السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(6) من قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ} الآية:61 إلى قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} الآية:70
تاريخ النشر: ٢٣ / ذو الحجة / ١٤٣٠
التحميل: 6104
مرات الإستماع: 5994

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ۝ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [سورة الفرقان:61، 62].

يقول تعالى ممجداً نفسه، ومعظماً على جميل ما خلق في السماوات من البروج وهي الكواكب العظام في قول مجاهد، وسعيد بن جُبير، وأبي صالح، والحسن، وقتادة، كما قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ.. [سورة الملك:5] الآية؛ ولهذا قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [سورة النبأ:13].

وَقَمَرًا مُنِيرًا أي: مشرقاً مضيئاً بنور آخر من غير نور الشمس، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [سورة يونس:5]، وقال مخبراً عن نوح أنه قال لقومه: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۝ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [سورة نوح:15، 16].

ثم قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً أي: يخلف كل واحد منهما صاحبه، يتعاقبان لا يفتران، إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك، كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ.. [سورة إبراهيم:33] الآية، وقال: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا.. [سورة الأعراف:54] الآية، وقال: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ.. [سورة يس:40].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا يقول الحافظ ابن كثير: يقول تعالى ممجداً نفسه، معنى تبارك يعني تعاظمت بركته، فإن هذه اللفظة تدل على هذا المعنى تكاثرت بركته، والبركة من الله ، وذلك يختص به، فلا يقال: تبارك فلان، تبارك علينا فلان، وإنما يقال: تبارك الله، وأما غيره فيقال: باركه الله، جعله الله مباركاً.. وما شابه ذلك.

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا قال: وهي الكواكب العظام في قول مجاهد وسعيد بن جبير... إلى آخره، وبعضهم يقول: البروج هي المنازل المعروفة، ما أشار إليه الأخ قبل قليل، ما قرأه من الأصل من قول بعض السلف من أنها القصور، وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78]، البرج أصل هذه المادة تدل على الظهور والانكشاف؛ ولهذا يقال للشيء المرتفع برج لظهوره للناظرين، ومن هنا قيل التبرج بالنسبة للمرأة، ظهرت وبدت محاسنها أو مفاتنها أو مشت في وسط الطريق أو خالطت الرجال يقال: متبرجة، فهو من الانكشاف والظهور: جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا 

ولهذا يقال للمباني المرتفعة برج لهذا المعنى، ومن هنا قال من قال بأن المراد بالبروج القصور، لفت الحافظ -رحمه الله- إلى أن ذلك إن قُصد به أن هذه القصور هي المنازل لهذه الكواكب أو النجوم فيجتمع المعنيان، وذلك للملازمة بين الحال والمحل، إذا قيل الكواكب أو منازل الكواكب، أو إذا كانت البروج بمعنى القصور، فهذه القصور منازل لهذه الكواكب مثلاً، هذا الذي يشير إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَة: حَدثنَا أَبُو أَحْمد حَدثنَا يعلي حَدثنَا إِسْمَاعِيل عَن أبي صَالح: "تبَارك الَّذِي جعل فِي السَّمَاء بروجا" قَالَ: النُّجُوم الْكِبَار، وَهَذَا مُوَافق لِمَعْنى اللَّفْظَة فِي اللُّغَة، فَإِن الْعَرَب تسمي الْبناء الْمُرْتَفع برجا، قَالَ تَعَالَى: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78]، وَقَالَ الأخطل:

كَأَنَّها برجُ روميٍّ يشيّده باَنٍ بجصٍّ وآجُرٍّ وأحجارِ

قَالَ الْأَعْمَش: كَانَ أَصْحَاب عبد الله يقرءونها: "تبَارك الَّذِي جعل فِي السَّمَاء قصورا"، وَأما الْمُتَأَخّرُونَ من الْمُفَسّرين فكثير مِنْهُم يذهب إِلَى أَنَّهَا البروج الاثنا عشر الَّتِي تَنْقَسِم عَلَيهَا الْمنَازل، كل برج منزلتان وَثلث، وَهَذِه الْمنَازل الثَّمَانِية وَالْعشْرُونَ يَبْدُو مِنْهَا للنَّاظِر أَرْبَعَة عشر منزلا أبدا، وَيخْفى مِنْهَا أَرْبَعَة عشر منزلا، كَمَا أَن البروج يظْهر مِنْهَا أبدا سِتَّة وَيخْفى سِتَّة، وَالْعرب تسمى أَرْبَعَة عشر منزلا منهَا شامية، وَأَرْبَعَة عشر يَمَانِية، فَأول الشامية السرطان وَآخِرهَا السماك الأعزل، وَأول اليمانية الغفر وَآخِرهَا الرشا إِذا طلع مِنْهَا منزل من الْمشرق غَابَ رقيبه من الْمغرب وَهُوَ الْخَامِس عشر، وَبهَا تَنْقَسِم فُصُول السّنة الْأَرْبَع فللربيع مِنْهَا الْحمل والثور والجوزاء ومنازلها الشَّرْطَيْنِ والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع، وللصيف مِنْهَا السرطان والأسد والسنبلة، ومنازلها النثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك، وللخريف مِنهَا الْمِيزَان وَالْعَقْرَب والقوس، ومنازلها الغفر والزبان والأكليل وَالْقلب والشولة والنعائم والبلدة، وللشتاء مِنهَا الجدي والدلو والحوت ومنازلها سعد الذَّابِح وَسعد بلع وَسعد السُّعُود وَسعد الأخبية وَالْفرع الْمُقدم وَيُسمى الأول، وَالْفرع الْمُؤخر وَيُسمى الثَّانِي والرشا، وَلما كَانَ نزُول الْقَمَر فِي هَذِه الْمنَازل مَعْلُوما بالعيان والمشاهدة، ونزول الشَّمْس فِيهَا إِنَّمَا هُوَ بِالْحِسَابِ لَا بِالرُّؤْيَةِ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [سورة يونس:5]، وَقَالَ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ۝ وَالـْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [سورة يس:38، 39] فَخص الْقَمَر بِذكر تَقْدِير الْمنَازل دون الشَّمْس وَإَن كَانَت مقدرَة الْمنَازل؛ لظُهُور ذَلِك للحس فِي الْقَمَر وَظُهُور تفَاوت نوره بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان فِي كل منزل"[1].

هذا الكلام مهم في الفرق بين الحساب القمري والحساب الشمسي، وكثير من الناس يقولون: الحساب الشمسي أدق.

وقال -رحمه الله: "ولذلك كان الحساب القمري أشهر وأعرف عند الأمم، وأبعد من الغلط، وأصح للضبط من الحساب الشمسي، ويشترك فيه الناس دون الحساب الشمسي؛ ولهذا قال تعالى في القمر: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [سورة يونس:5]، ولم يقل ذلك في الشمس؛ ولهذا كانت أشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب القمر وسيره ونزوله في منازله، لا على حساب الشمس وسيرها، حكمة من الله ورحمة، وحفظاً لدينه، لاشتراك الناس في هذا الحساب، وتعذر الغلط والخطأ فيه، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين أهل الكتاب، فهذا الذي أخبرنا تعالى به من شأن المنازل وسير القمر فيها، وجعْلِ الشمسِ سراجاً وضياء يبصر به الحيوان، ولولا ذلك لم يبصر الحيوان، فأين هذا مما يدعيه الكذابون من علم الأحكام التي كذبُها أضعاف صدقها"[2].

هذه فائدة تضبط وتراجع تتأملوا فيها فيما يتعلق بالحساب القمري والحساب الشمسي، عكس ما يدعيه كثير من الناس اليوم.

قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا قال هنا: وهي الشمس المنيرة كالسراج، هذا لا إشكال فيه، ولكن على قراءة حمزة والكسائي قراءة متواترة: "جعل فيها سُرُجاً -جمع سراج- وقمراً منيراً"، السُّرُج هنا جمع لا يفسر ذلك بالشمس بمفردها؛ ولهذا فسره بعض السلف بالنجوم؛ لأنها وقّادة، فقالوا: السُّرُج هي النجوم العظام؛ لأنها تضيء، وليس كل نجم نراه مضيئاً، وبعضهم يقول: هي الشمس والكواكب، كلها سُرُج، سواء كان ذلك يضيء بذاته فيما جعله الله خاصية فيه -يعني يتوقد- أو كان يكتسب ذلك من غيره من النجوم أو الشموس الوقادة.

وكبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- يقول: السُّرُج هي النجوم، والله -تبارك وتعالى- فرق بين الشمس والقمر، فجعل الشمس سراجاً، وأما القمر فجعله نوراً: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا، فالسُّرج ما كان بمثابة الشمس من النجوم الوقادة، على هذه القراءة -والله تعالى أعلم، كما قال: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [سورة النبأ:13]، وهذه هي الشمس.

وقوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً فسره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بالمعنى المتبادر المشهور، يعني: يتعاقبان يخلف هذا هذا، فإذا انقضى الليل جاء النهار وهكذا، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:40]، فهما يتعاقبان بصورة مستمرة إلى أن يشاء الله ، يقول: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [سورة الأعراف:54]، وبعض السلف ذكر معاني أخرى لهذه الآية: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً  يعني: أنهما متخالفان، ومِن التخالف: التخالف في الصفة والهيئة، هذا أبيض وهذا أسود، ولكن المعنى المتبادر هو أنهما متعاقبان، يكون هذا خلفاً عن هذا، والله أعلم.

قال: لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: جعلهما يتعاقبان توقيتاً لعبادة عباده، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار والعكس، وهكذا: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار..[3] الحديث.

لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ فهذا من التذكر، التوبة، ومن التوبة العبادة، فلله عبادة في الليل وله عبادة في النهار، وهكذا أيضاً القراءة الأخرى المتواترة قراءة حمزة: لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذْكُرَ يعني: أن يذْكر ربه، والذكر يشمل ذكر اللسان وذكر القلب، والذكر بالجوارح، لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذْكُرَ أن يتعبد لله ، فذلك يكون في سائر الأوقات في الليل والنهار: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذْكُرَ يذكر ربه -تبارك وتعالى.

وبعضهم فسر قراءة الجمهور: يَذَّكَّرَ بمعنى: يتفكر ويعتبر في هذا التعاقب، وما ينطوي عليه من الحكم العظيمة، حيث يترتب على ذلك مجيء الليل والنهار، هذا بسواده وهذا بضيائه وإشراقه، فيكون الليل محلاً أو وقتاً للنوم الذي جعله الله سباتاً، وجعل الليل ساتراً، وجعله لباساً، وجعل لهم النهار معاشاً يتفرقون فيه لطلب معايشهم وأرزاقهم.. إلى غير ذلك من الحكم، لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ يعني: يتفكر ويعتبر، هكذا فسرها بعض أهل العلم.

والتذكر يشمل هذا جميعاً، فإن هذا يدخل فيه ذكر القلب فإنه يكون باستحضار عظمة الله والنظر في آلائه ودلائل قدرته ووحدانيته وما أشبه هذا، فهذا التذكر يشمل هذه المعاني: أن يذكر ربه بلسانه وأن يتعبد بجوارحه ويكون ذاكراً بقلبه، لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا وبعملٍ يزاوله يتقرب به إلى الله -تبارك وتعالى، فإن الله المنعم المتفضل، وكل ما أسداه لعبده من توفيق لطاعة أو إعانة على عمل أو ما يهيئ له من الأسباب والنعم، كل ذلك يستوجب الشكر عليها.

قال ابن القيم -رحمه الله: "قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ۝ وَهُوَ الَّذِي جَعـَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، فَذكر تَعَالَى خلق اللَّيْل وَالنَّهَار، وأنهما خلفة أَي يخلف أحدهما الآخر لَا يجْتَمع مَعَه وَلَو اجْتمع مَعَه لفاتت الْمصلحَة بتعاقبهما واختلافهما، وَهَذَا هُوَ المُرَاد باخْتلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا يخلف الآخر لَا يجامعه وَلَا يحاذيه، بل يغشى أحدهما صاحبه فيطلبه حثيثا حَتّى يُزِيلهُ عَن سُلْطَانه ثمَّ يَجِيء الآخر عَقِيبه فيطلبه حثيثا حَتّى يهزمه، ويزيله عَن سُلْطَانه فهما دَائِما يتطالبان وَلَا يدْرك أحدهما صَاحبه"[4].

وقال -رحمه الله: "فَهُوَ تَعْظِيم وثناء مِنْهُ تَعَالَى على نَفسه بِجعْل هَذِه البروج وَالشَّمْس وَالْقَمَر فِي السَّمَاء، وَقد اخْتُلف فِي البروج الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَة، فَأكْثر السّلف على أَنَّهَا الْقُصُور أَو الْكَوَاكِب الْعِظَام.

قَالَ ابْن الْمُنْذر فِي تَفْسِيره: حَدثنَا مُوسَى حَدثنَا شُجَاع حَدثنَا ابْن إِدْرِيس عَن أبيه عَن عَطِيَّة: جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا قَالَ: قصوراً فِيهَا حرس"[5].

مثل هذه الآية العظيمة تغير حياة الناس اليوم، صار الليل مثل النهار إلى حد ما بما يسر الله من الأسباب، كان من الأسباب قلة الاعتبار والتفكر بهذه الآية العظيمة، فيدخل الليل ولا يشعر به عامة الناس، وصارت الحياة متشابهة بالنسبة إليهم في الليل والنهار، فلا يكاد الإنسان يتفكر في هذا المعنى ويتذكر ويعتبر، وصاروا يدأبون في ليلهم كما يدأبون في نهارهم إلا قليلاً؛ ولذلك لو حصل لأحدنا أنه كان في محل آخر، قرية ليس فيها شيء من هذا، فإذا جاء وقت غروب الشمس رأيت تغير الأحوال، قبل أيام لما انطفأت الكهرباء المساجد مظلمة، الطرقات مظلمة، تغيرت الحياة تماماً، وتحولت البيوت إلى شيء آخر، حياة الناس في السابق كانت هكذا، بعض المعاني قد لا ندركها جيداً إلا إذا عايشها الإنسان، فحينما كان المنافقون يتخلفون عن صلاة العشاء وصلاة الفجر، نحن نقول: صلاة العشاء مثل صلاة العصر والظهر الآن بالنسبة لنا، لكن في السابق في ذاك اليوم ما تدري من الذي صلى معك، لا يُعرف من صلى ومن لم يصل، الناس لا يرى بعضهم بعضاً، لا يعرف بعضهم بعضاً، فتفوت مثل هذه المعاني، لكن العاقل يتبصر في كل ما يجري ويحصل ويمر به وينتفع بذلك جميعاً.

وقوله تعالى: لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا أي: جعلهما يتعاقبان توقيتاً لعبادة عباده له ، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل، وقد جاء في الحديث الصحيح: إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل[6].

وقال مجاهد وقتادة: خِلْفَةً أي: مختلفين، أي: هذا بسواده وهذا بضيائه.

قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ۝ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ۝ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابـَهَا كَانَ غَرَامًا ۝ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ۝ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:63-67].

هذه صفات عباد الله المؤمنين: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًاأي: بسكينة ووقار من غير جَبرية ولا استكبار.

يعني من غير تجبر.

كقوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا.. [سورة الإسراء:37]، فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح، ولا أشَر ولا بطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء، فقد كان سيد ولد آدم ﷺ إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب، وكأنما الأرض تطوى له، وإنما المراد بالهَوْن هاهنا السكينة والوقار، كما قال رسول الله ﷺ: إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا[7].

هنا في صفات عباد الرحمن، عباد الرحمن أضافهم إليه إضافة تشريف، الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا البدء بهذه القضية يدل على أن هذا الدين شامل لكل مناحي الحياة، المشية، فطريقة المشي ليس لها معنى ولا محل في القوانين الوضعية الأرضية، بينما جاءت هذه الشريعة تنظم حياة الإنسان في كل شئونها حتى في طريقة مشيته، وذلك أن هذه الشريعة تحمل الناس على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات والأعمال، وما يحفظ لهم المروءات ويجملهم بأحسن الأوصاف.

ولهذا كانت جملة ما جاء به الرسول ﷺ منقسمة إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات، فالتحسينيات هي التي تُحفظ بها المروءات ويصون بها المرء وجهه ونفسه، ويبقى له ماء الحياة، فلا تذهب كرامته، وإنما يبقى المؤمن على أحسن الأوصاف والأحوال والأعمال.

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا؛ ولهذا ذكر هذه القضية، ولاحظ أنّها هي البداية، يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: جمع بين هذا وهذا، المشية وإذا خاطبهم الجاهلون، قال: الزلة زلتان: زلة القدم وزلة اللسان، زلة القدم إذا سقط الإنسان أظن تنكسر رجله أو نحو ذلك، لكن زلة اللسان ربما تذهب بدنياه وبآخرته، فنبه على الأمرين، على هديهم في المشية وعلى هديهم في المخاطبة، على الأدب والسمت الحسن في مشيتهم، وعلى أدبهم في ما يتصل باللسان.

يمشون على الأرض هوناً، قال: أي بسكينة ووقار، يعني: ليست بهوان، لا يمشون مشية ذليلة، وإنما مشية فيها سكينة ووقار، والسكينة والوقار والسمت الحسن كل ذلك يحصل باجتماع أمور في الإنسان، هي أمور ظاهرة تتصل بأمور باطنة تمدها، كما يمد الماء الحياة في الشجر، يكون بسبب ذلك إشراق الوجه إذا أشرق القلب، وتظهر سيما الصلاح على وجه الإنسان، ويكون على أحسن الأحوال في حركاته وسكناته، وهديه الظاهر في اللباس والمشية، كل هذا يدخل في السمت الحسن.

وجاء في حديث حسنه بعض أهل العلم يدل على أن السمت الحسن والتؤدة أنها جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة، هذه القضية من أمور الكمال، وهي من صفات النبوة بلا شك، يقول: الذين يمشون على الأرض هوناً يقول: من غير استكبار ولا مرح ولا أشر ولا بطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى، وإنما يمشي مشية قوية، ثم أجاب عن سؤال مقدر إذا كانوا يمشون على الأرض هوناً، فكيف كان رسول الله ﷺ يمشي في مشية قوية كأنما ينحط من صَبَب -من مكان مرتفع- وكان ينزل على قدمه كاملها، يعني: ما يسحب رجله؟

هذا لا يتعارض مع كونه يمشي مشية فيها سكينة ووقار، هذا الوصف ينطبق على رسول الله ﷺ: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، فليس معنى ذلك المشي بتماوت، وإنما يمشي مشية معتدلة لا تخرجه عن وصف الوقار والسكينة، والمشية تدل على صاحبها غالباً، المتكبر المتبختر يعرف ذلك من مشيته، والإنسان المخبّل في عقله يعرف ذلك من مشيته، ولو رأيته من بعيد وهو يمشي وقد أدار إليك ظهره تعرف أن هذا الذي يمشي غير سوي، يُعرف من مشيته، والإنسان الذي لربما يكون واثقاً من نفسه معتدل الأوصاف والكمالات يعرف ذلك غالباً من مشيته، والإنسان المرتبك يعرف ذلك من مشيته، والخائف يعرف من مشيته، والمستحي يعرف من مشيته، فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء [سورة القصص:25]. 

المشية تدل على صاحبها، وما يعرض له وما يقوم به من أحوال وأوصاف عارضة أو مستقرة، ولهذا يعرف من المشية غالباً؛ لأن بعض الناس عنده قدرة على التصنع، ومن ثَمّ فقد يُخفي بعض الأشياء، حتى في تعابير الوجه، وهذا علم يدرس، يدرسونه ويتمرنون عليه، حتى في تعبيرات الوجه كيف تستطيع أن تضبط تعبيرات الوجه بحيث لا يبدو أي شيء مما في نفسك، يعني: قد يكون الإنسان في غاية الخوف ويستطيع أن يسيطر ويبدو في غاية الثبات، وهكذا قد يكون هذا الإنسان في غاية الحياء ويبدو أنه في غاية الاعتدال مثلاً، والله المستعان.

وقوله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا أي: إذا سَفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله ﷺ لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وكما قال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ.. [سورة القصص:55].

وروى الإمام أحمد عن النعمان بن مُقَرّن المُزَني قال: قال رسول الله ﷺ: وسَبّ رجلٌ رجلاً عنده، قال: فجعل المسبوب يقول: عليك السلام، قال: فقال رسول الله ﷺ: أما إن ملكًا بينكما يذب عنك، كلما شتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به، وإذا قلت له: عليك السلام، قال: لا، بل عليك، وأنت أحق به[8] إسناده حسن، ولم يخرجوه.

قوله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ويكفي هذا الحديث لكف النفوس عن مجاراة السفهاء، خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا بعضهم يقول: بمعنى سلمنا عليك سلاماً، وبعضهم قال: هذا من المسالمة، والمقصود بذلك أنهم لا يجارونهم في ألفاظهم وعباراتهم وسبابهم وشتائمهم... وما إلى ذلك، فأنت إذا أردت أن تؤدب كل الناس بمختلف مشاربهم وأخلاقهم وخلفياتهم في التربية، وتوقف هذا عند حده وتزجر هذا، وهذا لابد أن يعرف قدره، فإنك لن تنتهي ولن تصل إلى نتيجة إلا أنك تهبط إلى أحط الدركات؛ لأنك ستجد في المجتمعات عديم التربية، عديم الأخلاق، من لا يبالي بما يقول وما يفعل، وهو على أتم الاستعداد أن يهبط في الإقذاع والشتائم إلى الهاوية، فيخطئ من يظن أنه يستطيع أن يؤدب هؤلاء وأن يحملهم على ما يجمل، فلا يترك شارداً ولا وارداً ولا عارضاً إلا اشتبك معه وتشاجر معه؛ لأن هذا أخطأ، وهذا لم يتجمل، وهذا لم يحسن الرد، وما أشبه ذلك، "قالوا سلاماً" فإذا جاوبته بغير ذلك -بمثل ما صدر منه- فإنك تكون قد تساويت معه في المرتبة، ولو كان ذلك على سبيل المقاصة، وإنما يرفع الإنسان نفسه ويصون عرضه وكرامته، ويكفي هذا الحديث أن الملَك يقول له ما تقدم في الحديث، وابن القيم -رحمه الله تعالى- يقول: " نصَبَ "السلام" من قوله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ورفعه في قوله حكاية عن مؤمني أهل الكتاب:سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ.

فالجواب عنه: أن الله سبحانه مدح عباده الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً فسلاماً هنا صفة لمصدر محذوف، هو القول نفسه، أي: قالوا قولاً سلاماً، أي: سداداً وصواباً وسليماً من الفحش والخنا، ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل، فلو رفع السلام هنا لم يكن فيه المدح المذكور، بل كان يتضمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلموا عليهم"[9].

يقصد أنهم يقولون قولاً سالماً من العيب، يقول له: بارك الله فيك، أشكرك على هذا، لا يجاريه فيما يقول، هذا المعنى، وليس المقصود على هذا المعنى أنه يسلم عليه يقول له: سلام عليك.

وقال -رحمه الله: "وليس هذا معنى الآية ولا مدح فيه، وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهل بجهل مثله، بل يقابلونه بالقول السلام، فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن التي لا يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم.

وتفسير السلف وألفاظهم صريحة بهذا المعنى، وتأمل كيف جمعت الآية وصفهم في حركتي الأرجل والألسن"[10].

يعني هو يقول: لا مدح فيه أنهم يقولون: سلام عليكم، لكن لماذا لا مدح فيه؟ الآن هذا إنسان يصدر منه ما لا يليق، فقال له المقابل: سلام عليك، كما قال الله عن أهل الكتاب: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [سورة القصص:55]، سلام عليكم، هذا واضح وصريح في أنهم يقولون لهم: سلام عليكم، فتكون هذه تفسيرًا لهذه، فإذا جاوبوهم بهذه المجاوبة وهو قولهم: سلام عليكم فهذا من الإحسان في الرد، يعني لا يصلني، من المعاني الداخلة تحت هذه اللفظة أو هذه الجملة حينما نقول: السلام عليكم معنى المسالمة، بمعنى أنه لا يصل إليك مني مكروه، ولهذا اختيرت في الجواب في هذا الموضع.

وإذا كان كذلك فمعنى ذلك أنهم قالوا قولاً سالماً من العيب، يعني حينما يجيبون بهذا الجواب يكون ذلك سالماً من العيوب، أقصد من هذا أن مثل هذا الجواب غير مستبعد -والله تعالى أعلم، يعني لا يقال: إن هذا ليس هو المراد، أي يقولون: سلاماً، يحتمل أن يكون المراد هنا قولاً سالماً، ويدخل فيه هذه المجاوبة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، إنسان بدأ ينفلت لسانه تقول: سلام عليك، وتمضي، ولا تقف؛ لأنك إذا وقفت هذه الكلمة قد تكون أشد وأعظم مما لو قابلته بالشتم، إذا كان يفهم؛ لأنه سيعرف أنها قيلت: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، فيستفزه ذلك.

وقال -رحمه الله: "وتأمل كيف جمعت الآية وصفهم في حركتي الأرجل والألسن بأحسنها وألطفها وأحكمها وأوقرها، فقال:الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا أي: بسكينة ووقار، والهَون بفتح الهاء من الشيء وهو مصدر هان هوناً أي سهل، ومنه قولهم: يمشي على هِينته، ولا أحسبها إلا مولدة، ومع هذا فهي قياس اللفظة فإنها على بناء الحالة والهيئة فهي فِعْلة من الهَون، وأصلها هِوْنة، فقلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها، فاللفظة صحيحة المادة والتصريف، وأما الهُون بالضم فهو الهوان، فأعطوا حركة الضم القوية للمعنى الشديد وهو الهوان، وأعطوا حركة الفتح السهلة للمعنى السهل وهو الهون"[11].

فهذا مفيد فيما يتعلق بفقه اللغة العربية، ودلالة الألفاظ في تركيبها في حروفها وشكلها على المعاني، وهذا باب دقيق في العلم، فإن الإنسان قد يفهم أحياناً الكلمة، ولم يمر به معناها، أو يفهم شيئاً من معناها ولم يمر به قبل ذلك أخذاً من حروفها، وهذا كثير.

ثم ذكر أن ليلهم خير ليل فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا أي: في طاعته وعبادته، كما قال تعالى: كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۝ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [سورة الذاريات:17، 18]، وقوله: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ.. [سورة السجدة:16] الآية، وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.. الآية [سورة الزمر:9]؛ ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا أي: ملازماً دائماً؛ ولهذا قال الحسن في قوله: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام الملازم ما دامت السماوات والأرض، وكذا قال سليمان التيمي.

إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا أي: بئس المنزل منظراً، وبئس المقيل مقامًا.

بمعنى أنها ملازمة الغريم لغريمه، فلا يفتر عنهم العذاب، ولا يخرجون من النار.

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا... الآية، أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة..

قوله: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا قال: بئس المنزل منظراً، وبئس المقيل مقاماً، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا يعني: مكاناً للقرار، المستقر هو القرار، والمُقام يعني الإقامة، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا يعني: قراراً وإقامة، وهذا الذي فسرها به كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا أي: قراراً وإقامة؛ لأنه قد يتوهم أن هاتين اللفظتين بمعنى واحد، سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا مستقراً يعني ساءت قراراً، ومقاماً إقامة، إقامة لا تعني قصر المدة.

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا... الآية، أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها.

يعني هذا الذي ذكرته قال به بعض المفسرين، الفرق بين المستقر والمقام، يعني قال بعضهم: إن المستقر القرار الدائم، والمقام هو الوقت اليسير؛ ولهذا هنا العبارة قال: وبئس المقيل، ولكن لو فسرت بما سبق -والله أعلم- مستقراً ومقاماً يعني: إقامة عموماً، والله تعالى أعلم، كل كتب التفسير تعرض لعبارة ابن جرير، القرار والإقامة، لكن إن كنت تقصد في الفروق اللغوية ففي كتب في الفروق اللغوية، لكن لا دليل عليه هنا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا فحمل الآية على معنى أعم أولى -والله تعالى أعلم- من تخصيصها من غير دليل، كأن يقال مثلاً: ساءت مستقراً للكفار ومقاماً لأهل الإيمان مثلاً، إنما هي بئس القرار وبئس المحل للإقامة، والله أعلم، كما يقول الله : وَبِئْسَ الْقَرَارُ [سورة إبراهيم:29].

أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، كَمَا قَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ.. [سورة الإسراء:29] الآية.

قوله: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا القوام بمعنى العدل والاستقامة، يعني: يعتدلون في نفقتهم إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا... والعلماء -رحمهم الله- تكلموا على مسألة وهي: هل في الإنفاق في سبيل الله إسراف وتبذير وتجاوز للحد أو لا؟ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا...، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] ينقطع الإنسان عن مصالحه ويلوم نفسه ويلومه أصحاب الحقوق أنه لا يستطيع أن ينفق عليهم، والمحسور هو المنقطع.

فالحاصل أن من أهل العلم من قال: هذا يدخل فيه الإنفاق في سبيل الله، فحمل الآية على العموم.

ومنهم من يقول: ذلك لا يدخل فيه النفقة في سبيل الله، ويحتج بالأحاديث الواردة في هذا، عن النبي ﷺ: ما يسرني أن لي مثل جبل أحد ذهباً تأتي عليه ثلاث..[12] الحديث، وكذلك أيضاً ما جاء من أفعال أصحاب رسول الله ﷺ، فأبو بكر جاء بجميع ماله وأقره النبي ﷺ على هذا، وعمر جاء بشطر ماله وأقره النبي ﷺ على هذا، ولهذا قال بعضهم كالشاطبي -رحمه الله- بأن ذلك يتفاوت بحسب أحوال الناس، بينما ذلك الرجل الذي جاء بقطعة من الذهب وأعطاها النبي ﷺ فأعرض عنه، ثم عرض عليه فأعرض عنه، فأخذها فرمى بها كالمغضب، وعلل ذلك بأن الرجل يأتي بماله ثم بعد ذلك يتكفف الناس.

فيقول: من كان بهذه المثابة من ضعف اليقين، وإذا أنفق ماله يبدأ يتطلع ويتعلق قلبه بالآخرين، ويتعرض لهم، فمثل هذا لا ينفق ماله، ومن كان بمنزلة أبي بكر فأنفق ماله لكمال يقينه وتعلقه بالله وحده، فإنه لا يعاب في ذلك، فتكون هذه المسألة على هذا التفصيل، هل النفقة في سبيل الله يقال فيها إسراف أو لا؟ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا هل هي داخلة في هذا أو غير داخلة؟ 

وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ نعم، وأما في غير النفقة في سبيل الله فكل ما ينفق في الحرام فهو داخل في الإسراف والتبذير وتضييع المال، وأما في المباحات فذلك يختلف باختلاف الناس، فقد يكون هذا الثوب إسرافاً بالنسبة لزيد ولا يكون إسرافاً بالنسبة لعمرو، وقد يكون هذا الجهاز الجوال إسرافاً بالنسبة لزيد ولا يكون إسرافاً بالنسبة لعمرو، قد تكون هذه السيارة إسرافاً بالنسبة لزيد، وهذا الأثاث إسرافاً بالنسبة إليه، بألف وخمسمائة نعم، مستأجرٌ صالة بأربعين ألفاً، وقبل أيام بثمانين ألفاً، صالة للرجال والنساء، راتب ضئيل مثل هذا، إنسان فقير، وكل ذلك بالديون، وسيارات بالأقساط، وصدقات، وزكوات، صالة بثمانين ألفاً، فهذا يسمى إسراف وتبذير، لكن آخر يملك مليارات وثمانين ألفاً هذه لا تساوي عنده، ولا شيء، مثل هذا قد لا يكون إسرافاً وتبذيراً بالنسبة لغيره، فيختلف باختلاف الناس، والله المستعان.

كنا نشاهد بعض الأشياء، وبعض الطلاب أعاجم في بعض الجامعات من غير أهل البلد وليس ذلك بزيهم، لابد أن يحاكي في أحسن اللباس، فيشتري من هذه العمائم أو الشمغ أفضل الأنواع، كما يقال: آخر بصمة، وهو لا يجد شيئاً، لا يجد قوتاً لزوجته وأولاده، كل هذا على الصدقات، واللباس لازم تفصيل وأقمشة جيدة، لكن هذه العمامة بعشرة وثوبه بخمسة عشر، ويحصل المقصود أبيض نظيف والحمد لله، فهذا يعتبر إسرافاً، وقل مثل ذلك فيما يأكله الإنسان.

قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنـَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۝ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّه ِمَتَابًا [سورة الفرقان:68-71].

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: سئل رسول الله ﷺ: أي الذنب أكبر؟ قال: أن تَجعل لله ندًا وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطْعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ.. الآية[13]، وهكذا رواه النسائي.

وقد أخرجه البخاري ومسلم عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث: "أن ناساً من أهل الشرك قَتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً ﷺ فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ.. الآية، ونزلت: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ [سورة الزمر:53] الآية"[14].

هذا الحديث أصله في الصحيحين أنه سبب نزول هذه الآية، وهذا صريح، لكن تأمل في الحديث الذي قبله، قال: وأنزل الله تصديق ذلك: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ..، هذه من العبارات والألفاظ في أسباب النزول وهي قليلة نسبياً، فنحن عرفنا في مناسبات سابقة في أصول التفسير أن أسباب النزول منها ما هو صريح، كأن يقول: سبب نزول هذه الآية كذا، أو يذكر حادثة أو سؤالاً ثم يقول: فأنزل الله كذا، فنزلت الآية، وأن غير الصريح أن يقول: نزلت هذه الآية في كذا.

هذه القسمة الثنائية، وهي ليست قطعية، بمعنى: أن ذلك عند التأمل قد تجد بعض الروايات غير صريحة وبعض الروايات صريحة، يحتاج إلى شيء من التأني، يعني لا نحفظ قاعدة مثلاً ونجريها على الجميع، وإنما القواعد أغلبية، فبمثل هذا الموضع الآن يحصل التردد، فهي إذا تأملت هذه العبارة: وأنزل الله تصديق ذلك، أنزل لا يعني أنه أنزله بعدما قال النبي ﷺ ذلك مباشرة، وأن سبب النزول هو حينما قال النبي ﷺ هذا، فهذه العبارة لا نستطيع أن نقول: إنها صريحة في سبب النزول، ولكنها ليست من جنس قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، فهي بين بين، ولهذا لا نستطيع أن نقول: هذا هو سبب النزول، ولا نقطع بهذا، وإنما نقول يحتمل أن ذلك نزل في القرآن، لكن لم يكن هذا النزول مرتبطاً بقول النبي ﷺ هذا الحديث، فإذا لم يكن مرتبطاً فمعنى ذلك أنه ليس بسبب النزول.

فالرواية الأخرى يقول: ثم قرأ النبي ﷺ: "والذين لا يدعون.."، فهذا ليس بسبب نزول، معناه أن الآية نازلة قبلاً، ولهذا أقول: لابد من التتبع للروايات، لابد من التتبع، وإذا نظرت في روايات أحاديث أسباب النزول قد تجد ألفاظاً تدل على غير ذلك، على غير العبارة الموجودة بين يديك.

فالمقصود أن هذه العبارة غير صريحة، فلا تشكل عليكم بكونها ليست مما عهد من غير الصريح حينما يقال: نزلت هذه الآية في كذا، فهذه صورة مترددة بين هذا وهذا، فلا تستعجل، لا تستعجل في الحكم على مثل هذه الأشياء، لكن يحسن أن تكون هذه الأمور حينما تطرح تطرح على سبيل المدارسة والمذاكرة أو التأمل، وأما الاستعجال في القطع والحكم بالشيء والجزم به فهذا يحتاج إلى تروي كثير.

وقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: أَثَامًا واد في جهنم.

وقال عكرمة: يَلْقَ أَثَامًا أودية في جهنم يعذب فيها الزناة، وكذا رُوي عن سعيد بن جبير ومجاهد.

وقال السدي: يَلْقَ أَثَامًا: جزاء.

وهذا أشبه بظاهر الآية؛ ولهذا فسره بما بعده مبدلاً منه، وهو قوله تعالى: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: يكرر عليه ويغلظ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا.

قوله: يَلْقَ أَثَامًا الأثام فسره من فسره كما سمعتم بالوادي في جهنم، وبعضهم يقول: الأصل الأثام بمعنى العقاب، يَلْقَ أَثَامًا أي: عقاباً، وهذا لا يخالف ما ذكره عن السدي من أنه جزاء، فالعقاب جزاء لهذا الذنب والفعل السيئ، وقد يعبر بالسبب عن المسبب كما يعبر بالمسبب عن السبب أحياناً، يَلْقَ أَثَامًا يعني: إذا قلنا جزاء، أو قلنا عقاباً فهذا كأنه تفسير لهذا، لا إشكال فيه، فيكون من قبيل اختلاف التنوع؛ ولهذا يقول مثل الفراء: آثمه الله أثاماً يعني: جازاه جزاء، وجزاء الإثم هو العقوبة، نعم العقاب، فبعضهم يقول: عقابه؛ ولهذا ابن جرير -رحمه الله- يقول: يَلْقَ أَثَامًا أي: عقاباً، وكلامه هذا في الواقع موافق لابن كثير -رحمه الله، ما ذكره السدي وكذا ما ذكره أيضاً الفراء وغيره حينما يقال: جازاه جزاء الإثم الذي هو العقوبة، يَلْقَ أَثَامًا.

وبعضهم يقول: الآثام والإثم بمعنى واحد، وذلك ما يكون من نتيجة وجريرة المعصية، الإثم يقال لما يترتب عليه من المؤاخذة، يقال: فلان آثم ويأثم، كما يطلق ذلك على المعصية، لكنه هنا في هذه الآية غير مراد، وإلا يقال: الخمر إثم، والزنا إثم، يعني: معصية؛ لأنها سبب للإثم، سبب.

ويَلْقَ أَثَامًا يعني: عقاباً أو جزاء فعله هذا من العقوبة، والله تعالى أعلم.

وهذه العقوبة هي النار وما فيها من ألوان العذاب، يكون الآثام وادياً في جهنم، هذا لا يقال من جهة الرأي في الأصل، لكن ينبغي أن يعلم أن ذلك قد أخذ عن النبي ﷺ، فلو ثبت ذلك عن رسول الله ﷺ فلا إشكال، فيقال: من فسره بالعقاب والجزاء فإن هذا تفسير له بالأعم، والحديث دل على المعنى الأخص وهو نوع منه، هو وادٍ في جهنم، لكن طالما أن ذلك ما ثبت عن النبي ﷺ فنحن لا نستطيع أن نجزم بأن قوله: يَلْقَ أَثَامًا أن ذلك وادٍ في جهنم؛ لأن هذا من قضايا الغيب نحتاج فيه إلى شيء تطمئن إليه النفس، يعني حتى لو قلنا: إن ذلك يستبعد مثلاً، أو لو استبعدنا وهو لا يستبعد، لو استبعدنا أن ذلك مما أخذ عن بني إسرائيل، فيكون هذا من قبيل المرسل كما هنا، يعني: إلا إن كان جاء ذلك عن صحابي، هنا عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمرو كان يأخذ عن بني إسرائيل، حصّل يوم اليرموك، يعني من كتبهم.

وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا أي: حقيراً ذليلاً.

وقوله تعالى: إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا أي: جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر، إِلا مَنْ تَابَ أي: في الدنيا إلى الله  من جميع ذلك، فإن الله يتوب عليه.

وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا.. [سورة النساء:93] الآية، فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب؛ لأن هذه مقيدة بالتوبة، ثم قد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.. [سورة النساء:48] الآية.

وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله ﷺ بصحة توبة القاتل، كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته، وغير ذلك من الأحاديث.

قوله: إِلا مَنْ تَابَ بعض أهل العلم يقول: الاستثناء متصل، ولكن قد يشكل على هذا ما أورده بعضهم كأبي حيان صاحب البحر المحيط من أن ذلك لا يحصل به المقصود في المعنى، ما وجه الاعتراض على كونه متصلاً؟ الآن إذا كان متصلاً هناك قبله ذكر تضعيف العذاب، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يحصل له:  يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلا مَنْ تَابَ فإذا نظرنا إلى تضعيف العذاب كأنه يقال: إلا من تاب فلا يضاعف له العذاب؛ لأن إخراج بعض الصور أو الأفراد من المستثنى منه هذا بمعنى المتصل، الاستثناء المتصل تقول: جاء القوم إلا زيداً، فهنا أخرجنا زيداً وهو من جملة القوم، فيكون من جملة المستثنى منه.

الآن: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلا مَنْ تَابَ يكون المعنى من تاب فلا يضاعف له العذاب، إذا قلنا: المعنى كذا فلا يضاعف له العذاب، وهذا لا ينفي أنه يعذب من غير مضاعفة، فهذا حمل بعضهم على القول بأن الاستثناء منقطع، منقطع يعني: أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، فيكون بمعنى لكن، فيكون يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا لكن من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولائك يبدل الله سيئاتهم حسنات.

قال: إِلا مَنْ تَابَ أي: في الدنيا، وتكلم عن توبة القاتل، هنا هذه الآية دلت على توبته، في آية النساء: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [سورة النساء:93]، كل هذه الأشياء مع العذاب الذي أعده له خَالِدًا فِيهَا فحكم عليه بالخلود، مع قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [سورة النساء:48] والقتل دون ذلك، فهذه الآيات من أهل العلم من قال هذا بنصوص الوعيد، ولا نتعرض له ليحصل به المقصود من الزجر في قتل النفوس، ومنهم من رأى أن القاتل لا توبة له أصلاً، لكن يبقى الإشكال في الخلود في النار، النصوص دلت على أن أهل الإيمان يخرجون من النار مهما عذبوا فيها، فهنا قال: خَالِدًا فِيهَا في آية النساء ولم يذكر التوبة، فبعضهم قال: المراد بالخلود هو البقاء المدة الطويلة تسمى خلوداً عند العرب فهي المراد، أو ليس البقاء الأبدي السرمدي الذي يكون للكفار، وبعضهم يقول: هذا جزاؤه لو جازاه، وهذا لا يخلو من بُعد، ويقول: فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ حكم له بهذا، وَلَعَنَهُ.

فإذا اشتبه موضع فإنه يرجع إلى النصوص المحكمة، لو قلنا: هذا مشتبه الآن، خَالِدًا فِيهَا في آية النساء، وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ اشتبه علينا هذا الخلود لأحد من أهل التوحيد، فماذا نصنع؟

ممكن نجيب ببعض هذه الأجوبة التي سبقت، فإن انحل الإشكال بالنسبة إليك وإلا دائماً -هذا مثال فقط- ترجع إلى الأصل المحكم، وهو قوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء، والنصوص الدالة على أن أهل التوحيد يخرجون من النار، هذه النصوص محكمة، ويبقى الجواب عن آية النساء قد تختلف الأنظار فيه، وقد يتوقف الإنسان في اختيار واحد منها، يقول: أنا لا أستطيع أن أجزم بهذا أو هذا، متردد بينها.

نقول: هذا بالنسبة لك يكون من قبيل المتشابه؛ لأن التشابه على الأرجح بالنسبة للمعاني هو من قبيل التشابه النسبي، لا يوجد في المعاني -معاني القرآن- تشابه مطلق لا يعلمه إلا الله؛ لأن الله خاطبنا بما نفهم، فإذا أشكل موضع فهذا متشابه بالنسبة إليك، فترجع إلى الأصول المحكمات من أجل ألا تزل؛ لأن بعض الناس قد يزل بهذا ويخرج بنتيجة وهي الحكم بتخليد أهل المعاصي أو الكبائر في النار، كما فعلت الخوارج، وكما يقول بعض من شابههم في هذا العصر يقول: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، من يخرجه من النار؟ يحتج على أن أهل الكبائر يخلدون في النار، عامي، يقول: الله يقول: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا يقول: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا فمن يخرجه من النار؟

فنرجع إلى الأصول المحكمة إذا التبس علينا، وهذه الطريقة صحيحة في العلم، وهي من أنفع ما يكون لطالب العلم، وقد تجدون مثل هذا في مثل كتاب كشف الشبهات في أول الكتاب في الجواب المجمل والمفصل، إلا من تاب، فقوله: إِلَّا مَن تَابَ يدخل فيه القتل، ولا يشكل على هذا أن المسألة تتعلق بحق المقتول، وقد تكلمت على هذا بالتفصيل في الكلام على التوبة في الأعمال القلبية.

ويمكن أن نشير هنا إلى أن الحق المتعلق بالمقتول منقسم إلى أقسام ثلاثة: فيه حق لله فالتوبة تمحوه؛ ولهذا فإن القاتل في القتل الخطأ تجب عليه الكفارة، وأما قتل العمد ففيه خلاف، القاتل عمداً هل تجب فيه الكفارة أو لا؟ باعتبار أنه أعظم من أن يكفر عنه، فإذا تاب الإنسان تاب الله عليه، هذا حق الخالق، فيه حق للمخلوق المقتول، وفيه حق لأولياء الدم، حق أولياء الدم بالتشفي بالقصاص، أو قبول الدية كعوض، أو نوع معاوضة، فهذا حقهم، فإذا تنازلوا سقط حقهم، يبقى حق المقتول، كيف يمكن أن يستوفى وقد قتل؟ فنرجع إلى النصوص، فالنبي ﷺ لما ذكر: أن الله يضحك لرجلين قتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة[15]، فهذا إنسان دخل الجنة، أهل الإيمان يدخلون الجنة في النهاية، هذا رجل مشرك قتل مسلماً فأسلم، والإسلام يجبّ ما قبله، فدخل الجنة.

وهكذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من أن نصوص الوعيد العامة المطلقة قد لا تنزّل على المعين بفقد شرط أو لوجود مانع، فقال النبي ﷺ مثلاً: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات[16]، فلا تستطيع إذا رأيت امرأة نامصة أن تقول قطعاً: إن هذه ملعونة؛ لأن ذلك قد يرتفع عن الشخص لفقد شرط أو لوجود مانع، وقد يكون له حسنات عظيمة تنغمر فيها هذه السيئة، وقد يكون له مصائب مكفرة، أو غير ذلك من الموانع أو الأسباب، وذكر شيخ الإسلام في بعض المواضع من كتبه -تجدون هذا في الفتاوى- عشرة أمور مفيدة في هذا الباب، يحصل فيها مثل هذا المحو والتكفير للذنوب والسيئات، التوبة والإسلام والهجرة، كل هذا من أعظم ما يحصل به تكفير الذنوب، والله هنا ذكر التوبة والإيمان والعمل الصالح.

ولهذا بعض أهل العلم له رأي في هذا الإنسان الذي وقع في القتل وتاب وعُفي له من أولياء الدم، قال: هو متوعد بالخلود بالنار، فلابد من حق صاحب الحق الأساس وهو المقتول، فهذا يقولون: إذا صحت توبة هذا وأقبل على الله بصدق وأكثر من الحسنات فإن الله يُرضي الآخر بما شاء، يعطيه من الحسنات والدرجات ما يحصل به الرضا؛ ولهذا قالوا: ينبغي لمثل هذا أن يحتاط لنفسه فيكثر من الحسنات جداً، ويجدّ ويجتهد؛ لأن ذلك قد يُعطَى من حسناته، والله المستعان.

  1. مفتاح دار السعادة، لابن القيم (2/ 195)
  2. مفتاح دار السعادة، لابن القيم (2/ 196)
  3. سيأتي تخريجه.
  4. مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 208).
  5. مفتاح دار السعادة، لابن القيم (2/ 195).
  6. رواه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، برقم (2759).
  7. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيا، برقم (602).
  8. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (23745)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد منقطع، فإن أبا خالد الوالبي روايته عن النعمان بن مُقَرِّن مرسلة، ومع ذلك فقد حسَّن هذا الإسناد الحافظ ابن كثير في "تفسيره"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (2923).
  9. بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 386).
  10. المصدر السابق (2/ 386).
  11. بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 387).
  12. رواه البخاري، كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب أداء الدين، برقم (2388)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة، برقم (94).
  13. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68] العُقُوبَةَ، برقم (4761)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، برقم (86).
  14. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، برقم (122).
  15. رواه أحمد في المسند، برقم (7326)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  16. رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، برقم (2125).

مواد ذات صلة