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب، إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته، والله أعلم.
الاستثناء الذي تعقّب جملاً مثل هذا الموضع ثلاث جمل فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة النور:4] فالجمهور في الاستثناء الذي تعقّب جملاً -وهذا أحد التطبيقات فيه- يقولون: إنه يرجع إلى هذه الجُمل كلها إلا ما دل الدليل على استثنائه، وأبو حنيفة يرى أنه يعود للجملة الأخيرة، هذه مسألة أصولية، يرى أنه يعود إلى الأخيرة وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا في هذا المثال وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إذاً يرتفع عنه حكم الفسق لكن شهادته ولو تاب لا تقبل، ومسألة الحد هذه بلا إشكال.
وإذا تاب قبل الحد فإن الحد يرتفع عنه، والتوبة تنفعه فيما بينه وبين الله ، ويقام الحد إذا بلغ السلطان، كذلك إذا كان الحد قد أقيم ثم تاب، فهذه الجملة الأولى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً غير داخلة في هذا الاستثناء إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا بقي عندنا اثنتان، فالجمهور يقولون: كل ذلك داخل فيه لا تقبل شهادته، ويحكم عليه بالفسق إلا إذا تاب، وأبو حنيفة يقول: حكم الفسق يرتفع والشهادة لا تقبل؛ لأن هذا الاستثناء يرجع إلى ما قبله فقط.
ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك لا يقال: إنه يرجع للجميع، وإنما تارة يرجع إلى الأول، وتارة يرجع إلى الأخير، وتارة يرجع إلى الجميع وهو بحسب القرينة، ولكن هذا الكلام عند التحقيق -والله أعلم- فيه نظر، فإنه ما رجع فيه إلى الأول فقط أو إلى الأخير فقط فإن ذلك بحسب القرائن لكن الكلام فيما يخلو عن قرينة مثل هنا، القرينة دلت على أن الأول لا يسقط يعني الحد، بقي الثاني والثالث ما عندنا قرائن فنقول: يحمل عليها في الأصل، أما ما دلت عليه القرينة فلا إشكال أنه يلجأ إلى ما دلت القرينة عليه، فإن دلت على أنه يرجع للأخير يلتزم بهذا وإن دلت على أنه يرجع للجميع فإنه يعمل بمقتضاه، قال: "ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف، فإذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق نص عليه سعيد بن المسيب وجماعة من السلف"، هذا الذي عليه الجمهور، والأئمة الثلاثة وجمع من الصحابة فمن بعدهم، عامة أهل العلم والسواد الأعظم يقولون: إذا تاب ارتفع عنه ذلك جميعاً إلا الحد، ولا يختص ذلك بالجملة الأخيرة وهذا منقول عن عمر بن الخطاب وجماعة كبيرة.
وقال: يقول الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب، إلا أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته إلى آخره، الله قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وشروط التوبة معروفة: الندم، والعزم ألا يعود، والإقلاع، إضافة إلى الشروط التفصيلية بحسب الذنب الذي وقع فيه إن كانت حقوقاً للناس يرد هذه الحقوق، وتفاصيل في مسألة الحقوق المعنوية أو الغيبة، أو هل يعتذر منهم ويتحلل أو يستغفر لهم؟ تفاصيل طويلة.
فمن هذه الشروط الزائدة في المسألة -في شروط التوبة- ما ذهب إليه بعض السلف أنه لابد في مسألة القذف من أن يكذب نفسه، وأن توبته لا تصح بمجرد الندم والعزم ألا يعود، والإقلاع على ألا يعود، بل لابد أن يكذب نفسه، وأنه كذَب عليه، أحياناً يكون شاهدٌ رأى هذا وشاهَده قد يكونون أربعة ويرجع واحد فيبقي ثلاثة مثل الذين قذفوا المغيرة بن شعبة تلكأ واحد في النهاية فأقيم عليهم الحد فعمر قال لأبي بكرة -وهو أحد هؤلاء: إن أكذبت نفسك قبلت شهادتك، فكان عمر بن الخطاب إضافة إلى مَن ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- والضحاك والشعبي، وهو منقول عن طاوس- على أنه لابد أن يكذب نفسه، وأن هذا الشرط زائد من شروط التوبة العامة في مسألة القذف، لابد أن يكذب نفسه وإلا ما تصح توبته، ولا يرتفع عنه الحكم والفسق، ولا تقبل شهادته.
مع أن عامة أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم الجمهور يقولون: إنه يكفي أن يندم ويعزم ألا يعود إليها، ولكن لا يلزم أن يقول: أنا كذبت عليه، وكيف يكذب نفسه بشيء قد شاهده لكنه ما استوفى شروط الشهادة؟ ما استطاع أن يأتي بالأربعة فكيف يقول على نفسه: إنه يكذب؟ على قول عمر ومن وافقه يرِد عليهم هذا السؤال كيف يكذب نفسه في شيء قد شاهده؟ فيجيبون عن هذا ويقولون: إن هذه الشهادة لما كانت قاصرة عما يجب من الشهود الأربعة في الشهادة المفصلة كانت غير معتبرة شرعاً، شهادة باطلة كاذبة لا يعتد بها، ولا يبنى عليها حكم لا إقامة حد على هذا المتهم، ولا يتدنس عرضه بذلك، ولا يلحق به توبة، فهي باطلة كاذبة يجب أن يكذب نفسه؛ لأنه ما استوفى، لأنه ما استطاع أن يحقق ما أمر الله به، بهذا الاعتبار، وعامة أهل العلم يقولون: لا يشترط ذلك، أما إن كان قد قذفه بباطل وزور، كذَب أو ما تثبت أو نحوه فهذا يجب عليه أن يكذب نفسه بشروط التوبة؛ لأن الله يقول: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ويذكر الإصلاح "أصلحوا" فمن الإصلاح في مسألة القذف إذا كان ذلك بشيء لم يتثبت به، أو قال كذباً أنه يجب عليه أن يبين، أن يقول: إن هذا من شروط توبته، والله أعلم.
- رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان، برقم (4376)، والنسائي، كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون، برقم (4886)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2954).
- رواه أحمد في المسند، برقم (15592)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير زياد بن مخراق: وهو المزني، فقد روى له البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود، وصحابيه أخرج له البخاري في "الأدب المفرد" وأصحاب السنن".
- رواه أحمد في المسند برقم (15592)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير زياد بن مخراق: وهو المزني، فقد روى له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وصحابيه أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن، وبرقم (20363)، وقال محققوه: إسناده صحيح، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (46).
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة، برقم(4941)، والترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في رحمة المسلمين، برقم (1924)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3522).
- رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، برقم (75)، وأحمد في المسند، برقم (22528)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2437).
- رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (14730).
- رواه النسائي، كتاب النكاح، باب تزويج الزانية، برقم (3228)، والحاكم في المستدرك، برقم (2701)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، (6/ 296)، برقم (1886).
- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم(1/ 65-66).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (5/ 417-418).
- رواه أحمد في المسند، برقم (6480)، وقال محققوه: "حسن، وهذا إسناد ضعيف لجهالة الحضرمي شيخ سليمان بن طرخان والد معتمر"، وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل (6/ 297).
- رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً، برقم (2052)، والحاكم في المستدرك، برقم (2700)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2444).
- رواه البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب قذف العبيد، برقم (6466)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب التغليظ على من قذف مملوكه بالزنى، برقم (1660).