بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد.
قال المصنف -رحمه الله تعالى:
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان:72-74].
وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن أنهم: لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وهو الكذب، والفسق، واللغو، والباطل.
وقال عمرو بن قيس: هي مجالس السوء والخنا.
وقيل: المراد بقوله تعالى: لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي: شهادة الزور، وهي الكذب متعمداً على غيره، كما في الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أنبئكم بأكْبر الكبائر؟، ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت[1].
والأظهر من السياق أن المراد: لا يشهدون الزور أي: لا يحضرونه؛ ولهذا قال: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا أي: لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مرُّوا ولم يتدنسوا منه بشيء؛ ولهذا قال: مَرُّوا كِرَامًا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ العبارة التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهي قوله: وهو الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل، عبارة جامعة، جمع فيها بين أقوال المفسرين في هذه الآية، فالكذب يعني: شهادة الزور، وكل كذب أيضاً فهو زور؛ لأنه خلاف الحقيقة، وما كان خلاف الحقيقة فهو زور، وشهادة الزور داخلة فيه بهذا الاعتبار دخولاً أولياً.
وأما الفسق والكفر والخنا والباطل وما أشبه ذلك فيشمل كل باطل أياً كانت مرتبته، سواء كان ذلك يتصل بالأقوال أو الأفعال أو الأحوال، فهم لا يقارفون شيئاً من ذلك، ولا يتدنسون بشيء من أواصره؛ ولهذا قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذه العبارة الجامعة.
وقال في آخر كلامه: والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي: لا يحضرونه، فكلامه الأول يبين فيه معنى الزور من حيث هو، فهو يشمل هذه الأشياء جميعاً، لكن هنا السياق عند ابن كثير -رحمه الله- يحدد أحد هذه المعاني: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، واللفظة قد تحتمل معاني متعددة من حيث اللغة تدل عليها، ولكن السياق قد يحدد المراد بأحد هذه المواضع، بأحد هذه المعاني، هذا من حيث الأصل لا إشكال فيه، يبقى النظر في كل مثال بحسبه، فابن كثير -رحمه الله- نظر إلى لفظة يشهدون، فهي محتملة لمعنيين:
المعنى الأول: بمعنى الحضور، تقول: شهدت جنازة فلان بمعنى: حضرت.
والمعنى الثاني: يشهدون من الشهادة القولية، شهادة الزور وما لف لفها مما يخالف الحقيقة بالمعنى الأعم، يعني الكذب مثلاً، لا يصدر منهم ذلك؛ لأن الكذب زور، فلفظة شهد تحتمل المعنيين، وأما لفظة الزور فإنها تصدق على المعاني الأولى التي ذكرها، ومن هنا اختلف السلف أو تنوعت عبارتهم إن قلنا: إنه اختلاف تنوع، لكن صنيع الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ظاهر في أنه يدل على أن الاختلاف في نظره اختلاف تضاد يحتاج إلى ترجيح، القرينة التي رجح بها هي وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا هذه قرينة عنده بأن شهادة الزور هنا بمعنى الحضور، يَشْهَدُونَ الزُّورَ يحضرونه، فيحضرونه وإذا مروا بالباطل يمرون مترفعين متنزهين لا يتلطخون بشيء من دنائسه وأوباره، هذه القرينة عند ابن كثير -رحمه الله: لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ.
وإذا نظرنا إلى الآية باعتبار أنها تحتمل هذا وهذا من حيث لفظة يشهدون ومن حيث لفظة الزور يمكن أن يقال بأن كلام السلف إنما هو من قبيلٍ يمكن أن يجمع بينه، قد نقول: إنه من قبيل التمثيل، وإن كان هذا لا يقطع به في هذا المثال؛ لأنه يمكن لقائل أن يقول: لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ بمعنى الشهادة المعروفة شهادة الزور، ولا يقصد بذلك في حال من الأحوال الحضور -حضور الباطل، ويمكن لقائل أن يقول: إن الشهادة بمعنى الحضور ، كما فعل ابن كثير فيكون اختلاف تضاد.
والذي أظنه أقرب -والله أعلم- أن الآية تُحمل على هذا جميعاً؛ لأنه لا يوجد دليل في ظني، ولا قرينة واضحة تدل على إرادة أحد المعنيين، والآية تحتمل ذلك جميعاً، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وشهادة الزور لربما تكون متبادرة من قوله: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ سابقة إلى الذهن، فهي إلى الذهن أسرع من حضور مجالس الباطل، وليس ذلك لمعنى طارئ بمعنى أنه عرضٌ لحادث، ولكن شهادة الزور مشهورة ومعروفة بهذا منذ نزول القرآن والحديث في هذا: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فإذا ذكرت شهادة الزور فإن الذي يسبق إلى الأذهان هي الشهادة المعروفة.
وحمْلُ الآية على هذه المعاني جميعاً -والله تعالى أعلم- أظنه أقرب، مع أن الجمهور قالوا بقول ابن كثير: لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ يعني: لا يحضرونه، فيدخل في هذا أعياد المشركين، كما استدل به جماعة من أهل العلم، وذكر هذا شيخ الإسلام في الاقتضاء، حضور أعياد المشركين، وحضور المناسبات البدعية كالموالد والمآتم البدعية لمناسبات مقتل الحسين ، أو غير ذلك من المجالس المبتدعة والمناسبات التي لا تقتصر على كونها بدعة من حيث قصد إحيائها، بل أيضاً تشتمل على باطل وربما كان من قبيل الشرك الأكبر.
ويدخل في هذا مجالس المعصية عموماً، مجالس الطرب والغناء المحرم، سواء كان ذلك في مناسبة زواج في غير ما يرخص به من الدف للنساء، أو كان غير ذلك، ويدخل فيه كل مجلس من مجالس الباطل أياً كان نوع الباطل الذي تعلق به، قد يكون هذا الباطل بسبب مجالس تشريعية يشرع فيها أحكام مخالفة لأحكام الله ، هذا داخل فيه، وقد يكون هذا الباطل بغيبة ولغو، ولربما كان هذا الباطل من قبيل المشاهدات، مشاهدة في القنوات السيئة.
وبعض الناس يسأل هذه الأيام عن مشاهدة القنوات التي تعرض أو ما يُعرض في بعض القنوات من لطم أو ممارسات يخجل منها العاقل مما يصنعه الرافضة بمثل هذه المناسبات، فهذا لا يجوز للإنسان أن يحضره مباشرة، ولا أن يتشاغل بالنظر إليه قصداً، يفتح هذه القناة ويجلس يتفرج عليهم، فإن إنكار المنكر يقتضي مفارقته، وينكر بقلبه وهذا يسمى بالإنكار القلبي، لا تستطيع أن تغير بيدك ولا بلسانك فلا أقل من المفارقة، فبغضهم وكراهيته تعني التباعد عنه، والإنسان يفتحه وينظر إليه! ولا فرق بين مثل هذا -إذا قلنا: إنه محادة لله ومعصية- وبين من ينظر إلى أفلام إباحية -أعزكم الله، فهذا باطل وزو وهذا زور، فلا ينظر الإنسان إليه ولا يتشاغل به.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قول الله تعالى ذكره: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ... الآية.
قال محمد بن الحنفية: الزور هاهنا الغناء، وقاله ليث عن مجاهد.
وقال الكلبى: لا يحضرون مجالس الباطل.
واللغو في اللغة: كل ما يلغى ويطرح، والمعنى: لا يحضرون مجالس الباطل، وإذا مروا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه، ويدخل في هذا أعياد المشركين -كما فسرها به السلف- والغناء وأنواع الباطل كلها.
وإذا مروا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه، ويدخل في هذا أعياد المشركين -كما فسرها به السلف- والغناء وأنواع الباطل كلها.
قال الزجاج: لا يجالسون أهل المعاصي ولا يمالئونهم عليها، ومَرّوا مر الكرام الذين لا يرضون باللغو؛ لأنهم يكرمون أنفسهم عن الدخول فيه والاختلاط بأهله، وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه بقوله: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [سورة القصص:55]، وهذه الآية وإن كان سبب نزولها خاصاً فمعناها عام متناول لكل من سمع لغواً فأعرض عنه وقال بقلبه أو لسانه لأصحابه: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.
وتأمل كيف قال سبحانه: لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [سورة الفرقان:72]، ولم يقل بالزور؛ لأن يشهدون بمعنى: يحضرون، فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور فكيف بالتكلم به وفعله؟!
والغناء من أعظم الزور، والزور: يقال على الكلام الباطل وعلى العمل الباطل"[2].
فكيف بالتكلم به؟ التكلم به يدخل فيه شهادة الزور، وكذا أيضاً الكذب، وكذا الغناء، كل ما يتكلم به الإنسان، فهو يرى أن هذا من باب أولى، أن هذا داخل في المعنى لا من جهة تناول اللفظ مع النظر إلى قرينة السياق ابتداء وإنما من باب دلالة اللزوم، والقرآن تسلط عليه أنواع الدلالة الست؛ لأنه كلام الله الذي لا تخفى عليه خافية، ومن ثَم فإن المعاني التي تستخرج منه تستخرج بدلالة المطابقة والتضمن والالتزام... إلى غير ذلك من أنواع الدلالة، بمنطوقها ومفهومها.
فكلام ابن القيم -رحمه الله- دقيق أدخل شهادة الزور بهذا باعتبار أنه من باب أولى، اللفظ والقرينة التي ذكرها أقوى مما أشار إليه ابن كثير -رحمه الله، قال: لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ الشهود بمعنى الحضور... قال: لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ لا يشهدون بالزور، ولكن الشهود بمعنى الحضور، يشهدون الزور، تقول: فلان شهد زوراً، ويأتي بمعنى الشهادة المعروفة أيضاً، ويتعدى بنفسه ويتعدى بالحرف.
وقال -رحمه الله: "والغناء من أعظم الزور، والزور يقال على الكلام الباطل وعلى العمل الباطل وعلى العين نفسها، كما في حديث معاوية لما أخذ قصة من شعر يوصل به، فقال: هذا الزور"[3].
هذا الزور بمعنى أنه يلبّس بها.
فالزور: القول والفعل والمحل.
وأصل اللفظ من الميل، ومنه الزَّور بالفتح، ومنه: زرت فلاناً إذا ملت إليه وعدلت إليه، فالزور: ميل عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له قولاً وفعلاً، فكيف أدخل فيه هذه المعاني جميعاً؟! وهذا أحسن من ترجيح أحد هذه الأقوال على الآخر، والله أعلم.
وابن جرير -رحمه الله تعالى- يقول: " القول في تأويل قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، اختلف أهل التأويل في معنى الزور الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه، فقال بعضهم: معناه الشرك بالله"[4].
وقال -رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرّوا كراماً، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح، فسبُّ الإنسان الإنسان بالباطل الذي لا حقيقة له من اللغو"[5].
وقال -رحمه الله: "فإذا كان ذلك كذلك فأولى الأقوال بالصواب في تأويله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئاً من الباطل لا شركاً، ولا غناء، ولا كذباً ولا غيره، وكلّ ما لزمه اسم الزور؛ لأن الله عمّ في وصفه إياهم أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يخص من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر أو عقل"[6].
قوله: "من خبر أو عقل" يعني كالقرائن؛ ولذلك ابن جرير -رحمه الله- يحملها على شهادة الزور وحضور مجالس الباطل، وكذا التفوه بالكذب، كل باطل فهو زور بهذا الاعتبار أخذاً من العموم، وهذا معنى يحتمل هذه الأشياء، والله لم يخص أحد هذه المعاني، ولا دليل عندنا للتخصيص، فنحمله على الجميع، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا.
وقوله: مَرُّوا كِرَامًا مروا باللغو، واللغو أيضاً يشمل الباطل بأنواعه، نعم، بحيث إنهم لا يحضرونه ولا يشاركون فيه ولا يصدر منهم، وإذا مروا به مروا كراماً مترفعين عنه، لا يلابسون شيئاً منه ولا يشاهدونه ولا يقفون عنده، مروا كراماً، فهذه في هذا السياق، هذه الآيات تذكر صفة عباد الرحمن في مشيتهم: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63] فهم لا يردون على هؤلاء بمثل قولهم من السباب والشتائم ونحو ذلك، وهم أيضاً لا يحضرون الباطل ولا يصدر عنهم، وكذلك أيضاً إذا مروا به مروا متعففين مترفعين.
ويؤخذ من هذا أن أهل الكمالات لا يقفون عند أفعال أهل السفه، لربما تُصادف في طريقك أناساً من السفهاء لربما يتشابكون بالأيدي ويتشاتمون ويسبون، ويجتمع عليهم كثير من الناس يتفرجون وينظرون، فمثل هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراماً، يمر مترفعاً عن ذلك كله.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وهذه أيضاً من صفات المؤمنين، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة الأنفال:2]، بخلاف الكافر، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه، بل يبقى مستمراً على كفره وطغيانه وجهله وضلاله، كما قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:124، 125].
فقوله: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا أي: بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى.
قوله: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا الخرور معروف، تقول: خر ساجداً، كما في قوله -تبارك وتعالى: خَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [سورة ص:24] راكعاً بمعنى ساجداً، تقول: خر لليدين وللفم، يعني خر على وجهه، فخر على يديه وفمه سقط قتيلاً في أرض المعركة، خر صريعاً بمعنى وقع وسقط، فهنا لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا السياق يدل على أن المراد أن هذه الآيات تؤثر فيهم ولا يقابلونها بالإعراض والغفلة، وإنما تقع في نفوسهم موقعاً، وقد لا يدل بالضرورة على أن هؤلاء إذا سمعوا أو ذُكروا بالآيات أنهم يخرون إلى الأرض يقعون للسجود مثلاً، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا؛ لأن ذلك لا يُطلب بكل حال، من سمع الآيات إذا مر بآية سجد فهذا لا يجب، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا بمعنى: لا يقع، لا تكون حالهم كذلك، يقابلونها بنوع إعراض وتجاهل أو غفلة، هذا الذي يفهم من السياق، والله تعالى أعلم، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا.
والله -تبارك وتعالى- قال: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [سورة مريم:58]، وهنا قال: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا لا يسمعون، وَعُمْيَانًا لا يبصرون، فهنا خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، وعمر لما سجد قال: هذا السجود فأين البكاء؟ فهناك إثبات السجود، والبكاء والتأثر، وهنا: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا لم يخروا عليها، مفهوم المخالفة، لو أراد أن يتعنت بشق الشعرة والشعيرة في الألفاظ قد يقول: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا أنهم يخرون لكن بغير هذه الصورة، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا مفهوم المخالفة خروا من غير صمم ولا عمى، يعني: هل هؤلاء الذين يخالفون صفة عباد الرحمن مثلاً يخرون لكن صماً وعمياناً، هل هذا هو المراد؟ أن مَن جانبَ صفة عباد الرحمن من الكفار والمنافقين إذا ذكروا بآيات ربهم خروا صماً وعمياناً، هل هذا المراد؟ لا، ولا يقع منهم خرور أصلاً؛ ولهذا يفهم منه -والله تعالى أعلم- أن المقصود أنهم لا يقابلونها بالغفلة، لا يقابلون ذلك بالغفلة.
بعض الألفاظ تستعمل في مثل هذه المعاني، والعرب يتوسعون في الكلام، يعني مثلاً الله -تبارك وتعالى- يقول: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقـْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] تقعد، القعود خلاف القيام، فهل المقصود القعود حقيقة أو المقصود أنك تبقى في حال لا تستطيع فيها التصرف في شئونك ومصالحك، منقطع، محصور من الانقطاع؟ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ [سورة الإسراء:22]، نعم فتقعد، فالقعود هل المراد به خلاف القيام؟ لا زال الناس يستعملون بعض هذه الألفاظ إلى اليوم، فعندما يتورط الإنسان بشيء فعله يقولون: قعد به، فلان قعد بهذه المشكلة، فليس المراد أنه جلس كذا في القيام، وهنا "تخر" "يخروا" تستعمل فيما هو أوسع من الفعل المعروف.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قوله تعالى ذكره: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ... الآية، قال مقاتل: إذا وُعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صُماً لم يسمعوه، وعمياناً لم يبصروه، ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به، وقال ابن عباس: لم يكونوا عليه صماً وعمياناً بل كانوا خائفين خاشعين.
وقال الكلبي: يخرون عليها سمعاً وبصراً، وقال الفراء: وإذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوه، فذلك الخرور"[7].
لم يقعدوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوا، المعنى: أنهم تأثروا به.
وقال: "وسمعت العرب تقول: قعد يشتمني، كقولك: قام يشتمني، وأقبل يشتمني، والمعنى على ما ذكر: لم يصيروا عندها صماً وعمياناً، وقال الزجاج: المعنى: إذا تليت عليهم خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا سامعين مبصرين كما أمروا به"[8].
فهنا أخذ ظاهر اللفظ خر: السجود.
وقال -رحمه الله: "وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي: لم يتغافلوا عَنْهَا كَأَنَّهُمْ صم لم يسمعوها، وَعمي لم يروها.
قلت: هَهُنَا أَمْرَانِ ذكر الخرور، وتسليط النَّفْي عَلَيْهِ، وَهل هُوَ خرور الْقلب أَو خرور الْبدن للسُّجُود؟ وَهل لِمَعْنى لم كن خرورهم عَن صمم وَعَمه فَلهم عَلَيْهَا خرورا بِالْقَلْبِ خضوعاً، أَو بِالْبدنِ سجوداً، أَو لَيْسَ هُنَاكَ خرور وَعبر بِهِ عَن الْقعُود؟"[9].
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [سورة الفرقان:74] يعني: الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له.
قال ابن عباس: يعنون من يعمل بطاعة الله، فتقرُّ به أعينهم في الدنيا والآخرة.
يقول: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي: من يعمل بطاعته فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة، هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ من أزواجنا، "مِن" هذه ليست تبعيضية وإنما بيانية، هي بمعنى أنهم لا يريدون أن يكون بعض الزوجات وبعض الأولاد تحصل به قرة العين، وإنما أن يكون أزواجهم وذرياتهم كذلك.
هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ولا شك أن قرة العين تحصل بصلاحهم، وإذا كان الولد أو الزوجة شقية أو شقيا بعيدا فإن ذلك يكون سبباً لشقاء الوالد؛ ولهذا لا يسأل الإنسان ربه أن يرزقه الولد هكذا سؤالاً مطلقاً، وإنما الأحسن أن يسأله أن يرزقه ولداً صالحاً، أن يرزقه ما تقر به عينه، والله تعالى أعلم، وإن كان ظاهر الآية هنا ليس بسؤال الولد وإنما سؤال قرة العين في الأولاد والذرية والأزواج.
بمعنى: أن المقداد يقول: إن أصحاب النبي ﷺ كان الرجل يرى ولده على خلاف دينه وزوجته على خلاف دينه، وهذا لا تحصل به قرة العين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا إنما يكون ذلك بالإيمان، أي: يخرج الله من أصلابهم أهل إيمان وصلاح وتقوى تقر بهم العين، ويدخل في هذا ما يحصل به كمال ذلك من البر للضرورة؛ لأن هذا من الصلاح، ولد بار صالح وزوجة مطيعة، فإنها إن كانت صالحة مستقيمة فلابد أن تكون مطيعة لزوجها، بذلك تحصل قرة العين، وأما ما يحصل من خلاف ذلك فهو خلاف التقوى، يعني: قد يُبتلى الإنسان بامرأة تزعم أنها طالبة علم، وتُقَمِّش وتقرأ في الكتب -بعض النساء قد يحصل منها هذا وليس الكل- فإذا تزوجها بقيت تجادل في كل شيء، فإذا قال لها: تذهبين لأهلي، قالت: لست مأمورة ببرهم وليسوا من أرحامي، الله أمرني بصلة الرحم، وهؤلاء ليسوا من الرحم الذي يجب وصلها، وإذا قال لها: تهيئين البيت وتصنعين الطعام وكذا، قالت: هذا لا يجب، وإنما ذلك للخادم، وهكذا في كل قضية تبقى تجادل، هات الدليل، أرضعي الولد، لا يجب عليّ الإرضاع سأحافظ على رشاقتي وأناقتي، أو أعطني أجرة على الرضاع؛ لأن المرأة لا يجب عليها، وتحضر له كلام أهل العلم، فهذه لا تكون قرة عين.
وقوله تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير.
وقال غيرهم: هداة مهتدين دعاة إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا، وأحسن مآبًا؛ ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية[11].
قوله: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا إماماً هنا مفرد، نعم والكلام في الجمع، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ والذين، وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، جمع وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ، وَاجْعَلْنَا ولم يقل: واجعلني لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا فقابل الجمع بالمفرد، فبعض أهل العلم ذكر أن ذلك باعتبار التقسيم: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أي: كل واحد منا إماماً، فأفردها.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن قوله: إماماً بمعنى الجنس، وهو يصدق على الواحد والجمع، وهذا كثير، كما في قوله تعالى في سورة النور: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النور:31] يعني: الأطفال، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [سورة غافر:67] يعني: أطفالاً، وهكذا، سواء كان هذا الجنس بالإضافة أو من غير إضافة، فإنه بمعنى الجمع.
قوله: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أي: أئمة، ليس المراد بهذه الآية طلب الرئاسة والتقدم على الناس في هذه الأمور، وطلب العلو في الأرض، ليس هذا المراد، وإنما المراد الإمامة في الخير، كما في قوله -تبارك وتعالى- في [سورة البقرة قال: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124] ليس معناه ملكاً أو حاكماً، وإنما: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [سورة النحل:120] فهو الرجل المقتدى به الجامع لخصال الخير التي تفرقت في غيره.
قال: وَمِن ذُرِّيَّتِي [سورة البقرة:124] يعني: أئمة، اجعل أئمة، قال: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ عهد الله بالإمامة، فقد يفهم بعض الناس أن المراد بهذا: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ يعني: بالولايات، والسلطان والملك، وليس هذا هو المراد؛ لأن هذه الولايات تكون للمؤمن والكافر، فلا يشكل هذا، يعني قد يقول قائل: قال: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَونجد كثيراً من الظالمين تكون لهم الولاية والسلطان!، ليس هذا هو المراد، وإنما إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يعني: يقتدى به في الخير، قال: وَمِن ذُرِّيَّتِي قال: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فهؤلاء لا تكون لهم الإمامة في الدين، ولو كان منتسباً للعلم، فما كل منتسب للعلم يصلح للإمامة في الدين؛ ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة التوبة:34] يعني: خلاف الإمامة الحقيقية، فهنا: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا هذا تعليم من الله لأهل الإيمان بهذا الدعاء، بمعنى أن يكون صالحاً، وأيضاً أن يكون مصلحاً يقتدى به، فليس هذا من الرئاسات في شيء، وأرجو أن يكون المعنى واضحاً.
قال تعالى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [سورة الفرقان:75-77].
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة والأفعال والأقوال الجليلة، قال بعد ذلك كله: أُوْلَئِك أي: المتصفون بهذه، يُجْزَوْن يوم القيامة الْغُرْفَةَ وهي الجنة.
قال أبو جعفر الباقر، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسُّدِّيّ: سميت بذلك لارتفاعها.
الغرفة يعني: الجنة، عبارات السلف في تفسيرها متقاربة غير متخالفة، ترجع إلى شيء واحد، فمن يقول: الجنة، ومن يقول: الدرجة الرفيعة، لا شك أن الدرجة الرفيعة الجنة، وابن جرير -رحمه الله- يقول: هي درجة رفيعة في الجنة، أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وأصل الغرفة في كلام العرب تقال للبناء المرتفع، بخلاف ما تعارف عليه الناس اليوم، يقولون الغرفة للحجرة، وهذا ليس معروفاً في كلام العرب، وإنما تُطلِق العربُ الغرف على الحجر العالية، يقال لها: غرف، ليست كل حجرة يقال لها غرفة، الأسافل من ذلك لا يقال لها: غرف، والمقصود هنا بالغرفة أيضاً: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ المقصود الجنس الذي يصدق على الغرف الكثيرة، كما قال الله -تبارك وتعالى: غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا [سورة الزمر:20]، فهي غرف كثيرة، أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ فالغرفة هنا جنس يصدق على كثير، ليست غرفة واحدة.
وقوله: بِمَا صَبَرُوا بسبب صبرهم على الطاعات وعن المعاصي وعلى أقدار الله المؤلمة، وهذا كثير في القرآن، قال الله تعالى: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [سورة الإنسان:12].
يقول: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا يعني: يبتدرون فيها ويلقون تحية، يلقون في الجنة أن الله يحييهم بذلك، كما قال الله -تبارك وتعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [سورة الأحزاب:44]، وهكذا أيضاً الملائكة تسلم عليهم: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ [سورة الرعد:23، 24] فهنا يلقون فيها من الله، ويلقون فيها أيضاً من الملائكة، وقوله -تبارك وتعالى: تَحِيَّتُهُمْهناك يدخل فيه أيضاً تحية بعضهم لبعض.
وقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أي: مقيمين، لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون، ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولاً، كما قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ.. [سورة هود:108] الآية.
وقوله تعالى: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا أي: حسنت منظراً وطابت مَقيلاً ومنزلاً.
ثم قال تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي أي: لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلاً.
وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي: أيها الكافرون.
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي يعبا أصل هذه المادة تدل على الثقل، عبء، تقول: فلان يحمل عبأً يعني ثقلاً، أعباء بمعنى أثقال، فهذا أصلها، إذا قال: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي يعني: لا وزن لكم فالله لا يعبأ بكم بمعنى: لا يكترث بكم، فوجودكم وعدمه سواء، لا تمثلون شيئاً له وزن يذكر، ليس لكم قيمة تعتبر، هذا هو المعنى، والله تعالى أعلم.
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي و"ما" هذه تحتمل أن تكون استفهامية، وتحتمل أن تكون نافية، قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ يمكن أن يكون على سبيل الاستفهام، ماذا تزنون عنده لولا دعاؤكم؟، ما وزنكم ما قيمتكم؟ ويحتمل أن تكون نافية، يخبر الله أنه لا وزن لهم ولا قيمة ولا اعتبار لولا دعاؤهم، قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي والآية تحتمل هذا وهذا، بعض أهل العلم رجح الأول قال: إنها استفهامية كالفراء، وبعضهم رجح الثاني، وبعضهم يتوقف يقول: الآية تحتمل المعنيين، والشنقيطي -رحمه الله- يقول: كلاهما له وجه من النظر، قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ.
وهنا لم يتكلم على قوله: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أولاً الدعاء يأتي بمعنى السؤال، ويأتي بمعنى العبادة، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60] فُسر بمعنى اعبدوني أُثِبْكم، وفسر بمعنى اسألوني أعطكم وأجبكم.
والأقرب -والله أعلم- حمل ذلك على المعنيين، للملازمة بينهما؛ لأن الدعاء -دعاء المسألة- هو عبادة، فهذا الذي يدعو ربه: يا رب يا رب، هو في عبادة من أجلّ العبادات، والعابد يفعله، هذا سائل؛ لأنه إنما يقوم ويصلي ويركع ويسجد ويصوم... إلى آخره، يطلب بهذا الفعل ما عند الله -تبارك وتعالى، فهو سائل بفعله، فالدعاء يأتي بمعنى هذا وهذا: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ بمعنى: لولا عبادتكم، لكن لفظة دعاء هنا تحتمل أن تكون الإضافة فيها إلى الكاف: دُعَاؤُكُمْ من قبيل الإضافة إلى الفاعل، ويحتمل أن تكون من قبيل الإضافة إلى المفعول، والمعنى يتغير تماماً، والآية تحتمل هذا وهذا.
فقوله: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ انظروا المعنى، لولا دعاؤكم إياه، يعني: عبادتكم إياه، لولا الدعاء الصادر منكم، لولا ما يصدر منكم من عبادة أو دعاء، فهذا من قبيل الإضافة إلى الفاعل: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لولا ما يصدر منكم من عبادة.
والمعنى الثاني: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لولا دعاؤه إياكم، لولا دعاؤه لكم، يعني: إلى الإيمان، فيكون من قبيل الإضافة إلى المفعول، يعني: لولا أنه يدعوكم إلى طاعته وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له، هذا المعنى، لا شأن لكم ولا وزن، وإنما على المعنى الأول لا يعبأ بكم لولا ما يصدر منكم من طاعة وتوحيد وعبادة تقرب إليه ، وهذا المعنى هو الذي رجحه الحافظ ابن القيم -رحمه الله، أنه من قبيل الإضافة إلى الفاعل.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قول الله -تعالى ذكره: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ والصحيح من القولين: لولا أنكم تدعونه وتعبدونه، أي: أي شيء يعبأه بكم لولا عبادتكم إياه، فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل"[12].
وقال -رحمه الله تعالى: قول الله تعالى ذكره: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ وَأَصَح الْأَقْوَال فِي الْآيَة أَن مَعْنَاهَا مَا يصنع بكم رَبِّي لَوْلَا عبادتكم إِيَّاه فَهُوَ سُبْحَانَهُ لم يخلقكم إِلَّا لعبادته، فَكيف يُقَال بعد هَذَا: إَن تَكْلِيفه إيَّاهُم عِبَادَته غير حسن فِي الْعقل؛ لِأَنَّهُ قَادر على الْإنْعَام عَلَيْهِم بالجزاء من غير توَسط الْعِبَادَة"[13].
وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيها الكافرون، فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: فسوف يكون تكذيبكم لزامًا لكم، يعني: مقتضياً لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك يوم بدر، كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم.
وقال الحسن البصري: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا يعني: يوم القيامة، ولا منافاة بينهما.
آخر تفسير سورة الفرقان، ولله الحمد والمنة.
بعضهم يقول: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: يكون العذاب لزاماً، يعني: واقعاً لا محالة، منهم من قال: هذا في الدنيا، كما وقع لهم يوم بدر، ومنهم من قال: ذلك يكون في الآخرة، وكما جاء عن ابن مسعود وجماعة من السلف -كما سبق- أنهم قالوا: إنه يوم بدر، فيكون: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: فيصلاً وأمراً واقعاً لا محالة بينكم وبينه، وبعضهم يقول: هذا التكذيب لزاماً، سوف يكون تكذيبكم ملازماً لكم مقتضياً لوقوع العذاب، والمعنى متقارب -والله تعالى أعلم.
لكن من أهل العلم من يقول: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: أن تكذيبكم ملازم لكم لا ينفك عنكم فلا توفقون إلى التوبة، بمعنى: أن التكذيب هذا عاقبهم الله به كما جاء في مواضع أخرى أن الله لم يوفق أقواماً بسبب تكذيبهم الأول، وهناك كلام لبعض أهل العلم بأن من أعرض عما هو بصدده ابتلاه الله -تبارك وتعالى- بالاشتغال بما يضره: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ [سورة البقرة:101] كانت النتيجة لما كذبوا، وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ [سورة البقرة:102] تركوا الرسول وتركوا العمل بالتوراة والنتيجة هي اتباع ما تتلوه الشياطين.
وهكذا في الآيات التي يذكر الله بها أنه لم يوفق أقواماً بما كذبوا، أي: بسبب تكذيبهم الأول، انصرفوا صرف الله قلوبهم، ولهذا يذكر بعد التكذيب -في بعض المواضع- الطبع: فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة المنافقون:3] كما قال في المنافقين مثلاً، فهنا من أهل العلم من يقول: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا قد كذبتم فسوف يكون التكذيب ملازماً لكم فلا نوفقكم إلى توبة، يكون الكلام يتعلق بالتكذيب، فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا يكون الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والعرب قد تحذف من الكلام اختصاراً ثقة بفهم السامع، فسوف يكون لزاماً، أي: العذاب مثلاً واقعاً لا محالة وأمراً لازماً؛ ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: إن عذابكم يكون واقعاً لا محالة ملازماً، لكن ابن جرير -رحمه الله- حمل ذلك على ما وقع يوم بدر: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا.
ولو حملت الآية على معنى أعم من هذا، بمعنى: أن العذاب يكون لازماً، والكفار قد لا يقع عليهم عذاب في الدنيا لكان أولى، وهذه الآية وإن كان ظاهرها الخطاب لمعينين لكن ذلك يتوجه إلى جميع الكافرين، والله تعالى أعلم، كل من وقع منه التكذيب فهو داخل في هذا.
- رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، برقم (2654)، وبرقم (5976)، في كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (87).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (1/ 241، 242).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (1/ 242).
- جامع البيان، للإمام الطبري، تحقيق: شاكر (19/ 313).
- المصدر السابق (19/ 315).
- المصدر السابق (19/ 314).
- الفوائد لابن القيم (ص:80).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (ص:80، 81).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (23810)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير يعمر بن بِشْر، وهو ثقة"، وابن حبان في صحيحه، برقم (6552)، وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2823).
- رواه الإمام مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631)، ولفظه: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
- جلاء الأفهام، لابن القيم (ص:156).
- مفتاح دار السعادة، لابن القيم (2/ 83).