الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(4) من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية:32، إلى قوله تعالى: {إِلا كُفُورًا} الآية:50
تاريخ النشر: ٢٤ / ذو القعدة / ١٤٣٠
التحميل: 6810
مرات الإستماع: 3873

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ۝ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ۝ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا [سورة الفرقان:32-34].

يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم، وكلامهم فيما لا يعنيهم، حيث قالوا: لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً أي: هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة، كما نزلت الكتب قبله، كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية، فأجابهم الله عن ذلك بأنه إنما نزل منجماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث، وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به كما قال: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ.. [سورة الإسراء:106] الآية؛ ولهذا قال: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً، قال قتادة: بيّناه تبييناً، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وفسرناه تفسيراً.

وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي: بحجة وشبهة، إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا أي: ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر، وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم.

وروى أبو عبد الرحمن النسائي عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال الله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[1]، وقال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا [سورة الإسراء:106].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- عن قول المشركين -قول الكافرين- مطالبين بنزول القرآن جملة: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً "لولا" في هذا الموضع للتحضيض، هلا نزّل عليه القرآن جملة واحدة، و"لولا" إذا كانت في موضع يمكن في المستقبل، أو فيما يمكن الاستدراك فيه تكون بمعنى التحضيض، تقول: لولا تجدّ من أجل أن تتعلم، هلا تجدّ، هلا تصلي من أجل أن يرضى ربك عنك مثلاً، هلا تصلي.

وإذا كانت في أمر لا يمكن استدراكه فإنها تكون للتبكيت: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [سورة هود:116]، فهذه للتبكيت لأن تلك القرون قد أهلكها الله -تبارك وتعالى.

المقصود أنها هنا للتحضيض يقول: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً أي: كما أنزل على الأنبياء قبله، هذه الآية يستدل بها أهل العلم على نزول الكتب السابقة جملة واحدة، ووجه الاستدلال أن الله -تبارك وتعالى- حينما رد عليهم قال: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا بمعنى: أنه ذكر هذه العلة ولو كانت الكتب السابقة تنزل على الأنبياء كما نزلت على النبي ﷺ مفرقة لكان الرد: كذلك أنزلنا على الذين من قبلك، يعني: الكتب كانت تنزل مفرقة، هذه سنة الله في إنزال الكتب، كما رد عليهم حينما اعترضوا على إرسال الرسول من البشر، فأخبر أنه إنما أرسل الرسل من البشر وأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وهنا ذكر علة لتنزيله على النبي الأمي -عليه الصلاة والسلام: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ هذه الكاف يمكن أن تكون نعتاً لمصدر محذوف: كَذَلِكَ يعني: مثل ذلك التنزيل نزلناه لنثبت به فؤادك، مثل ذلك التنزيل يعني المفرق الذي قدحوا فيه.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ هل هذا من كلام المشركين، أعني قوله: كذلك؟

من أهل العلم من قال هذا، وهو خلاف الظاهر المتبادر، وأن ذلك من كلام الله -تبارك وتعالى.

وقوله -تبارك وتعالى: وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا يقول هنا: قال قتادة: بيّناه تبييناً، وقال زيد بن أسلم: فسرناه تفسيراً، عبارات السلف في هذا متقاربة، فإن هذه اللفظة -هذه المادة الترتيل- تدل على معنى الترسل، وذلك بمعنى أنه ينزل شيئاً بعد شيء، وهذا من التبيين، ويفهمه ﷺ ويحفظه فإنه لم يكن -عليه الصلاة والسلام- كاتباً؛ ولهذا فإن قول بعض السلف: أن يكون آية بعد آية قريب من هذا المعنى، هذا بمعنى التمهل والتؤدة، نزل شيئاً بعد شيء، وقول من قال كابن الأعرابي بأن الترتيل هو التحقيق والتبيين وما أشبه ذلك، فالتحقيق والتبيين قريب مما سبق، فإن الهذرمة مثلاً في القراءة هي خارجة عن هذا الحد، وعبارات السلف قريبة من هذا المعنى، ابن جرير يقول: الترسل والتثبت... شيئاً بعد شيء أو آية بعد آية، فمثل هذا لا يحتاج إلى ترجيح -والله تعالى أعلم.

قال: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يعني بحجة وشبهة، وسبق الكلام كثيراً على معنى المثل واستعمال هذه المادة في القرآن، وأن ما يظن في جميع المواضع أن المثل إنما يكون بتصوير المعقول في صورة المحسوس أن ذلك ليس بلازم، وأنه يشكل عليه بعض المواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى، وأن من أهل العلم من يربط بين المثل والشبه، ويقول: إن أصله يرجع إلى ذلك، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وقال به بعض أهل اللغة.

على هذا الاعتبار: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ هنا ليس فيه تصوير المعقول بالمحسوس، يعني هذا غير الأمثال التي يضربها الله وهي مواطن العبر على أوسع ما فسرت به الأمثال، كما قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله: وهو أوسع ما وقفت عليه في تفسيرها، تفسير الأمثال، معنى المثل في القرآن كل ما فيه عبرة من قصص الأنبياء وأخبارهم، كل ما يعتبر به، وأن هذا فيه معنى الشبه لأصل المعنى اللغوي، فيه تشابه بين الحالتين، حينما يذكر قصص الأنبياء والأمم المكذبة يعتبر الإنسان، والاعتبار: الانتقال، العبرة فيها انتقال من الخد للعين كما يقولون، والعاقل من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، فالعبرة أن يعتبر الإنسان، ينظر في حال ما وقع لغيره ثم يرجع إلى نفسه بعد ذلك، وهكذا العبّارة والمعبر التي يحصل بها الانتقال من ناحية لأخرى.

فهنا: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ هذا ليس من مواطن العبر ولكن هنا يمكن أن يرتبط بأصل المعنى اللغوي الذي فيه معنى الشبه، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي: بشبهة، الشُّبه التي كانوا يعترضون بها على النبي ﷺ، وإن كان المثل يأتي أحياناً بمعنى الصفة، كما في قوله: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [سورة الرعد:35]، و[سورة محمد:15] وإن اعترض على هذا المعنى بعض أهل العلم، فالعلم عند الله ، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍأي: بحجة وشبهة، إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا.

ثم قال تعالى مخبراً عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة وحشرهم إلى جهنم، في أسوأ الحالات وأقبح الصفات: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً، وفي الصحيح عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يُمشِيَه على وجهه يوم القيامة[2].

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ۝ فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ۝ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ۝ وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ۝ وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ۝ وَلَقَد ْأَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا [سورة الفرقان:35-40].

يقول تعالى متوعداً من كذّب رسولَه محمداً ﷺ من مشركي قومه ومن خالفه، ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه، مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله، فبدأ بذكر موسى ، وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيراً، أي: نبيًا مُوَازراً ومؤيداً وناصراً، فكذبهما فرعون وجنوده، فـدَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [سورة محمد:10].

وكذلك فعلَ بقوم نوح حين كذّبوا رسوله نوحاً ، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل؛ إذ لا فرق بين رسول ورسول، ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبون؛ ولهذا قال: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، ولم يُبعث إليهم إلا نوح فقط، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله ، ويحذرهم نقَمه، وما آمن معه إلا قليل، ولهذا أغرقهم الله جميعاً ولم يُبق منهم أحداً، ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة فقط.

وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةًأي: عبرة يعتبرون بها، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ۝ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [سورة الحاقة:11، 12] أي: وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لُجَج البحار، لتذكروا نعمة الله عليكم في إنجائكم من الغرق، وجَعْلكم من ذرّية مَن آمن به وصَدّق أمره.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا الوزير هو المعين، وبعضهم يقول: قيل له ذلك لأنه يحمل الوزر للملك أو الأمير أومن كان وزيراً له، المقصود بالوزر يعني الحمل الثقيل، يعني الأعباء تسند إليه ليقوم بها، والملك يكون كالمشرف على ذلك والآمر به ونحو ذلك، لكن التنفيذ والأعباء والمتابعة يقوم بها الوزير.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا كون هارون -عليه الصلاة والسلام- وزيراً لموسى ﷺ لا ينافي نبوته، فإن الوزارة لا تنافي النبوة، فهو عضد له ومعين له كما أنه نبي، وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ۝ هَارُونَ أَخِي ۝ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ۝ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [سورة طه:29-32]، فهو طلب هذا فأجاب الله دعاءه.

وهنا سؤال معروف في قوله -تبارك وتعالى- عن فرعون وقومه الذين كذبوا بآياتنا: فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الآن موسى ﷺ لم يصل إليهم بعد، ولم يروا شيئاً من الآيات المذكورة التي أعطاها الله موسى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [سورة الإسراء:101] فقال الله -تبارك وتعالى: فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فما المراد بذلك؟

العلماء -رحمهم الله- يجيبون عن هذا بأجوبة:

بعضهم يقول: إنما ذكرها الله -تبارك وتعالى- هنا بهذه الصيغة: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا مع أن موسى لم يأت إليهم بعد؛ لأن ذلك مما قصه الله على رسوله ﷺ للعظة والعبرة، فإن ما قصه الله بعدما وقع ذلك، فيكون قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إنما ذكر هذا بعد انتهاء ذلك كله، ومن أهل العلم من يقول: إن الفعل الماضي هنا: الَّذِينَ كَذَّبُوا هو في معنى المستقبل؛ لأن تكذيبهم متحقق الوقوع، ويعبر بالماضي عن المستقبل إذا كان بهذه المثابة، ويمثلون لهذا بأمثلة كقوله: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1] يعني: هو سيأتي، فهذا جواب، كَذَّبُوا بمعنى الذين سيكذبون، سيحصل منهم التكذيب.

وبعض أهل العلم يقول: الآيات هنا ليست الآيات التي جاء بها موسى -عليه الصلاة والسلام- وإنما هي الآيات الإلهية عموماً الدالة على وحدانية الله وقدرته وعظمته وربوبيته في العالم العلوي والعالم السفلي، كذبوا بهذه، وقال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24].

وبعض أهل العلم يقول: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا المعنى: الذين آل أمرهم وحالهم إلى التكذيب، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة، كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة.

يعني يكون هكذا: يقول الله عن قوم فرعون: فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ۝ وَقَوْمَ نُوحٍ أيضاً أهلكناهم، و"عاداً" معطوف على "وقومَ نوح"، يعني هذا وجه النصب، والتدمير معناه الإهلاك والإبادة والاستئصال.

وأما أصحاب الرس فقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: هم أهل قرية من قرى ثمود.

وقال الثوري عن أبي بُكَيْر عن عكرمة: الرس بئر رَسُّوا فيها نبيهم، أي: دفنوه بها.

كلام أهل العلم في الرس وأصحاب الرس كثير جداً، وابن جرير -رحمه الله- يقول: إن الرس يقال للبئر، ويقال للحفرة في الأرض، يقول: ولا نعلم مما قصه الله -تبارك وتعالى- في القرآن أن نبياً من الأنبياء جاء إلى قوم أو أن قوماً ممن قص الله خبرهم في القرآن كان لهم بئر أو لهم حفرة، يقول: إلا ما ذكره الله في أصحاب الأخدود، الأخدود هو الشق في الأرض، فابن جرير لا يستبعد في ظاهر كلامه أن يكونوا هم يعني على سبيل الاحتمال، يقول: إن كان هؤلاء وإلا فهم قوم ذكر الله خبرهم وليس عندنا ما يدل على تفاصيل تتعلق بهم.

والذي يذكره المفسرون أشياء كثيرة لا دليل عليها لا من الكتاب ولا من السنة، وبعضهم يقول: قرية من قرى ثمود، وبعضهم يقول: هؤلاء كان لهم نبي، بعضهم يذكر خالد بن سنان، ولا تثبت نبوته، تجدون في مثل كتاب المعارف لابن قتيبة ذكر خبراً مطولاً في هذا المعنى، وهكذا أيضاً يقول بعضهم: إنها قرية من قرى اليمامة يقال لها: فَلَج أو فَلْج، قرية من قرى اليمامة، لا أدري يقصدون الأفلاج أو يقصدون شيئاً آخر، الشاهد أنه جاءهم نبي رَسُّوه في بئر يعني قبروه بالحجارة، وبعضهم يقول غير هذا، ولا دليل على شيء من ذلك، قال الشوكاني -رحمه الله تعالى: "وَأَصْحاب الرَّسِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبِئْرُ الَّتِي تَكُونُ غَيْرَ مَطْوِيَّةٍ"[3].

والبئر المطوية هي المبنية بالحجارة، بئر يكون على جوانبها بناء بالأحجار، هذا يقال لها: بئر مطوية، والبئر غير المطوية: مجرد حفر.

وقال الشوكاني -رحمه الله- أيضاً: " وَالْجَمْعُ رِسَاسٌ كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَهُمْ سَائِرُونَ إِلَى أرضهم تنابلة يحفرون الرِّسَاسَا

قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ بِئْرٌ بِإِنْطَاكِيَةَ، قَتَلُوا فِيهَا حَبِيبًا النَّجَّارَ، فَنُسِبُوا إِلَيْهَا وَهُوَ صَاحِبُ يس الذي قال:يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [سورة يس:20]، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ بِأَذْرَبِيجَانَ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فَجَفَّتْ أَشْجَارُهُمْ وَزُرُوعُهُمْ، فَمَاتُوا جُوعًا وَعَطَشًا، وَقِيلَ: كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّجَرَ، وقيل: كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شُعَيْبًا فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِم نَبِيًّا فَأَكَلُوهُ، وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّسَّ: هِيَ الْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَأَصْحَابُهَا أَهْلُهَا، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالرَّسُّ اسْمُ بِئْرٍ كَانَتْ لِبَقِيَّةِ ثَمُودَ، وَقِيلَ الرَّسُّ: مَاءٌ وَنَخْلٌ لِبَنِي أَسَدٍ، وَقِيلَ: الثَّلْجُ الْمُتَرَاكم في الْجِبَالِ. وَالرَّسُّ: اسْمُ وَادٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ

وَالرَّسُّ أَيْضًا: الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْإِفْسَادُ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ مِنَ الأضداد، وقيل: هم أصحاب حنظلة بن صَفْوَانَ، وَهُمُ الَّذِينَ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالطَّائِرِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَنْقَاءِ"[4].

هذا كله لا يصح، كل هذا مأخوذ من الإسرائيليات، والعنقاء لا حقيقة لها أصلاً، أصحاب الرس حينما يقول البئر: وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [سورة الحج:45] يعني: لا يمكن أنه قال: وأصحاب القصر أيضاً قوم، وإنما يذكر الله الأمم المكذبة والمهلَكة فتعطلت مصالحهم ومنافعهم وما كانوا لربما يعتزون به ويفتخرون، ولربما يزدحمون عليه، فصار ذلك لا يرد عليه وارد، ولا يسكن فيه ساكن، خلت الديار وصارت بلاقع، إن الله أهلكهم فتعطلت تلك البئر التي كانوا يستقون منها، وتعطلت قصورٌ مِن ساكنيها بسبب عذاب الله -تبارك وتعالى- للمكذبين.

وقوله تعالى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا أي: وأمماً أضعاف مَن ذُكر أهلكناهم كثيرة، ولهذا قال: وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ أي: بينا لهم الحجج ووضحنا لهم الأدلة، كما قال قتادة: وأزحنا الأعذار عنهم، وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا أي: أهلكنا إهلاكاً، كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [سورة الإسراء:17]، والقرن: هو الأمة من الناس، كقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ [سورة المؤمنون:31] وحدَّه بعضهم بمائة وعشرين سنة، وقيل: بمائة.

قوله: وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا التتبير بمعنى التدمير والإهلاك، وبعض أهل العلم يقول: إنه بمعنى دمر، هو بمعناه لا شك لكن بعضهم يقول: أُبدِل حرفان من دمر فصارت تبر، دمرنا: تبرنا، وهو بمعنى التدمير، تبرنا أي: دمرنا وأهلكنا.

وحدَّه بعضهم بمائة وعشرين سنة، وقيل: بمائة، وقيل: بثمانين سنة، وقيل: أربعين، وقيل غير ذلك، والأظهر أن القرن هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، وإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهم قرن آخر.

هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، فالمتعاصرون في جيل واحد يقال لهم: قرن، فإذا انقرض ذلك الجيل يقال: انقرض ذلك القرن، وهذا الذي رجحه أيضاً الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

كما ثبت في الصحيحين: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..[5] الحديث.

يعني التقديرات التي تذكر، يعني من يقول: إنهم أو إنه يقدر بأربعين سنة، ومن يقول: إنه يقدر مثلاً بمائة وعشرين سنة، والذي قال: مائة وعشرين سنة قدر انقراض الجيل بكامله باعتبار أن الإنسان لا يكاد يصل إلى مائة وعشرين سنة، فيكون هذا الجيل انقرض، يعني الناس الذين من أقرانه قد ماتوا، ومن قدره بأربعين فهؤلاء هم المتعاصرون، والجيل الواحد من المتعاصرين يمكن أن يقدر بمثل هذا.

ولهذا ذكروا في التابعين ثلاث طبقات: كبار التابعين وأوساط التابعين وصغار التابعين، فإذا كان الفارق بين زيد وعمرو ثلاث أو أربع أو خمس سنوات أو سبع سنوات ونحو ذلك فهو من المقاربين له، من قرنه، لكن حينما يكون كل صفحة تكون بأربعين سنة مثلاً فهذا جيل غير الجيل السابق، يعني بمعنى أن جيل الآباء غير جيل الأبناء و إن تعاصروا، وسبب هذا القول من أين نشأ فتقول: الآباء جيل، تقول: جيل الآباء غير جيل الأبناء؟ الأب يقول لأبنائه: في جيلنا كنا..، هذا جيل جديد، فهذا بماذا يقدر؟ يقدر بنحو أربعين سنة.

وليس المقصود هنا التحديد في ما أذكره الآن، لا أقصد تحديد القرن بأربعين، لكن توجيه الأقوال فقط، ولهذا يحسن ألا يحد بسنين فيكون ذلك سبباً للإشكال، وإنما يقال: مَن تعاصروا، المتعاصرون في جيل واحد يمثلون قرناً، والفوارق اليسيرة في السنين بينهم غير مؤثرة، حينما نقول: القرن المنصرم، القرن الماضي، القرون التي كانت قبلنا، والله أعلم.

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني: قوم لوط، وهي سدوم التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر من الحجارة التي من سجيل، كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [سورة الشعراء:173]، وقال: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ۝ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سورة الصافات:137، 138]، وقال تعالى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [سورة الحجر:76]، وقال: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [سورة الحجر:79]؛ ولهذا قال: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا أي: فيعتبروا بما حَلّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول ومخالفتهم أوامر الله.

بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا يعني: المارين بها من الكفار لا يعتبرون؛ لأنهم لا يرجون نشوراً، أي: معادًا يوم القيامة.

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني: أتوا على تلك الناحية التي كان بها قوم لوط أو قرى قوم لوط، فكانوا يأتون إليها في طريقهم من مكة إلى الشام فلا يتعظون ولا يعتبرون، وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ قرية هنا أفردها الله -تبارك وتعالى- والمقصود بذلك القرى، فهذه سدوم هي القرية الأم أو العاصمة كما يقال، وليس المقصود بالقرية هو مجمع البنيان الصغير كما هو في عرفنا الآن، وإنما المقصود البلد أو المدينة أو نحو ذلك، يعني عواصم أهلكها الله -تبارك وتعالى، وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ فسدوم كانت هي الأساس أو العاصمة ولها قرى، ولهذا تأتي بصيغة الجمع، كذلك: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53] يعني: منقلبة قلبها الله ، والمؤتفكات باعتبار القرى بمجموعها، قرى قوم لوط، فهم أكثر من قرية، أكثر من بلدة، أكثر من مدينة.

قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا ۝ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا ۝ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا ۝ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يـَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا [سورة الفرقان:41-44].

يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول ﷺ إذا رأوه، كما قال تعالى: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [سورة الأنبياء:36] يعنونه بالعيب والنقص، وقال هاهنا: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا أي: على سبيل التنقص والازدراء فقبَّحهم الله، كما قال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ.. [سورة الرعد:32] الآية.

وقوله تعالى: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا يعنون: أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها، قال الله تعالى متوعداً لهم ومتهدداً: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ.. الآية.

كما تواصوا أيضاً: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [سورة ص:6] يتواصون على الصبر على عبادتها وعلى هذا الباطل، وهنا يقولون: لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا، والله المستعان.

ثم قال تعالى لنبيه منبهاً أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال فإنه لا يهديه أحد إلا الله : أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أي: مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينَه ومذهبَه، كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ.. [سورة فاطر:8] الآية؛ ولهذا قال هاهنا: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول.

قوله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ اتخاذ الإله: يعني اتخذ هواه إلهه، بمعنى: أنه صار الهوى متبوعاً، فإذا كان الهوى هو قائده هو تابع له فهو بهذا الاعتبار قد اتخذه إلهاً من دون الله -تبارك وتعالى؛ ولهذا قال من قال من السلف بأن الهوى إله يعبد، فهو المحرك للإنسان والدافع له على الفعل أو الترك، إنما يفعل أو يترك اتباعاً لهواه، وهذه هي العبادة، فما يمليه عليه الهوى يبادر إلى فعله، وينكف عما مال عنه هواه، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا تكون عليه وكيلاً يعني تمنعه من ذلك وتحمله على الإيمان، فإن ذلك ليس إليك، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة القصص:56].

ثم قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ.. الآية، أي: هم أسوأ حالاً من الأنعام السارحة، فإن تلك تفعل ما خلقت له، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له فلم يفعلوا، وهم يعبدون غيره ويشركون به، مع قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم.

إي نعم، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؛ لأن الله وصفهم بالصمم والعمى، وأن لهم قلوباً لا يعقلون بها، فهم بهذا الاعتبار لا يسمعون ولا يعقلون ولا يبصرون، صم بكم عمي، فمن كان بهذه المثابة يكون كما قال الله -تبارك وتعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء [سورة البقرة:171]، وكان من جملة ما ذكر: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ يعني: شبه الداعي لهم بالراعي الذي يصيح بالغنم، فهي لا تفقه ما يقول ولكنها تسمع مجرد الصوت دعاء ونداء، لا تدري ما حقيقة ذلك وما ينطوي عليه وما يتضمنه من المعنى، فهؤلاء الكفار بهذه المثابة، الله -تبارك وتعالى- أصمهم وأعمى أبصارهم.

وقد يستغرب الإنسان من حال هؤلاء الذين طُبع على قلوبهم حينما يرون الآيات والدلائل الواضحات على وحدانية الله وصدق رسوله ﷺ كيف لا يستجيبون؟! يعني: الذين عاصروا النبي ﷺ ورأوا الآيات هم فصحاء في غاية الفصاحة ورأوا القرآن وما آمنوا، طلبوا آية فانشق القمر ورأوه وشاهدوه، ومع ذلك لم يؤمنوا.

المنافقون الذين كانوا مع النبي ﷺ يصلون معه في المسجد ويرون وجهه في غاية الإشراق، ويرون دلائل صدقه ويرون كل ما يمكن أن يدعو إلى الإيمان، ويسافرون معه ويرون دعاءه ﷺ يستجاب حينما يجدبون أو تضمحل أزوادهم أو مياههم فيستغيث -عليه الصلاة والسلام- يستسقي، والماء أو السحاب يتبع يديه، فيقول قائلهم: إنما هو سحاب عارض.

تضيع ناقته فيستهزئ من يستهزئ منهم ويقول: يدعي أنه يأتيه الوحي ولا يدري أين ناقته، ثم بعد ذلك يخبرهم عن مكانها، وأنه قد تعلق خطامها بشجرة في المكان الفلاني، فيذهبون ويجدونها كما قال، كل هذه الآيات سفر طويل من المدينة إلى تبوك ذهاباً وعودة، وكل ما يشاهد فيه من الآيات ودلائل الصدق ومع ذلك يرجع أسوأ مما كان.

ولهذا قد يستغرب الإنسان كيف يصل الإنسان إلى مثل هذه الحال؟! هي القضية: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ البهيمة إذا رأت العلف شمرت، وهذا هو غايتها، فهذا الكافر مثل البهيمة، بل أسوأ من البهيمة من وجوه متعددة، منها أن البهيمة ليس لها عقل، ومن ثَمّ فهي غير مكلفة ولا ملومة، وبعض أهل العلم يقول: البهيمة تعرف ربها وهؤلاء لا يعرفون ربهم، هؤلاء أعطاهم الله عقولاً فلم ينتفعوا بها، كما أن البهيمة لا تنكر وتكذب، وهؤلاء ينكرون ويكذبون، تركوا ما خُلقوا له واشتغلوا بغيره، وهذه البهيمة مسكينة إنما غايتها أن تأكل وتشرب، ولا يطلب منها أكثر من هذا، فيتحول الإنسان أحياناً إلى حال كأنه لا عقل له ولا سمع ولا بصر.

مثلاً لو جئت بإنسان فيه علة فيه مرض انفصام عقلي مثلاً في بعض الصور والحالات، وهذا الإنسان عنده تصورات وعنده اعتقادات وعنده أن فلاناً يكيد له وأن فلاناً يتربص به وأن فلاناً يحاربه... إلى آخره، وجلست تتكلم من اليوم إلى يوم القيامة لتقنعه، وأحياناً الكلام الذي يصدر منه كأنه كلام عاقل في صياغته، والذي لا يعرف حاله يظن أنه فعلاً هناك أناس سحروه وفعلوا به الأفاعيل، قريبه وزوجته وفلانة وفلان هم الذين يتربصون به، وتجلس تشرح له أياماً وليالِيَ أن هذا الكلام غير صحيح، وتجلي له هذه الشبه، وتورد له الأدلة، ثم تكتشف فيما بعد أنك كنت تتحدث كما تتحدث إلى الجدار تماماً لا فرق، مثل الكلام مع الجدار، لا يتغير هذا الإنسان، هذه نهاية قدراته العقلية، ما يمكن أن تُغير.

هؤلاء الكفار أسوأ حالاً فلا تستغرب حينما ترى أحداً من المنافقين المردة أو من الكافرين تقول: عجباً لهؤلاء ما يتعظون ولا يعتبرون، وقد يصل الواحد منهم إلى سنٍّ رجله في القبر ولا يتوب، ما يحسب حساباته أن غداً سيموت، ويراجع نفسه بعد هذا العمر الطويل وما قضى فيه من الضياع والفساد والإفساد والحرب على الله وعلى رسوله وعلى دينه، ماذا يرجو هذا الإنسان؟

خلاص، لا ينتظر إلا الموت، ما يرعوي ولا يفكر ولا يتوب ولو عمر ألف سنة ما زاده هذا إلا عتواً، ومن نظر في دلائل القرآن عرف هذه القضية التي لربما ترد على المؤمن لماذا لا يتعظ هذا ويعتبر، وهكذا؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ.

قد يأتي منافق ويصلي مع الناس في التراويح وهو يسمع الختمة، تقول: ما يسمع هذه الآيات التي تهز الجبال؟ هو كالبهيمة التي تسمع الداعي أو الراعي الذي ينعق بها ولكنها لا تنتفع بشيء فهو في عالم آخر، عند النبي ﷺ الآية تنزل ويخرج ويقول: ماذا قال آنفاً؟

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعـَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ۝ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ۝ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [سورة الفرقان:45-47].

مِن هاهنا شرع في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ قال ابن عباس وابن عمر وأبو العالية وأبو مالك ومسروق، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، والضحاك، والحسن البصري، وقتادة، والسدي، وغيرهم: هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

هذا القول: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ يقول: هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، هذا هو الأقرب -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه المراد هنا، مد الظل يعني: بسطه، وحقيقة الظل هو ما توسط بين ظلام الليل وضوء الشمس أو ضوء النهار، هذا المتوسط هذا الوقت الآن هذا وقت الظل امتداد الظل، وقول من قال من أهل العلم -وهم كثير من أهل اللغة: إن الظل ما كان من الفجر إلى ما قبل الزوال، وإن الفيء ما بعده، هذا صحيح، لكن هنا قال: مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا لا يتحرك، إما أنه بسكون ما يؤثر فيه الطول والقصر والحركة والانتقال للشمس، تبقى ساكنة، أو أن الله يجعل الظل باقياً ملازماً لا يتحرك ولا ينتقل فيكون ملازماً للأشياء الشاخصة مثلاً.

الظل يبقى من جهة واحدة لا يتغير ولا يتحرك ولا يمتد، فامتداد الظل -والله تعالى أعلم- يحمل على مثل هذا الوقت في أول النهار وقبل طلوع الشمس، جعله مد الظل فهو ممتد، ثم بعد ذلك إذا طلعت الشمس يبدأ هذا الظل ينحسر شيئاً فشيئاً، حتى يبلغ ذلك نهايته حينما تكون الشمس في كبد السماء ولا يبقى إلا فيء الزوال كما يقال؛ لأن الشمس فيها ميلان والله -تبارك وتعالى- عليم حكيم بمعنى أن الشمس في الشتاء حينما تخرج من المشرق تميل إلى جهة اليسار بأقصى درجة ثم بعد ذلك تنتقل تدريجياً في كل يوم درجة حتى تصل إلى أقصى اليمين في الصيف، بمعنى: أن حكمة الله أنه ما جعل الشمس تخرج من نقطة واحدة.

ولهذا حمل بعض أهل العلم قوله -تبارك وتعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [سورة الرحمن:17] على أقصى نقطة في الشتاء والصيف باعتبار الطرفين، بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [سورة المعارج:40] هذه الدرجات التي تنتقل فيها الشمس لتغطي أكبر قدر من المساحة، يعني: الشمس لا تأتي من الشمال للجنوب، ولو كانت تأتي من الشرق للغرب بدرجة واحدة لبقي أثرها محدوداً على الأرض، لكن حينما تأتي وتصل كل هذه المساحات بتحركها صيفاً وشتاء في حال شروقها وغروبها بهذا الشكل فإنها تغطي أكبر قدر من الأرض، وهذا كله من دلائل قدرته -تبارك وتعالى- فيما يتعلق بالفيء والظل.

والظل أول النهار ما قبل الزوال، والفيء ما بعده، هذا صحيح، مده في أول النهار قبل طلوع الشمس ثم بعد ذلك يبدأ ينحسر، وهذا من دلائل قدرته -تبارك وتعالى، فالأماكن التي يكون فيها الظل تكون إلى البرودة أقرب، فإذا جاءت عليها الشمس وحرها صارت إلى الحرارة أقرب، فيقلّبها الله بين هذا وهذا، فيحصل بذلك انتفاع الإنسان والحيوان والنبات؛ ولهذا قال الله في الشجرة التي في الزيتونة في سورة النور في المثل المضروب، قال: زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ [سورة النور:35].

وكلام أهل العلم كثير في هذا، وسبق الكلام عليه في سورة النور أو ذكرت بعضه، بعضهم يقول: تصيبها الشمس في حال الشروق وفي حال الغروب، لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وبعضهم يقول غير هذا، فالمقصود أن تنقل الناس أو تقلب الناس أو تقلب الأرض في هذه الأحوال بين الفيء تارة وبين الشمس تارة يحصل به حياة الإنسان والنبات، ويحصل به ألوان المنافع التي ندرك بعضها ويخفى علينا كثير منها.

والرؤية هنا في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ بعضهم يقول: بصرية باعتبار أن هذا أمر يشاهد، وبعضهم يقول: هي رؤية علمية يعقلها الإنسان ويستدل بها على قدرة الله .

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعـَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا فَأَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّهُ بَسَطَ الظِّلَّ وَمَدَّهُ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ مُتَحَرِّكًا تَبَعًا لِحَرَكَةِ الشَّمْسِ، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا لَا يَتَحَرَّكُ: إِمَّا بِسُكُونِ الْمُظْهِرِ لَهُ، وَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِسَبَبٍ آخَرَ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَبَضَهُ بَعْدَ بَسْطِهِ قَبْضًا يَسِيرًا، وَهُوَ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، لَمْ يَقْبِضْهُ جُمْلَةً، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ، فَنَدَبَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى رُؤْيَةِ صَنْعَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي هَذَا الْفَرْدِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ لَاصِقًا بِأَصْلِ مَا هُوَ ظِلٌّ لَهُ مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ وَشجَرٍ وَغَيْرِهِ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ.

فَإِنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ تَابِعًا لِمَدِّهِ وَبَسْطِهِ، وَتَحَوُّلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَفِي مَدِّهِ وَبَسْطِهِ ثُمَّ قَبْضِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ مَا لَا يَخْفَى وَلَا يُحْصَى، فَلَوْ كَانَ سَاكِنًا دَائِما، أَوْ قُبِضَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَتَعَطَّلَتْ مَرَافِقُ الْعَالَمِ وَمَصَالِحُهُ بِهِ وَبِالشَّمْسِ، فَمَدُّ الظِّلِّ وَقَبْضُهُ شَيئًا فَشَيئًا لَازِمٌ لِحَرَكَةِ الشَّمْسِ، عَلَى مَا قُدِّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ الْعَالَمِ، وَفِي دَلَالَةِ الشَّمْسِ عَلَى الظِّلَالِ مَا تُعْرَفُ بِهِ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ، وَمَا مَضَى مِنَ الْيَوْمِ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَفِي تَحَرُّكِهِ وَانْتِقَالِهِ مَا يَبْرُدُ بِهِ مَا أَصَابَهُ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، وَيَنْفعُ الْحَيَوَانَاتِ وَالشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ، فَهُوَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَدَّ الظِّلَّ حِينَ بَنَى السَّمَاءَ كَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَدَحَا الْأَرْضَ تَحْتَهَا، فَأَلْقَتِ الْقُبَّةُ ظِلَّهَا عَلَيْهَا، فَلَوْ شَاءَ سُبْحَانَهُ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا مُسْتَقِرًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، ثُمَّ خَلَقَ الشَّمْسَ وَنَصَبَهَا دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ الظِّلِّ، فَهُوَ يَتْبَعُهَا فِي حَرَكَتِهَا، يَزِيدُ بِهَا وَيَنْقُصُ، وَيَمْتَدُّ وَيَتَقَلَّصُ، فَهُوَ تَابِعٌ لَهَا تَبَعِيَّةَ الْمَدْلُولِ لِدَلِيلِهِ.

وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبْضَهُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعةِ بِقَبْضِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْأَجْرَامُ الَّتِي تُلْقِي الظِّلَالَ. فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ إِعْدَامَهُ بِإِعْدَامِ أَسْبَابِهِ، كَمَا ذَكَرَ إِنْشَاءَهُ بإِنْشَاءِ أَسْبَابِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا [سورة الفرقان:46] كَأَنَّهُ يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: قَبْضًا يَسِيرًا يُشْبِهُ قَوْلَهُ: ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [سورة ق:44]، وَقَوْلُهُ: " قَبَضْنَاهُ " بِصِيغَةِ الْمَاضِي لَا يُنَافِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [سورة النحل:1] وَالْوَجْهُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ"[6].

أقوال متعددة في هذا: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ بعضهم يقول: من غروب الشمس إلى طلوعها، هذا امتداد الظل حيث لا شمس، لكن مثل هذا يعتبر ليلاً وظلاماً، ولا يقال له ظل بهذا الإطلاق، إنما الظل هو الحالة المتوسطة -كما سبق- بين الضياء الخالص وبين الظلام الحالك، فما بينهما هو الظل، أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وإنْ كان في الاصطلاح -كما سبق- أن ما كان قبل الزوال يقال له: ظل، وما بعده يقال له: فيء، رجوع الظل إلى الناحية الأخرى.

وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا أي: دائماً لا يزول، كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا [سورة القصص:71] الآيات، وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاأي: لولا أن الشمس تطلع عليه لما عُرف، فإن الضد لا يعرف إلا بضده.

وقال قتادة، والسّدي: دليلاً يتلوه ويتبعه حتى يأتي عليه كله.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا يعني: أنه لولا الشمس لما عُرف الظل؛ لأن الشيء يعرف بما يقابله، بضده، فهي التي دلت عليه، هذا خلق من خلق الله إنما يُعرف بالشمس، فيشاهد الناس أضداده أو ضده، ويشاهدون تقلبه وتنقله وزيادته ونقصانه فيعرفونه، إنما عرفوه بالشمس، الشمس تكون عليه دليلاً بهذا الاعتبار، والقول السابق قول ابن كثير هو الذي اختاره ابن جرير أنه إنما عُرف بها، هي التي دلت عليه.

وبعض أهل العلم يقول: جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا يعني: أنه تابع لها، كاتباع المدلول للدليل حينما يكون مع الناس، كما كان في السابق قديماً في الأسفار القوافل لابد لها من دليل، لابد من دليل يعرف الطرق ونحو ذلك، والنبي ﷺ كما هو معروف أنه اتخذ دليلاً عبد الله بن أريقط في هجرته -عليه الصلاة والسلام، فالمدلول يتبع الدليل، وهكذا يقال في الأدلة الشرعية فهي تُتبع ويُتعرف بها على الأحكام، فهنا الظل يتبع الشمس، ويتنقل معها، وينحسر ويزيد بحسب أحوالها. 

وبعض أهل العلم يقول: لكونها تابعة له، وهذا فيه بُعد، يعني عكس القول السابق، يقول: قال قتادة والسدي: دليلاً يتلوه ويتبعه حتى يأتي عليه كله، فالتابع الشمس، والمتبوع هو الظل، دليل تتبعه؛ لأنه لا يمكن -والله أعلم- أن يقال: إن الشمس تكون تابعة للظل، هي ليست تابعة له، هو الذي يتبعها، والعبارة هي: دليلاً يتلوه ويتبعه حتى يأتي عليه كله، لكن العبارة حتى مع هذا أليست تشعر بأن المقصود أن الشمس تابعة له؟ دليلاً يتبعه، فذُكِّرت هنا "يتبعه" باعتبار أن الدليل مذكر، جَعل الشمسَ عليه دليلاً يتبعه، يعني: هذا الدليل يتبع الظل، قال: حتى يأتي عليه كله، حتى يأتي على الظل.

والمعنى الآخر الذي ذكرته يقابل هذا هو أن الظل هو الذي يتبعها، جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا يتبعها كما يتبع المدلول دليله.

وقوله: ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا أي: الظل، يَسِيرًا أي: سهلاً، وقال السدي: قبضاً خفياً حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة وقد أظلت الشمس ما فوقه.

وقال أيوب بن موسى في الآية: قَبْضًا يَسِيرًا قليلاً قليلاً.

ظاهر سياق قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا أنه أي ارجعوا إلى الظل فهو المحدث عنه، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا أي: أنه ينقبض وينحسر شيئاً فشيئاً بعد البسط، وهذه قرينة تدل على ما سبق من تفسير قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ بأنه قبل طلوع الشمس، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا فإنه يبدأ بالانقباض والانحسار بعد طلوع الشمس، يبدأ بالتقلص ويكون طويلاً في أول النهار، ثم بعد ذلك يبدأ يتقاصر إلى أبعد غاية، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الناحية الأخرى، فهذا كله في الظل، والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول: هذا عند قيام الساعة، حينما تقوم الساعة، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا في تحول تلك الأجرام المضيئة فيذهب ضوءها، لكن هل هذا يقال له: إنه قبض يسير، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا بقبض النيّرات، الأجرام النيّرة؟ هذا لا يخلو من بُعد -والله تعالى أعلم، وبعضهم يقول: لغروب الشمس، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا إذا غربت الشمس جاء الليل بظلامه فيذهب الظل.

والذي يظهر -والله أعلم- أن المراد بذلك هو هذا الذي نشاهده من تحول الظل وانحساره شيئاً فشيئاً، فهو ممتد في أول النهار، ثم بعد ذلك تطلع الشمس التي جعلها الله دليلاً عليه، ثم يبدأ بالانحسار شيئاً فشيئاً وهكذا، فهي آية مشاهدة تدل على قدرة الله وعظمته، ومن أهل العلم من يقول: ثُمَّ قَبَضْنَاهُ يعني ضوء الشمس، إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا قبضه للفيء بالفيء، وابن جرير -رحمه الله- مشى على قاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ۝ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا فيرى أن الضمير قَبَضْنَاهُ عاد إلى الشمس.

وقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا أي: يلبس الوجود ويغَشاه، كما قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [سورة الليل:1].

وَالنَّوْمَ سُبَاتًا أي: قاطعاً للحركة، لحركة الأبدان، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعاش، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات، فاستراحت فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معاً.

جعل الليل لباساً كما قال الله : وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى بمعنى أنه يعم بظلامه الكون أو ما كان فيه من الكون، فيحصل بذلك تغطيته للظلام، كاللباس الذي يغطي ويواري ما تحته.

وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا أي: ينتشر الناسُ فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم، كما قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.. [سورة القصص:73] الآية.

قوله: وَالنَّوْمَ سُبَاتًا يقول هنا: أي قاطعاً للحركة، هذه المادة تأتي بمعنى القطع، السين والباء والتاء تأتي بمعنى القطع، قاطعاً للحركة، بمعنى: أن الناس يسكنون فيه، ويخلدون إلى الراحة، وبعض العبارات التي ذكرها السلف تعود إلى هذا المعنى أو تقاربه، يعني من قال بأن الله جعل النوم سباتاً بمعنى: وقتاً للراحة، يعني: أنهم ينقطعون فيه عن الأعمال والأشغال التي ينتشرون فيها ويزاولونها في النهار؛ ولهذا جعل النهار معاشاً، فالليل قاطع للحركة، وإذا كان قاطعاً للحركة حصل لهم السكون والراحة.

وهناك معانٍ أخرى ذكرها بعضهم، وكون طالب العلم حينما يطالع أحياناً بعض المواضع في كتاب الله وينظر في أقوال المفسرين في الكتب التي تذكر الأقوال والخلاف فهذا يوسع الأفق من ناحية، وإن كانت بعض هذه الأقوال مستبعدة، فيزيد في مدارك الإنسان، لربما في كثير من المواضع يظن الإنسان لأول وهلة أنها لا تحتمل إلا قولاً واحداً، ولا يخطر بباله غير ذلك، فلمّا ينظر كثرة ما قيل فيها والاحتمالات وعلماء كبار وأئمة، هذا مُشرِّق وهذا مُغرِّب، فإنه يكون بذلك أدعى إلى سعة الأفق وأيضاً قوة الاستيعاب، ولهذا العلماء يقولون بأن الإنسان كلما ازداد علمه كلما ازداد يعني معرفةً بجهله.

ولذلك تجد لربما العالم يُسأل عن مسألة يظن بعض الجهال أنها سهلة لا تحتاج إلى توقف، فيتوقف فيها أو يتردد، أو إذا جاء يتكلم يزن الحرف ويزن العبارة وعنده احتياطات كثيرة ومعانٍ كثيرة في ذهنه، فالعبارات فيها محترزات لا يدركها الجاهل ولا تخطر له على بال، لكن لو جاء من يثير حول هذا الجواب إشكالات أو نحو ذلك فتجدها في الجواب، يعني يذكر له المحترزات التي قالها في الجواب لأنه مستحضر لهذه الاحتمالات وهذه الأمور، فتجد عبارات أهل العلم إنما يعقلها وينتفع بها ويدرك الإنسان ما وراءها إذا زاد بصره ومعرفته بالعلم، كلما كان بالعلم أبصر وأعرف كلما كان أقدر على فهم كلام أهل العلم.

وهكذا في كلام الله -تبارك وتعالى- ترِد له أشياء ومعانٍ واحتمالات كثيرة جداً ولهذا يزداد تحرزه واحتياطه حينما يتكلم في مسائل العلم، ويشعر أن ذلك من قبيل العبء الكبير ويرجو أن يخرج منه كفافاً لا له ولا عليه، وأما الجاهل فيلقي الكلام على عواهنه، ويقرأ كلام أهل العلم ولا يدري ما تحته، ويتعجب ويضيق صدره إذا سمع الخلاف، كيف يختلفون والقرآن واحد؟!

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَا يُسْتَرُ مِنْ ظَلَامِ اللَّيْلِ بِاللِّبَاسِ السَّاتِرِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَصَفَ اللَّيْلَ بِاللِّبَاسِ تَشْبِيهًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتُرُ الأشياء ويغشاها"[7].

نريد النوم سباتاً.

وقال -رحمه الله: "وَجَعَلَ النَّوْمَ سُبَاتًا، أَيْ: رَاحَةً لَكُمْ لِأَنَّكُمْ تَنْقَطِعونَ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَأَصْلُ السُّبَاتِ: التَّمَدُّدُ، يُقَالُ: سَبَتَتِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا، أَيْ نَقَضَتْهُ وَأَرْسَلَتْهُ، وَرَجُلٌ مَسبُوتٌ: أَيْ مَمْدُودُ الْخِلْقَةِ، وقيل للنوم: سبات، لِأَنَّهُ بِالتَّمَدُّدِ يَكُونُ، وَفِي التَّمَدُّدِ مَعْنَى الرَّاحَةِ. وَقِيلَ: السَّبْتُ: الْقَطْع، فَالنَّوْمُ انْقِطَاعٌ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَمِنْهُ سَبْتُ الْيَهُودِ لِانْقِطَاعِهِمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: السُّبَاتُ النَّوْمُ، وَهُوَ أَنْ ينْقَطِعَ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالرُّوحُ فِي بَدَنِهِ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ رَاحَةً لَكُمْ"[8].

فكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، يعني: سواء قيل التمدد، فهذا متعلق بالراحة، وهكذا إذا قيل بأنه القطع، كل هذا يرجع إلى معنى واحد.

وقال -رحمه الله: "وَقَالَ الْخَلِيلُ: السُّبَاتُ نَوْمٌ ثَقِيلٌ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ ثَقِيلًا لِيَكْمُلَ الْإِجْمَامُ وَالرَّاحَةُ"[9].

لا يقصد بالنوم الثقيل ما يتعارف عليه الناس اليوم من كون هذا الإنسان لا يدرك ولا يشعر بمن يوقظه ولا يتفطن ولا يتنبه لمن نبهه أو نحو ذلك، فلا يسمع شيئاً مما يسمعه الناس في حال نومهم ليوقظهم أو نحو هذا، لا، ليس هذا المقصود، وإنما المقصود أنه ليس النوم الخفيف في أوائله وبداياته التي يدرك الإنسان فيها أو يشعر بنفسه، هذا المقصود، إنما النوم الثقيل الذي يقصده ما يرتفع معه الإدراك، وكما يقال في مسألة النوم الناقض للوضوء من عدمه، انتهى.

وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا أي: ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم، كما قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.. [سورة القصص:73] الآية.

قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ۝ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ۝ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا [سورة الفرقان:48-50].

وهذا أيضاً من قدرته التامة وسلطانه العظيم، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات، أي: بمجيء السحاب بعدها، والرياح أنواع في صفات كثيرة من التسخير، فمنها ما يثير السحاب، ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشراً، ومنها ما يكون قبل ذلك يَقُمّ الأرض، ومنها ما يُلقِّح السحاب ليمطر؛ ولهذا قال: وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا أي: آلة يُتطهر بها كالسَّحُور والوَقود وما جرى مجراهما.

يعني بمعنى أنه بالظن الطُّهور يكون بمعنى المصدر، يعني التطهر، نعم الطهارة، والطَّهور هي المادة التي يتطهر بها، فالتربة جعلها الله في هذه الأمة طَهوراً وإلا طُهوراً؟ بالفتح طَهوراً يعني: يتطهر بها، وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا يعني: يتطهر به، السَّحور هو ما يؤكل، والسُّحور هو المصدر، هو التسحر، وهنا: وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا قال: أي آلة يُتطهر بها، هذا معناه، وَقود ما يوقد به الحطب مثلاً، والوُقود هو نفس التوقد، قال: وما جرى مجراهما.

وعن أبي سعيد قال: قيل يا رسول الله: أنتوضأ من بئر بُضَاعة وهي بئر يُلقَى فيها النَّتَن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طَهور لا ينجسه شيء[10]، رواه الشافعي، وأحمد وصححه، وأبو داود، والترمذي وحسنه النسائي.

هو الماء الطَّهور يعني بمعنى الطاهر، ولا أعني بذلك تقسيم الفقهاء أو بعض الفقهاء -رحمهم الله- من الماء الطاهر والطهور، وإنما المقصود الطاهر أي: ما يقابل النجس، فهو طاهر في نفسه ومطهر لغيره، وسواء في حال نزوله من السماء –المطر- أو بعد ذلك حينما يبقى في الأرض فيحتبس في بعض المواطن فيها، أو حينما يستخرج منها ثانياً من طريق الآبار، أو ما يخرج من العيون، فإن أصل ذلك هو مما استقر في باطنها مما نزل عليها من المطر، كما قال الله -تبارك وتعالى: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [سورة المؤمنون:18].

وهذا المطر الذي ينزل ما يضيع منه شيء، يسكنه الله في الأرض، يعني مما يشرب منه الناس والدواب ابتداء حينما ينزل، ويجتمع في القيعان ونحو ذلك، ومنه ما يسيخ في الأرض فيجتمع فيها، وهو يجري فيها وينتقل ويكون له عروق من الماء في داخل الأرض بحسب مراتبها، وهذا أمر معروف، ويستخرج ذلك بالآبار بأنواعها، واليوم الناس وصلوا إلى أمور كثيرة في هذا الباب، معرفة هذه الأشياء وتفاصيلها، وكذلك أيضاً حينما يخرجه الله عن طريق العيون، أو ما يحصل من جريان الأنهار أو نحو ذلك، حتى الذي ينزل منه في البحار ما يضيع، ما يضيع شيء إطلاقاً من هذا الماء الذي ينزل في البحار.

بعض العلماء من المعاصرين من أهل الاختصاص في هذه الأمور يقول: إنه يبقى يحافظ على خصائصه ويكون له مجاريه في البحر، ويقولون: هناك مجارٍ عذبة في البحر، تحمل نفس الخصائص، بل كما هو معلوم توجد عيون في البحر، وهذا يعرفه الناس، ولم يكتشفه الناس في العصر الحديث، وإنما كان معروفاً منذ القدم، وأهل البحر الذين يركبونه ويطيلون فيه تنفد ما معهم من المياه ويبقون مدة طويلة شهوراً فينزلون في أعماق البحر ويعرفون مواضع معينة يملئون منها القرب في داخل البحر، هذا يعرفه كبار السن والذين كانوا يغوصون يتزودون من البحر من الماء الحلو، وهذا من آيات الله -تبارك وتعالى.

وكذلك نزول هذه المياه التي تنزل في البحر، أو حتى الأمطار الذي لربما يتوهم الإنسان ويقول: هذه تضيع، تنزل على البحر وعلى المحيطات وكذا، هي تحفظ للبحر خصائصه، بحيث الماء يتبخر عن مياه البحار بعد ذلك يؤثر هذا في زيادة الملوحة بحيث لا يمكن أن تعيش فيه الكائنات، فلما تأتي مياه الأمطار ومياه الأنهار فإن ذلك يُبقى البحر على حد الاعتدال بنسبة الملوحة، هذا غير ما يذكر من أمور أخرى من نبات في البحر وانعقاد اللؤلؤ.

وقوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًاأي: أرضاً قد طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الحياء عاشت واكتست رُباها أنواع الأزاهير والألوان، كما قال تعالى: فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ.. [سورة الحج:5] الآية.

وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا أي: وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة، لشربهم وزروعهم وثمارهم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا.. [سورة الشورى:28]، الآية، وقال تعالى: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.. [سورة الروم:50] الآية.

قوله: وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا الأناسي بعضهم كسبيويه يقول: إنه جمع إنسان، وبعضهم كالفراء والزجاج يقول: إنه جمع إنسي، إنسي وأناسي، وهو يقول: إنسان وأناسي، جمع إنسان، يقول: وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا.

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى: "ثم ذكر سبحانه علة الإنزال فقال: لِنُحْيِيَ بِهِأي: بالماء المنزل من السماء،بَلْدَةً مَّيْتًا وصف البلدة بميتاً وهي صفة للمذكر؛ لأنه بمعنى البلد، وقال الزجاج: أراد بالبلد المكان، والمراد بالإحياء هنا إخراج النبات من المكان الذي لا نبات فيه، وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا أي: نسقي ذلك الماء، قرأ أبو عمرو وعاصم -في رواية عنهما- وأبو حيان وابن أبي عبلة بفتح النون من نسقيه، وقرأ الباقون بضمها، ومِن في "مما خلقنا" للابتداء وهي متعلقة بنسقيه، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال"[11].

قال -رحمه الله: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواضمير صرفناه ذهب الجمهور إلى أنه راجع إلى ما ذكر من الدلائل، أي: كررنا أحوال الإظلال، وذكْر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا"[12].

الذي يتبادر إلى الذهن من قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ أنه المطر، هنا هذا القول الذي ذكره: صَرَّفْنَاهُ يعني ما سبق من الدلائل، أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ۝ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا، فهذه الدلائل صرّفها الله ذكرها في مواضع من القرآن دليلاً على قدرته ووحدانيته وعظمته، فلم يتعظوا ولم يعتبروا.

وقال -رحمه الله: "فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحدها، وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر، أي: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة، فنزيد منه في بعض البلدان وننقص في بعض آخر منها"[13].

وهذا هو الأقرب، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ يعني المطر.

وقال -رحمه الله: "وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة حيث قال:تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [سورة الفرقان:1]"[14].

يعنى صرّفه بمعني: ذكر فيه الأمثال والعبر ودلائل القدرة، وما أشبه ذلك.

وقال -رحمه الله: "وقوله:لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي، وقوله: اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًاوالمعنى: ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به ويعتبروا بما فيه فأبى أكثرهمإِلَّا كُفُورًابه، وقيل: هو راجع إلى الريح، وعلى رجوع الضمير إلى المطر فقد اختلف في معناه، فقيل ما ذكرناه، وقيل: صرفناه بينهم وابلاً وطشاً وطلاً ورذاذاً، وقيل: تصريفه تنويع..."[15].

قوله: صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ يعني: المطر يأتي على صور متعددة، والقول الأول: إنّ صرفناه بمعنى ينزل على ناحية دون ناحية، على بلاد دون بلاد، يتنقل.

وقال -رحمه الله: "وَقِيلَ: تَصْرِيفُهُ تَنْوِيعُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الشُّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالزِّرَاعَاتِ بِهِ وَالطَّهَارَاتِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً هُوَ قَوْلُهُمْ: فِي الْأَنْوَاءِ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا"[16].

صرّفناه يعني في وجوه الانتفاع، صرفناه في صور نزوله، تارة ينزل وابلاً وتارة طشاً وتارة رذاذاً وتارة دِيَماً، أو صرفناه بمعنى حولناه من ناحية إلى ناحية، فتجدب أرض وتحيا أخرى، هذه احتمالات، والكلام يحتمل هذا بهذا التصريف، لكن حينما يقرأ الإنسان مثل هذه الآيات قد لا ترد هذه المعاني في ذهنه، وهذه فائدة العلم والاطلاع، فإنه يتسع معه الصدر وينفسح، وكلما ازداد علماً كلما ازداد انشراحاً في الصدر، والجهل يضيق عَطنه، وازدياد العلم يكون فيه زيادة في مدارك الإنسان واتساع الأفق.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا أي: أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى، فيمطرها ويكفيها ويجعلها غَدَقاً، والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة.

والأقرب -والله أعلم- وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير، واختاره جماعة من أهل العلم، من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- اختار هذا القول صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ يعني: تحول من ناحية إلى أخرى.

قال ابن عباس وابن مسعود : ليس عام بأكثر مطراً من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا أي: ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام والرفات، أو ليذكّر من مُنع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه، فيقلع عما هو فيه.

يتذكرون عظمة الله وقدرته ووحدانيته ليحصل الاعتبار والاتعاظ بمن مُنع، يتذكر فيلجأ إلى الله ويتضرع إليه، ويستغيث، يستسقي؛ لأن ذلك إذا وقع للمؤمن فإن ذلك يحمله على اللجوء إلى الله، بل كان الكفار في حال الشدة يلجئون إلى الله -تبارك وتعالى، فينزل على أقوام فيشكرون، وينحبس عن أقوام فيتذكرون، يعني ما هم فيه من تقصير وغفلة وينيبون إلى الله -تبارك وتعالى، هذا من المعاني الداخلة تحته.

وقوله: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًاقال عكرمة: يعني الذين يقولون: مُطرنا بنَوء كذا وكذا.

وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم، عن رسول الله ﷺ أنه قال لأصحابه يوماً على أثر سماء أصابتهم من الليل: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب[17].

هذا هو المعنى المتبادر، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا يدل عليه هذا الحديث، ومِن كفرهم قولهم: مطرنا بنوء كذا، ونسبة ذلك إلى غير الله ، والشنقيطي -رحمه الله- يقول: قول المعاصرين: مطرنا بالبخار، يعني تبخر الماء من البحار وغيرها، فيرتفع إلى الطبقات العليا ثم يتكثف إلى آخره، وإنما يقول الإنسان: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا فهذا داخل فيه، يعني من قال: مطرنا بالكوكب مثلاً، ولكن المعنى أعم من هذا.

فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا أي: أنهم لم يشكروا نعمة الله عليهم، ولم يعبدوه وإنما صرفوا العبادة إلى غيره، أو أعرضوا عن عبادته، هذا المعنى الأعم، ويدخل فيه من نطق وأضاف ذلك إلى غير الله صراحة، كأن يقول: مطرنا بنوء كذا، لكن المعنى لا يختص بهذا، ما ينحصر بمن قال هذا، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا كل كافر، كل معرض، كل غافل عن هذه النعم التي يفيضها الله على عباده فهو لم يشكرها بل كفر بها، هذا المعنى الذي ذكر يقول النحاس: لا أعلم فيه خلافاً بين المفسرين، مع أنه يوجد في أقوال المفسرين غير هذا، والله تعالى أعلم.

  1. رواه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11372).
  2. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا، برقم (4760)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب يحشر الكافر على وجهه، برقم (2806).
  3. فتح القدير للشوكاني (4/ 89).
  4. المصدر السابق.
  5. رواه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب فضائل أصحاب النبي ﷺ، برقم (3650)، ومسلم، بلفظ: خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم...، كتاب فضائل الصحابة -، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، برقم (2533).
  6. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3/ 273-274).
  7. فتح القدير للشوكاني (4/ 93).
  8. المصدر نفسه.
  9. المصدر نفسه.
  10. رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، برقم (66)، والنسائي، كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة، برقم (326)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، برقم (66)، وأحمد في المسند، برقم (11257)، وقال محققوه: "حديث صحيح بطرقه وشواهده"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1925).
  11. فتح القدير، للشوكاني (4/ 94).
  12. المصدر نفسه.
  13. المصدر نفسه.
  14. المصدر نفسه.
  15. فتح القدير، للشوكاني (4/ 94).
  16. المصدر نفسه.
  17. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، برقم (846)، وبرقم (4147)، في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء، برقم (71).

مواد ذات صلة