بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، وبعد.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [سورة النور:30].
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعًا، كما رواه مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي ، قال: سألت النبي ﷺ، عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرفَ بَصَري[1].
وفي الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله، لابد لنا من مجالسنا، نتحدث فيها، فقال رسول الله ﷺ: إن أبيتم، فأعطوا الطريق حقَّه، قالوا: وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال: غَضُّ البصر، وكَفُّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر[2].
وقال أبو القاسم البغوي عن أبي أمامة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: اكفلوا لي بِستٍّ أكفل لكم بالجنة: إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يَخُن، وإذا وَعَد فلا يخلف، وغُضُّوا أبصاركم، وكُفُّوا أيديكم، واحفظوا فروجكم[3].
ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب، كما قال بعض السلف: النظر سهام سُمٍّ إلى القلب؛ ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، وحفظُ الفَرج تارةً يكون بمنعه من الزنى، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [سورة المعارج:29، 30] وتارة يكون بحفظه من النظر إليه، كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن: احفظ عورتك، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك[4].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ أن يأمر المؤمنين بغض الأبصار، وفي هذا وأمثاله كلام للأصوليين فيمن أمر غيرَه، فيمن أمر أحداً أن يأمر غيره بأمرٍ، هل يكون الآمر الأول آمراً للأخير أو لا؟
وهي مسألة جدلية معروفة ومشهورة، والله -تبارك وتعالى- حينما أمر نبيه ﷺ أن يأمر المؤمنين بغض الأبصار، فهو أمر من الله لهم بغض الأبصار، وسواء كان ذلك الأمر صادراً من الله أو صادراً من رسوله ﷺ، والأصل أن الأمر للوجوب، فدل ذلك على وجوب غض الأبصار.
وهذه الآية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، لما ذكر آداب الاستئذان، ودخول البيوت أعقب ذلك بغض الأبصار؛ لأنه إنما يَمنع من دخول البيوت ويَأمر بالاستئذان على أهلها من أجل ألا يقع بصره على شيء لا يريد الناس أن يراه، فالله -تبارك وتعالى- يقطع دابر الشر، ويؤدب أهل الإيمان بما ينزه المجتمعات عن الفواحش ومقارفتها، ومواقعة ما لا يليق، وذلك لأن الطرْف رائد للقلب، فإذا وقع بصره على شيء لربما يعلق ذلك في قلبه فيتمكن منه فيفسد ذلك القلب، ثم بعد ذلك لما كان القلب مَلِكاً للجوارح فإن القلب يتحرك ويأمر، وتشتغل الجوارح وتعمل على تحصيل مشتهيات النفوس.
وقوله -تبارك وتعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ الخطاب هنا موجه لأهل الإيمان لأنهم الذين يقبلون عن الله ، وهذه السورة في تربية أهل الإيمان، والأصوليون من أهل العلم يتكلمون في مثل هذا، وقد يُحتج بها على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، توجه الخطاب لأهل الإيمان بأنهم الذين يقبلون عن الله .
وقوله: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ من أهل العلم من يقول: إن "مِن" هنا تبعيضية، وهذا الذي عليه أهل العلم وذلك أن من البصر ما لا يجب غضه! ولذلك فرّق بين الأمر بغض الأبصار، والأمر بحفظ الفروج فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ولم يقل: ويحفظوا من فروجهم، وذلك أن باب غض البصر أوسع من حفظ الفرج، فالإنسان يجوز له أن ينظر إلى ملكوت الله ، وينظر إلى الناس من غير ريبة ولا شهوة، وينظر إلى محارمه فيما يجوز النظر إليه من غير ريبة، ولكن يجب أن يغض بصره عما لا يحل كالنظر إلى المرأة الأجنبية، ثم إن النظر إلى المرأة الأجنبية النبي ﷺ أخبر أن له الأولى وعليه الثانية[5]، ومن هنا قال أكثر أهل العلم: إن "مِن" للتبعيض يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فمن البصر مالا يجب غضه، وهذا هو الأقرب والله -تبارك وتعالى- أعلم.
وبعضهم يقول: جارة -يعني "مِن"- وهذا بعيد، ومنهم من يقول: إنها للجنس، وليست للتبعيض يعني يغضوا أبصارهم، وبعضهم يقول: لابتداء الغاية، وبعضهم يقول غير ذلك، كالذي يقول: إن الغض بمعنى النقصان، فلان يغض من فلان بمعنى يقلل من شأنه، يغضوا من أبصارهم بمعنى النقص فلا يمتد نظرهم إلى ما حرم الله عليهم، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عقّب بالأمر بحفظ الفروج بعد الأمر بغض الأبصار؛ لأن ذلك متسلسل في الطبيعة والعادة، وإنما يعلق القلب بعد نظر البصر غالباً وإلا فالقلب له رسولان "السمع والبصر"، والأعمى يعلق قلبه بالسماع، وقد يعلق قلب غير الأعمى أيضاً بالسماع أولئك الذين يفتنون عن طريق الهاتف، والمحادثات بما يقوم مقام السماع أحياناً بالمسنجر أو نحو هذا، هؤلاء يكون بينهم علاقات وغرام وأشياء ولم يرَ بعينه تلك المرأة، أو هذه المرأة لم ترَ هذا الرجل.
فالمقصود أن حفظ الفروج لا يتحقق إلا بحفظ الأبصار وبحفظ فروجهم، والمراد بحفظ الفروج هنا من أهل العلم من يقول: إن المقصود بذلك هو أن تحفظ من مواقعة ما لا يحل: الزنا واللواط -أعزكم الله والسامعين- والسحاق وما شابه ذلك من كل مقارفة محرمة كما قال الله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [سورة المؤمنون:5-7]، فكل مقارفة محرمة يفرغ فيها الشهوة أو يلتذّ الإنسان بها غير الزوجة، وملك اليمين فإن ذلك يحرم على الإنسان بكل حال، وهذا القول -أنْ تُحفظ الفروج من هذه المقارفات- تدل عليه الآية بعمومها.
وقد حمل هذه الآيةَ بعضُ أهل العلم وفسرها بأن المقصود بذلك أن يحفظوا فروجهم عن إبدائها للناظرين وذلك بالستر، وعن نظر الناس إليها، يحفظون فروجهم بسترها وبما يحول بين نظر الناس إليها، وهذا المعنى قال به كثير من المفسرين، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله، قال بعض السلف: "كل فرج ذكر حفظه بالقرآن فهو من الزنا، إلا هذه الآية"، وهذا قد لا يكون دقيقاً.
والأقرب -والله تعالى أعلم- في تفسير الآية: أن حفظ الفروج المأمور به هنا يدخل فيه هذا وهذا، فتُحفظ بالستر، فيحفظ عورته فلا تنكشف، يحفظ عورته من نظر الناس إليها، ويحفظ عورته عن المقارفات المحرمة كالزنا وغيره كل ذلك داخل في معنى الآية، وهذا هو اختيار ابن كثير -رحمه الله، وسبقه إليه جمع من أهل العلم كالقرطبي، وبهذا قال أيضاً الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أي حمْلُ الآية على هذا المعنى الأعم خلافاً لمن خصها بواحد منهما كابن جرير الذي يقول: إنه حفظ لها عن الكشف والإظهار، وعن نظر الناس إليها، والله تعالى أعلم.
قوله: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ أزكى فلا يقع في القلوب ريبة ومرض، ولا ينظر الناس إليهم بريبة، وأيضاً يكون ذلك سبباً لحفظ الفرج، كما أنه يكون سبباً لاشتغال القلب، والجوارح بما هو بصدده من العمل الذي ينفعه ويرفعه في الدنيا والآخرة بخلاف من أطلق بصره؛ لأن قوله: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ اسم الإشارة هنا يرجع إلى الأمرين "غض الأبصار، وحفظ الفروج"، قل لهم: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، وقل لهم: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ فإن ذلك أزكى لهم.
وذلك أن الإنسان إذا أطلق بصره ينظر إلى الغاديات الرائحات وإلى المواقع السيئة، والصور المحرمة أو نحو هذا كما نسمع ممن يبتلون بهذه الأمور، يذهب إلى الأسواق وينظر إلى النساء أو ينظر في قنوات أو غير ذلك يبقى قلبه يتلهب، ولربما أضناه التعب النفسي والبدني، ذلك الذي يجوب الأسواق هنا وهناك حتى يمضي عليه وقت طويل من الليل، فهو يتعب بدنه ويتعب قلبه، و يتشوش فكره، ويتفرق عليه قلبه، وكل نظرة هي سهم يصيب هذا القلب، فيتألم هذا القلب وقد يجرحه ذلك السهم وقد يصيبه في مقتل، فيتفرق عليه قلبه فيشتغل بما لا ينفعه فإن حصّل مطلوبه وقع في الفاحشة والعنت، والمقت، فهذه العاقبة والنهاية التي تذهب بشرفه، وتورثه سخط الله ، وإذا كان الإنسان بعيداً لا ينظر إلى الحرام، ولا تبدو العورات ولا تنكشف فإن القلوب تبقى زكية نظيفة، ويستريح الإنسان، وتهدأ نفسه، وترتفع عنه أرجاس الشيطان، وما يحصل في القلوب من قلق، وما يحصل في النفوس من الاضطرام اضطرام الشهوات، وتهيجها مما يُعطب عليه قُوى البدن وينهكه ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، كما قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [سورة غافر:19].
وفي الصحيح، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله ﷺ: كُتِبَ على ابن آدم حَظّه من الزنى، أدرَكَ ذلك لا محالة، فزنى العينين: النظر، وزنى اللسان: النطقُ، وزنى الأذنين: الاستماع، وزنى اليدين: البطش، وزنى الرجلين: الخطى، والنفس تمنّى وتشتهي، والفرج يُصَدِّق ذلك أو يُكذبه[6].
رواه البخاري تعليقًا، ومسلم مسندًا من وجه آخر بنحو ما تقدم.
وقد قال كثير من السلف: إنهم كانوا ينهَون أن يُحدَّ الرجل بَصَره إلى الأمرد.
روي ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل عين باكية يوم القيامة، إلا عيناً غَضّت عن محارم الله، وعينًا سهِرت في سبيل الله، وعينًا يخرج منها مثل رأس الذباب، من خشية الله [7].
على كل حال الحديث فيه ضعف، وابن القيم -رحمه الله تعالى- يقول في قوله: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ "فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج؛ ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذّته التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله تعالى، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائدة القلب فيبعث رائده لِنَظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله تحرك اشتياقاً إليه، وكثيراً ما يتعب، ويتعب رسوله ورائده كما قيل:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفَك رائدًا | لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُُ |
رأيتَ الذي لا كلّه أنت قادرٌ | عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ |
فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، فمن أطلق نظراته دامت حسراته فإن النظر يورد المحبة، فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب بالمنظور إليه، ثم تقوى فتصير صبابة ينصب إليه القلب بكليته، ثم تقوى فتصير غراما يلزم القلب كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه، ثم يقوى فيصير عشقاً، وهو الحب المفرط، ثم يقوى فيصير شغفاً وهو الحب الذي وصل إلى شغاف القلب وداخله، ثم يقوى ويصير تَتَيُّما والتَتَيُّم التعبُّد، ومنه تيّمه الحب إذا عبّده، وتيّم الله أي عبد الله، فيصير العبد عبداً لمن لا يصلح أن يكون عبداً له، وهذا كله جناية النظر، فحينئذ يقع القلب في الأسر فيصير أسيراً بعد أن كان ملِكاً، ومسجوناً بعد أن كان مطلقاً يتظلم من الطرْف ويشكوه، والطرف يقول: أنا رائدك ورسولك وأنت بعثتني، وهذا إنما تبتلى به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له، فإن القلب لابد له من التعلق بالمحبوب، فإن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلابد أن يتعبد قلبه لغيره"[8].
صحيح.
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة النور:31].
هذا أمْرٌ من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغَيْرَة منه لأزواجهنّ عباده المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات، وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيَّان قال: بلغنا -والله أعلم- أن جابر بن عبد الله الأنصاري حَدَّث: أن "أسماء بنت مُرْشدَة" كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير مُتّزرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا فأنزل الله: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّالآية.
هذا الأثر لا يصح، وليس هذا سبب النزول.
فقوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ أي: عما حَرَّم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن. وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة، كما ثبت في الصحيح: أن رسول الله ﷺ جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه، وهو يسترها منهم حتى مَلَّت ورجعت.
قوله: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ لو أن الله -تبارك وتعالى- ذكر الجزء الأول قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ لدخل فيه النساء بحكم التبع، ولكن الله -تبارك وتعالى- نص على النساء فهذا تأكيد لحفظ الأبصار لشدة خطره، قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، وقال: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ولكن هل نظر المرأة مثل نظر الرجل؟
بعض أهل العلم يقول: لا فرق بين الرجل والمرأة في هذا الباب، وأن قوله ﷺ: لك الأولى، وليست لك الآخرة[9]، يشترك فيه الرجل والمرأة، وأنه لا يجوز لها أن تنظر إلى الرجال لا بشهوة ولا بغير شهوة، وإنما يجب عليها أن تغض البصر.
والقول الآخر أن نظر المرأة أوسع من نظر الرجل فيجوز لها أن تنظر من غير تفرس ولا شهوة، ولعل هذا هو الأقرب -والله أعلم، وذلك لما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من نظر عائشة -ا- إلى الحبشة وقد أطالت النظر، وكذلك من أدلة هذا أنه في يوم الخندق عائشة -ا- نظرت إلى سعد بن معاذ وهو متوجه إلى الخندق وعليه درع غير سابغة.
والشاهد أن نظر المرأة أوسع من نظر الرجل، لكن من غير تفرس ولا يكون ذلك بشهوة، ونظر النساء اليوم إلى الفضائيات حتى للبرامج الدينية التعليمية لا يخلو من خطر، بل هو خطر كبير؛ لأن المرأة ترى هذا الرجل الذي لربما سمعت به أو سمعت كلامه، ودروسه، وخطبه، ومحاضراته، تسمع هذا دائماً ثم تراه، ولا يخرج عادة إلى هذه الشاشة إلا بعد أن تهيأ وصار في غاية الزينة، ولربما الكثير من هؤلاء يصبغون بالسواد -ولحاهم بيضاء- فيبدو الواحد منهم في صورة غير الصورة الحقيقية، ولربما عمد بعضهم إلى شيء من المحسنات الأخرى، فيكون هذا فتنة، فالنساء قد تعجب بنبرته قد تعجب بعلمه، قد تعجب بحركاته قد تعجب بوجهه قد تعجب بعينه بأنفه، فكل واحدة تعجب بشيء، وقد لا يكون جميلاً، ولكنها تعجب، فإدامة هذا النظر للساعات الطويلة المتواصلة لا يخلو من فتنة.
دع من أولائك اللائي ينظرن إلى المهرجين والممثلين واللاعبين والمغنيين والساقطين في المجتمع هذه فتنة عظيمة جداً، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى هؤلاء الذين قد ظهروا بصورة تفتن النساء، حتى إن إحدى هؤلاء النساء قالت في مداخلة في إحدى القنوات: إنها تتمنى أن فلاناً من الممثلين يقضي معها ليلة، وليكن بعد ذلك ما يكون! وانظر إلى تهافت الناس على الأفلام التركية، وإعجاب النساء والرجال على حد سواء، هؤلاء يعجبون بامرأة والنساء تعجب برجل، والتعبير برجل على سبيل المجاز، ويمكن أن يكون المجاز في هذا المقام صحيحاً معتبراً، وإن لم يكن في اللغة مجاز، فالشاهد أن نظر النساء أوسع لكن ليس في أولائك مَن نظر بشهوة وريبة وتفرس وإعجاب، سواء كان هذا الإعجاب بممثل أو كان بداعية فلا فرق، والغيرة تأبى ذلك، غيرة الرجل على أهله.
وقوله: وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ قال سعيد بن جُبير:، عن الفواحش، وقال أبو العالية: كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنى، إلا هذه الآية: وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ألا يراها أحد.
وقال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أي: لا يُظهرْنَ شيئا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه.
وقال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني: على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المِقْنعة التي تُجَلِّل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود: الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم.
كلام أهل العلم في هذا كثير جداً وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ما المراد بالزينة؟ وما المراد بهذا الاستثناء "إلا ما ظهر منها"؟ ما الذي يظهر من هذه الزينة؟ وكلام أهل العلم بمجموعه يمكن أن يرجع إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن المقصود بالزينة ظاهر الثياب يعني ما لابد من ظهوره إذا لبست العباءة، الثياب زينة والله -تبارك وتعالى- يقول: يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31]، والمقصود بالزينة في الآية الثياب، ستر العورات التي نزلت الآية من أجلها، فقد كانوا يطوفون بالبيت عراة، والمرأة تقول:
اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه | وما بدا منه فلا أُحِله |
فأمر بستر العورات ويدخل فيه اتخاذ الزينة بلبس الثياب فيستر منكبيه، ويلبس عمامة ونحو ذلك خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعني المقصود: بالثياب، فهذا قول ابن مسعود .
القول الثاني: أن المراد بالزينة هي أمور زائدة على البدن، وما خلق الله عليه الإنسان، ويدخل في ذلك الأصباغ كالحناء والكحل والحمرة والمكياج، ويدخل فيه أيضاً الحلي، كالخاتم والقلادة، والسوار، والخلخال وما أشبه هذا، هذا أمر زائد عن الخِلقة، والثياب أمر زائد عن الخلقة، وذكرته أولاً؛ من أجل بيان أن الأقوال ترجع إلى ثلاثة، وكلام أهل العلم في المراد بـ "إلا ما ظهر منها" بعضهم يقول: ظاهر الثياب كما قال ابن مسعود ومن وافقه، ومنهم من يقول: إنه السوار والخلخال والكحل إلى آخره فيرجعون ذلك إلى هذه الأمور.
والقول الثالث: يرجع إلى الزينة التي خلق الله الإنسان عليها فقد خلقه في أحسن تقويم، فالحلي يتمم نقص الإنسان الطبيعي فالمرأة تتزين به، ولكنه يكون قبحاً في الرجل إذا لبسه، ولك أن تتخيل شخصاً وهو لابس قلادة، أو خلاخيل، أو لابس أقراطاً فإنه يكون في غاية القبح، ولهذا قيل:
وما الحَلْيُ إلا زينةٌ مِن نقيصةٍ | تُتمم مِن حُسن إذا الحسنُ قصّرا |
أمّا إذا كان الجمالُ موفَّراً | كحسنك لم يحتج إلى أن يزوَّرا |
فالرجل إذا وضع الحناء والحمرة والقلادة والسوار وما أشبه ذلك كان ذلك في غاية القبح، فهنا زينة خِلقية أصل الخلقة، ولهذا فإن بعضهم يقول: إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا هو الوجه والكفان، ولا شك أن الوجه هو مجمع المحاسن، وأن الكفين معه يظهر بهما حسن الإنسان حتى الخفي منه، ولهذا أباح الشارع للخاطب أن ينظر من المرأة إلى الوجه والكفين، والأرجح أنه ينظر إلى ما يرغبه في نكاحها فينظر إلى شعرها، ونحرها وما يخرج عادة في بيتها من القدمين والساعد ونحو هذا.
والمقصود أن الرجل إذا نظر إلى وجه المرأة عرف ألوان المحاسن، وهو مجمع المحاسن، وقد يرى الرجل امرأة ذات قوام حسن لكن إذا نظر إلى وجهها نفر منها بدمامة الوجه، وتعرّف أموراً يطلبها الرجال من المرأة، وبالكفين كذلك بامتلائهما وعدمه، وإذا حصل مع هذا ما يتعاطاه كثير من الناس من مصافحة ونحو هذا فإنه يعرف بالمصافحة والملامسة أموراً لا تعرفها المرأة من نفسها، ولذلك الفقهاء يتحدثون عن هذه الأشياء ويعللون نظر الخاطب إليها، كل ما يطلبه الخاطب بلا استثناء يمكن أن يعرفه من الوجه والكفين.
والأقوال ترجع إلى هذه الأمور الثلاثة، هذا ملخص للكلام الكثير المتفرق في بطون الكتب لابد من إيضاحه لأهمية هذه القضية، وابن كثير -رحمه الله- ذكر القول الأول وعزاه لابن مسعود وجماعة من أصحابه وغيرهم، والآية تدل على أن للمرأة زينة ظاهرة، وزينة خفية "إلا ما ظهر منها"، فالظاهرة يجوز إبداؤها، والخفية لا يجوز إبداؤها، إلا لمن استثنى الله -تبارك وتعالى، والخفية ليست على مرتبة واحدة، فهناك خفية لا يراها إلا الزوج، وهناك خفية يراها المحارم والنساء، فصارت الزينة ثلاث درجات فبدن الإنسان ما خلق الله عليه من المحاسن هذا زينة، وما يوضع عليه من تحسين بأصباغ وحلي ونحو ذلك زينة منها ما لا يراه إلا الزوج، ومنها ما يراه المحارم.
فالزينة الظاهرة على قول ابن مسعود وقول ابن كثير، ابن كثير يقول: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا مالا يمكن إخفاؤه، وذكر قول ابن مسعود كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المِقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه.
وهذا أجود الأقوال وأقواها، بمعنى أن هذه العباءة التي تلبسها مثلاً هي من ثياب، وهي من الزينة التي أنعم الله : يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31]، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [سورة الأعراف:32]، فمثل هذا لا يمكن إخفاؤه حينما تظهر لابسة عباءة، لكن بشرط أن لا تكون هذه العباءة مزينة بنفسها لمّاعة أو شفافة أو مخصرة أو مزركشة أو أنيقة كما يبدو للناظرين، أو ذات أكمام تضعها على كتفها أو نحو ذلك.
فالنساء وللأسف صار همُّ الكثيرات منهن أن تبدو أمام الآخرين أنيقة، فصارت تخرج بالعباءة أعظم مما لو خرجت من غير عباءة أناقة في غاية الأناقة، ثم يتلاعب الشيطان بالكثير منهن، فتبدو من هذا السواد قطع من بياض تفتن الرجال، تلاعب بهن الشيطان، تلبس عباءة ذات أكمام بطريقة معينة أدنى حركة يظهر الذراع فكأنه برق يلوح في ظلمة الليل فيسبي القلوب، فصارت المرأة بهذه الطريقة أشد فتنة، ومتبذلة عن التي لا تخرج بعباءة، والنبي ﷺ أخبر أن المرأة عورة ولم يستثنِ، المرأة عورة، وإذا خرجت استشرفها الشيطان وقال إنها: تُقبل بصورة شيطان وتدبر بصورة شيطان[10]، الشيطان يزينها للناظرين.
فالمقصود به ما لابد من ظهوره كأسافل الثياب يعني ما يخرج من تحت العباءة مثلاً من غير قصد، ويمكن أن نقول: ما يخرج منها من غير قصد لو كانت هذه المرأة مثلاً في حال الإحرام، وما عليها قفازات وقد غطت يديها بعباءتها، ولكن لحاجة سقط منها شيء أو نحو ذلك فارتبكت أرادت أن تأخذه فظهرت أصابعها فهي غير مؤاخذة، إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا من غير قصد، ولهذا يقول ابن مسعود : الزينة زينتان فزينة لا يراها إلا الزوج الخاتم والسوار، -لاحظوا الزوج الخاتم والسوار- وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب.
وهذا قال به جماعة من أهل العلم منهم ابن عطية، ابن عطية يقول: المرأة لا تبدي شيئاً من الزينة وتخفي كل شيء من زينتها، يقول: ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم ضرورة كحركة فيما لابد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك، وهذا صحيح وإن كان من أهل العلم من لا يذكر هذا عادة على قول ابن مسعود: ظاهر الثياب وما يبدو من أسافلها، يقول ابن عطية: فما ظهر على الوجه مما تؤدي له الضرورة من النساء فهو المعفو عنه.
وهذا القول -قول ابن مسعود- هو الذي مشى عليه ابن عطية، وإن لم تكن عبارة ابن عطية مطابقة لعبارة ابن مسعود، فهو نفس المعنى، وهو اختيار الشيخ الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وهو الذي كان عليه العمل في أقطار الدنيا في بلاد المسلمين، هكذا كان النساء لا يظهر منها شيء، والصور القديمة تثبت هذا في المشرق والمغرب في تركيا، وفي مصر، وفي الكويت، وفي بلاد كثيرة رأينا صوراً قديمة للنساء لا يظهر منها شيء عباءة مغطية وجهها لا يظهر منها شيء.
والآن بعد أن ظهر مجموعة من الرماديين شيوخ الفضائيات، وظهرت البرمجة العصبية وسعة الأفق، وجاءنا من يتفلسفون، ويقولون: المسألة خلافية، ولا يحجر على الناس في هذا، وكشف المرأة لوجهها وكفيها هذا أمر قال به جماعة من أهل العلم، ويفتي به كثيرون والحمد لله، فإذا أخذت المرأة بهذا فهي غير ملومة، ولا تلزم بتغطية الوجه، يقال هذا في وجه فتنة، وفي وقت حرب على الحجاب، وحرب على المرأة المسلمة، وعلى العفاف ثم يأتي من يقول للناس هذا الكلام، ويقول: لا تكن أحاديَّ النظرة، وتكن ضيق الأفق بإقصاء الوجه الآخر.
وما أدري، مِن هذا الكلام الذي نسمع، يقال: ثم هناك فرق في مجتمع تكون المرأة التي تغطي كل شيء إلا الوجه والكفين هذا في غاية الديانة والصلاح والخير في بعض البلاد، ولا عندها ريبة، لكن في مجتمع آخر المرأة تغطي كل شيء، ثم تأتي واحدة وتتمرد على هذا المجتمع وتبدو بكل بجاحة بوجهها وكفيها هذه ما وصلت إلى هذا إلا بعد ضروب من العبث بالحجاب، في البداية عباءة ذات أكمام و عباءة فراشة، وعباءة مُخصرة وكاب، وعباءة كتف، ولعب وزخرفة وبعد ذلك الخمار على الوجه على الفم، كأنه شيء فضلة متضايقة منه كل لحظات يطيح منها وترجعه، وإذا خرجت من الكوفي شوب قامت تمشي حتى تصل إلى السيارة وهي تعدل العباءة شعرها طالع تحاول أن تعدل العباءة على رأسها متململة متضايقة منه وآخر ما هنا تطلع بوجهها.
والذين يلعبون بالناس هم طوائف وأصناف غير الكُتاب -لا خلاق لهم- وغير الرماديين من الشيوخ منهم دعايات البنوك ووكالات السيارات، وما شابه يظهرون المرأة ممسكة لرجل، ومعها طفلان وقاعدون عند سيارة، أو عند بيت، ومظهرة للوجه ولابسة عباءة مخصرة وكذا، هذا يظهرونه للناس كأسراب القطا، ينظرون هذا المشهد وتصير قضية موضة عند النساء، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه انتظِروا إذا ما تخرج بلباس البحر في الدعاية، وما يمنعها؟! نحن نشاهد هذا الآن في البحرين وفي دويلات أخرى قريبة، وفي مصر، وفي بلاد الشام، وفي المشرق والمغرب هذا موجود في مجلة الهلال رأيته بعيني على الغلاف المرأة كما ولدتها أمها، هذا موجود قبل عشرات السنين، فالقضية ليست عندهم قضية وجه وكفين.
هذا ما جاء إلا يوم جاء الاستعمار، والرجال والنساء في مصر كانوا يتعجبون من الفرنسيات لما جاءت الحملة الفرنسية كيف يضاحكن المُكَارين؟! يعني الذين يؤجرون البغال والجمال ونحو ذلك، وكيف يظهرن وجوههن، وشعورهن، ونحورهن؟ وعن اللباس في ذلك الوقت ما كان التبذل موجوداً في أوروبا، ولباس الأوربيين في ذلك الوقت أستر إلى حد ما، بل حتى رائدات السفور في العالم الإسلامي اللاتي ذهبن إلى مصر وحضرن مؤتمراً وسافرن بلا محرم لأول مرة، كانت خمس منهن مغطيات وجوههن عباءة وتغطية وجه، وثلاث سافرات فقال المتآمرون: الثلاث السافرات لسن من مصر، واستعارهن المصريون، فلا يمكن للمصرية أن تكشف وجهها، والخمس المغطيات لوجوههن هؤلاء هن المصريات، والآن تحولت القضية، وانقلبت، وبدأت بهؤلاء الثلاث.
فالمقصود أن مسألة الشغب على هذه القضية بأنها مسألة خلافية، والتشدد هنا حيث الجمل والصحراء، والنيل في مصر هناك مرونة في الفتاوى، وكلهم على حق وصواب، الفلسفة مرفوضة، والحق واحد عند الله لا يتعدد، وهذا ليس من خلاف التنوع، وإنما هو خلاف التضاد، فأما أن يكون هذا عورة أو ليس بعورة فالفقهاء يقررون أنه إن كان زمان فتنة والمرأة فاتنة فيجب عليها أن تغطي، ونحن اليوم النساء في غاية التزين، والزمان زمان فتنة كما لا يخفى، فكيف يرخص بمثل هذا؟ ونحن نعلم أن القضية لن تقف عنده، والقضية ليست الوجه ولا الكفين.
فالزينة الخفية كالخلخال والسوار والأقراط والقلائد وما شابه ذلك وما يراه إلا الزوج، ومن ذلك ما يراه إلا النساء والمحارم، والزينة الظاهرة على قول ابن مسعود: الظاهر من الثياب، وبعضهم يقول: هي الكحل والخاتم والسواران والوجه والكفان هذا مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء النخعي، والضحاك، وابن الشعثاء، وعكرمة، وابن عمر، وقتادة، وابن مخرمة، ومجاهد، وعامر، وابن زيد، والأوزاعي، وهو اختيار ابن جرير.
لكن الشيء المهم في نظري أن نتأمل في النصوص المنقولة عن السلف -، يريدون بذلك إلا ما ظهر منها يعني حينما يقول هؤلاء أو طائفة من هؤلاء بأن المقصود الكحل والخاتم والسواران والوجه والكفان.... إلى آخره، وبعضهم يقول: الحناء، فهل يجيزون أن تكتحل المرأة وتضع الحناء وتظهر للرجال بهذه الصورة والله قال: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [سورة النور:60]، ثم قال: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ، فنفى عنهن الحرج والجناح، أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ فلا تذهب تتزين وتضع المكياج حتى وإن كانت من القواعد، فالشابة تكون من باب أولى، يعني هل هؤلاء السلف يقولون: إنها تكتحل تتزين وتخرج تضع الأصباغ والحناء، هل يقصدون هذا أمام الرجال الأجانب، أو أنهم يقصدون إلا ما ظهر منها للمحارم، وليس للرجال الأجانب على هذا القول؟
انظر عبارة لابن عباس في أحد الروايات المنقولة يقول: والزينة الظاهرة الوجه وكحل العينين وخضاب الكف والخاتم، يقول: فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها، يعني معناها للرجال الأجانب؟ لا، للمحارم والنساء، ثم قال: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ قال: والزينة التي تبديها لهؤلاء هي قرطها وقلادتها وسوارها فأما خلخالها -الخلخال هو الذي يوضع في الساق- ومعضدها، ونحرها وشعرها فإنه لا تبديه إلا لزوجها، النحر يعني موضع القلادة والشعر ما تبديه إلا للمحارم.
لربما يظن الكثير من الناس أن قول: ابن عباس متساهل، والواقع أنه ليس كذلك هو يرى أن الشعر لا يراه إلا الزوج، وموضع القلادة لا يراه إلا الزوج، والمعضد والخلخال في أسفل الساق يقول: لا يراه إلا الزوج، وبهذا تعرف أن ما يقوله أهل العلم من أن المرأة لها أن تفصل ثوباً ربع كم يبدو منه نصف العضد بحجة أن المعضد يوضع في العضد، وهذا زينة فإذا كانت تتحلى به وهذا جائز إذاً كيف تخفيه تحت الكم فيقول: هذا يدل على أنه يجوز لها أن تلبس نصف كم، يعني يخرج نصف العضد من أجل أن يخرج هذا المعضد.
بعض العلماء يقول: يجوز للمرأة أن تفصل ثوباً نصف كم، ولا دليل على منعه، قالوا: على أساس هذا العضد، وعادة العرب أن يلبسوا ذلك، ويراه الزوج، وهناك أشياء تضعها المرأة تتزين بها للزوج، فالنساء يضعن مثل الحلقة في السرة في البطن هذا موجود فلا يجوز للأجانب أن ينظروا إلى هذه، فهناك زينة للزوج مثل هذا المعضد، وقول ابن عباس: فأما خلخالها ومعضدها ونحرها وشعرها فإنها لا تبديه إلا لزوجها، فصار هذا أشد مما نقوله للناس.
نحن نقول: يجوز للمرأة أن تخرج للمرأة موضع القلادة وموضع الساعة والسوار من الساعد، وأسفل الساق، ما يخرج عادة -لا تفصل ثوباً قصيراً- والقدم ونحو ذلك لا بأس أن تخرجه، وما كان لحاجة فهو فوق ذلك بمعنى أنها تتوضأ فخرج ساقها لا بأس عند المحارم وعند النساء، تتوضأ فكشفت عن ذراعها وجزء من عضدها فلا إشكال عند النساء، كذلك لا إشكال في هذا، لكن هناك فرق بين أن تفصل المرأة ثياباً إلى نصف العضد، ونصف الساق أو ما فوق ذلك وبين أن تقول: يجوز للمرأة أن تُخرج ساقها وتُخرج عضدها، وتَخرج، نقول: هناك فرق بين أن تخرج في هذه الحالة تكون في مهنة أو نحو ذلك في بيتها وبين أن تفصل ثياباً بهذه الطريقة.
وقد تكلمت عن قضية الثياب في أكثر من مناسبة، ولذلك عائشة -ا- لما رأت امرأة في ثياب رقيقة ونحو ذلك قالت: لم تؤمن بسورة النور امرأة تلبس هذا، ولما دخل عليها نساء قد لبسن ثياباً رقيقة أو نحو ذلك قالت: "إن كنتن مؤمنات فليس هذا من لباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات فتمتعن به".
وأسماء لما جاء لها ابنها بثوب وقد كف بصرها فلمسته فأبت أن تقبله -جاء به من خرسان- فقال: إنه لا يشف، فقالت: إن كان لا يشف فهو يصف، بمعنى أنه يلصق على الجسم، والنبي ﷺ قال: المرأة عورة[11]، ولم يقل: أمام الرجال فقط، وإنما حتى أمام النساء إلا ما دل الدليل على جواز إظهاره.
وكما أن الفتنة حاصلة بين الرجال والنساء فاعلموا أن الفتنة واقعة بين النساء، فالنساء اللاتي يتبذلن ويلبسن ألبسة في الأعراس وفي غيرها تبدي المفاتن يُفتن بها النساء، فقد أخبرني عدد من النساء بهذا، بل يقع من التعلق وألوان المواقعات المحرمة، فضلاً عن التقبيل الذي يكون في صور لا يكون فيها إلا بين الرجل وزوجته، والضم ونحو ذلك، كل هذا واقع، الفتنة واقعة والشارع حكيم.
ولا يُظن بقول ابن عباس كما جاء في بعض الروايات أنه يجعل الزينة الظاهرة الكحل والسواك والخضاب في بعض المصادر -بعض الكتب في بعض الروايات- إلى نصف الساق وفي بعضها إلى نصف الذراع، وإنما يجمع كلامه ويفسر بعضه بعضاً يقصد أن هذا يكون للمحارم وللنساء، فالزينة هي اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله -تبارك وتعالى- وهذا لا شك فيه، ويقع على سائر ما يتزين به الإنسان مما هو زائد على هذا، وينحصر في الأمور الثلاثة التي ذكرتها الثياب والأصباغ والحلي، هذه الزينة التي يتزين بها النساء أو الناس عادة، والله أعلم.
وقوله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ يعني: المَقانع يُعمل لها صَنفات ضاربات على صدور النساء؛ لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها؛ ليخالفن شعارَ نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكنّ يفعلن ذلك، بل كانت المرأة تمر بين الرجال مسفحة بصدرها، لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها.
يعمل لها صنفات مقنعة لما تضعه المرأة مثلاً على ثيابها فيكون ذلك على خمارها على أن تغطي به رأسها أو نحو ذلك، يكون لها صنفات أي زوائد حواشي بحيث إنها تستر النحر والجيب، والجيب هو موضع القطع من الثوب الذي يدخل منه الرأس، فلا تتركُ ذلك مفتوحاً ولا تبدي هذا الموضع الذي قد يبدو منه صدرها، وإنما تستره، وليضربن وعبر بلفظ الضرب لأن فيه مبالغة في التستر وفي الإلقاء، وهذه الباء في وليضربن بخمرهن: للإلصاق على جيبوهن بمعنى أنها هكذا تغطيه تبالغ في إخفائه وتغطيته، والذي أدركنا عليه النساء من الأمهات والجدات، ولا زال من بقي منهن إلى الآن لا تخرج أمام أبناءها ولا محارمها إلا وقد سترت رأسها، أو سترت كل شيء بهذه الطريقة لا يبدو منها إلا الوجه والكفان والقدمان فقط، لا زال النساء عندنا بهذه الطريقة من الأمهات والجدات، وهذا التبذل ما جاء إلا مؤخراً.
ثم إن المرأة كانت في الجاهلية تضع على رأسها شيئاً كالخمار ونحوه وتضعه إلى الخلف فيبدو صدرها ونحرها، وتبدو آذانها وأقراطها، فالله -تبارك وتعالى- يقول: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32]، وقال: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [سورة الأحزاب:33].
فبعضهم قال: تبرج الجاهلية الأولى: إذا أظهرت الشعر، فكيف إذا أظهرت البطن والظهر وما إلى ذلك؟! فهذا أشد، وكل ذلك من عمل الجاهلية، وتبرج الجاهلية الأولى خلاف ما يتوهمه كثير من النساء أنها متمدنة إذا كانت متبذلة، وأن التي تحتجب وتستتر هذه قروية وقديمة، وعفا عليها الزمن في العصر الحجري، وللأسف الشديد أن هذا يجد رواجاً ويجد صدى عند الكثيرات، وما علموا أن الجاهلة التي فيها خصلة من خصال الجاهلية هي التي تبدي المفاتن، والله أخبر عن آدم وحواء في الجنة لما أكلا من الشجرة قال: بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ [سورة الأعراف:22] فالستر فطرة، وقال: لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا [سورة الأعراف:20]، فنزع الثياب هو من عمل الشيطان، وإغراء الشيطان وتزيينه.
فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [سورة الأحزاب:59].
وقال في هذه الآية الكريمة: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ والخُمُر: جمع خِمار، وهو ما يُخَمر به، أي: يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع.
قال سعيد بن جبير: وَلْيَضْرِبْن وليشددن بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ يعني: على النحر والصدر، فلا يُرى منه شيء.
وروى البخاري عن عائشة -ا، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل، لما أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ شقَقْنَ مُرُوطهن فاختمرن بها[12].
وروى أيضًا عن صَفيّة بنت شيبة أن عائشة -ا، كانت تقول: "لما نزلت هذه الآية: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ أخذن أُزُرهن فَشَقَقنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها"[13].
المروط جمع مِرط وهو كساء من الصوف أو القطن، الخز.
وهذا يدل على أن الحجاب الذي يحتجبن به أسود، وهناك من يقول للنساء: ما في ضرورة أن يكون أسود هذه عوائد وتقاليد، ونحن نخلط في مجتمعنا بين التقاليد والدين جعلنا الدين خاضعاً للتقاليد، هكذا يقولون للناس، وعائشة -ا- تقول: "خرجن كأن على رءوسهن الغربان" حجاب أسود وهو أبعد الألوان عن الفتنة، وليست القضية الآن في الأسود أو الرمادي، القضية الآن هذا الحجاب أمر ثابت راسخ في المجتمع يراد زعزعته، لماذا أسود؟ لماذا بني؟ فلو كان بنيًّا، لماذا تضعون أسود؟
ثم الحجاب تضع المرأة العباءة على رأسها وتلبسها، تقول المرأة: هناك حجاب ثانٍ أستر من هذا أضعه من فوق رأسي خمار طويل إلى نصف الجسم، ومن تحته عباءة على الكتف، ويغطي هذا ولا يبين حجمه، نقول: نعم هذا حجاب ساتر يلبس في مصر، وفي بعض البلاد، وهو أستر من العباءة، لكن عندنا ليس معهوداً ولا معروفاً، فلماذا تتسلط النساء؟ ألا تريد أن تغير!
المسألة ليست في هذا، القضية أن هذا الحجاب يراد خلخلته وزعزعته؛ ليهون نزعه، وما يجري هنا هو الذي جرى في بلاد الشام وفي غيرها قبل أكثر من مائة سنة حتى نزع الحجاب وانتهى، فيأتي شياطين الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112] يغررون بالناس ويضللونهم شيئاً فشيئاً، البداية مسألة خلافية.
الزينة الأولى: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا هي الزينة الظاهرة، فهي ما ظهر من الثياب، إظهار العباءة وما ظهر من أسافلها تحت العباءة مما لا تقصد إظهاره وإخراجه فهذا ما ظهر.
الزينة الثانية: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ هذه الزينة الخفية التي تبديها للزوج، والمحارم، وللنساء، جعل الحديث عنها بعد ذلك، فذكر هؤلاء الذين استثناهم، ذكر اثني عشر صنفاً يجوز إبداء الزينة لهم، الزينة الخفية.
كيف يكون من غير اقتصاد وتبرج؟ يعني لا يكون ذلك من قلة احتشام، تقلل في الحشمة، الله يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [سورة فاطر:32]، مقتصد أي مقتصر على الواجبات ويترك المحرمات فهو ليس متوسعا في العمل الصالح، هنا من غير اقتصاد وتبرج، تظهر بالزينة لكن من غير اقتصاد وتبرج يعني لا تتقلل من الحشمة.
هنا لم يذكر العم والخال، لكن لا يعني ذلك أنه لا يجوز إظهار الزينة الخفية لهم وأنهم يستثنون من المحارم خلافاً لما قاله عكرمة -وهو خلاف قول الجمهور- هو من المحارم لكن لأنه ينعتها، وممن ذكرهم الله أبناء البعولة مثلاً، وكذلك الرجال الذين يذكرهم الله في هذه الآية أو في الآيات الأخرى أبناء الإخوان وأبناء الأخوات لا ينعتها، هذا وارد، فالشاهد أن ما ذكره عكرمة -رحمه الله- غير صحيح، ولم ينفرد بهذا القول بل وافقه عليه بعض السلف كالشعبي، ولكنه قول مرجوح لأمرين:
الأمر الأول: أن الله ذكر بني الإخوان وبني الأخوات، فالمرتبة الآن مرتبة بني الإخوان وبني الأخوات، هو في مرتبة البعد، والقرب بمرتبة العم والخال، بينها وبين العم الأب، وبينها وبين الخال الأم، وبينها وبين ابن الأخ الأخ، وبينها وبين ابن الأخت الأخت فذِكرُ بني الإخوان وبني الأخوات يغني عن ذكر العم والخال من هذه الحيثية، وإذا كان الخال والعم يَنعت فابن الأخ وابن الأخت يَنعتان.
الأمر الثاني: أن الله ذكر العم والخال في موضع آخر ذكر بيوت الأعمام وبيوت الأخوال، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، والمتكلم به واحد الله ، فما لم يُذكر في هذا الموضع، يذكر في الموضع الآخر، والله -تبارك وتعالى- حينما ذكر في سورة الأحزاب لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ... [سورة الأحزاب:55] لم يذكر أبناء البعولة، فهل يعني أن أمهات المؤمنين لا يجوز أن ينظر إليهن أبناءُ الزوج الحسن والحسين إن ابني هذا سيد[14]، لكونه لم يذكر هناك؟ هو ذكر هنا أبناء البعولة، والبعل هو الزوج، فهذا القول فيه نظر.
قال: ولا تضع خمارها عند العم، فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره.
قوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ المقصود به الزينة الخفية هنا التي تبديها للمحارم كالخلخال، والقرط، الدملج، وما أمرت بتغطيته بخمارها من فوق الجيب، هذا الذي قاله ابن جرير -رحمه الله، وقال به جماعة من أهل العلم، وسبق كلام ابن عباس -ا- أن المقصود هو القرط والقلادة والسوار، وأما الخلخال والمعضد والنحر والشعر فإنه لا تبديه إلا لزوجها، وهذا ليس محل اتفاق، وابن مسعود يقول: هما الطوق والقرط، وبعضهم كإبراهيم النخغي يقول: ما فوق الذراع، وقتادة يقول: هو الرأس، وهذا كله من باب ذكر المثال.
لكن الذي يقول: إنه القرط، أو السوار أو الخاتم، أو الخلخال فهل المقصود أنه يُنظر إلى هذه القطعة من الحلي فقط أو أنه لازم ذلك أن يُنظر إلى المحل؟ هو هذا؛ فمن ذكر هذه الأمور أي الزينة يعني من فسر الزينة بالخلخال والسوار والقلادة إلى آخره فمقصوده أنه ينظر إلى ذلك وينظر بطريق اللزوم، يجوز له أن ينظر إلى الموضع، موضع القلادة موضع السوار، موضع الساعة موضع القرط ينظر إلى أذنها، إلى نحرها وهكذا، هذا مقصوده.
وفي قوله: أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ يدخل فيه الآباء وإن علَوْا من الجهتين من جهة الأم ومن جهة الأب، يعني الأجداد من جهة الأم، والأجداد من جهة الأب يجوز لهم أن ينظروا إليها وهكذا آباء الزوج من الجهتين من جهة الأم يعني جده لأمه، وجده لأبيه كل هؤلاء يجوز لهم أن ينظروا إلى امرأته، وليس الأب القريب فقط، وهكذا أبناء البعولة، أبناء الأزواج فيدخل فيه أولادهم من الذكور والإناث وأولاد البنات، وأولاد الأبناء هم داخلون في هذا أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ من الجهتين، وكذلك في قوله: أَوْ أَبْنَائِهِنَّ فيدخل فيه الأحفاد وإن نزلوا أبناء البنات، وأبناء الأبناء، وأبناء الإخوة، والأخوات سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، أبناء الإخوة والأخوات وإن نزلوا، يعني قد تكون هذه عمة، وقد تكون قرابة هذا بها أن جدته أختها -أي المرأة التي ينظر إليها، وقول الجمهور: أن العم والخال من المحارم.
ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له ما لا يكون بحضرة غيره.
وقوله: أَوْ نِسَائِهِنَّ يعني: تُظهر زينتها أيضًا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة؛ لئلا تصفهن لرجالهن، وذلك وإن كان محذورًا في جميع النساء إلا أنه في نساء أهل الذمة أشدّ، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع، وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه، وقد قال رسول الله ﷺ: لا تباشر المرأةُ المرأةَ، تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها[15] أخرجاه في الصحيحين، عن ابن مسعود.
هنا أضاف النساء إليهن قال: أَوْ نِسَائِهِنَّ ولم يقل: أو النساء ففهم منه بعض أهل العلم كابن كثير أن ذلك يدل على نوع الاختصاص، قالوا: إن المراد بـأَوْ نِسَائِهِنَّ أنها لا تبدي للكافرات، وإنما المقصود المسلمات أخذاً من هذه الإضافة، وابن كثير مسبوق بهذا القول قال به مجاهد ومكحول وابن جريج وهو اختيار القرطبي، والشوكاني يرجح هذا.
ولهذا العلماء يختلفون في عورة المسلمة، أما الكافرة فالمالكية يرون أنها كالرجل الأجنبي لا فرق تحتجب احتجاب كاملاً منها، والذين يقولون: يجوز للمرأة أن تظهر للرجل الأجنبي الوجه والكفين، يقولون: تظهر ذلك للمرأة الكافرة، وعند الشافعي وأبي حنيفة بالنسبة للمرأة الكافرة قولان، وابن عباس -ا- نقل عنه أن المراد بـأَوْ نِسَائِهِنَّ أي: المسلمات، فلا تبدي ذلك ليهودية ولا نصرانية، وذلك النحر والقرط والوشاح وما يحرم أن يراه إلا المحارم، هذه الزينة الخفية.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن المرأة يجوز لها أن تبدو أمام غير المسلمة كما تبدو أمام محارمها، ولم ينقل عن النبي ﷺ أنه كان يأمر نساءه وبناته أن يحتجبن من الكافرات، وفي كثير من الأحاديث تسمع أو تقرأ أن يهودية دخلت على عائشة، يهودية قالت كذا، واليهود كانوا في المدينة ويأتون ويزورون، ويختلطون بالمسلمين، ولم يأتِ بدليل واحد صحيح الأمر بالاحتجاب منهن كما يحتجب من الرجال الأجانب، وإنما جاء الإشكال من الإضافة هنا أَوْ نِسَائِهِنَّ.
إذا فسر قوله: أَوْ نِسَائِهِنَّ بالنساء المسلمات فإن بعض القائلين بذلك قال: أو ما ملكت إيمانهن من النساء الكافرات، يعني من الكافرات اللاتي يجوز لهن أن يرين الزينة الخفية للمرأة المسلمة، المشركات بإطلاق أو ما كان بملك اليمين؟ طائفة من الذين قالوا: أو نسائهن المسلمات قالوا: أو ما ملكت أيمانهن من النساء المشركات، والرقيق الرجل إذا ملكته بملكة، قالوا: لا يجوز أن ينظر إليها فهو كالأجنبي إلا إن كان من غير أولي الإربة هذا أمر آخر لا يختص بها.
والأقرب -والله أعلم- أن قوله: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أن ذلك يشمل المرأة والرجل سواء كان مسلما أو كافراً، فما كان ملك اليمين لا يجوز لها أن تظهر أمامه ما يظهر أمام المحارم إلا إذا أُمنت الفتنة، ويجب على المرأة أن تحتجب من الرجل الأجنبي فإذا عقد ولده عليها ظهرت أمامه، أمام الأب، هو كان سيفتن بها، لكن الآن لما صارت هذه الوشيجة -زوجة الابن- فالأصل في الفِطر والنفوس السوية أن النفوس تنقبض من النظر إليها بريبة، تكون بمنزلة ابنته، وهكذا إذا دخل بأمها، بمجرد العقد على البنت تحرم عليه الأم يجوز له أن يراها، ويجلس معها، وإذا دخل بالأم فإنه تحرم عليه البنت فيراها، وقد تكون أجمل من أمها أضعاف المرات فهذا إذاً أمر يوجد في النفوس، فالفطر السليمة تأبى النظر بريبة إلى مثل هؤلاء فهكذا إذا اشترت المرأة هذا الرجل فإنه ينظر إليها بمنزلة أمه، ولهذا لا زال الناس يقولون لها: عمة، يسميها عمة.
والقول المقصود به الإماء المشركات قال به جماعة كثيرة غير ابن جرير -رحمه الله، كالحسن وابن جرير والمسيب والشافعي والشعبي ومجاهد وعطاء، وابن سيرين، وأبي حنيفة وهو مروي عن ابن مسعود ، والقول الآخر المقصود به المماليك من الرجال، هو قول عائشة وأم سلمة وابن عباس وهو قول أكثر أهل العلم، ومذهب الإمام مالك -رحمه الله- وهذا هو الأرجح -والله تعالى أعلم- أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ.
وقوله: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ يعني: كالأُجراء والأتباع الذين ليسوا بأكْفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وَلَهٌ وخَوَث، ولا همَّ لهم إلى النساء ولا يشتهونهن.
قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا شهوة له.
وقال عكرمة: هو المخَنَّث الذي لا يقوم ذكره، وكذلك قال غير واحد من السلف.
وفي الصحيح من حديث الزهري، عن عُرْوَةَ، عن عائشة؛ أن مخنثًا كان يدخل على أهل رسول الله ﷺ، وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي ﷺ وهو ينعت امرأة يقول: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربعٍ، وإذا أدبرت أدبرت بثمانٍ، فقال رسول الله ﷺ: ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلَنّ عليكُنَ فأخرجه، فكان بالبيداء يدخل يوم كل جمعة يستطعم[16].
قوله: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ غير أولي الإربة يقول هنا: يعني كالأُجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وله وخَوث، ولا هم لهم، خوث يعني ارتخاء أي فيهم ضعف، يعني ما يعبرون عنه بالمخبل والمغفل الذي لا يتفطن لمفاتن النساء، ليس من أولي الإربة، والإربة هي الحاجة، بمعنى أنه لا يشتهي النساء، ولا يميل إليهن ليس فيه شهوة، فمثل هذا يجوز أن يدخل بشرط ألا يتفطن لمفاتن النساء؛ لحديث الرجل الذي كان يقول: "إذا فتح الله عليكم الطائف فعليك بأم غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان"[17]، العرب في ذلك الوقت وإلى عهد قريب ضخامة البدن، وامتلاء البدن هو من أفضل الجمال بالنسبة
إليهم:
وأمّا الألى يسكنّ غوْرَ تِهامةٍ | فكل فتاة تترك الحجلَ أفصماَ |
يعني من عِظم الساق تكسر الحجال هذا عندهم جمال عظيم جداً، فهذا يقول: إذا فتح الله عليكم الطائف فعليك بأم غيلان تُقبل بأربع وتدبر بثمان، وفُسر هذا بعُكَن البطن، فإذا جاءت مقبلة فأربع من الشحم، من الامتلاء، فإذا كانت مدبرة تبين الأطراف من هنا أربع ومن هنا أربع، فأربع من الأمام تبين من الأطراف من هنا أربع ومن هنا أربع فإذا كانت مدبرة صارت ثمانيَ، فمعنى هذا أن هذا الرجل يتفطن لمفاتن النساء، فنهاه النبي ﷺ عن دخوله عليهن، فيشترط فيه:
الأمر الأول: ألا يكون له شهوة.
والأمر الثاني: ألا يكون له معرفة بمفاتن النساء، بعضهم قد لا يكون له شهوة لكنه يعرف، فالشيخ الكبير في السن الذي قد ذهبت شهوته وفنيت هذا لا يجوز له أن يدخل على النساء؛ لأن هذا أحياناً أعظم من الشاب في نظراته وأخطر، وهو عارف ونفسه تتلهف على ما مضى من قوته وفني من شهواته، يفهم هذا -في غاية الفهم- ما لا يعرفه الشباب وهذا مشاهد ويتمنى، ولهذا تعرفون وتسمعون وتقرءون، ويوجد في بعض بلاد أوروبا فنادق فقط لكبار السن، يستأجرون -أعزكم الله- شاباً وشابة للفجور ويتفرجون عليهم، فهم لا يستطيعون مواقعة هذه الأمور لكن لا زالت نفوسهم شابة فهو يتلذذ بالنظر ويتذكر ما ذهب من قوته فيستأجر، فنادق خاصة لهذا يستأجر هؤلاء ليتفرج فمثل هذا لا يجوز له، ولذلك يقال: ليست القضية في انعدام الشهوة، فلو ذهبت شهوته لأي سبب أكل دواء فأذهبها أو عملية جراحية أو غير ذلك، أو أصابته حالة نفسية فأصابه ضعف وصار ما يستطيع أن يواقع لكنه يتفطن لمفاتن النساء فهذا لا يجوز له أن ينظر إليهن ولا يدخل عليهن فلا بد من الأمرين.
وقوله: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ يعني: لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهنّ من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك، فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكّن من الدخول على النساء، وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله ﷺ أنه قال: إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت الحَمْو؟ قال: الحَمْو الموت[18].
قوله -تبارك وتعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا الطفل يعني الأطفال؛ لأن الطفل جنس، ويدل على ذلك أنّ في مصحف أٌبي -: أو الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، والظهور يأتي بمعنيين:
المعنى الأول: هو العلم بالشيء إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [سورة الكهف:20] يعني إن يطلعوا على حالكم، يعلموا بكم، يكتشفوا أمركم، لهذا قال بعض أهل العلم كابن قتيبة: إن المقصود بـ لم يظهروا على عورات النساء: أي لم يتصوروا ذلك، لا علم لهم بهذا، لا بصر لهم بعورات النساء.
والمعنى الثاني: هو بمعنى الغلبة والصولة فهو يتعلق بالقدرة البدنية، ولهذا عبر بعضهم عن ذلك بأنهم لم يظهروا على عورات النساء بالكشف عنها لجماعهن، يعني لم يطيقوا الجماع؛ لصغرهم، لكن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن المراد بذلك ما قاله ابن كثير -رحمه الله: لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ يعني أنه لا يتفطن لمفاتن المرأة، ولا يدرك ذلك، فإذا كان الصغير الطفل بهذه المثابة فيجوز أن تُظهر له المرأة ما تظهره لمحارمها.
وأما إذا كان يتفطن، فيه نباهة، أو لربما سوء، ويميز ويعرف الجميلة من غيرها، وهذه جميلة وهذه كذا فلا يجوز ولو كان صغيراً، ولو كان سبع سنين، فالله -تبارك وتعالى- علق ذلك بهذا الظهور، الطِّفْلِ الَّذِينَ ما قال: الطفل الذين لم يبلغوا كما يظن الكثير من الناس أن البلوغ هو الحد الذي يمكن أو يجب على المرأة أن تحتجب عنده من هذا الطفل، لا.
واليوم مع كثرة الفتن والشر أصبح الكثير من الطلاب في المرحلة الابتدائية لربما يشاهدون أشياء عن طريق زملائهم أو نحو هذا تجعلهم يتفطنون لأمور كثيرة، قد لا يعرفها الآباء، إذا كان الولد كذلك فلا يجوز للمرأة أن تبدو أمامه، وتظهر له ما تظهر لمحارمها، وهذا يحتاج إلى المزيد من النظر والتأمل مع آية الاستئذان لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم َمِنكُمْ [سورة النور:58] فقيده بالبلوغ، هذا في الاستئذان، وهنا في إبداء الزينة.
وقوله: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّكانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت -لا يسمع صوته- ضربت برجلها الأرض، فيعلم الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا، فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي، دخل في هذا النهي؛ لقوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ومن ذلك أيضا أنها تُنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليَشْتَمَّ الرجال طيبها، فقد قال أبو عيسى الترمذي: عن أبي موسى ، عن النبي ﷺ قال: كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا[19] يعني زانية. قال: وفي الباب، عن أبي هريرة، وهذا حسن صحيح.
رواه أبو داود والنسائي[20].
ومن ذلك أيضا أنهن يُنهَين عن المشي في وسط الطريق؛ لما فيه من التبرج، روى أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري : أنه سمع رسول الله ﷺ يقول وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله ﷺ للنساء: استأخرن، فإنه ليس لكن أن تَحْققْن الطريق، عليكن بحافات الطريق، فكانت المرأة تَلصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار، من لصوقها به[21].
وهذا إلى عهد قريب، فكانت المرأة ولو صغيرة -بنت تلبس عباءة- إذا رأت رجلاً من بعيد لصقت بالجدار، وكانت عباءة الواحدة متشققة من جنبها؛ لكثرة لصوقها بالجدار، والجدران في السابق من الطين، وفيها -أعزكم الله- من التبن كانت تلصق ويعلق بثيابها، بعباءتها من الحياء، والآن تمشي رافعة رأسها وسط الطريق أمام الرجال بحالة مزرية، وتضحك وتقهقه، وفي المستوصف ولا حياء، وقد فسر بعض السلف قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [سورة الأحزاب:33] بالمشي وسط الطريق، قال: هذا التبرج وهو نوع منه، والتبرج أوسع من هذا، وأصل التبرج يقال: من الظهور والانكشاف، قال: البرج من الشيء المرتفع الذي يبدو للناظرين، فالمرأة المتبرجة التي تمشي وسط الطريق، والتي تظهر مفاتنها وزينتها وما إلى ذلك كل هذا يقال له تبرج.
هنا قال: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ يعني لما نهى عن إظهار الزينة من أصباغ وحلي ومفاتن البدن وغير ذلك قد تتحيل المرأة بإظهار زينة خفية لا تراها العيون، ولكن تطرب لها النفوس، ولربما تلتذ أعظم مما تلتذ بالنظر، كأن تضرب المرأة بأرجلها ليسمع صوت الخلخال، وتتحرك وتهتز القلوب لذلك، فإن هذا جميعاً مما يحرك النفوس، ويغري بالفاحشة، وقد يكون ذلك بالشم، وقد يكون بالسماع، وقد يكون بالنظر، فسد الشارع هذه الأبواب جميعاً أبواب الفتنة، فإذا خرجت المرأة خرجت بأطمارها.
وإلى عهد قريب في بعض البيئات يعاب الرجل ويلمز إذا اشترى لابنته أو لمن تحت ولايته عباءة قبل الزواج؛ لأنها لا تخرج أصلاً ولا تراها الشمس، وإذا أرادت أن تزور أقاربها تلبس عباءة الأم أو قريبة لها كأختها الكبيرة المتزوجة أو نحو هذا وتخرج قبل طلوع الشمس، يذهب بها أبوها يمشي معها حتى يدخلها على قريباتها ثم يرجع بها بعد المغرب، وهذا كان موجوداً في نجد بهذه الطريقة، وربما لو خرجت المرأة عند الباب ضاعت، ما تعرف ترجع للبيت، ما هي خرِّيتة في المطاعم والأسواق تذهب وتجيء كل يوم تخرج في غاية السآمة من البقاء في البيت، وتطلع بأي طريقة تروح تشتغل بألف ومائتي ريال في آخر الدنيا المهم أنها تطلع، في أي عمل مختلط أو غير مختلط، المهم أنها تخرج.
فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ توبوا إليه: أمر بالتوبة وهذه سورة مدنية، فهو يأمرهم بالتوبة فالإنسان قد يقع منه شيء من الإخلال أو التقصير بما أمره الله -تبارك وتعالى- به فيحتاج إلى أن يتوب، لا يستمر على تقصيره وإخلاله بما أمره الله -تبارك وتعالى- به.
و"لعل" تأتي بمعنى الترجي، ولكن ذلك لا يكون من الله ؛ لأن الترجي إنما يكون ممن لا يعلم العواقب، فإذا فسرت بالترجي فإن ذلك يكون باعتبار نظر المخاطب، ومن أهل العلم من يفسر "لعل" في القرآن يقول: هي للتعليل في جميع المواضع إلا في آية واحدة وهي قوله -تبارك وتعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي كأنكم تخلدون، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يدخل في الفلاح معنيان:
الأول: هو البقاء الأبدي.
والمعنى الثاني: هو إدراك المطلوب والنجاة من المرهوب، فمن أفلح فإنه يدرك مطلوبه وينجو من مرهوبه، ويكون له البقاء الأبدي السرمدي في النعيم المقيم، توبوا إلى الله من أجل أن تفلحوا، تحصّلوا الفلاح.
- رواه مسلم، كتاب الآداب، باب نظر الفجأة، برقم (2159).
- رواه البخاري، كتاب المظالم، باب أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصُّعُدات، برقم (2333)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه، برقم (2121).
- رواه الطبراني في المعجم الأوسط، برقم (2539)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (1225).
- رواه أبو داود، كتاب الحمام، باب ما جاء في التعري، برقم (4017)، والترمذي، كتاب الأدب عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حفظ العورة، برقم (2769)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب التستر عند الجماع، برقم (1920)، وأحمد في المسند، برقم (20034)، وقال محققوه: "إسناده حسن، يحيى بن سعيد: هو القطان، وإسماعيل بن إبراهيم: هو المعروف بابن علية، وبهز: هو ابن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (203).
- رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب فيما يؤمر به من غض البصر، برقم (2149)، وأحمد في المسند، برقم (1373)، وقال محققوه: حسن لغيره، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7953).
- رواه البخاري، كتاب القدر، باب وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [سورة الأنبياء:95]، برقم (6238)، ومسلم، كتاب القدر، باب قُدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره، برقم (2657).
- ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء (3/163)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (4243).
- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم (1/47)، تحقيق: محمد حامد الفقي.
- رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب فيما يؤمر به من غض البصر، برقم (2149)، والترمذي، كتاب الأدب عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في نظرة المفاجأة، برقم (2777)، وأحمد في المسند، برقم (1373)، وقال محققوه: حسن لغيره، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (7953).
- رواه مسلم، كتاب النكاح، باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها، برقم (1403).
- رواه الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات، برقم (1173)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (10115)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6690).
- رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور، برقم (4480).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور، برقم (4481).
- رواه البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي ﷺ للحسن بن علي -ا، برقم (2557).
- رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، برقم (4942)، ولم أجده عند مسلم.
- رواه مسلم، كتاب السلام، باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب، برقم (2181).
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، برقم (4069)، وبرقم (4937)، في كتاب النكاح، باب ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة، ومسلم، كتاب السلام، باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب، برقم (2180).
- رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة، برقم (4934)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، برقم (2172).
- رواه الترمذي، كتاب الأدب عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة، برقم (2786)، وأحمد في المسند، برقم (19513)، وقال محققوه: إسناده جيد، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4540).
- رواه أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في المرأة تتطيب للخروج، برقم (4173)، والنسائي بلفظ: أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية، كتاب الزينة، باب ما يكره للنساء من الطيب، برقم (5126)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2701).
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق، برقم (5272)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (15923)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (929).