السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية:4
تاريخ النشر: ١١ / جمادى الأولى / ١٤٣٤
التحميل: 6055
مرات الإستماع: 13213

بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة المجادلة:1].

روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسورة المجادلة من السور النازلة في المدينة، وفي الآثار المروية في ترتيب السور -وإن كان لا يصح منها شيء من جهة الإسناد- هذه السورة نازلة بعد سورة المنافقين، وقبل سورة التحريم.

وهذه السورة يقال لها: المجادِلة، باعتبار المرأة التي جادلت النبي ﷺ وهي خولة بنت ثعلبة، على اختلاف في اسمها كما سيأتي إن شاء الله.

ويقال لها سورة: المجادَلة، باعتبار المصدر، الفعل الذي حصل في المجاوبة، والمجادلة بين المرأة والنبي ﷺ، قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا، فهذه سورة المجادَلة التي حصلت بين رسول الله ﷺ وهذه المرأة.

ويقال لها أيضاً: سورة قد سمع، ويقال لها: سورة الظهار، سورة قد سمع باعتبار أول السورة قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ، ويقال لها: سورة الظهار باعتبار أنها تحدثت عن حكم الظهار تفصيلاً.

وهذه السورة لا تتحدث عن موضوع واحد، والذين يحاولون أن يرجعوا السور إلى موضوع واحد باعتبار اسم السورة لا أدري ماذا سيفعلون إزاء هذه الأسماء لهذه السورة، أربعة أسماء، وبعض السور لها أكثر من هذا، فهل سيرجعون كل قضايا السورة إلى المجادَلة، أو أنهم سيرجعونها إلى الظهار؟

فمثل هذا المنهج في التكلف في تحميل الأمور ما لا تحتمل باعتبار النظر إلى اسم السورة، ثم بعد ذلك محاولة حمل الآيات -ولو كانت السورة كالمائدة أو البقرة- على هذا الاسم، من أجل أن ترجع جميعاً إليه، وما تحته من الأسرار والمعاني التي ترتبط بها آيات السورة، وموضوعاتها وقضاياها، وسورة البقرة ليس لأنها ذكرت فيها البقرة، وإنما كل الآيات التي ذكرت فيها لها تعلق بموضوع البقرة، ثم تسمع ما لا يخطر على بال ولا يدور في خيال، ولا يمكن أن تتصوره من أشياء لا يمكن أن توصف إلا بالتكلف، والله أمر نبيه ﷺ أن يقول: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [سورة ص:86] يعلمه ذلك، وفي الصحيح عن عمر : "نهينا عن التكلف"، فبعض السور تتحدث عن موضوعات متعددة، وبعضها يتحدث عن موضوع واحد.

فسورة المجادلة تتحدث عن عدد من الموضوعات:

الموضوع الأول: هو ما يتصل بالظهار، الذي نزل صدرها بسببه، ذَكَر الظهار وحكمه أنه شيء محرم وباطل، وبيّن ما يترتب على الظهار من الكفارة، كما سيأتي إن شاء الله.

الموضوع الثاني: أن هذه السورة تحدثت عن ضلالات المنافقين، وعن نجواهم، وعن موالاتهم لليهود، وأنهم يحلفون على الكذب.

الموضوع الثالث: يتعرض للآداب المتعلقة بمجلس رسول الله ﷺ، وما يُشعِر به التصدق قبل مناجاته.

الموضوع الرابع: أثنى الله فيه على المؤمنين في مجافاتهم اليهود والمشركين، وأن الله ورسوله وحزبهما هم الغالبون، هذه يمكن أن نقول: أربعة موضوعات ترجع إليها، تدور حولها هذه السورة.

وهي مدنية.

قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا، قد هذه للتحقيق، والسمع صفة ثابتة لله -تبارك وتعالى، قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ، الجدال هو مجاوبة بين طرفين فأكثر، لكنها ليست أي مجاوبة، وإنما هي مجاوبة خاصة، بمعنى الاحتجاج والاستدلال والمراجعة، يعني المجادلة فيها احتجاج، لاحظْ تقول: جدلت الحبل، كل واحد يفتل صاحبه عن رأيه، هذا في المجادلة.

وزوجها هو أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت -رضي الله عنهم أجمعين- من الأنصار، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ والشكوى ذكر ما يتأذى به، وتشتكي: فالاشتكاء مبالغة في الشكوى.

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، ولم يقل: وهو يسمع، فهنا ممكن أن يؤتى بالضمير، الضمائر تَختصر، فوضْعُ المظهر موضع المضمر يكون لعلة، من ذلك هذه المعاني البلاغية التي يذكر فيها المظهر مكان المضمر، يعني مكان الضمير، مع أن الضمير يؤدي أصل المعنى، من هذه المعاني: تربية المهابة في النفوس، يعني أيهما أعظم وأكثر مهابة: لو قال: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وهو يسمع تحاوركما، أو إذا قال: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا، أيهما أفخم وأعظم وأدعى لتربية المهابة؟

وقد مضى شيء من هذا في الكلام على قواعد التفسير، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا، التحاور مجاوبة، محاورة ومجاوبة بين طرفين وأكثر، يعني: مجرد المجاوبة يقال لها: محاورة، لكن الجدال: حوار خاص فيه احتجاج، فالجدال أخص من الحوار، قد تحاور إنساناً، ثم تقول له: لا تجادل.

وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، لاحظ ابتدأ الآية بالسمع واختتمها أيضاً بالسمع، والمقام يتعلق بالسمع وذكر البصر معه، فهو يسمع ما دار من الحوار، ويبصر المتحاورين، وغيرهما لا يخفى عليه خافية، فالله -تبارك وتعالى- يسمع الأصوات الدقيق منها والجليل ، فينبغي أن يُتقى وأن لا يتكلم الإنسان إلا بما يعلم أنه ينفعه ويرفعه عند الله، أو في أقل الأحوال أن لا يكون عليه تبعة في هذه الكلمات.

هذه الآية كما ترون هذه المرأة التي جادلت النبي ﷺ، وذكرت حالها، كما سيأتي في سبب النزول، يؤخذ منها أن من قُطع رجاؤه وتعلق بالله -تبارك وتعالى- أن الله يفتح له من آفاق رحمته ومن الأبواب التي لربما يتوهم الكثيرون أنها قد أغلقت في وجهه، فيأتيه من ألطاف الله ما يحصل به الفرج والمخرج، والله المستعان.

روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادِلةُ إلى النبي ﷺ تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا إلى آخر الآية[1].

وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقاً، وأخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن جرير.

وفي رواية لابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ، وهي تقول: يا رسول الله، أَكَلَ شبابي، ونَثَرتُ له بطني، حتى إذا كَبُرَت سِنِّي، وانقطع ولدي، ظَاهَر مِنِّي، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا قالت: وزوجها أوس بن الصامت[2].

هذا هو سبب النزول، أنها نزلت في خولة التي كانت تشتكي من زوجها أوس بن الصامت، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، والرواية واضحة وصريحة في هذا، وأما ما جاء في خبر سلمة بن صخر -كما سيأتي إن شاء الله- فإن ذلك ليس هو سبب النزول، وإنما وقع لسلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفّر بعد هذه الواقعة التي حصلت، فالرواية هناك ليس فيها أنه هو سبب النزول، ولكنه أُمِر بأن يكفر بأحد خصال الكفارة، العتق أو الصيام أو الإطعام، فهو دليل على أن من ظاهر ثم واقع قبل أن يكفّر يكون قد ارتكب معصية، ولكنه لا زال عليه كفارة واحدة، بمعنى أنها لا تتكرر في حقه، فالنبي ﷺ أمر سلمة بن صخر بالكفارة، ظاهرَ وواقعَ قبل أن يكفّر، ولكنه ليس هو سبب النزول وإن قال بعض أهل العلم: إنه سبب النزول، لكن كما ترون هذه الروايات، وغير هذه الروايات، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم أن سبب النزول هو خولة مع زوجها أوس بن الصامت لما ظاهر منها، وأوس بن الصامت هو ابن عمها، كما سبق أنه أخ لعبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عن الجميع.

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ۝ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ۝ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المجادلة:2-4].

روى الإمام أحمد عن خويلة بنت ثعلبة قالت: فيَّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صَدْرَ سورة "المجادلة"، قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه.

شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، وجاء في بعض الروايات: أنه كان به لمم، وفسر هذا كما قال الخطابي أن المقصود باللمم هنا هو شدة الرغبة في المعاشرة، يعني: به شبق.

قالت: فدخل عليَّ يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي. قالت: قلت: كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إليَّ وقد قلتَ ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني فامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثياباً، ثم خرجتُ حتى جئت رسول الله ﷺ، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله ﷺ يقول: يا خويلة ابنُ عمك شيخ كبير، فاتقِ الله فيه.

المجادِلة النبي ﷺ يقول لها: ابن عمك، كما كان يقول لها ﷺ: ما أراك إلا قد بنت منه، وهي تشكو تقول: نثرت له بطني، وأكل شبابي، ثم ظاهر مني، وتشكو حال الصبية إن ضمتهم إليها جاعوا، وإن دفعتهم إليه ضاعوا، فهذه شكواها، وهذه المجادَلة التي حصلت بينها وبين النبي ﷺ.

وهنا خويلة بنت ثعلبة بالتصغير.

قالت: فوالله ما برحتُ حتى نزل فيَّ القرآن، فتغشى رسول الله ﷺ ما كان يتغشاه، ثم سُرِّيَ عنه، فقال لي: يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثم قرأ عليَّ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ إلى قوله تعالى: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ قالت: فقال لي رسول الله ﷺ: مُريه فليعتق رقبة، قالت: فقلت يا رسول الله، ما عنده ما يعتق.

الآن صيغة سبب النزول هنا في هذه الرواية، نحن قلنا: الصيغة الصريحة في سبب النزول أن يذكر واقعة أو سؤالاً ثم يقول: فنزلت، فأنزل الله، أو يقول: سبب نزول كذا، فهذا هو الصريح، وكذلك ما هنا، قالت: فوالله ما برحتُ حتى نزل فيّ القرآن، فتغشى رسول الله ﷺ ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال: يا خويلة، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثم قرأ علي: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ، فصيغة قد أنزل الله فيك من الصيغ الصريحة بلا شك، وغير الصريح أن يقول: نزلت هذه الآية في كذا.

قالت: فقال لي رسول الله ﷺ: مُريه فليعتق رقبة، قالت: فقلت يا رسول الله، ما عنده ما يعتق، قالت: فقال لي رسول الله ﷺ: مُريه فليعتق رقبة، قالت: فقلت يا رسول الله، ما عنده ما يعتق، قال: فليصم شهرين متتابعين، قالت: فقلت: والله إنه شيخ كبير، ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينًا وسقاً من تمر، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله ﷺ: فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر.

الوسق يبلغ ستين صاعاً، وهو عليه الآن إطعام ستين مسكيناً، فيعطي كل واحد صاعاً من تمر.

قالت: فقلت: يا رسول الله، وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر، قال: قد أصبت وأحسَنْت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً، قالت: ففعلت[3].

فهذا القدر الذي أعطاه النبي ﷺ وأعانته هي على سبيل التبرع منها لا يبلغ هذا المقدار الذي هو كفارة، لا يبلغ ستين صاعاً، فأعطاه النبي ﷺ هذا، فأضافت إليه هي مثله.

ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه وعنده: خولة بنت ثعلبة، ويقال فيها: خولة بنت مالك بن ثعلبة. وقد تصغر فيقال: خُوَيلة، ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالأمر فيها قريب، والله أعلم.

الأمر في هذا سهل، وهذه الطريقة التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في الجمع جيدة، يعني: خولة وتصغر يقال: خُويلة، والنسبة قد تنسب إلى أبيها خولة بنت مالك بن ثعلبة، فيقال: خولة بنت مالك، وخولة بنت ثعلبة، ويقال: خويلة بنت ثعلبة، وأيضاً مما ذكر في اسمها أنها خويلة بنت خويلد، وخويلة بنت الصامت، وخويلة بنت الدليج، وقيل: إن اسمها جميلة، وقيل: خولة بنت حكيم، أو خولة بنت مالك، والمشهور أنها خولة بنت ثعلبة، وقد تصغر ويقال: خويلة، كما في هذا الحديث، ومثل هذا لا يضر، وهي امرأة من الأنصار، والاسم لا أثر له هنا.

هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة.

يعني هذا الصحيح، خلافاً لمن قال: إنها في سلمة بن صخر.

فقوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحد من امرأته قال لها: أنت عليَّ كَظَهْرِ أمي، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقًا، فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة، ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم.

يقول: أصل الظهار مشتق من الظهر، يعني: هذا في اللغة؛ لأنه يُذكر في الظهار غالباً، أو في صيغته المشهورة المعروفة، يقال: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقيل الظهار، فهو مشتق بهذا الاعتبار من الظهر.

الظهار مشتق من الظهر، وهنا يرد سؤال وهو أنه ما علاقة الظهر بذلك، ولماذا لم يذكر البطن مثلاً؟ باعتبار أن الآدمية إنما يركب بطنها وليس الظهر بخلاف البهيمة غالباً، فذكر الظهر هنا يمكن أن يقال: باعتبار أن الظهر كناية عن الركوب، فالمرأة بمنزلة المركوب للرجل، ولهذا إذا طلقها قيل: نزل عن امرأته، يعني فارقها، فالمرأة بمنزلة المركوب للرجل، فيمكن أن يكون عبر بهذا لهذا السبب.

وإذا قال: أنت عليّ كظهر أمي، يعني: أنت محرمة عليّ لا يحل ركوبك، فكأنه نظر أو يحتمل أن يكون نظر إلى موضوع الركوب عموماً، ولما كان الركوب عادة في المركوبات على الظهر -ركب ظهر راحلته- عبر بالظهر لهذا الاعتبار.

وأرجعه بعض أهل العلم إلى العلو قال: لأن المقصود بذلك العلو، إذ إن مرتبة الرجل فوق مرتبة المرأة فهو سيدها وقيّمها، وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [سورة يوسف:25]، فالرجل مرتبته أعلى من مرتبة المرأة، والزوج له القوامة، فبعضهم أرجعه إلى موضوع العلو، وقالوا: ذكر الظهر لهذا، لا الظهر المعروف، هكذا قال بعضهم، واعتبره من قبيل قوله تعالى في سورة الكهف: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ [سورة الكهف:97]، من العلو، أن يعلوه، أن يرتفعوا، أن يصعدوا على السد، فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ، وهكذا مَن غَلب يقال: ظَهَرَ على كذا، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [سورة الصف:14].

فبعضهم قال: المقصود العلو، ولكن هذا لا يخلو من نظر -والله تعالى أعلم-؛ لأن ذكر الظهر هنا العلماء تكلموا على الأعضاء كما سيأتي -الأعضاء الأخرى لو ذكرها في الظهار، لكن يؤخذ من هذا أن المقصود أو كأنه يعني حينما يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي، باعتبار أنه لا يعاشرها، ولما كان الرجل عادة يعلو المرأة فكأنها يعني بمنزلة المركوب له، فذَكَرَ الظهر -والله تعالى أعلم، يعني هذا تعليل.

وحقيقة الظهار هو تشبيه ظهرٍ محلَّل بظهرٍ محرَّم، أنتِ عليّ -هي حلال له الزوجة– كظهر أمي، تشبيه بالظهر المحرم، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، لكن هذه العبارة إذا قال الإنسان: أنتِ عليّ كظهر أمي فهذا ظهار بالإجماع، وهي عبارة صريحة، وهي أصرح عبارات الظهار، وهي الصيغة المعهودة، أن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.

لكن يبقى الكلام في الصيغ الأخرى، فالظهار كالطلاق له صريح وكناية، فلو أنه قال مثلاً: أنتِ عليّ كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم، فهل الحكم واحد أو لابد من ذكر الأم؟

الذي عليه عامة أهل العلم أنه ظهار، وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال به جماعة من السلف كالحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان، أنه لا فرق بين أن يذكر الأم أو يذكر الأخت أو غير ذلك من ذوات المحارم.

والقول الذي للشافعي في القديم -رحم الله الجميع- أنه يختص بالأم وإن علت، يعني من الجدات من الجهتين من جهة أمه وأبيه، لكن لو شبهها بغير الأقارب ممن يحرم عليه تحريماً مؤبداً كالأم من الرضاعة، تحرم عليه تحريماً مؤبداً، وأم الزوجة مثلاً، فهذا كالذي قبله، من خصه بالأم وإن علت قال: لا يكون ظهاراً.

والجمهور الذين عمموا قالوا: لا فرق بين هذا وهذا، ولو قال: أنتِ عليّ كأمي ولم يذكر الظهر، هذا من الكنايات، فهو بحسب نيته عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهذا الذي ذهب إليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، فإذاً الظهار منه ما هو صريح، وهو أن يشبهها بظهر أمه أو أحد محارمه، مَن يحرم عليه تحريماً مؤبداً، أو بعضو منهن، لو قال: كيدِ أمي، كيد أختي، كرأس أمي، أو نحو ذلك، فلا فرق بين أن يذكر الظهر أو يذكر غيره، والكناية أن يقول: أنتِ عليّ كأمي، فهذا بحسب القصد.

لكن لو شبهها بامرأة أجنبية لا تحرم عليه تحريماً مؤبداً، بل تحرم عليه تحريماً مؤقتاً، امرأة أجنبية ليست من المحرمات على التأبيد، فبعض أهل العلم يقول: هذا ظهار إذا ذكر الظهر، وهذا ذهب إليه مالك وهو رواية عن أحمد، ورجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وخالفهم في ذلك جمع كأبي حنيفة والشافعي، وهذا القول الآخر هو الذي ذهب إليه ابن قدامة -رحم الله الجميع.

هذا إذا ذكر الظهر، وإذا لم يذكر الظهر فبعضهم يقول: يكون طلاقاً، فلو قال: أنتِ عليّ كيد فلانة، كرأس فلانة، ممن لا تحرم عليه تحريماً مؤبداً، فبعضهم يقول: يكون طلاقاً، وبعضهم يقول: يكون ظهاراً وهما قولان للمالكية، وبعضهم يقول: لا يكون شيئاً كأبي حنيفة والشافعي -رحمهما الله.

وهناك مسائل أخرى: لو أنه ظاهر من امرأة ثم تزوجها، قال في امرأة ليست في حباله أصلاً: فلانة عليّ كظهر أمي، هل يقع أو لا يقع؟

بعضهم يقول: يلزمه الكفارة كمالك -رحمه الله، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، يقولون: لا يلزمه شيء، وهذا هو الأقرب باعتبار أن الله قال: مِّن نِّسَائِهِم، فهذه ليست من نسائه، فهذا الظهار وقع على محل غير قابل، مثل لو أنه أوقع الطلاق على امرأة ليست في حباله أصلاً، رأى امرأة في الشارع وقال: أنت طالق، يعني أراد أن يخوف امرأة، يسمعها شيئاً تكرهه، فرآها فقال: أنت طالق، أو تخاصم معها، أو غضب عليها، وقال: أنت طالق فهل يكون ذلك طلاقاً؟

الجواب: لا يكون طلاقاً، وهنا ما جاء من قوله تعالى هنا في الآية: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم، خصه بعض أهل العلم بالمسلمين مِنكُم، وبعضهم قال: لا، هذا باعتبار الغالب، فالخطاب متوجه للمسلمين وإلا فالذمي يقع منه الظهار، على كل حال، ولهذا فإن ظهار الذمي لا يلزم عند مالك وأبي حنيفة خلافاً للشافعي، قالوا: لا يلزم، قالوا: لأنه قال: مِنكُم، لكن الذين قالوا: يلزم، وهم الجمهور في الواقع، قالوا: لأن هذا خرج مخرج الغالب.

ولو صدر الظهار من المرأة، قالت: أنتَ عليّ كظهر أبي مثلاً، هي تريد أن تتخلص منه فظاهرت منه، فهل يقع الظهار منها، كما لو طلقته، أو قالت له: أنت طالق؟ فظهار المرأة ليس بشيء، لا يقع، على قول الجمهور، خلافاً للأوزاعي وإسحاق بن راهويه، قالوا: عليها كفارة يمين، وليس بظهار، بمعنى أنه لا يمتنع منها زوجها، وإلا فيكون الرجال أمرهم بيد النساء، كلما غضبت قالت: أنتَ عليّ كظهر أبي، فينتظر منها أن تخرج الكفارة، يعني قد لا تفعل، مع أن من أهل العلم كالشافعي -رحمه الله- من قال: إن الكفارة المتعلقة بحق الغير يحبس عليها، يعني: الأصل لو إنسان عليه كفارة يمين، أو كفارة قتل خطأ، هذه بينه وبين الله، القتل الخطأ الحق للغير هو الدية، لكن الكفارة هذه بينه وبين ربه -تبارك وتعالى، فهذه لا يحبس عليها.

لكن ما يتوقف عليه حق الغير لو أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم امتنع من الكفارة فإن المرأة يضيع حقها بهذا الاعتبار؛ لأنه لا يجوز له أن يعاشرها، فبعض أهل العلم يقول: هذا النوع من الكفارات يُلزم به، ويحبس عليه، وظهار المرأة ذهب بعض أهل العلم كالزهري إلى أن عليها كفارة ظهار، واحتجوا لهذا بقصة عائشة بنت طلحة، كانت معروفة من أجمل النساء في المدينة، خطبها مصعب بن الزبير، فأبت وتمنعت وقالت: إن تزوجته فهو عليّ كظهر أبي، هذا الآن ظهار قبل الزواج، يعني عندنا قضيتان: ظهار المرأة، والظهار قبل الزواج، ثم صارت إليه إمارة العراقين في عهد عبد الله بن الزبير، في عهد أخيه، فخطبها فوافقت، فسألت عن هذا من حضرها من فقهاء المدينة -الفقهاء السبعة، فأفتوها بأنها تكفر كفارة ظهار وتتزوج منه.

لكن الراجح -والله أعلم- أولاً: ظهار المرأة ليس بشيء، ولا يجوز لها أن تظاهر؛ لأن الظهار حرام أصلاً، والأمر الثاني: أن الظهار الواقع على غير محل ولو كان من الرجل فإنه لا يقع، ولكن ما علق بالشرط فيه خلاف معروف لو صدر من الرجل، كما لو قال: إن تزوجتُ فلانة فهي طالق، أو: إن تزوجتُ فلانة فهي عليّ كظهر أمي، هذا غير أن يقول: فلانة عليّ كظهر أمي وهي في غير حباله، في غير عصمته، هنا معلق بشرط، لكن ظهار المرأة عموماً ليس بشيء ولا يعول عليه.

الآن لو قال: أنتِ عليّ كظهر أمي، أنتِ لي كظهر أمي، أنتِ بالنسبة إليّ كظهر أمي مثلاً، يعني غيّر الصلة، -أنتِ عليّ، فهذا لا يؤثر، لا أثر له تغيير الصلات، يعني بأي عبارة كان، لو قال: أنتِ مني كظهر أمي، أو أنت معي كظهر أمي، أو أنتِ عليّ، أو أنتِ عندي كظهر أمي، أو أنتِ لي كظهر أمي، فهذا كله لا يؤثر، كما لو حذف الصلة أصلاً، لو قال: أنتِ كظهر أمي، ما قال: أنتِ عليّ، فهذا كله من قبيل الظهار، يعني هذه بعض المسائل المتعلقة بالظهار، والكلام في هذا لا شك يطول، ولكن هذا القدر يكفي.

وإشارة ابن كثير -رحمه الله- إلى أن الظهار كان في الجاهلية طلاقاً، لهذا قال لها النبي ﷺ: ما أراك إلا قد بنت منه، بل كان أشد الطلاق في الجاهلية، ولهذا فهذا حكم جديد في الإسلام بسبب ما وقع من أوس بن الصامت مع امرأته خولة.

وقوله تعالى: مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ أي: لا تصير المرأة بقول الرجل: "أنت عليَّ كأمي" أو "مثل أمي" أو "كظهر أمي" وما أشبه ذلك، لا تصير أمه بذلك، إنما أمه التي ولدته؛ ولهذا قال: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا أي: كلاماً فاحشاً باطلاً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي: عما كان منكم في حال الجاهلية، وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم، ولو قصده لحرمت عليه؛ لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك.

هذه الآية تدل على تحريم الظهار الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فهذا يدل على تحريم الظهار من أوجه متعددة: أنه قال عنه: إنه منكر، والمنكر محرم، وقال عنه: إنه زور، وأيضاً ذكر العفو والمغفرة، وإنما يكون العفو والمغفرة من الذنب، وأيضاً ذكر الذي بعدها الكفارة، والكفارة في الأصل تكون من ذنب في الأصل، وأنه أكذبهم في قولهم فقال: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، فهذه أوجه ذكرها الحافظ ابن القيم -رحمه الله، كلها في هذه الآية تدل على تحريم الظهار.

فلا شك أن الظهار محرم، ويترتب عليه حكم، وهو الكفارة بالإجماع، هنا قال: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [سورة المجادلة:2]، فوصفه بأمرين: منكراً باعتبار أنه منكر، وزوراً باعتبار أنه هو أعظم الكذب، فإذا نظرت إلى الصيغة الخبرية حينما يقول لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي، هذا خبر صادق أو كاذب؟ فهو خبر كاذب فهو زور، فهذه الصيغة الخبرية تتضمن حكماً هو تحريم هذه المرأة، وجعْلُ هذه المرأة بمنزلة الأم، فهذا الحكم باطل، فهو منكر، حكم منكر، فالصيغة خبر وهذا الخبر زور، وهو لا يقصد مجرد الإخبار، وإنما ينشئ حكماً بهذا الخبر، فهذا الحكم الذي تضمنه هذا الخبر -تضمنته هذه الصيغة- هو منكر، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، هنا قال: لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي: عما كان منكم في حال الجاهلية، وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم، ولو قصده لحرمت عليه؛ لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وغيرها إلى آخر ما ذكر.

وقوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ عما يبدر من غير قصد، سبق لسان لا يقصده، فالله يعفو ويغفر، ولكن ليس للإنسان أن يتكلم عموماً بهذه الأمور مما يقوله الناس ولا يقصدونه ولا ينبغي أن يقال، كما ذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- أن الرجل لربما يقول لامرأته على سبيل التعليم للصغار؛ لأنه يريد أن يسمع هؤلاء الأطفال بماذا تنادى هذه المرأة، فهو حينما يناديها باسمها هم سينادونها باسمها، أولادها سينادونها باسمها، يقولون: يا فلانة، فإذا كنّاها سينادونها بالكنية، يا أم فلان، فبعض الناس يريد أن يعلم الأطفال، فيقول: يا ماما، وأحياناً لربما هو يريد أن يتلطف بها، يا أمي، يعني بعض الناس على لسانه هذه الكلمة، يتلطف يقول: لابنته هكذا، يعني هو بطبيعته لطيف، فإذا جاء يكلم ابنته أو يكلم زوجته أو يكلم أحداً من محارمه قال: يا أمي افعلي كذا، وهو لا يقصد الظهار، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ مما لا يقصد، لكن ليس له أن يقول هذا؛ لأن الله يقول: مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فليس للرجل أن يقول لامرأته: يا أمي، لأي سبب كان، لكن هل يكون ظهاراً؟ بحسب قصده، بحسب نيته، والله يغفر ويعفو ما لم يقصد به الظهار.

وفي قوله -تبارك وتعالى: مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، قد يرد سؤال هنا، هل الرجل هذا قال لها: أنت أمي، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي؟ لم يقل لها: أنت أمي، فكيف قال الله : مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، "إن" هنا نافية، بمعنى: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، بأي اعتبار مع أن الرجل لم يقل: أنت أمي، أو ما جعلها أماً له؟

يمكن أن يجاب عن هذا فيقال: هو جعلها بمنزلة الأم، نزلها منزلة الأم حينما قال: أنت علي كظهر أمي، فأكذبه الله بهذا ورد قوله قال: مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ، ليست الزوجة بمنزلة الأم، ولهذا قال في الأحزاب: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [سورة الأحزاب:4].

فمن أهل العلم من قال: إن قوله: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ هو مقدمة لإبطال الظهار والتبني، كما لا يكون لرجل قلبان في جوفه، فكذلك لا تكون الزوجة أمًّا وزوجة في آن واحد، لا يجتمع فيها الوصفان كما لا يجتمع للرجل أبوان، بعضهم يقول: هي المقدمة لإبطال هذين الأمرين، فنزلها منزلة الأم.

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظهار زمناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.

وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة، وقد حُكي عن مالك: أنه العزم على الجماع أو الإمساك، وعنه أنه الجماع.

عن سعيد بن جبير: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا يعني: يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم.

وقال الحسن البصري: يعني الغشيان في الفرج.

قوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ هذه فيها ثلاث قراءات متواترة، وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ هذه قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، وهذه القراءة التي نقرأ بها وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ قراءة عاصم، والقراءة الثالثة: وَالَّذِينَ يَظَّاهَرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي.

هذه المسألة التي يذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في معنى قوله: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا، اختلف أهل العلم في المراد بالعود كثيراً، فبعضهم فسره بالعزم، كما يقوله أبو حنيفة وهو رواية عن مالك، وقبلهم قال به قتادة، ولكن هذا المعنى أنكره الإمام أحمد -رحمه الله، العزم، فهذا رجل الآن ظاهر من امرأته وقال ما قال، هل بمجرد العزم تشتغل ذمته بالكفارة فلو مات قبل أن يجامع، ظاهر وعزم على الجماع ثم مات، هل نُخرج من تركته كفارة، نقول: هذا عليه كفارة ظهار؛ لأنه عزم على الوطء، ولم يحصل منه وطء؟ لا يقال: ذمته مشغولة.

إذاً تفسيره بالعزم ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فيه إشكال، فبمجرد العزم لا تشتغل الذمة، لا تكون مشتغلة بالكفارة بمجرد العزم.

وهذا حمل بعض أهل العلم على القول: إن المراد بالعود هو الوطء؛ لأن الكفارة تتعلق بذمته إذا حصل الوطء، لكن هذا يرد عليه إشكال، وهو أنه لا يجوز له أن يطأ حتى يكفّر، فكيف يفسر بالوطء؟

الإمام أحمد ذهب إلى تفسيره بالوطء، وهو أيضاً مروي عن أبي حنيفة، وهو الرواية الأخرى عن مالك، وبه قال الحسن البصري، أنه الوطء، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن القيم -رحمه الله، يعني: كأنه إما أن يقال: العزم على الوطء، فالذمة كما سبق لا تشتغل إلا بالوطء، وإذا قلت: الوطء، هو لا يجوز أن يطأ حتى يكفر، فهو متردد بين هذا وهذا، لكن الواقع يمكن  أن يقال غير هذا، سمعتم قول الشافعي -رحمه الله- ماذا قال؟ أن يمسكها بعد المظاهرة زماناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، وقريب من هذا ينقل عن الإمام مالك -رحمه الله: أن يمسكها ويترك مفارقتها بعد المظاهرة.

وبعضهم يقول كالليث -وهو منقول عن أبي حنيفة: لأن الظهار يوجب تحريماً لا يرفعه إلا الكفارة، والعود على هذا أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة، وبعضهم يقول: المقصود ثُمَّ يَعُودُونَ يعني: يعودون إلى لفظ الظهار مرة أخرى، يعني تكرار أو تكرير هذا اللفظ، يكرره كما يقول الظاهرية ابن حزم وداود وأمثال هؤلاء، يكرر ذلك، لكن هذه الأقوال لا تخلو من إشكال، يقول هنا: وقال أحمد: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفّر بهذه الكفارة.

الشنقيطي -رحمه الله- ذكر قولاً يجمع بين القولين المشهورين -أنه العزم أو الوطء- قال: العود له مبدأ ومنتهى، له مبدأ ومنتهى، مبدأه العزم ومنتهاه الوطء، فإذا عزم فلا يجوز له أن يطأ حتى يكفر، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا.

مع أن بعض أهل العلم يقول: هذا من المقدم، يعني: الآية فيها تقديم وتأخير، وعرفنا أن الأصل في الكلام الترتيب مهما أمكن حمله على معنى صحيح، فبعضهم يقول: فيه تقديم وتأخير، يعني: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، ثم من لم يجد فإطعام ستين مسكيناً، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا: إنا لا نفعله، فيفعلونه، يكون فيه تقديم وتأخير، يعني: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ إلى آخره، ثم قال: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ [سورة المجادلة:3]، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [سورة المجادلة:4]، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا: إنهم لا يفعلونه، فيفعلونه، هذا معنى ذكره بعض أهل العلم، ولكن الأصل في الكلام الترتيب، فهو مقدم على القول أو دعوى التقديم والتأخير؛ لهذا ضعف هذا القول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ورده.

وعلى كل حال ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا يعني: يرجعون عما قالوا، في نقض ما قالوا، ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله: إن اللام هذه لِمَا قَالُوا هي بمعنى "إلى" أو "في" يرجعون فيما قالوا، يرجعون إلى ما قالوا، ولهذا فسره بأنهم يعودون لنقض ما قالوا من التحريم فيحللونه، ويذكر أنه لو قيل: إن المعنى ثم يعودون  إلى تحليل ما حرموا أو تحريم ما حللوا فصواب؛ لأن كل ذلك عود له، يعني: يعودون لتحليل ما حرموا على  أنفسهم مما أحله الله لهم، هذا المراد بالعود، والله تعالى أعلم.

هنا قال الله تعالى: مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا يعني: أن الكفارة فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا، كذلك صرح بهذا في الصيام، مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا، والمس من أهل العلم من فسره بالوطء، ومن ثَمّ إذا فُسر بالوطء مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فإذاً غير الوطء من أنواع الاستمتاع جائز؛ لأن الممنوع هو المس كما جاء عن ابن عباس والحسن وسفيان، فلا حرج إذاً في المباشرة والتقبيل وسائر أنواع الاستمتاع غير الوطء.

القول الآخر: أن المس هنا يشمل الوطء وسائر أنواع الاستمتاع، كما جاء عن مالك وهو رواية عن الشافعي، وهذا رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، باعتبار أن الرجل هذا نزلها منزلة الأم، فلا يجوز له الاستمتاع بالأم بأي وجه كان، فمن نظر إلى ظاهر اللفظ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فإن المس في لغة العرب هو الوطء، فأخذ بظاهر اللفظ، ومن نظر إلى المعنى قال: هذا نزلها منزلة الأم، فإذا نزلها منزلة الأم لا يجوز له أن يستمتع بشيء منها قبل أن يكفّر، وهذا القول أحوط، وأبرأ للذمة، والله تعالى أعلم.

وقال الحسن البصري: يعني الغشيان في الفرج، وكان لا يرى بأسا أن يَغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفّر.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا والمس: النكاح، وكذا قال عطاء، والزهري، وقتادة، ومقاتل بن حيان.

وقال الزهري: ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفِّر.

وقد روي أهل السنن من حديث عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفّر، فقال: ما حملك على ذلك يرحمك الله؟، قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله -عز وجل[4]، وقال الترمذي: حسن غريب صحيح، ورواه أبو داود والنسائي.

لو واقع قبل الكفارة، ظاهر من امرأته وقبل أن يكفر واقع امرأته، فما الحكم؟

فهنا عندنا هذا الحديث، الرجل الذي سأل النبي ﷺ فأمره بكفارة واحدة، يعني هو يأثم لكن لا تتكرر الكفارة، مثل لو أنه أعاد اليمين قبل أن يكفّر، فإنه عليه كفارة واحدة، بخلاف ما لو أنه كفر ثم أعاد اليمين، أو أعاد الظهار فعليه كفارة أخرى، وكذلك جاء في السنن أن سلمة بن صخر أيضاً ظاهر من امرأته مدة شهر رمضان، ثم واقعها ليلة قبل انسلاخه، فأمره النبي ﷺ بالكفارة، يعني: كفارة واحدة، وكذلك جاء عند الترمذي وابن ماجه عن سلمة بن صخر في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، فقال النبي ﷺ: كفارة واحدة[5].

وقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي: فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا، فهاهنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان.

الرقبة غير مقيدة بالإيمان، المطلق محمول على المقيد كما هو معروف، وله أحوال معه أربعة، لكن هذا مما يدخل في بعض صورها الصحيحة التي يحمل فيها المطلق على المقيد، اتحاد الحكم والسبب، واختلاف الحكم والسبب، واتحاد الحكم واختلاف السبب، والعكس.

وقوله تعالى: ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أي: تزجرون به وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي: خبير بما يصلحكم، عليم بأحوالكم.

وقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا قد تقدمت الأحاديث الواردة بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان.

هذا الصيام قال: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لا بد من التتابع، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ولو أنه أفطر أثناء الشهرين بعذر، سافر أو مرض، فالجمهور يقولون: يبني على ما سبق، فهو معذور، وهذا الذي اختاره ابن جرير، وبه قال جمع من السلف كسعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وهو رواية عن الشافعي، وقال به مالك، وقبله الشعبي، هؤلاء يعذرونه مطلقاً.

والشيخ محمد الأمين الشنقيطي يقيد هذا بقيد العذر، يقول: يفرق بين العذر الذي بيده، والعذر الذي ليس بيده، فالعذر الذي بيده السفر إذا كان يستطيع أن يدفعه، والعيد وأيام التشريق ورمضان، كيف يستطيع دفع العيد إلى آخره؟

قال: يوقّت الصوم بحيث لا ينقطع، هو يعرف أنه سيسافر في هذا الوقت، يعرف أنه سيقطعه العيد وأيام التشريق، إذاً يوقت الصوم في وقتٍ ما ينقطع فيه، وإنما يعذر بالعذر الذي ليس له مدفع، مرض ماذا يفعل؟ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة البقرة:286]، والشنقيطي قال: لأن التتابع مقصود فمهما أمكن تحقيقه فهو مطلوب، الآخرون قالوا: هذا مثل رمضان، إذا كان يعذر بالفطر في رمضان فكذلك في كل صوم واجب، فهذا قول عامة أهل العلم أنه معذور. 

وبعضهم قال: لا، هذا لا يأثم إذا أفطر بعذر، ولكن عليه أن يستأنف من جديد، فهذا مذهب أبي حنيفة وقبله قال به إبراهيم النخعي، وهو رواية عن الشافعي، ولا شك أن القول الأول أصح وأرجح، وقول الشنقيطي أحوط، يعني يمكن أن يرشد الإنسان قبل أن يفعل يقال له: لو جعلته في وقت لا ينقطع فهو أفضل؛ لأنك أيضاً تخرج من خلاف الذين قالوا: لا يصح، عليه أن يبدأ من جديد، فهذا قول وسط، وهذا مثال لإحداث قول ثالث ليس فيه إبطال للقولين، وإنما جمع بينهما، في أصول الفقه العلماء يتكلمون على نقض الإجماع فيما لو اختلف العلماء على قولين هل له أن يحدث قولاً ثالثاً أو لا؟ فإن كان هذا القول لا يرد القولين ولا يعود عليهما بالإبطال فلا إشكال، وذكرت في بعض المناسبات مثالاً لهذا في مسألة البسملة، وقول صاحب المراقي:

وبعضُهم إلى القراءة نظر وذاك للوفاقِ رأيٌ معتبر

يعني: أن البسملة على بعض الأحرف من الفاتحة مثلاً، وعلى بعض الأحرف ليست منها، فمن قرأ بحرف هي منها لم يسقطها، ومن قرأ بحرف ليست منها فله أن يسقطها.

ولو أنه حصل الوطء خلال الشهرين، هذا الوطء قد يقع ليلاً وقد يقع نهاراً، إن وقع نهاراً فهذا لا إشكال أنه يبطل الصوم، كما لو أكل أو شرب، بل أشد؛ لأن كل ذلك من أجل الوطء، وهو ممنوع من الوطء، فهذا يبطل بالإجماع، لو حصل الوطء نهاراً في وقت الصوم، يصوم الشهرين فوقع الوطء في النهار، هذا لا إشكال، لكن لو وقع الوطء ليلاً، هو ليس بصائم في الليل، نحن قلنا: إذا حصل الوطء قبل الكفارة لا زالت كفارة واحدة، لكن الآن هو يصوم، فوقع عليها ليلاً، هو لا يجوز له أن يقع عليها حتى ينتهي من الكفارة، فماذا لو أنه وقع منه الوطء؟

فبعض أهل العلم كمالك وأبي حنيفة وأحمد يقول: يبطل، ولو كان بالليل، يبطل، وأما الشافعي وهي رواية أخرى عن الإمام أحمد -رحمه الله- فيقول: يبطل بالنهار فقط، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- مع أنه ممنوع من الوطء ليلاً، هم يوافقون على هذا، فعليه أن يمتنع من الوطء، لكن لو حصل في الليل فهذا هل يبدأ الصوم من جديد أو يكمل صومه؟ فيه هذا الخلاف المعروف.

فعلى كلام الشنقيطي -رحمه الله- يكون عاصياً وآثماً لكن الصوم لم ينتقض، هو يصوم شهرين متتابعين.

هنا في إطعام المسكين، فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، ما قال هنا: مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا، فمن عجز عن عتق الرقبة وعجز عن الصيام فحقه الإطعام، فلا يقال: يجب أن يكون الإطعام قبل المسيس، فيمكن أن يجامع ثم يطعم، كما في كفارة اليمين له أن يفعل ما حلف أن لا يفعله مثلاً ثم يكفّر، وله أن يكفر ثم يفعل، والأمر في ذلك يسير، والأحاديث تدل عليه.

والظاهر -والله تعالى أعلم- أنه يرجع إلى ما قبله من القيود، أن الإطعام يكون قبل المسيس أيضاً؛ لأنه ممنوع منها حتى يكفّر، نزلها منزلة الأم، فلابد من الكفارة من أجل أن تحل له، لكن هنا بالإطعام هل يحتاج أن يكون إطعام ستين مسكيناً عن ستين يوماً نقول: كل يوم واحد، اجلس ستين يوماً؟

الجواب: لا، لكن لابد من مراعاة العدد، من ستين، لو أعطى واحداً طعام ستين لا يجزئ؛ لأن ذكر العدد مقصود وفيه إحسان إلى هذا العدد الكبير، فما ذكر فيه العدد في الكفارات فهو معتبر، خلافاً لأبي حنيفة الذي يقول: يكفي لو أنه أعطاه لواحد، طعام ستين أعطاه لواحد، نقول: لا، لابد من استيعاب العدد؛ لأن الله ذكر ذلك.

فيمكن أن يعطيهم دفعة واحدة، يمكن أن يكون الطعام مطبوخاً، يعطيهم عشاء، غداء، ويجلسون عليه ويأكلون في خلال نصف ساعة يكون هذا الإنسان أدى ما عليه، بل لا يحتاج أنهم ينتهون من الأكل، بمجرد التمكين لهم وتمليكهم، هو يجب أن يملكهم هذا الطعام، فإذا ملكهم إياه يكون قد فعل ما وجب عليه، يعني ما يحتاج أن ينتظر يقول: حتى تنتهوا، بمجرد ما يملكهم هذا الطعام يكفي ذلك، فيكفي فيه أن يكون غداء أو عشاء، سواء كانوا متفرقين أو مجتمعين، المهم أن يملّكهم ذلك، وهذا بعض ما يتعلق بقوله: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.

ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: شرعنا هذا لهذا.

أن الامتناع عن الزوجة إيمان، حتى يكفّر، الكفارة من خصال الإيمان، الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فكون الإنسان يمتنع من امرأته ونفسه تتوق إليها، وكون الإنسان يخرج الكفارة تقرباً إلى الله وتعبداً بما أمره فهذا إيمان، الإيمان قول وعمل، قال: ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وقوله تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي: محارمه فلا تنتهكوها.

وقوله تعالى: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء، كلا ليس الأمر كما زعموا، بل لهم عذاب أليم، أي: في الدنيا والآخرة.

  1. رواه ابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فيما أنكرت الجهمية، برقم (188)، وأحمد في المسند، برقم (24195)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، تميم بن سلمة من رجاله، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، والبخاري معلقاً في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [سورة النساء:134].
  2. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3342)، برقم (18840)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الظهار، برقم (2063)، وصححه الألباني بشواهده في إرواء الغليل (7/ 175)، برقم (2087).
  3. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (27319)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة مَعْمَر بنِ عبدِ الله بن حَنْظَلة، فلم يروِ عنه سوى محمد بن إسحاق، وقال ابن القطَان في "بيان الوهم والإيهام" 4/ 464: مجهول الحال، وقال الذهبي في "الميزان": لا يُعرف، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وبقية رجال الإسناد ثقات، سعد بن إبراهيم: هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري".
  4. رواه الترمذي، أبواب الطلاق واللعان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، برقم (1199)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (11600)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (7/ 179)، برقم (2092).
  5. رواه الترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، برقم (1198)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب المظاهر يجامع قبل أن يكفر، برقم (2064).

مواد ذات صلة