بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى:
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [سورة النور:12، 13].
هذا تأديب من الله للمؤمنين في قضية عائشة -ا- حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السيئ، وما ذكر من شأن الإفك، فقال: لَوْلا بمعنى: هلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أي: ذلك الكلام، أي: الذي رميت به أم المؤمنين ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا أي: قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى.
وقد قيل: إنها نزلت في التأسي بقول أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته -ا- كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار أن أبا أيوب خالدَ بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة -ا؟ قال: نعم، وذلك الكذب، أكنتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنتُ لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك، قال: فلما نزل القرآن ذكر الله ، مَنْ قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [سورة النور:11] وذلك حسان وأصحابه، الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الآية، أي: كما قال أبو أيوب وصاحبته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "بمعنى هلا"، لَوْلا هذه تأتي للتحضيض، وتأتي ويراد بها التبكيت، والفرق بينهما أنها إن جاءت في أمر يمكن استدراكه فإنها تكون للتحضيض، أو في أمر يستقبل تقول مثلاً لولا تشتغل بطاعة الله من أجل أن تسعد، لولا بررت والديك لتُأجر، هذا في أمر مستقبل، وفي الأمر الماضي إن كان يمكن استدراكه فهي أيضاً للتحضيض، وإن كان الأمر قد فات، ولا يمكن استدراكه فإنها تكون للتبكيت فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ [سورة هود:116] هذا أمر انتهى، وأهلكت تلك الأمم فهذا للتبكيت، وليس للتحضيض، وهنا لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا، يحتمل أن يكون ذلك للتحضيض، هلا ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، إذا قلنا هذا الأمر يمكن استدراكه ونحو ذلك.
وقوله: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: "أي: قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى"، بمعنى أن الإنسان في مثل هذه المقامات يرجع إلى نفسه، فيقول: لو كنت مكانها، لو كنت مكان صفوان، هل يمكن أن يصدر مني مالا يليق؟ فإذا قال: حاشا وكلا، فإنه ينتقل من نفسه إلى إخوانه، ويقول: وكذلك فلان، وكذلك عائشة فهي خير مني، ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا فيكون المراد بأنفسهم أي بذواتهم، فإذا ظن بنفسه خيراً رجع من ذلك إلى إخوانه فليس بأفضل منهم، لا يزكي نفسه عليهم فيقول: أنا ما أفعل وهم يفعلون! هذا المعنى الأول.
والمعنى الثاني: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا أي: ظنوا بإخوانهم خيراً، وعبر عن هذا بالنفس؛ لأن النفوس المجتمعة على الإيمان تنزل منزلة النفس الواحدة، فالله يقول عن بني إسرائيل: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85] أي: يقتل بعضكم بعضاً، وهكذا في قوله: فَاقْتُلُوا أنْفُسَكُم ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54] ليس معناه كل واحد يقتل نفسه، وإنما ليقتل بعضكم بعضاً، وهذا الذي حصل.
وهكذا أيضاً في قوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188] يعني: لا يأكل بعضكم مال بعض، وهنا قال: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ أي: بإخوانهم فهم بمنزلة النفس الواحدة فهذان معنيان، والآية إذا كانت تحتمل معنيين فأكثر ولا يوجد مانع من حملها على هذه المعاني فإنها تحمل على ذلك جميعاً، ولا يوجد مانع.
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا ظنوا بإخوانهم، ويكون ذلك متوجهاً إلى إخوانهم مباشرة، والإنسان مطالب بأن يحسن الظن بإخوانه، وكذلك لو أنه رجع إلى نفسه وأحسن الظن بها، فينبغي أن يحسن الظن بهم، فما الفرق بينه وبينهم؟ عائشة -ا- أفضل من هؤلاء النساء اللاتي في ذلك المجتمع، فمن تكلم منهن كحمنة أو غيرها فينبغي أن ترجع إلى نفسها قبل أن تتكلم، تقول: عائشة خير مني، إذا كنت أنا لا أفعل هذا فعائشة من باب أولى، والظن هنا ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا ظن بنفسه خيراً بمعنى أنه أحسن الظن بها، ظنوا بإخوانهم خيراً أي: أحسنوا الظن بإخوانهم.
هذا ما يتعلق بالباطن: أي: ما يتصل بالقلب، فالظن الحسن حسن والسيئ سوء، هذا مما يتعلق بالقلوب، وإن لم ينطق به الإنسان، اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا [سورة الحجرات:12] فالظن يتصل بالقلب، والتجسس يتصل بالجوارح، فإذا أساء الظن فإن هذا الظن السيئ الذي يقع في قلب الإنسان لا يؤخذ عليه؛ لأنه قد يقع من غير قصد لكن عليه أن يعمل على إحسان الظن، لكن إن رتب عليه أحكاماً أو آثاراً، فتكلم بكلام سيئ أو حاول أن يتجسس أو نحو ذلك فهنا لا يعذر، لكن الآن في قوله تعالى: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا على المعنى السابق الذي مفاده أن يرجع إلى نفسه فيقول: أنا لا أفعل ذلك إذاً فلان مثلي، أو أفضل مني، فهو لا يصدر منه مثل هذا، لكن ظن بإخوانه خيراً قد يقول قائل: إن الظن يقع في نفس الإنسان من غير قصد ولا تطلب، والظنون حسنة أو سيئة فكيف يطالب الإنسان به؟!
والجواب أن الخطاب إذا توجه إلى المكلف بشيء غير مقدور عليه فإنه ينصرف إلى سببه أو إلى آثاره، فالرأفة في قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [سورة النور:2] رحمة رقيقة تقع في قلب الإنسان من غير قصد، فلا يأثم إذا رأى أحداً يقام عليه الحد فوقع في قلبه رأفة نحوه؛ لأن ذلك غير مقدور، فالخطاب إذاً يتوجه إلى الأثر بتخفيف الحد أو بالغائه، تخفيفه في العدد أو في الصفة: ضرب خفيف تحلّة قسم.
وهنا ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا فيحتمل أن يكون الظن هذا وهذا، بل إنه يدخل فيه هذا وهذا -والله تعالى أعلم- في هذا المثال، فهو مطالب بأن يحسن الظن بإخوانه، ومن وسائل حسن الظن أن يرجع إلى نفسه ماذا قال؟ هذا لا يصدر مني، فإنه يرجع إلى إخوانه ويصحح نظره بالتماس الأعذار، وأما بالنسبة للأثر فلا يتكلم ولا يتحسس ولا يتجسس فإن ذلك يعقب الظنون السيئة، لكن لو قال إنسان أنا واقع في نفسي ظن سيئ لكن من غير قصد ولم أتكلم بشيء من هذا، ساء ظني بفلان، فلا يحاسب عليه، إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم[1]، فالله يعلمهم كيف يحسنون، يعلمهم كيف ينظرون لإخوانهم، وقالوا بأفواههم: وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ.
وَقَالُوا أي: بألسنتهم هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ أي: كذب ظاهر على أم المؤمنين، فإن الذي وقع لم يكن ريبة، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جَهْرَة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله ﷺ بين أظهرهم، لو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جَهْرَة، ولا كانا يُقدمان على مثل ذلك على رءوس الأشهاد، بل كان يكون هذا -لو قُدر- خفية مستورا، فتعيَّن أن ما جاء به أهل الإفك مما رَمَوا به أم المؤمنين هو الكذب البحت، والقول الزور، والرُّعُونة الفاحشة الفاجرة والصفقة الخاسرة.
قال الله تعالى: لَوْلا أي: هلا جَاءُوا عَلَيْهِ أي: على ما قالوه بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يشهدون على صحة ما جاءوا به فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ أي: في حكم الله كاذبون فاجرون.
قوله:هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ الإفك هو الكذب المختلق، قيل له إفك، وأصل الإفك من القلب، إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ فهذا قلب للحقيقة، أشد الكذب والبهتان يقال له: الإفك، وقالوا هذا إفك مبين أي: بيّن ظاهر لا خفاء فيه، فإن عائشة -ا- زوج رسول الله ﷺ أطهر بيت، وفي هذا السفر في أفضل موكب، وسفر طاعة في غزوة، وصفوان بن المعطل من أصحاب رسول الله ﷺ، ومن الأخيار، وممن شهد بدراً، ثم بعد ذلك يأتي من يتكلم ويقول ما قال.
وقوله: تأديباً لهم وتعليماً وتبكيتاً، لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وقد يقول قائل الآن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ، ومن هؤلاء عبد الله بن أبي، وحسان، ومسطح، وحمنة، وذكر بعض أهل السير آخرين فهؤلاء مجموعة فقد يقول القائل: هؤلاء ما يكفي أن يكون عددهم أربعة أو أكثر خاصة أن بعضهم قال: عشرة، وبعضهم قال: أكثر من هذا؟
فيقال: هؤلاء على نوعين ليس فيهم شاهد واحد، فبعضهم كان قاذفاً، والقَذَفة قد يكونون ألفاً فيحتاجون إلى أربعة شهود، لابد من أن تميز بين المدعي أيًّا كانت دعواه -فقد تكون قذفاً، وقد تكون غير ذلك- وبين الشاهد، فقد يدعي مائة شخص دعوى ولو قيل لهم: هاتوا الشهود -وقد تكون القضية مما يتطلب شاهدين- يقولوا: ما عندنا شهود، فهؤلاء على نوعين نوع هم من القذَفَة مثل عبد الله بن أبي، ومن حدهم رسول الله ﷺ.
واختلفوا في عبد الله بن أبي، والمشهور أنه ما أقيم عليه الحد، وإن كان بعضهم يقول: أقيم عليه، لكن لا يثبت في هذا شيء، تركه رسول الله ﷺ، بعضهم قال: إنه لم يتكلم بكلام يصرح ويفصح فيه عما يمكن أن يقام عليه الحد بسببه، إنما كان ينكر هذا، ويستخرجه من الناس وما أشبه ذلك حتى إنه جاء في بعض الروايات -لو صحت- عن مسطح أنه حلف لأبي بكر أنه ما قال: واعتذر إليه، وحسان في بعض أشعاره يعتذر لعائشة -ا، وأن ما نسب إليه لا يصح، وأنه ما قاله ولا تفوه به.
فالشاهد أن الذين حدهم النبي ﷺ حمنة وحسان ومسطح، هؤلاء هم القذفة، وهناك فرق بين من ينقل فيقول: فلان يقول: كذا، وبين من يقذف يقول: فلان فجر، زنى، فهذا قاذف، لكن الذي ينقل الكلام عن غيره فهذا لا يعتبر قاذفاً، فهو يقول: أنا ناقل، وناقل الكفر ليس بكافر، والأصل أنه لا يجوز له أن ينقل؛ لأن الله يقول: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا، وقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ، فينبغي أن يمسك لسانه.
وهنا الكلام على مسألة القذف الآن لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءقد يستشكل البعض فيقول: هؤلاء أربعة أو أكثر فكيف قال الله: بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء؟ فيقال: هؤلاء أدعياء هؤلاء القذفة، وبعضهم ينقل الحديث ليس عندهم شاهد واحد، ولذلك أحيانا القضية قد تكون حقًّا لكن لا يوجد فيها شهود.
فأهل الحسبة مثلاً في القضية التي تحتاج إلى شاهدين قد يكونون ثلاثة في مكان في سوق فيتطاول عليهم إنسان ويسيء إليهم، ويشتمهم ويصدر منه ما لا يليق، هذا الكلام لو ثبت عند القاضي عليه، فيما يتصل بحقهم أو بحق غيرهم فإنه يعاقب، ولو شتم إنساناً فقال لآخر بعيد: كلب، أو كلمه نحو ذلك أو حمار، فالمسألة ليست مسألة قذف فقط، لو قال مثل هذه الكلمات وشهد عليه اثنان فإنه يعزر بما يراه القاضي الجلد أو بغير ذلك، فأعراض الناس مصونة ومحفوظة.
فإذا كان الجرم بهذه المثابة في القذف في العرض، فإن هذا ليس بالأمر السهل في ذهاب الشرف، وإذا تُرك الناس يتكلمون فيمن شاءوا ويتطاولون فلن يسلم أحد، لا من هو في أعلى المنازل والرتب في المجتمع، ولا من هو دونه، فلابد من رادع يحفظ الألسن، فكما أن الفاحشة الله جعل عليها سياجاً كتحريم النظر، والخضوع بالقول إلى آخره، فكذلك حفظ الأعراض، فلا يتكلم بها أحد ولا يتطاول عليها أحد فيبقى المجتمع نظيفاً مصوناً.
فالشاهد هنا أن هؤلاء ليس فيهم شاهد، فقد يأتي هؤلاء مثلاً يريدون أن يثبتوا عليه فيكتبوا للمحكمة في المحضر أن فلاناً قد قال كذا وكذا، وكذا، وكذا ووقع عليه الثلاثة، إذا جاءت عند القاضي فسيطلب منهم إحضار الشهود، ولا ينفع كونهم ثلاثة؛ لأن هذه دعوى من هؤلاء الثلاثة، ولذلك فإن الطريق الصحيحة في هذا أن الذي يكتب المحضر واحد يصير هو المدعي، واثنان شهود، هذا المدعي ونحن الشهود، فيُدان هذا الإنسان بهذه الطريقة، هذا الصحيح، ولكنه يُغفل عنه كثيراً فتضيع الحقوق في المقامات التي لا يشهدها ولا يحضرها إلا هؤلاء، ولا يوجد فيها أطراف آخرون حتى يشهدوا، وقد يوجد مجموعة من الفسقة أو المستهزئين هم من أعوان وأصحاب هذا المستخف الذي أساء، فلا يشهد منهم أحد.
وقال: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ فأولئك: تعبير باسم الإشارة للبعيد، والفصل بين طرفي الكلام بالضمير المنفصل "هم" ودخول "ال" على قوله: "الكاذبون" كل ذلك يشعر بالحصر كأنه حصر الكذب في هؤلاء، يعني كأنهم هم حصلوا الوصف الكامل من الكذب، فهو ينادي عليهم باسم الإشارة للبعيد، فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ ولم يقل: فأولائك عند الله الكاذبون، ولم يقل: فهؤلاء عند الله كاذبون وإنما قال: فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ فإذا أردت أن تقوي الكلام فأدخل بين طرفيه ضمير الفصل مثل: زيد كاذب، زيد هو الكاذب، فالأخيرة أقوى.
توبة القاذف: الجمهور على أن القاذف يكفي أن يندم، ويتوب؛ لأنه ما كان ينبغي له أن يقدم على هذا إلا وعنده أربعة شهود، وإلا فلم نضطر إلى أن نتكلم في أعراض الناس، فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء يعنى الأربعة فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ عمر كان له مذهب معروف وهو أن توبة الكاذب لابد فيها من أن يكذب نفسه، ومن شروط التوبة من القذف عند عمر أنه لابد من أن يكذب نفسه، يقول: إنه كذب، حتى لو كان هو يعلم أنه صادق.
أحياناً في غير هذا المثال يأتي إنسان قذف وشاهد بعينه، قد يوجد شهود أربعة ويرجع واحد فيقام عليهم الحد، فعمر كان يري أنه يجب أن يكذب نفسه، ولهذا قال لأبي بكرة وكان أحد الشهود الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وكانوا أربعة وتراجع واحد، فعمر قال لأبي بكرة وهو أحد هؤلاء الشهود: إن أكذبت نفسك قبلت شهادتك؛ لأن الله قال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ [سورة النور:4، 5]، فإذا قلنا: إن هذا شرط في توبته أن يكذب نفسه فمعنى ذلك أنه يثبت عليه الحكم بالفسق ولا تقبل شهادته، فهذا مذهب عمر .
وابن القيم -رحمه الله- أخذ من قوله: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء يعنى الأربعة فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ حتى لو كان هذا الإنسان عند نفسه أنه صادق وشاهد بعينه فلا يجوز له أن يتكلم بهذا، فإن فعل فهو عند الله من الكاذبين؛ ولذلك يقول: إن هذا الذي قذف كاذب عند الله -تبارك وتعالى، وإذا تاب فيجب أن يكذب نفسه؛ لأنه كاذب عند الله.
لكن يبقى أن هذا الذي قذف وشاهد بعينه قضية من القضايا هو يحكم عليه بأنه كاذب، لكن الكاذب هل يجب عليه أن يكذب نفسه؟ وهل يقال هذا من توبته أو لا؟ يقال: بحسب القضية، فإذا كان يترتب على هذا تلطيخ الأعراض وتلويث السمعة وما أشبه ذلك فإن من توبته أن يبين؛ ليرفع الآثار السيئة للذنب، وإذا كان لم يترتب على هذا إلحاق ضرر بأحد بسبب هذا الكذب فإنه يكفى أن يندم، ويعزم على ألا يعود، فهذه القضية يُترتب عليها يعني له أن يجيب بهذا الجواب.
والجمهور يقولون: لا يجب أن يكذب نفسه إن كان يعلم أنه صادق، لكن أجريت أحكام الدنيا على الظواهر فيطالب بالشهود من أجل إثبات الأحكام، وقد يكذب هؤلاء الشهود، وقد لا يوجد شهود فيضيع الحق إن لم تكن بينة، لكن هذا لابد منه من أجل ضبط حياة الناس، والذي يعلم حقائق الأمور هو الله -تبارك وتعالى- فعلى الإنسان أن يمتثل.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [سورة النور:14، 15].
يقول تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أيها الخائضون في شأن عائشة بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا، وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة، لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ، من قضية الإفك، عَذَابٌ عَظِيمٌ، وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه، كمِسْطَح، وحسان، وحَمْنةَ بنت جحش، أخت زينبَ بنت جحش، فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه، فليس أولائك مرادين في هذه الآية؛ لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه، وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين، يكون مطلقًا مشروطا بعدم التوبة، أو ما يقابله من عَمَل صالح يوازنُه أو يَرجح عليه.
هذا الخطاب للمجتمع بعمومه في ذلك الوقت يقول الله : وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فالخطاب كما في قوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ولَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ... لا يختص بالقَذَفة، وإنما كل من ألقى السمع، أرخى السمع لمثل هذه الأكاذيب والفِراء، وكل من تكلم فيها وأطلق لسانه، وهؤلاء كثر سواء كانوا أصحاب الإفك الذين قذفوا، أو من نقل، أو من سمح لنفسه أن يستمع لمثل هذا الكلام، ويدار في المجالس فكل هؤلاء يدخلون في هذا الخطاب.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ نزلت عقوبة بهؤلاء، ومن ثَمّ فلا نحتاج إلى أن نستثني عبد الله بن أبي رئيس المنافقين من أجل أن نستشكل تقول: هذا هل هو مستحق لفضل الله ورحمته، ومن ثم فلا يمسه العذاب في الدنيا والآخرة؟ فالله يؤدب المؤمنين ويبين فضله عليهم، فهذه القضية التي استفاضت في المجتمع وتحدث الناس فيها وتناقلوها كان ينبغي أن توءد في مهدها، ولا يسمح لمثل عبد الله بن أبي أن يتكلم بمثل هذا، لكن عبد الله بن أبي وجد آذاناً أصغت إلى كلامه، وألسناً تُفشي مثل هذا فذاعت مقالة السوء.
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ... فهذا ليس فقط في القذفة، فالكلام على المجتمع بأكمله من حيث إنه استمع لمثل هذا، أو نقله أو نحو ذلك فإذا عرفنا هذا المعنى فما نحتاج أن نستثني عبد الله بن أبي، فهو تأديب للمجتمع لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا فيقطع دابر الشر، ولا تنتشر مقالة السوء، ولا تجد من يصغي إليها إذا كان المجتمع نظيفاً تلقى تربية صحيحة.
فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين يكون مطلقاً مشروطاً بعدم التوبة أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه أو يرجح عليه"، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ يعني: إن الذي منع من العقوبة هو فضل الله ورحمته.
لكن هذا الكلام الذي يذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يحتاج إليه ليس في هذا الموضع، يحتاج إليه عند قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنيَا وَالْآخِرَةِ هذا موضع الإشكال، لعنوا في الدنيا والآخرة فهنا قد يقول قائل: هؤلاء معهم من أهل الإيمان كحسان ومسطح وحمنة، فكيف نوجه هذا؟ فهنا يقال الكلام الذي ذكره ابن كثير: وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين يكون مطلقاً مشروطاً بعدم التوبة، أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه، أو يرجح عليه.
وسيأتي الكلام على الآية في موضعه -إن شاء الله، وشيخ الإسلام -رحمه الله- له كلام في اللعن الوارد أو الوعيد على عمل معين، وأن هذا لا يتنزل على الأفراد، إما لفقد شرط أو لوجود مانع.
ثم قال تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ قال مجاهد، وسعيد بن جبير: أي: يرويه بعضكم عن بعض، يقول هذا: سمعته من فلان، وقال فلان كذا، وذكر بعضهم كذا.
قوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ "إذ" ظرف متعلق بأفضتم، أي "لمسكم فيما أفضتم فيه إذ تلقونه بألسنتكم" أَفَضْتُمْ فِيهِ، هذه الإفاضة التي هنا بمعنى إفشاء ذلك ونشر هذه المقالة، والتوسع في هذا والتكلم به، فهذا معنى أفضتم، وقد يرد هنا سؤال هو أن الله قال: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ التلقي معروف أنه بالسمع وليس باللسان فكيف قال الله -تبارك وتعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ؟ فيمكن أن يجاب على هذا بأن هذا يمكن أن يوجه بأحد أمرين:
الأول: أن هذا فيه كناية عن الإسراع في الإفشاء، والنشر فكأنه لا يقع على الأسماع، وإنما مباشرة يقع على اللسان إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ.
والثاني: أنه عبر عن ذلك بالغاية فهو يسمع لينقل، فصار كأنه يتلقى بلسانه لمّا كان الاستماع يقصد منه النشر ويفضي إليه عبر عن ذلك بما ذكره الله : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وهذا من دقة تعبير القرآن، ويدل على سرعة نشر هذه المقالات السيئة، هذا يأتي ذاك، المجتمع مجتمع محدود، والمدينة صغيرة جداً، هذا المجتمع الطيب رباهم النبي ﷺ، فكيف بمن بعدهم كعصرنا هذا عصر الفضائيات والإنترنت وغير ذلك من الوسائل كالجوال انشر تؤجر.
فهذه مشكلة، الإنسان لا ينشر ولا ينقل ولا يكتب إلا ما يتثبت به، وتجد المسارعة في نقل الخبر سبق في منتدى الإنترنت أو ساحة أو غير ذلك، ولم يتثبت من هذا أصلاً، أما الفضائيات فحدث ولا حرج تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ والإنسان يتثبت ويستوثق وكم من الأكاذيب تنشر وتغيير الحقائق، والكذب على الناس، وإذا تتبع الإنسان ونظر وجد أن هذا لا أصل له، وأنه كذب مختلق، فإذا كان هؤلاء ينشرون بالوسائل العادية جداً -ينقل في المجالس، وهذا العتاب فكيف بالذي يكتب ويقرؤها من في المشرق والمغرب مباشرة بعد كتابتها؟! الله المستعان.
وقرأ آخرون: إِذْ تَلِقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ وفي صحيح البخاري عن عائشة: أنها كانت تقرؤها كذلك[2]، وتقول: هو مِنْ وَلْق القول، يعني: الكذب الذي يستمر صاحبه عليه، تقول العرب: وَلَق فلان في السير: إذا استمر فيه، والقراءة الأولى أشهر، وعليها الجمهور، ولكن الثانية مَرْويَّة عن أم المؤمنين عائشة.
هذه القراءة ليست متواترة، إِذْ تَلِقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ أصل التلقي هو التكلف للقاء الغير أما تَلِقُونه فقالوا هو الإسراع في الشيء، يقال ذلك للإسراع في السير، أو الإسراع في الكلام هكذا قال الخليل بن أحمد وأبو عمر وابن جرير، إلا أن ابن جرير -رحمه الله- زاد عليه قيداً: أنه هو الإسراع في الشيء الإسراع في السير مثلاً شيئاً بعد شيء، كأنه دفعة بعد دفعة، والكلام كذلك، أيّ أمر من الأمور الإسراع بالشيء بعد الشيء (إذ تَلِقُونه بألسنتكم) يعني: تسرعون في إفشائه ونشره بين الناس.
هنا كان بالإمكان أن يقال: وتقولون ما ليس لكم به علم، لكنه قال: بِأَفْوَاهِكُمْ فهذه اللفظة أو ذكر الأفواه هنا يمكن أن يستفاد منه فائدة أو أكثر وهو أن هذا القول أولاً لا حقيقة له، فهو لا يجاوز الأفواه إلى الخارج وإلى الواقع باعتبار أنه أمر حصل فعلاً، وله مصداقية، إنما هو شيء كذب مختلق لا يجاوز أفواه من تكلم به، والجانب الآخر وهو تسجيل ذلك عليهم، إدانة، تقولون بأفواهكم تقول: قاله بفيه وكتبه في يده ومشى إليه برجله، يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] يمكن أن يقال إذا تحقق أن أحداً منهم لم ينعقد قلبه على هذا، ولكن الله قال: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وهذا يتصل بالقلب، والله أعلم.
ثم قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌأي: تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين، وتحسبون ذلك يسيرا سهلا، ولو لم تكن زوجة النبي ﷺ لما كان هَيِّنا، فكيف وهي زوجة النبي الأمي، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين؟! فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل، فإن الله يغار لهذا، وهو لا يُقَدِّر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك، حاشا وكلا، إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله، لا يدري ما تَبْلُغ، يهوي بها في النار أبْعَد ما بين السماء والأرض[3]، وفي رواية: لا يلقي لها بالا[4].
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة النور:16-18].
هذا تأديب آخر بعد الأول الآمر بالظن خيرا، أي: إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأوْلى ينبغي الظن بهم خيرا، وألا يشعر نفسه سوى ذلك، ثم إن عَلِق بنفسه شيء من ذلك -وسوسةً أو خيالاً- فلا ينبغي أن يتكلم به، فإن رسول الله ﷺ قال: إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل[5] أخرجاه في الصحيحين.
وقال الله تعالى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا أي: ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌأي: سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة نبيه ورسوله وحليلة خليله.
ثم قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا أي: ينهاكم الله متوعِّدًا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدًا أي: فيما يستقبل، فلهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَأي: إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه، وتعظمون رسوله ﷺ، فأما من كان متصفا بالكفر فذاك له حكم آخر.
ثم قال: وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ أي: يوضح لكم الأحكام الشرعية والحِكَمَ القَدَريّة، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌأي: عليم بما يصلح عباده، حكيم في شَرْعه وقَدَره.
قوله -تبارك وتعالى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا هذا تأديب آخر حينما قال لهم: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا هذا فيما يتعلق بإحسان الظن، وهنا يتصل بكف الألسن عن قالة السوء، وأن الإنسان لا يسوغ له بحال من الأحوال أن يتكلم بمثل هذه القضايا، فهذه مسألة تحتاج إلى شهود أربعة، يشهدون على هذه التهمة أو المقولة، أو القذف وإلا فإن الإنسان يجب عليه أن يكف لسانه، وإذا وجب عليه أن يكف لسانه يجب عليه أن يحفظ سمعه فلا يسمع؛ لأن التكلم بمثل هذا محرم.
ومن آثاره السيئة غير تلطيخ الشرف وتدنيس السمعة إلى آخره أنه يهون على الناس فإنْ صار الناس يتكلمون في المجتمع عن قضايا فواحش إلى آخره فهذا يهون على الإسماع، في البداية يثقل عليها ويشق عليها وتنفر منه، ثم بعد ذلك يصبح سهلاً، وهذه مشكلة يُحتاج إلى تفطن لها، فقد يقع بعض الناس بهذا من باب الغفلة والاسترسال مع النفس، أو من باب الغيرة التي لربما تحمل على مثل ذلك، فيتكلم الإنسان في ما لا يحل له أن يتكلم به، يقذف فلاناً من الناس أو فلانة، ولربما يتحدث الناس، وأقبح ما يكون هذا إذا كان ذلك قد صدر من خطيب أو محاضر أو نحو هذا، يذكر قصصاً وتفصيلات في فواحش وأمور حصلت هنا أو هناك.
فمثل هذا قد يذكره من باب الغيرة، ولكنه لا يفقه أن مثل هذا الكلام الضرر الحاصل منه أضعاف أضعاف ما يحصل من المنفعة إن حصلت منفعة، فيخرج الناس لربما اشمأزت نفوسهم، وبعضهم قد يجد لذة في سماعه؛ لأنه يلامس غرائز في النفوس، والقلوب التي غلبت عليها الشهوات قد تستلذ الحديث بهذا أو سماع الكلام في مثل هذه القضايا تفاصيل فواحش، وللأسف تجد بعض الصحف تنشر تفاصيلاً، بل يوجد بعض الصحف في بعض البلاد كأنها أسست لنشر مثل هذه: أخبار مفصلة عن الجرائم، ووقائع في الشرف و العرض وما أشبه ذلك، ومن أدمن قراءة هذه الصحف فإنها تُمرض قلبه وتفسده، -نسأل الله العافية.
فهذه الآذان أقماع مثل الأقماع التي يصب فيها المائع ليستقر في القارورة، والأقماع الواسطة، فإذا أرخى الإنسان سمعه لسماع هذه القضايا، وهذه التفصيلات فإن ذلك يصب في القلب فيُفسد قُوى القلب وما فيه من الحيوية، والشفافية والحساسية تجاه المنكر، فينقبض إذا سمع بالمنكر، ويكره ذلك ويستاء فإذا أكثر من سماع هذه القضايا فإنها لا تؤثر فيه، بل بعض أهل العلم يبالغ فيقول: إن قوله -تبارك وتعالى: {والشيخ والشيخة إذا زنيا} الآية، يقول: إنه نسخ لفظها لما كان ذلك مما يثقل على الأسماع، فأراد الله أن ينزه المجتمع المسلم من أن يسمع مثل هذا الأمر الشنيع كيف يقع من المحصن مثل هذا العمل وهو الزنا، وهذا الكلام فيه نظر، لكن هكذا قال بعض أهل العلم.
فالاسترسال في الحديث ولو كان من باب الغيرة -تفاصيل تذكر في المجالس- هذا أمر مذموم، وينبغي للإنسان ألا يتحدث به، ولا ينبغي لأحد أن يسمع مثل هذه الأشياء، وقد يأتي الإنسان من أهل الحسبة وعنده أمثله كثيرة وشواهد وفي الأسواق وفي أماكن وإذا جلس في المجلس بدأ يتحدث يذكر لهم، وكل واحد يأتي بقضية، وكأنه يريد أن يقول: انتبهوا المجتمع تنتشر فيه أدواء كذا، وقد يكون هؤلاء كل واحد منهم فقيه في هذه القضية يعرفها تماماً، إذاً هي زيادة أمثلة جديدة يخرج الإنسان بقلب منكسر وإحباط، ولربما أظلمت الدنيا في عينيه، وظن أن الشر والفساد هو الذي غلب ونحو ذلك، وهذا أمر يفرح به الشيطان، ولا فائدة منه إطلاقاً لأهل الإيمان، فنحن أحياناً نجني على أنفسنا بمثل هذا الذي لا نتفطن لما فيه من الآفات والمفاسد، دعك مما قد يحصل كما قلت لمن في قلبه مرض من التلذذ بسماع هذه التفصيلات، والله المستعان.
يقول: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا أخذ منها الإمام مالك -رحمه الله- أن من سب عائشة -ا- أو قذفها أنه يقتل، وقال: من سب أبا بكر وعمر فإنه يعزر؛ وذلك أن من سب عائشة -ا- فهو مكذب للقرآن، ومن كذب القرآن قتل.
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هذا الأسلوب يستعمل للتحضيض والتحريض، تقول: إن كنت من الكرام فافعل كذا، وهذا كثير في القرآن.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة النور:19].
وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ، فقام بذهنه منه شيء، وتكلم به، فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا أي: يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح، لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَاأي: بالحد، وفي الآخرة بالعذاب، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي: فرُدوا الأمور إليه تَرْشُدُوا.
وروى الإمام أحمد عن ثَوْبَان، عن النبي ﷺ قال: لا تُؤذوا عِبادَ الله ولا تُعيِّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته، حتى يفضحه في بيته[6].
قوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ يحبون لاحظ كلام ابن كثير -رحمه الله- قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ قال: "يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح لهم عذاب أليم في الدنيا بالحد"، يعني: حمل ذلك على القذف، والمعنى أعم من هذا: أن الله -تبارك وتعالى- هنا توعد على محبة إشاعة الفاحشة، والمحبة أمر يتعلق بالقلب فالذي يحب ذلك متوعَّد بالعذاب الأليم في الدنيا ليس بالحد فقط لمن قذف، ولكنه متوعد بالعذاب الأليم في الدنيا بما يشاء الله أن يعذبه به، يفتضح، تنزل به نازلة من عقوبة ونحو ذلك.
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فهذا وعيد لهؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فهذا وعيد على مجرد المحبة، فكيف إذا زاد على هذا بأن صار ينشر ذلك، يؤسس له موقعاً في الإنترنت للفواحش والفجور، أو كان ينشر الصور والمقاطع ونحو ذلك عن طريق متجر أو محل لبيع أشياء معينة فيمرر من خلالها هذه الأشياء، أو كان ذلك عن طريق الصور على أغلفة المجلات، وفي الصحف صور النساء الكاسيات العاريات أو كان ذلك بالكتابة، يكتب، ويطالب بالاختلاط وكل عمل من شأنه الاختلاط، وكل برنامج من شأنه الاختلاط والتبرج والسفور، يسخر من الحجاب، ويسخر من العلماء والدعاة الذين يحاربون الاختلاط، ويسخر من الهيئات، وقد يكون هذا ببرنامج أو تمثيلية، أو طاش ما طاش أو غير هذا، كل هذا داخل فيه يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
يسخر من الغيرة يجيبون واحد طالع مع نسائه وجايب دربيل، وحاط السيارات علشان ما أحد يشوف النساء، وجايب دربيل لا يكون أحد من بعيد، ما يرى بالعين المجردة؛ لئلا يراهم، سخرية من الغيرة، وتكتب امرأة وتقول: إيش فيها إن عرفت أن بنتي لها علاقة بشاب!! ومن يطالب ويقول: يجب أن يتعرف الناس قبل الزواج، بحيث يكون بينهم علاقة، ومعرفة من أجل الوفاق والوئام، ينجبون أولاداً قبل الزواج!! كما هو الحال في الغرب.
وغير ذلك ممن يتبنى هذا بطريقة أو بأخرى، يتبنى برنامجاً، يتبنى مشروعاً، يتبنى عملاً من شأنه أن يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يقيم -كما يسمى أو يقال مثلاً- حفلاً أو مهرجاناً أو أي شيء يحصل فيه من المفاسد والاختلاط وما إلى ذلك، أو يقيم منتجعاً، كل هذه الأمور التي يحصل فيها مالا يرضي الله -تبارك وتعالى- اختلاط الرجال بالنساء، أو التبرج أو التعري على الشواطئ، وفي أماكن سياحة أو غير ذلك كل هذا من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، حتى لو كان مديراً في شركة أو مؤسسة أو مستشفى ويقرر هذا، ويسمح للطبيبات والممرضات والعاملات أن يخلعن حجابهن، ويفرح بذلك، ويحث عليه، كل هؤلاء يدخلون في هذه الآية، وهم متوعدون بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فالمسألة ليست فقط فيمن قذف ويقام عليه الحد، عذاب أليم في إقامة الحد، وإنما هو أوسع من هذا.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة النور:20، 21].
يقول تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌأي: لولا هذا لكان أمر آخر، ولكنه تعالى رءوف بعباده، رحيم بهم، فتاب على من تاب إليه من هذه القضية وطَهَّر من طَهَّر منهم بالحد الذي أقيم عليه.
كلام ابن كثير -رحمه الله- هنا معناه أن جواب "لولا" محذوف، وهذا الذي عليه كثير من أهل العلم، فيكون هنا: لولا هذا لولا فضل الله عليكم لكان أمر آخر، لولا فضل الله عليكم لما سهل لكم هذا التسهيل، ومن أهل العلم من يقول: إن الجواب غير محذوف، وإن جوابها هو جواب التي بعدها، التي بعدها هي في الآية التي تليها وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا هكذا قال بعض أهل العلم، والقول بأنه محذوف أليق بالمعنى، والله أعلم.
لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ خُطُوات: قراءة الجمهور بالضم، وقرأ عاصم والأعمش خُطْوات بالإسكان، والخُطُوات جمع خُطْوة، يقولون: الخُطْوة هي ما بين القدمين في المشي، والخطوة مصدر وهي واحدة الخَطْو، لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ أي: مسالكه وطرائقه ومذاهبه، يعني ما يزينه ويملي به فيستدرج الإنسان حتى يقع فيما حرمه الله عليه، ولهذا قيل: من عرض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخراً.
الإنسان يبدأ في البداية بأمور يسيرة ثم بالتدريج، وبعض الناس قد يلج في المنكر بحكم أو بحجة أنه يريد أن يتعرف على هذا الشيء، ويرى مصداقية ما يقال، وهل هذا صحيح أو غير صحيح، من باب الاطلاع والنظر والتحقق من الأمور ثم شيئاً فشيئاً، ولذلك تجد الفتاة أحياناً التي صارت العقوبة أن يتلاعب بها الذئاب، وتبتز غاية الابتزاز كل يوم يطلبها لأصحابه، ويلعبون بها، ويهددها بالصور إلى آخره، والبداية محاولات عابثة بريئة، ولربما كما تقول هي من باب تزجية الفراغ، أو من باب أنها تريد أن تستغل هذا الشاب؛ ليشحن لها بطاقة التليفون الجوال ليشحن لها بعشرة أو عشرين، أو بمائة ونحو ذلك، فهو يبدي كرماً حاتمياً ولو بالسرقة؛ لأن بعضهم مفلس ما عنده شيء فيشحن لها ما تشاء، وهو يسجل المكالمات، ثم بعد ذلك يبدأ شيئاً فشيئاً نخرج دورة كذا، نتغدى في مطعم، أو نتعشى في مطعم نفطر في مطعم شيئاً فشيئاً ثم بعد ذلك يقع ما لا يحمد عقباه، ولهم في ذلك طرق شيطانية لا تخطر على بال.
تسمع من بعض النساء، بعض من تابوا أشياء تشيب لها المفارق، كيف تملي عليهم الشياطين حتى يتوصلوا إلى هذه الطرق في الإيقاع بهؤلاء المسكينات، هذه البداية كانت كما ذكرت، وهكذا حينما يترك الإنسان لنفسه مجالاً أن ينظر إلى ما حرم الله أو نحو هذا، ويذهب إلى أماكن الريبة، ثم يجد نفسه بعد مدة -الشيطان نفسه طويل- ولو بعد سنوات تغير، والسبب الذي جعل هؤلاء يتساقطون -نسأل الله أن يعافينا وكل مبتلى ويثبتنا وإياكم على الحق- هي خطوات الشيطان، ولم تكن بداية مباشرة في يوم واحد أو في ليلة واحدة بهذا الانحراف كله، لو عرض عليه هذا الانحراف بمجموعه في ليلة لأباه، لكن يبدأ شيئاً يسيراً ثم أكثر منه حتى يجد نفسه في مهواة.
الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو الشيطان في قوله: فَإِنَّهُ، وبعضهم يقول: الضمير للشأن، وبعضهم أبعَدَ فقال: إنه يعود إلى المتبع لخطوات الشيطان، فإن من يتبع خطوات الشيطان يأمر بالفحشاء يعني يتحول إلى داعية للفحشاء والمنكر وهذا المعنى غير صحيح، ولا يلزم أن يكون الإنسان الذي يتبع خطوات الشيطان في أول أمره أنه يأمر بالفحشاء والمنكر، وإنما المقصود: فإنه أي الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، فحينما يوسوس ويزين ويسول هو لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر.
والنهاية تصل إلى أي شيء فيما يتعلق هنا بهذه الآداب التي تذكر في هذه السورة سواءً كانت ما يتعلق بالألسن والقذف والفواحش والتأديب عليها وإقامة الحدود أو بعد ذلك ما يذكر من غض الأبصار، وكذلك الاستئذان عند الدخول إلى آخره كل هذا من أجل أن لا يقع الإنسان في الفاحشة، فكل تلك المحاولات التي يجريها الشيطان والتزيين والتلبيس والاستدراج إلى آخره كل هذا ليصل إلى أمر واحد في النهاية البعيدة التي يحتاج دائما الإنسان أن يتذكرها جيداً ويعيها: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [سورة الإسراء:32] هذه هي النهاية.
فكل الكلام المعسول والكلام الجميل والمكالمات الطويلة، والتزين والطيب والضرب بالأقدام والأرجل؛ ليُعلم ما تخفي من زينتها، وتتعطر وتخرج وتتنمق في الكلام، وتخضع بالقول، والعلاقات والمكالمات تمتد ساعات طويلة إلى آخره، كل هذا في النهاية يصل إلى هذه النتيجة البعيدة، لا داعيَ لتضييع الوقت بأمور هي توصل إلى هذا المنتهى الذي وصفه الله بأنه فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً سبيلا في الدنيا والآخرة يذهب معه الشرف والعرض، والأمراض المستعصية والفقر الذي يحصل لأصحابه وقله الغيرة، ولربما تنتقم منه امرأته وهو لا يغار عليها، وضياع الدنيا والآخرة -نسأل الله العافية، أمر في منتهى المهانة والذل، هذه هي النهاية.
ولذلك الإنسان يحتاج أن يتذكر هذا دائماً، قد ينسى نفسه خاصة من ابتلى بالحديث مع النساء بمقتضى العمل، أو مقتضى تجارة، فعليه أن يتذكر دائماً إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً، وإذا جاءت من تخضع بالقول، والزينة والمكياج والتقارب والذي تتبرج به أمام الآخرين يوصل إلى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً فيبتعد الإنسان ويقطع الطريق على الشيطان، وبعض الناس قد يُركِب معه المرأة، ويقول: أريد أن أشوف.
كل هذا داخل في خطوات الشيطان، فهو يملي على الإنسان ويستدرجه فيوقعه في الصغائر، ثم بعد ذلك يصل معه إلى الكبائر، ثم بعد ذلك يوصله إلى الشرك، ويأتي لكل إنسان بحسب حاله كما ذكر أهل العلم، يأتي ويشم قلب هذا الإنسان فإذا كان فيه ميل إلى الغلو في طبعه والشدة جاءه من هذا الباب، وإذا كان فيه ميل إلى التدين جاءه من باب البدع والمحدثات وما إلى ذلك، وإذا كان فيه غيرة زائدة على الدين ونحو ذلك فقد يأتيه من هذا الباب فيقع في شيء من الغلو في أحكامه أو نحو ذلك، وإذا كان هذا الإنسان عنده ميل إلى النساء والشهوات جاءه من هذا الباب، وإذا كان فيه ميل إلى المال ومحبته ونحو ذلك جاءه من هذا الباب، ولذلك تجد الذين ينحرفون تعدد الأسباب والنهاية واحدة، فبعضهم انحرف بسبب المال، كان طالب علم، كان متديناً وانحرف بسبب المال، وبعضهم انحرف بسبب النساء، وبعضهم انحرف بسبب الغلو، وبعضهم انحرف بسبب البدع، وهكذا كل إنسان يأتيه من الطريق الذي يصلح لمثله.
ما يقع للإنسان من تزكية فهذا فضل من الله ، والناس يتفاوتون في هذا غاية التفاوت، لكن ما يحصل للإنسان من هذا قليل أو كثير فهو فضل من الله يستوجب مزيداً من الشكر، ومعنى زَكَا أي: تطهر من أدران الشرك والذنوب والمعاصي، صار صالحاً وفي قراءة لأبي جعفر، وقرأ بها بعض السلف كالحسن والأعمش بالتشديد ما زكّى منكم من أحد أبداً، ولهذا يقول الله : فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [سورة النجم:32]، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء [سورة النساء:49]، والقراءة المعروفة المشهورة هي مَا زَكَا مِنْكُمْ بمعنى الصلاح والتطهر من الذنوب والأرجاس والأدناس، والاستقامة والتقوى كل هذا داخل فيه.
والله يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [سورة الشمس:9، 10] فالإنسان لا يزكي نفسه بمحض قدرته وإرادته ومشيئته، وإنما ذلك متوقف على هداية الله ولطفه بالعبد، ويقول الله -تبارك وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [سورة الأعلى:14] على أحد المعنيين، وهو المعنى المشهور فإن بعضهم يقول: تزكى يعني أخرج الزكاة، وهذا بعيد، فهذه الآية تتحدث عن تزكية النفوس وهي من السور المكية قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى أي زكى نفسه وطهرها بطاعة الله بالإيمان والعمل الصالح وهذا مناط الفلاح.
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ أي: من خلقه، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي.
وقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي: سميع لأقوال عباده، عَلِيمٌ بهم، مَنْ يستحق منهم الهدى والضلال.
وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النور:22].
يقول تعالى: وَلا يَأْتَلِ من الألِيّة، وهي: الحلف أي: لا يحلف، أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي: الطَّوْل والصدقة والإحسان وَالسَّعَة أي: الجِدَةَ.
وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ "يأتل" من الألِيّة وهي الحلف، لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ [سورة البقرة:226]، يعنى يحلف لا يقرب امرأته، ألا يطأ امرأته، تقول: آلَى يُؤلِي، وأْتَلَى يأتَلِي: حلف يحلف وَلا يَأْتَلِ وسبب النزول يبين هذا المعنى وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ بمعنى لا يحلف، فإن أبا بكر كما هو معلوم حلف أن لا يصل مسطحاً وهو من قرابته، وكان يصله ويحسن إليه، وينفق عليه لفقره وقرابته، فنزلت هذه الآية: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ.
وبعضهم يقول: إن قوله: يَأْتَلِ بمعنى يقصر، كما قال الله -تبارك وتعالى: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً [سورة آل عمران:118]، بمعنى لا يقصرون، ولا يدخرون وسعاً في التثبيط والتخذيل والإيقاع بين المؤمنين، والمعنى الأول هو الصحيح، وهو الذي عليه عامة أهل العلم وَلا يَأْتَلِ ويدل عليه سب النزول، وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ يقول: أي الطَّوْل والصدقة والإحسان، هذه العبارات الثلاث، الآن عندنا الفضل والسعة.
وبعض أهل العلم يفسر ذلك بتفسير واحد كما فعل ابن كثير -رحمه الله، وبعضهم يقول: الغنى عموماً الفضل والسعة، ويجعلهما بمعنى واحد، والأحسن -والله أعلم- أن يفرقا يفرق بينهما، وهذا فيه زيادة في المعنى، وتكثير له، فيحمل الفضل على معنى، والسعة تحمل على معنى آخر، فيمكن أن يقال: إن الفضل يطلق على الزيادة، تقول هذا فاضل عن حاجتي، يفضل عن حاجتي، وشاع إطلاقه على الكمال الديني، تقول: فلان فاضل، من أهل الفضل، من أولى الفضل، من أصحاب الكمالات الدينية، من أهل الخير.
والسعة يمكن أن تفسر بالطول، يعني الغنى، والجِدَة، فيكون المعنى ولا يحلف أولو الفضل يعني أصحاب الكمالات الدينية، أصحاب الخير أصحاب الإحسان أصحاب المعروف، والغنى، فأبو بكر كان من هؤلاء، فهو من أصحاب الكمال الديني والغنى المالي، وهذان سببان لإيصال المعروف والبر إلى الناس، فإذا كان الإنسان فاضلاً مليئاً فإنه يبذل وينفق، ويصل ويحسن، ويكون إحسانه واصلاً إلى المحتاجين، وإن كان هؤلاء قد بدر منهم أو من بعضهم ما يسيء إليه فإن فضله يحمله على الإحسان، ولا يتعذر إيصال هذا الإحسان بسبب قلة ذات اليد فهو من أهل الجدة والسعة والغنى كما قال الله : وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا [سورة الإسراء:28] قل لهم: إذا جاءنا شيء أعطيناكم إن شاء الله، وإذا وسع الله علينا ساعدناكم وما شابه ذلك أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي: الطَّوْل والصدقة والإحسان، وَالسَّعَةِ أي: الجِدَة.
أي: لا تحلفوا ألا تصلوا، "أن يؤتوا أولى القربى": أي على أن لا يؤتوا، فحذفت "لا" وَلا يَأْتَلِ لا يحلف، أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا يعني على أن لا يؤتوا، وحذف "لا" كثير، وله شواهد من كلام العرب، أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هنا ذكر المهاجرين في سبيل الله، وأخذ منه أهل العلم أن القذف مع أنه كبيرة وتوجه ذلك إلى عرض رسول الله ﷺ فهذا من أعظم الكبائر، والنبي ﷺ ذكر السبع الموبقات وذكر منها قذف المحصنات[7]، لكن ذلك لا يحبط الأعمال أخذاً من هذه الآية، وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فمسطح كان من المهاجرين، فلم تذهب هجرته، ولم تحبط بسبب قذفه لعائشة -ا، ولهذا قال ابن المبارك -رحمه الله: إن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله ، يعني أنها الأكثر ترجية لأهل الإيمان، فهي تدل على سعة رحمة الله -تبارك وتعالى- حيث حصل مثل هذا اللطف بهؤلاء القذفة، فهم مع عظم جنايتهم إلا أن الله يأمر بالإحسان إليهم والصلة لهم، فهذا من عظيم ألطافه ورحماته -تبارك وتعالى: أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أثبت له هجرته.
والذي يحبط الحسنات من السيئات هو الشرك بالله : وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88]، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر:65] وذلك مقيد بالموت على الشرك فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [سورة البقرة:217] كما قال الشافعي -رحمه الله، ومن حصلت له ردة ثم رجع إلى الإسلام فإن أعماله لا تحبط، ولا يحتاج إلى حج من جديد وعمرة من جديد على الراجح من أقوال أهل العلم، وليس ذلك محل اتفاق، وقد يُحبط العملَ المعينَ بعضُ ما يحتفّ به، كما قال الله : لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [سورة البقرة:264] فهذا يبطل الصدقة، وهكذا أيضاً الرياء والسمعة، ومقاصد السيئة تحبط العمل، أما القول بإطلاق بأن السيئات تبطل الحسنات فهذا غير صحيح، والله يقول: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم [سورة الأعراف:8، 9] الآية فتبقى له حسناته، ولهذا يقال: ويل لمن غلبت آحاده عشراته، الحسنة عشر والسيئة بواحدة.
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا هنا ما ذكر معنى العفو والصفح، والفرق بينهما وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا العلماء ذكروا معنى العفو، ومعنى الصفح والفرق بينهما وإن لم يتفقوا في ذلك، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن العفو يدل على المحو تقول: عفت الريح الأثر بمعنى محته، فمحو أثر الذنب هذا عفو، والصفح هو الإعراض مأخوذ من صفحة العنق، يصفح بمعنى أنه يعرض عن الإساءة، فالإنسان قد يعفو، قد تقول لفلان: عفوت عنك، ولكن ما كان ينبغي لك أن تفعل هذا الفعل أو تسيء هذه الإساءة أو نحو ذلك وتعاتبه، فالعفو هو محو الأثر ما يبقى في النفس شيء، والصفح أن لا تقف عند إساءته، فلا تعاتب ولا تتوجه إليه بما يحرجه أو بما يؤذيه أنا عفوت عنك ولكن اسمع،، فلكن اسمع هذه تدل على أن الصفح غير متحقق هذا هو الأقرب -والله أعلم، في الفرق بينهما.
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فالله ما قال: وليصفحوا فقط، والقلب يبقى منطوياً على الضغينة، وبعض الناس يتبجح بهذا يقول: قلبي عليك أسود، يخبره عما في قلبه، يعني هو لا يستطيع أن يدافع هذه المشاعر السيئة، ومع ذلك يزيد ويقول: إن قلبه أسود، وهذا خطأ، فالإنسان يدفع بالتي هي أحسن ولا يبدى للناس ما يجرح مشاعرهم ويؤذي نفوسهم، ويتكلم بما يجمل وما يحسن فإذا وجد في قلبه شيئاً لا يستطيع مدافعته فأقل شيء ألا يبدي ذلك للناس، والله يقول: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت:34، 35].
فالحاصل أن هذه الآية كقوله -تبارك وتعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران:133، 134]، فأعدت لهم هذه الجنة، فهذا يدل على أن العفو عند الناس من أعظم الأوصاف التي تورث مرضاة الله -تبارك وتعالى- وجنته، وهذا ليس بالشيء السهل، العفو والصفح إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [سورة النساء:149].
وهكذا وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [سورة الشورى:43]، فليست هذه الأمور هي السهلة أو اليسيرة أو الدقيقة أو الثانوية أو المكملة، بل هي من الأمور الكبار، ولو تأمل الإنسان ونظر فإنه لا يخسر من هذا، وإنما يربح غاية الربح عند الله فهو لا يخسر عندما يعفو عن أحد، ويطهر قلبه ويكون نقياً لإخوانه المسلمين؛ ولهذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: وما تفعل يعذب الله أحداً من المسلمين بسببك، وما ينفعك أن يعذب الله أحداً من المسلمين بسببك؟!
قوله: وَلَق وَلْقة، الولقة: ولق غير ولغ، الولوغ معروف ولوغ الكلب، وقد يستعار هذا في الاستعمال يقال: ولغ في أعراض الناس، لكن هنا ولق، والولق يأتي بمعنى الإسراع في الشيء، ويقال أيضاً في اختلاف الكلام، واختراع الكذب، ولق ولقة يعني دخل في هذا الأمر من الإفك وأسرع فيه، فهذا المعنى، وزلق زلقة بمعنى زل، زلت قدمه، زل زلة، فهي قريبة، معنى زلق قريب من معنى زل، وإن كان هناك فرق بين هذا وهذا، لكنه من حيث المراد هنا يكون المعنى واضحاً.
وفي الحديث: من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتِ الذي هو خير، وليكفر عن يمينه[8]، وهكذا في قوله ﷺ: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير[9]، والله يقول: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ [سورة البقرة:224]، يعني أن لا تجعل اليمين حائلة بينك وبين البر والتقوى والإصلاح بين الناس، يقول: أنا حالف أني ما أعطيه، أنا حالف أني لا أصله، والله أعلم.
- رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكُره والسكران والمجنون وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره، برقم (4968).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور، برقم (4475).
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6113)، عن أبي هريرة : عن النبي ﷺ قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم.
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6113).
- رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، برقم (6287)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، برقم (127).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (22402)، وقال محققوه: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن.
- رواه البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رمي المحصنات، برقم (6465)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (89).
- رواه مسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، برقم (1650).
- رواه البخاري، في أوائل كتاب الأيمان والنذور، برقم (6247)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، برقم (1649).