بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بـَصِيرًا [سورة الفرقان:20].
يقول تعالى مخبرًا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين أنهم كانوا يأكلون الطعام، ويحتاجون إلى التغذي به، وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم، فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة الظاهرة ما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاءوا به من الله، ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة يوسف:109]، وقوله: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ.. [سورة الأنبياء:8] الآية.
وقوله: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ أي: اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي؛ ولهذا قال: أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا أي: بمن يستحق أن يوحي إليه، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124]، ومن يستحق أن يهديه الله لِمَا أرسلهم به، ومن لا يستحق ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ قال: يقول الله: لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يُخالَفون لفعلت، ولكني قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن رسول الله ﷺ: يقول الله: إني مُبْتَلِيك ومُبْتَلٍ بك[1]، وفي الصحيح: "أنه -عليه أفضل الصلاة والسلام- خُير بين أن يكون نبيًا ملكا أو عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا"[2].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ جعلنا بعضكم لبعض، فهذا يصدق على الرسل -عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم، فقد جعلهم الله فتنة لهم، فيفتن من شاء الله فتنته، فيقول: هلا بعث الله ملَكًا؟ هلا أرسل إلينا ملائكة؟ كيف يكون الرسول بشرًا؟
ويفتن من يفتن أيضًا بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- فيقول من يقول: هلا أنزل هذا القرآن هذا الكتاب على رجل عظيم له ملك وسؤدد؟ هلا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32] يعني: النبوة.
ويفتن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بأقوامهم وما يحصل منهم ويقع من التكذيب، وما يقولونه في حقهم من الأباطيل والإفك، قولهم: شاعر.. كاهن.. كذاب، وهكذا يكون الناس بعضهم لبعض فتنة، الأغنياء يفتنون بالفقراء، والفقراء يبتلون بالأغنياء، فالفقير حينما يرى الغني لربما ضاق صدره بذلك، بل ربما حسده، والغني يُبتلى بالفقير هل يؤدي إليه حقه ويحسن إليه لا سيما إذا تعرض للسؤال وطلب النوال، أو يعرض عنه؟
وهكذا أيضًا تبتلى المرأة بالرجل والرجل بالمرأة، لربما تتمنى المرأة ما وهب الله للرجل من الكمالات، أو لربما يعترض من يعترض منهن على قدر الله في التفضيل، وهكذا الرجل يبتلى بالمرأة حيث جعلها تحت ولايته فهو قيمها وسيدها، هل يقوم بما أمره الله به، أو أنه يتسلط ويظلم ويضيع؟ إلى غير ذلك مما يبتلي الله به الناس بعضهم ببعض، المسلم يبتلى بالكافر، والكافر يبتلى بالمسلم، المؤمن يبتلى بالمنافق، والمنافق يبتلى بالمؤمن، فهؤلاء يتخذون أهل الإيمان سخريًا، قال الله تعالى: حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي [سورة المؤمنون:110] يعني: عبادتي وما أُمرتم به، انشغلوا في الحياة بالسخرية بهم والوقيعة بهم، والله يبتلي أهل الإيمان أيصبرون على ما يصدر من هؤلاء من الأذى؟ فهذا عام في الخلق، وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وإن كان ذلك جاء في سياق الرد على المشركين حينما اعترضوا على كون الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من البشر، لكن العبرة بعموم الألفاظ والمعاني، وإذا نظرت تجد أن هذا في كل شيء، لا يخلو منه نوع من الناس: الوالد مع الولد، والولد مع الوالد، فهذا يُبتلى بهذا وهذا يبتلى بهذا، العالم مع الجاهل، وهلم جرًا.
قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجـُورًا وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا [سورة الفرقان:21-24].
يقول تعالى مخبرًا عن تَعَنُّت الكفار في كفرهم وعنادهم في قولهم: لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ كقوله: لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فنراهم عيانًا فيخبرونا أن محمدًا رسول الله، فهذا مثل قولهم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا [سورة الإسراء:92]، ولهذا قال: أَوْ نَرَى رَبَّنَا، قال الله تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا، وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى.. [سورة الأنعام:111] الآية.
ليس هناك مجال للاجتهاد عندما يترك القول الراجح الذي صرح بترجيحه ويأتي بالقول الذي ضعفه أو ذكره احتمالًا، ويثبت الثاني ويترك الأول، هذا غير مقبول، لكن ليست هذه هي السمة الغالبة على الكتاب، هذه مواضع قليلة أو نادرة، لكن هذا لربما نقول: من أكثر هذه المواضع يعني خطأ، نحن نقول: إذا ذكر ابن كثير قولين ليس له أن يقتصر على واحد منهما إذا كان ابن كثير لم يرجح فيتوهم القارئ أن ابن كثير ذكر هذا فهو اختياره، هنا ابن كثير ذكر القول الذي رجحه ثم ذكر القول الآخر احتمالًا، فيترك تفسيره ويثبت ما كان.
فقال الحافظ ابن كثير في الأصل: "يقول تعالى مخبرا عن تَعَنُّت الكفار في كفرهم، وعنادهم في قولهم: لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي: بالرسالة كما تنزل على الأنبياء، كما أخبر عنهم تعالى في الآية الأخرى: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [سورة الأنعام:124]، ويحتمل أن يكون مرادهم هاهنا: لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ...".
هؤلاء في طلبهم تارة أرادوا أن ينزل الملائكة من أجل أن يروهم ويشاهدوهم، وهنا في قوله -تبارك وتعالى: لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا هذه الجملة تحتمل، لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا، في الموضع الآخر: أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ [سورة الفرقان:7، 8] فهناك أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا من أجل أن يكون معينًا له على أعباء الرسالة، أُنزِلَ إِلَيْهِ ما قالوا إلينا، وهنا أُنزلَ عَلَيْنَا فهذا يحتمل أن يكون كالأول وحروف الجر تتناوب.
لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي: من أجل رؤيتهم بقرينة أنهم قالوا: أَوْ نَرَى رَبَّنَا يشاهدون الملائكة، كقوله: أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلًا [سورة الإسراء:92] فهذه الآية في المشاهدة والرؤية، أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ فنشاهدهم ونراهم لنعرف صدقك، لولا أنزل إليه ملك فيكون معينًا له، أو تأتي بالله والملائكة من أجل أن نراهم، وهنا هذه الآية تحتمل: لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ يعني بمعنى: هلا أنزل علينا الملائكة؟ يحتمل أن يكونوا أرادوا بذلك رؤية الملائكة، أو أن ينزلوا عليهم بالوحي كما نزلوا على النبي ﷺ فيكون ذلك كقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] نؤتى يعني: يوحى إلينا كما أوحي إليهم، فهذه الآيات منها ما هو صريح في هذا المعنى أنهم أرادوا أن يوحى إليهم، ومنها ما هو في المعنى الآخر أنهم طلبوا الرؤية، ومنها ما يحتمل هذا وهذا، فهذه الآية تحتمل المعنيين، وإذا كانت تحتمل معنيين هذا دل عليه القرآن في موضع وهذا دل عليه القرآن في موضع فلا يبعد لو قال قائل بأنهم طلبوا ذلك كله وهذه الآية جاءت معبرة عنهما، والعلم عند الله .
أَوْ نَرَى رَبَّنَا قال: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا [سورة الفرقان:21] والعتو: هو مجاوزة الحد في الطغيان وبلوغ الغاية في ذلك، عتوا عتوًا كبيرًا، جاوزوا الحد، طغوا..
وقوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا أي: هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم، بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم، وذلك يَصْدُق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار والغضب من الجبار، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه: اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سَموم وحَميم، وظلِّ من يحموم، فتأبى الخروج وتتفرق في البدن، فيضربونه، كما قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ.. [سورة الأنفال:50] الآية.
وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أي: بالضرب، أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [سورة الأنعام:93]؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ، وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم، فإنهم يبشرون بالخيرات وحصول المسرات، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [سورة فصلت:30، 31].
وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب: أن الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب إن كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان[3]، وقال آخرون: بل المراد بقوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ يعني: يوم القيامة، قاله مجاهد والضحاك وغيرهما.
ولا منافاة بين هذا وما تقدم، فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران، فلا بشرى يومئذ للمجرمين.
الحافظ -رحمه الله- جمع بين القولين، فإذا رأوا الملائكة فلا بشرى لهم عند ذلك؛ لأن الملائكة إذا رآهم الكفار عند الاحتضار أو يوم القيامة فإنهم يبشرونهم بالنار، لكن لو قال قائل: إن ذلك أيضًا عند نزول العذاب، طلبوا هم رؤية الملائكة، قال: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ عند نزول العذاب بهم، لو قال قائل هذا لا يستقيم، والسؤال: لو قال قائل: أيضًا من الحالات أنهم يرون الملائكة، أي: عند نزول العذاب بهم في الدنيا، لا يستقيم؛ لأنه إذا نزل العذاب بهم هل يرون الملائكة؟ إذا أهلك الله أمة من الأمم، هؤلاء الذين أهلكهم الله هل يرون الملائكة عند نزول العذاب؟ الناس لا يرون الملائكة، لكنهم يرونهم حينما يفارقون هذه الحياة الدنيا عند الاحتضار إذا خرجت أو عند خروج الروح تأخذها الملائكة، وكذلك أيضًا في الآخرة في القيامة.
وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا أي: وتقول الملائكة للكافرين: حرام محرم عليكم الفلاح اليوم، وأصل الحجر المنع، ومنه يقال حَجَر القاضي على فلان، إذا منعه التصرف إما لفَلَس، أو لسفَه، أو صغر، أو نحو ذلك، ومنه سمي الحِجْر عند البيت الحرام؛ لأنه يمنع الطُوَّاف أن يطوفوا فيه، وإنما يطاف من ورائه، ومنه يقال للعقل حِجْر؛ لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق.
والغرض أن الضمير في قوله: وَيَقُولُونَ عائد على الملائكة، هذا قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخرساني وخُصَيف، وغير واحد، واختاره ابن جرير.
وقد حكى ابن جرير عن ابن جُرَيْج أنه قال: ذلك من كلام المشركين، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ أي: يتعوذون من الملائكة؛ وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة يقولون: حِجْرًا مَحْجُورًا.
وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد، لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه.
ابن كثير -رحمه الله- رجح بمقتضى السياق: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، و أقرب مذكور هم المجرمون، هذا أقرب مذكور.
حِجْرًا مَّحْجُورًا فهذا بناء على القاعدة، أن الذي يقول ذلك هم أهل الإشراك، إذًا ما هو السياق الذي رجح بمقتضاه ابن كثير القول الآخر؟
وما يفهم ويؤخذ من مقتضى الكلام وقوته يؤخذ هذا المعنى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا تقول الملائكة الذين طلبوا رؤيتهم: حِجْرًا مَّحْجُورًا يعني: أن دخول الجنة حرام محرم عليكم، والذين قالوا بأن ذلك من قول المشركين قالوا: هذه كلمة تقولها العرب حال الشدة، يقولونها في الحرب إذا أراد أحد قتل أحد يقول له يعني من أريد قتله يقول: حجرًا محجورًا، يعني: كأنه يستعيذ، كلمة تقال للاستعاذة، يعني: حرام محرم عليك قتلي، حِجْرًا مَّحْجُورًا يستعيذ ويستجير بهذا، كغيرها من الكلمات التي تقال للاستعاذة من أجل الامتناع أو المنع، والعامة يقولون: أنت في حرج، "حرج" عندهم كلمة عظيمة أعظم من اليمين والحلف، فإذا قال له: أنت في حرج خلاص ما عاد يستطيع صرفًا ولا نصرًا، وفي بعض النواحي إذا قيل لمن يبني بناء: مقروع، حجرًا محجورًا، لا يستطيع أن يكمل أو يجلس عشر سنوات، ولو أن الولد قال لوالده هذا كذلك، بقي خلاص، هذا رجل قال لي هذا الكلام، ويجلس مدة طويلة وتتلف المواد التي يبني بها من حديد أو غيره؛ لأن هذا يقال له مقروع.
وهذه الكلمة لا قيمة لها أبدًا، لكن هي عندهم حجرًا محجورًا، فبعض العلماء يقول: إن هذا عندهم مثلما عندكم يقال: مقروع، حجرًا محجورًا بمعنى: حرام محرم عليك قتلي، يقول له مستجيرًا مستعيذًا؛ لهذا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- اختار هذا القول، باعتبار أن ذلك متعارف عند العرب، يقولونه، يستعملون هذه الجملة في مقامات الشدة، فتكلموا بها على عادتهم، لتكون على هذا من كلام المشركين، والآية تحتمل، وإن كان قول أكثر أهل العلم أن ذلك من قول الملائكة، وهذا هو الذي قد يتبادر من السياق، وهو المعنى الذي يسبق إلى الذهن، وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا فإنه لا يسبق إلى الذهن أن هذا من قول المشركين، وأن الله يخبر عن المشركين ماذا يقولون حينما يرون الملائكة، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ... الآية، هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر، فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال -التي ظنوا أنها منجاة لهم- شيء؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصًا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل، فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معًا، فتكون أبعد من القبول حينئذ؛ ولهذا قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
وقوله تعالى: فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي في قوله: هَبَاءً مَنْثُورًاقال: شعاع الشمس إذا دخل الكُوَّة. وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي، ورُوي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جُبَير والسُّدِّي والضحاك.. وغيرهم، وكذا قال الحسن البصري: هو الشعاع في كُوّة أحدهم، ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع.
هم حينما قالوا: الشعاع، لا يقصدون ذات الشعاع، وإنما ما يكشف عنه الشعاع، إذا دخل من الكوة، يعني: من النافذة، يعنون به تلك الأجزاء الصغيرة جدًا المتطايرة في الهواء، هذا معروف، فليس ذات الشعاع وإنما ما يبين عنه الشعاع ويظهره ويكشف عنه، وهذا لا يختص بهذه الحال لكننا لا نشاهد، وإلا فالهواء من حولنا تتطاير فيه هذه الأشياء بكثرة، ولو قدر للإنسان وضْع جهاز يكبر له هذه الأمور والأجزاء الصغيرة جدًا لربما لم تطب له الحياة برمتها، ولم يطب له الطعام ولم يهنأ بنوم، وكل ما حولك ترى فيه أشياء وأجزاء تتطاير وأشياء تتحرك، ولو نظر الإنسان إلى وسادته لرأى أشياء غريبة وعجيبة ومخلوقات ذوات خراطيم وأشياء ليس لها خراطيم، فإذا كبرت ربما توهم أنها أمثال الفيلة، لكن من لطف الله بالإنسان أنه لا يشاهدها، حتى التراب مليء بهذه الكائنات والمخلوقات اليسيرة، فالهواء مليء، فإذا جاءت أشعة الشمس كشفت عن شيء من ذلك.
ومجموع كلام السلف في تفسير الهباء يدل على أنه الشيء المتفرق الذي لا يستحصل منه عناء لا قليلًا ولا كثيرًا، فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا فلا يحصل صاحبه منه على شيء، مثل هذا الذي في الكُوّة يظهر من شعاع الشمس في الكوة، ومثل ما يتطاير من حوافر الدواب من الغبار، إلى غير ذلك مما يشبه ذلك، والمعنى يرجع إلى شيء واحد وهو أن الله أبطل أعمالهم وأذهبها، والله المستعان.
وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي: هَبَاءً مَنْثُورًا قال: الهباء رَهْج الدواب، ورُوي مثله عن ابن عباس أيضًا والضحاك، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة في قوله: هَبَاءً مَنْثُورًا قال: أمَا رأيت يَبِيس الشجر إذا ذرته الريح؟ فهو ذلك الورق.
وعن يعلى بن عبيد قال: وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح.
هذا مثال على ما يسمونه باختلاف التنوع، يعني عبارات متقاربة لكنها ترجع إلى شيء واحد، ومثل هذا لا يحتاج إلى ترجيح فليس ذلك من الاختلاف في شيء، وحاصل المعنى هو ما ذكره ابن كثير -رحمه الله.
شبهها بهذه الأمور، صفوان عليه تراب، صفوان حجر أملس، فعليه تراب، فيظن أنه إذا نزل عليه المطر أنبت، ولكنه بمجرد ما ينزل عليه المطر يذهب ذلك التراب عنه فيكون صلدًا، قال: لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ فهي بنفس المعنى.
وعلى هذا تكون كلمة "منثورًا" هو الهباء، فتكون صفة كاشفة، وهذا كما لو قلت: رجل ذكر، تكون "ذكر" صفة كاشفة، ما هي مقيِّدة، لكن لو قلت: رجل طويل، تكون صفة مقيدة.
وقوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا أي: يوم القيامة، لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [سورة الحشر:20]؛ وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات الآمنات، فهم في مقام أمين، حسن المنظر، طيب المقام، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [سورة الفرقان:76]، وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات، والحسرات المتتابعات، وأنواع العذاب والعقوبات، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [سورة الفرقان:66] أي: بئس المنزل منظرًا وبئس المقيل مقامًا؛ ولهذا قال تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أي: بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا، وصاروا إلى ما صاروا إليه، بخلاف أهل النار فإنه ليس لهم عمل واحد يقتضي لهم دخول الجنة والنجاة من النار، فَنَبَّه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء، وأنه لا خير عندهم بالكلية.
وقال سعيد بن جبير: يَفرُغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال الله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا.
وقال عكرمة: إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة، فينصرف أهل النار إلى النار، وأما أهل الجنة فيُنطلق بهم إلى الجنة، فكانت قيلولتهم في الجنة، وأُطعموا كبد حوت فأشبعهم كلهم، وذلك قوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا.
كلمة خير تستعمل بمعنى التفضيل: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا، ولكنها هنا ليست بمعنى التفضيل؛ لأن أفعل التفضيل إنما تكون بين شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر فيها، فتقول: زيد أكرم من عمرو، وزيد أعلم من عمرو، اشتركا في صفة وزاد أحدهما، لكن هنا لا مجال للمقارنة:
أمَا تَرى أنّ السيفَ يَنقصُ قدرُه | إذا قيل إنّ السيفَ أمضى من العصا |
لا مجال للمقارنة والمفاضلة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، وهذا كثير في القرآن، فذلك يقال فيه: إن "خير" أو أفعل التفضيل ليس على بابه، وإنما المقصود به مطلق الاتصاف.
خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا أخذ منه بعض أهل العلم أنهم يدخلون الجنة في منتصف النهار؛ لأنه وقت القيلولة، وذلك في نصف النهار، قد يسأل سائل ويقول: وهل يوجد في الجنة نوم، فالنومة موتة وأهل الجنة لهم الحياة الكاملة، والحياة الكاملة التي لا يعتريها نقص والنوم هو نوع موتة: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [سورة الزمر:42] فهذا مخالف للحياة الكاملة.
هو في الحياة يعتبر كمالًا نسبيًا باعتبار أن الذي لا ينام مريض يحتاج إلى علاج لكنه ليس من الكمالات المطلقة، لهذا القاعدة المعروفة التي يذكرونها في المثل الأعلى: أن كل كمال اتصف به المخلوق فالخالق أولى به؛ لأنه واهب الكمال، فهذه القاعدة ينبغي أن تفهم على وجهها، مع أن السلف لم يثبتوا بها شيئًا من الصفات استقلالًا لكن في مقام الرد على المخالفين، لابد أن يفهم هذا، وأن الوصف الذي يذكرونه ويقولون: كل كمال، المقصود به الكمال المطلق؛ لأن من الكمال ما هو نسبي، ومنه ما هو مطلق.
فالنسبي مثل الزواج، المتزوج أكمل من غير المتزوج، هذا كمال نسبي، الذي يرزق بأولاد أكمل أو الذي لا يرزق بأولاد؟ الذي يرزق بأولاد، فالولد يكون كمالًا نسبيًا، بمعنى: هل هذا يصلح أن ينسب إلى الله ؟ حاشا وكلا، وإنما يحتاج إليه المخلوق ويكون كمالًا في حقه؛ لأنه مفتقر إليه، مفتقر إلى الزوجة، وهو مفتقر إلى الولد، وهكذا أيضًا فيما يتعلق بالنوم هو مفتقر إلى النوم لم ينم فإنه لا يمكن أن تحمله قواه على القيام بشيء من مصالحه، يكون في غاية الاعتلال والإنهاك والتعب، هذا مرض يحتاج إلى علاج، والله امتن على الناس بهذا، هذا من الكمالات النسبية، فأهل الجنة ليس عندهم نوم، فالحياة كاملة، لا يحتاجون إلى النوم، ما يتعبون.
فإذًا المراد بقوله: وَأَحْسَنُ مَقِيلا المقيل لا يعني النوم، وإذا أريد به النوم قُيد، فقيل: نوم القيلولة، لكن الراحة في هذا الوقت، هو وقت راحة وقت توقف عن الأعمال، يقال له مقيل، الآية: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا أنهم لا ينامون، أليس الحديث الذي ذكر فيه: أنهم لا يتمخطون ولا...[4]، قال فيه: ولا ينامون[5]، فهذا له حكم الرفع، ولا يقال من جهة الرأي، وراويه لا يُعرف بالأخذ عن بني إسرائيل إطلاقًا، وهذا من المنقول، والحاجة إلى النوم نسبته إليه منتفية، كمال الحياة أيضًا ينفي ذلك؛ ولهذا يقال في الكلام في الاشتراك في الصفة بين الخالق والمخلوق: إن ذلك لا يقتضي المماثلة، فالحياة يوصف بها الخالق ويوصف بها المخلوق، لكن حياة الخالق يقوم بنفسه وحياته غير مسبوقة بعدم، ولا يلحقها عدم، ولا يعتريها نقص من نوم أو مرض، أو ما يعتور حال الآدميين، حياة المخلوق تختلف، فمما يعتريها النوم ونقْصٌ فيها بلا شك.
قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا [سورة الفرقان:25-29].
يخبر تعالى عن هَول يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظيمة، فمنها انشقاق السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام، وهو ظُلَل النور العظيم الذي يبهر الأبصار، ونزول ملائكة السماوات يومئذ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر، ثم يجيء الرب -تبارك وتعالى- لفصل القضاء.
قال مجاهد: وهذا كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ.. [سورة البقرة:210].
قوله -تبارك وتعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ تشقق بالغمام، تشقق فسر بمعنى التفتح، فتفتّح عن الغمام، وأن الباء بمعنى عن، أن حروف الجر تتناوب، تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ يعني: تنفرج عن الغمام، والله ذكر انشقاق السماء في مواضع: إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ [سورة الإنشقاق:1]، تتشقق السماء تتفتح السماء عن الغمام، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ.. هذا هو الغمام المذكور في هذه الآية، -آية الفرقان، تتفتح عن الغمام، وتكون الباء بمعنى عن، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- وقال به جماعة من المحققين كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع.
قول ابن كثير هنا: منها انشقاق السماء وتفطرها، وانفراجها بالغمام، ظاهر هذا أنه موافق لكلام هؤلاء، انفراجها بالغمام.
هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، وبعضهم يقول: تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ يعني: تتشقق السماء بتشقق الغمام، تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ أو يتشقق السحاب بتشقق السماء، لكن هذا بعيد، تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِيعني: أنه يتشقق هذا الغمام الذي هو بيننا وبين السماء، فكل ما علاك فهو سماء، فيتشقق بتشقق السماء، لكن إذا تشققت السماء هل يلزم من ذلك تشقق الغمام السحاب الذي نراه هذا الذي نشاهده، أو أن المقصود هنا بالغمام غمام آخر غير الغمام الذي نشاهده ويجريه الله بين السماء، إنما تتفتح عن الغمام، لا أنه يتشقق هذا السحاب بتشقق السماء، فلا ملازمة، وبعضهم يقول: إن الباء ليست بمعنى عن، وإنما هي للسببية وهي على وجهها، فتتشقق السماء بسبب أنها تتفتح بسبب الغمام الذي تنفرج عنه ويخرج منها، وبعضهم يقول غير هذا، بعضهم يقول: إنها متعلقة بمحذوف تتشقق السماء بالغمام، متلبسة بالغمام.
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ بعضهم قرأه بالتشديد وهي قراءة متواترة، تشديد الشين: تَشَّقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ، والمعنى في الأصل واحد تشَقق، تشَّقق إلا أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فيدل على التكثير، والله تعالى أعلم.
وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا هذه قراءة الجمهور، وفي القراءات الأخرى قراءة ابن كثير: وَنُنَزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا.
يمكن أن يقال فيه بأن ذلك اليوم هو اليوم العظيم الذي تخضع فيه الرقاب وتذل لله رب العالمين، ولا يَدّعي فيه أحد المْلك، لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، إذا كان مالكًا لذلك اليوم فإنه مالك لما دونه من باب أولى، وبعض أهل العلم يقول: لما كان يعني الملك يُدّعى في الدنيا ويوصف به بعض المخلوقين، قال الله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] الذي لا يَدّعي فيه أحد الملك، إنما الملك لله وحده لا شريك له.
وقوله: وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا أي: شديدًا صعبًا؛ لأنه يوم عدل وقضاء وفصل، كما قال تعالى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [سورة المدثر:8-10]، فهذا حال الكافرين في هذا اليوم، وأما المؤمنون فكما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ.. [سورة الأنبياء:103] الآية.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [سورة الفرقان:27] يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين الذي لا مرْية فيه، وسلك طريقًا أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة نَدِمَ حيثُ لا ينفعه النَدَمُ، وعضّ على يديه حسرةً وأسفًا.
وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي مُعَيط أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم، كما قال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِسورة الأحزاب:66 الآيتين، فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويَعَضّ على يديه قائلًا: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًايعني مَن صرفه عن الهدى، وعدل به إلى طريق الضلالة من دعاة الضلالة، وسواء في ذلك أمية بن خلف أو أخوه أبي بن خلف، أو غيرهما.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ وهو القرآن.
الظالم هنا: جاء في المرويات في أسباب النزول أنها نزلت بسبب أبي بن خلف أو عقبة أو غير ذلك، لكن لا يصح من ذلك شيء في سبب النزول إطلاقًا، فيكون المعنى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يصدق على كل من كان كذلك.
يقول: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا والمقصود بالسبيل يعني: الطريق، يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، وهكذا بمعنى المآب كما قال الله تعالى: فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا [سورة النبأ:39] بمعنى اتباع الرسول وطاعته والانقياد له، سبيلًا إلى طاعته.
يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا [سورة الفرقان:28] كلمة فلان هذه تستعملها العرب إذا كانت تخبر عن قول قائل، يعني: لا تذكرها ابتداء الكلام، ما تقول: جاءني فلان فأكرمته، هذا لا يستقيم، يقول: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ويكنى بذلك عن الرجل المبهم، يعني: أراد أن يبهم اسمه فقال: فلان، والمرأة يقال عنها: فلانة، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قال تعالى:وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِالآية، فكل من اتخذ غير الرسول، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول ﷺ فإنه قائل هذه المقالة لا محالة؛ ولهذا هذا الخليل كنى عنه باسم فلان، إذ لكل متبع أولياء من دون الله فلان وفلان، فهذا حال الخليلين المتخالين على خلاف طاعة الرسول، ومآل تلك الخلة إلى العداوة واللعنة، كما قال الله تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [سورة الزخرف:67]"[7].
قوله: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ يعني القرآن، وبعضهم يقول: الشهادة، وبعضهم يقول: الموعظة، وهذا لا منافاة فيه بين هذه الأقوال، والله تعالى أعلم.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي فالذكر هو القرآن، والذكر هو الموعظة، فالقرآن الله جعله موعظة، وكذلك أيضًا قول من قال بأنه الشهادة -توحيد الإيمان- لأن القرآن متضمن لذلك ويدعو إليه، وهو مفتاح الجنة، وشرط دخولها، فأضله عن ذلك كله: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي.
هذا يحتمل أن يكون من بقية كلامه، فيكون الاتصال فيه باللفظ والمعنى، وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا يعني هو يقول هذا أي الظالم حينما يندم: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا بقية كلامه، ويحتمل أن يكون من الموصول لفظًا المفصول معنى، ويكون من كلام الله -تبارك وتعالى- تعقيبًا على ذلك، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا وهو المتبادر من السياق -والله تعالى أعلم- أن هذا من كلام الله.
وكون الشيطان للإنسان خذولًا كما قال الله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [سورة إبراهيم:22] فهذا من خذلانه.
وكذلك في يوم بدر لما تراءى الجمعان: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ [سورة الأنفال:48] فخذلهم بعد أن قادهم إلى المعركة وقال: وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ جاءهم على صورة رجل وأجارهم من بني كنانة حيث كانوا يتخوفونهم على أهليهم وذراريهم قال: وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ثم بعد ذلك تولى وتركهم.
وقوله -تبارك وتعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيء مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ [سورة الحشر:16] وأكثر السلف ذكروا هذه الرواية وإن كانت من قبيل الإسرائيليات، وإنما أذكرها لأن الصحابة وعامة من تطرق للآية ذكرها في قصة الشيطان الذي جاء للإخوة الذين أرادوا الخروج إلى الجهاد من بني إسرائيل وذهبوا بأخت لهم إلى راهب...، فهي وإن لم تثبت من طريق معتبر فهي من الإسرائيليات، لكن مثل هذا أيضًا داخل تحت قوله -لو صحت هذه الرواية: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ففيها عبرة، ولهذا يذكرها أهل العلم عادة، أغراه بأمور متدرجًا حتى أوقعه بالفاحشة فحملت فقتل الولد ثم كذب عليهم، ثم زعم أنه يخلصه من ذلك بعد أن أخذوه، وأمره بالسجود، فمات على هذه الحال.
قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [سورة الفرقان:30، 31].
يقول تعالى مخبرًا عن رسوله ونبيه محمد ﷺ دائمًا إلى يوم الدين أنه قال: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ.. [سورة فصلت:26] الآية، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به، وترك تصديقه.
فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به من هجرانه، وترك العمل من هجرانه... وهكذا.
وَقَالَ الرَّسُولُ الرسول المقصود به النبي ﷺ محمد -عليه الصلاة والسلام، يشتكي مما وقع من هؤلاء من الهجر للقرآن، وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا بعض أهل العلم يقول: أي مهجورًا فيه، يعني يقولون فيه هجرًا، يقولون: سحر وكهانة وشعر وأساطير الأولين، فهذا من الهجر الذي قالوه فيه، وصفوه بهذه الأوصاف غير اللائقة، فبعضهم يفسره بهذا: اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا يقول فيه هجرًا.
كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه، اتخذوه مهجورًا بمعنى أنهم لا ينصتون إليه ولا يريدون سماعه، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، هذا الذي قاله ابن كثير وموافق فيه لابن جرير، اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا أي: لا يصغون إليه ولا يستمعون إليه، كما قال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [سورة فصلت:26]، يرفعون الأصوات ويشغبون عند سماعه من أجل ألا يسمعوا، وهذه حال أعداء الله في كل زمان.
وابن القيم -رحمه الله- ذكر في النصوص عن أعداء المنقول بأنهم إذا سمعوا كلام الله أو كلام النبي ﷺ يحتج به عليهم شغبوا وصيحوا ويتواصون بذلك، وإذا رأيت إلى حال بعض من لا خلاق له في هذا العصر إذا خرج في مناظرة أو محاورة وهو يتشدق طيلة عمره بالحوار ويقع في من يسميهم بالإقصائيين والذين يحملون نظرة أحادية في التفكير، وإذا حصل بينه وبين أحد مناقشة أو مناظرة أو كذا ما تسمع إلا الصياح المرتفع طول الوقت، لا يريد أن يُسمع الناس كلمة واحدة من هذا الذي يورد النصوص من الكتاب والسنة في أي مسألة من المسائل الشرعية، وإذا جاء الجد صاروا هم أول من يتنكر لها، والآخَر حرية التعبير وما أشبه هذا، فإذا جاء أحد يورد عليهم النصوص ويريد أن يحتج، يعني مباشرة تذكرت هذه الآية، بصوت مرتفع وصياح مستمر، بصورة في غاية البشاعة، لا يرضاها عاقل لنفسه وهو بين أربعة جدران لا يسمعه أحد، فكيف في قناة فضائية من أشهر القنوات يسمعه كل أحد؟!
هذه صورة، هذا يكفي فقط أن يسجل وأن يعرض لكل من افترى أو كذب وتشدق بهذه العبارات، ورأيتم كلامهم حينما يبين أحد أهل العلم عن رأيه فقط في القضية في ألطف عبارة كيف يفعلون، أين الرأي والرأي الآخر، وحرية التعبير؟ أين الإقصاء؟ من هو صاحب الإقصاء؟ فمثل هذه الآيات تصلح رقية يرقى فيها كل أفاك مفترٍ، والله المستعان، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:112]، هذه الأحداث تبين أن هؤلاء هم أبعد ما يكونون عن المبادئ التي يدعون إليها، والله المستعان.
الهجران يدخل فيه هذه المعاني التي ذكرها ابن كثير -رحمه الله، ويدخل فيها غير ذلك مما لم يذكر، ترْك الاستدلال به والاحتجاج به، والاحتجاج كما فعل أهل الكلام بالمنطق اليوناني وما أشبه ذلك مما حصل بسببه بلاء كثير، هذا من هجرانه، تقرأ في كتب الاعتقاد لهذه الطوائف لهذه الفرق كأنك تقرأ في كتاب من كتب اليونان، لا تجد فيها حديثًا ولا آية، هذا من هجرانه، ترك تقرير مسائل العلم في الفقه بتقرير ذلك بالنصوص والاشتغال بالآراء، هذا من هجرانه، ترك الاهتداء به والتلقف للنظريات الغربية في التربية أو كلام الفلاسفة، وسائل تأتيك قال بقراط، قال أرسطو، قال أفلاطون، هذا الذي بقي علينا، قال شكسبير، ويأتيك بأسماء هؤلاء الغربيين، فهذا من هجرانه.
وقل مثل ذلك في ترك الاستشفاء به، ومَن ترك شيئًا ينفعه ابتلاه الله بالاشتغال بما يضره، وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102] تركوا ما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- عليهم من التوراة، تركوا العمل بها، اتبعوا السحر اشتغلوا به، وهكذا من ترك الاستشفاء بالقرآن واشتغل بما يسميه العلاجات الروحية وهي نوع شعوذة واستعانة بالشياطين فهذا من هجران القرآن، يترك الاستشفاء به، والله المستعان.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصّل العلم.
والرابع: هجر تدبّره وتفهّمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيَطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله تعالى:وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وإن كان بعض الهجر أهون من بعض"[8].
لا شك أن مَن ترك التحاكم إليه أو ترك قراءته بالكلية ليس كالذي ترك التداوي والاستشفاء به، وأهل الكلام قالوا: إن أدلته -دلائل القرآن- لا تفيد اليقين؛ لأنه يرد عليها الاحتمالات من تخصيص وتقييد وما إلى ذلك، وقالوا: العقائد لا تثبت إلا بالقواطع العقلية، فتركوا القرآن ولم يعولوا عليه، وصار من قواعدهم أن النقل للاعتضاد والحجة بالمقاييس العقلية، هذا من أعظم الهجر.
ولذلك تجد مثل هؤلاء لا يقيمون وزنًا للقرآن ولا يُعنَوْن به، ولا يشتغلون به في التلاوة، ولا يشتغلون بالتدبر والتفهم له، وانظر واعتبر في حال الفرق المنحرفة من هؤلاء وغيرهم كالرافضة، هم أبعد ما يكون عن القرآن، وذكر شيخ الإسلام عن رجل من علماء أهل الكلام يقال له: الأصبهاني، لما جيء له بالمصحف أراد أن يقرأ من سورة الأعراف، يقال له عالم، فأراد أن يقرأ: المص فلم يعرف يقرأ، أول مرة يمر على الآية، في الظاهر أول مرة، يذكرني بأحد الطلاب أجريت معه مقابلة أعطيته المصحف قلت له: اقرأ وفتحت له سورة المائدة، ما عرف يقرأ، تخرّج من الثانوي معدله فوق الخمسة والثمانين، ما عرف يقرأ، قلت: الظاهر أن الأخ لأول مرة تمر عليك السورة، قال: نعم أول مرة تمر عليّ سورة المائدة.
وآخر يقال له: اقرأ من حفظك، قال: ماذا اقرأ؟ قيل له: اقرأ الفاتحة، قال: الفاتحة رب العالمين، هذا حصل معي أنا أو مع واحد آخر، سمعتها بأذني، فاتحة رب العالمين، فهذا في إنجيل متّى أو برنابا، وهذا تجده كثيرًا، والسبب أنه ما ذلت ألسن هؤلاء بالقرآن ولا اشتغلوا به، اشتغلوا بالغناء، وبعضهم ربما اشتغل بسماع القصائد الملحّنة التي صارت مطربة بعد ذلك في أغلبها، فشغلهم ذلك عن القرآن، راجعوا كلام الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في القواعد الحسان في قاعدة ذكرها وهي: أن من ترك ما ينفعه أو ما هو بصدده ابتلاه الله بالاشتغال بما يضره، وذكر أدلة على هذا من القرآن.
قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ سنة الله في الخلق، وذلك أيضًا لأتباعه، أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إذا كان لكل نبي عدو من المجرمين فلأتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في كل زمان أعداء من المجرمين ولابد؛ ولهذا تحصل سنة المدافعة: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [سورة البقرة:251]، ومن يعقل عن الله -تبارك وتعالى- فإنه ينبغي أن ينظر في موضع قدمه، هل اشتغاله وحاله وعمله في معاداة أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام؟
ولو أردت أن تنظر في حال الناس، في سنة الله الجارية في الخلق، مَن الذين يدعون إلى ما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومَن الذين يعادونه لتبينت الحال، وعرف الإنسان مَن يدخل في جملة أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ومَن يدخل في مثل هذه الآية: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة الأنعام:123]، الذين ليس لهم شغل إلا التشكيك بثوابت الدين وحقائقه والوقيعة في علماء المسلمين وفي شرائع الإسلام، لا سيما ما يتسبب عنه شيوع الفاحشة فيدعون إلى السفور والتبرج على طريقة الشياطين، متدرجين في النقاب في البداية، ثم بعد ذلك إلى أن تخرج بلباس لا يستر إلا السوءة المغلظة، فهؤلاء الذين يدعون إلى هذا ويشنون حملة شعواء على من خالفهم، وهكذا في الاختلاط وغيره.
اللهم صلِّ على محمد، لا إله إلا الله، والسلام عليكم ورحمة الله.
- رواه مسلم، بلفظ: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (7160)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وابن حبان في صحيحه برقم (6365)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1002).
- رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد، برقم (4262)، وأحمد في المسند، برقم (25090)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1968).
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم، برقم (2834).
- لم أجده.
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، برقم (4812)، ولفظه: يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ، ومسلم بلفظ البخاري، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2787).
- الرسالة التبوكية "زاد المهاجر إلى ربه" (ص: 46).
- الفوائد لابن القيم (ص: 82).