الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[2] تتمة تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 1 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الآية 2
تاريخ النشر: ٢٦ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 3000
مرات الإستماع: 2421

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى:

وقوله: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1] قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -ا: يعني بذلك: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وقال قتادة: يعني بذلك الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه.

والظاهر -والله أعلم- أن المراد بذلك قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [سورة المائدة:3] فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض؛ ولهذا قال: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [سورة المائدة:3] يعني منها؛ فإنه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقُه؛ ولهذا قال تعالى: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1] أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ هذا مما أبهم، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، ومن أحسن التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فقوله تعالى: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يفسر بما يتلى علينا في المحرمات التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- في مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة المائدة:3]، وكقوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121].

وقوله -تبارك وتعالى: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] يحتمل معنيين، الأول: أن يكون الاستثناء راجعًا إلى المذكورات قبله، هكذا: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [سورة المائدة:1] ثم يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] ثم قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ إلى آخره، ثم قال: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] أي من الأنعام المذكورة في الآية قبل، والاحتمال الثاني أن يكون الاستثناء منقطعًا، وسيأتي الكلام على هذا بعد.

وقوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة:1] قال بعضهم: المراد بالأنعام ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر، فاستثنى من الإنسي ما تقدم واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام.

التركيب في قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ لا يخلو من إشكال إلا إذا فسر بأحد التفسيرين اللذين ذكرناهما، وهو إما أن يقال: إن الأنعام هي الإنسية والوحشية، فيكون غير محلي الصيد يعني إلا أن تصيدوا ما يصاد منها في حال الإحرام، وهذا لا إشكال فيه.

والمعنى الثاني أن يكون المراد بالأنعام هو الوحشي فيكون ذلك مباحًا إلا في حال الإحرام فلا تصيدوا شيئًا منه، وعلى هذا أيضًا لا إشكال، لكن إذا خصت الأنعام ببهيمة الأنعام في أصنافها الأربعة المعروفة، فماذا يفسر به قوله هنا: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وهذه الأنعام أصلًا ليست من الصيد؟

بعض أهل العلم -وهو مذهب البصريين- يرجعون الاستثناء إلى الأنعام، ويكون السياق عندهم هكذا: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم -أي الميتة والدم... الخ- إلا الصيد وأنتم محرمون، ويكون هذا التفسير ليس تفسيرًا حرفيًا وإنما هو تفسير بالمعنى وعلى هذا لا يكون الصيد من بهيمة الأنعام وإنما ذكره من باب بيان ما يحل وما لا يحل، فقال: الأنعام حلال إلا الميتة والمنخنقة والموقوذة إلى آخره.

ومن نفس الباب ذكر تحريم الخنزير وإلا فالخنزير ليس من الأنعام، لذلك إذا أردت أن تفسر تفسيرًا بالحرف فإنك ستقع في إشكالات، ولذلك لما حصل التكلف عند المتأخرين وقعوا في أسئلة وإشكالات يصعب الجواب عنها، أما السلف فقد كانوا يفسرون بطريقة أخرى، فالمقصود أن الخنزير ذكره الله في جملة المحرمات وإن لم يكن من بهيمة الأنعام؛ فذاك مقام فصَّل الله فيه ما يحرم فذكر الصيود في حال الإحرام فهي وإن لم تكن من بهيمة الأنعام إلا أن الله ذكر ذلك في مقام ما يحرم وما يحل من هذه الحيوانات.

وبعضهم يقول: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1] بدل من الأنعام، وهذا يقوله بعض أئمة اللغة أمثال الفراء والأخفش.

وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [سورة المائدة:1] حال من قوله: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1]، يعني يكون هكذا: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود في حال كونكم غير مستحلين للصيد في حال الإحرام.

وبعضهم يقول: هو حال من الكاف والميم في "لكم"، والتقدير أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد، يعني في حال كونكم غير مستحلين للصيد وأنتم حرم.

وبعض أهل العلم ينزع في هذا إلى أن هذا الإحلال لكم في بهيمة الأنعام مشروط بكونكم غير متعدين حدود الله، وهذا فيه إشكال؛ لأنه حتى الذي تعدى على الصيد في حال الإحرام لا يقال: إنه يحرم عليه بهيمة الأنعام.

وعبارة ابن جرير -رحمه الله- في هذا: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرّم وأحلّ، لا محلين الصيد في حرمكم، ففي ما أحلَّ لكم من بهيمة الأنعام المذكَّاة دون ميتتها متَّسع لكم ومستغنًى عن الصيد في حال إحرامكم"، وهذا يشبه قول الأخفش والفراء، أي أن قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [سورة المائدة:1] حال من قوله: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1].

على كل حال إذا أردنا أن نفسر الآية على المعنى نقول: إن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1]، وعرفنا أن هذه العقود يدخل فيها حدود الله وأحكامه وما يتعاقده الناس فيما بينهم، ومن حدود الله الحلال والحرام في المطعومات من هذه الصيود وغيرها.

ثم يبين الله -تبارك وتعالى- لهم ممتنًا عليهم ما جعل لهم من التوسعة في بهيمة الأنعام التي سخرها وأباحها لهم لينتفعوا بها في وجوه الانتفاع المختلفة المتنوعة فيقول: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1]، وهذا يدخل فيه المذكورات في الآيات الأخرى مما يحرم.

إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة:1] أي أن الله وسع عليكم وأفاض عليكم من ألوان النعم ما تستغنون به عن الصيد، فلم يضيق عليكم بهذا الحكم في حال الإحرام، والله تعالى أعلم.

والقرآن من أراد أن يفهمه فينبغي أن يكثر ويدمن من النظر والتأمل في النصوص الواردة عن السلف عند تفسيرهم للقرآن، فما كانوا يفسرونه بطريقة المتأخرين الذين يريدون أن يقفوا عند كل حرف، وكل لفظة فيركبوا المعنى على هذه الحروف والألفاظ، والله تعالى أعلم.

وقيل: المراد أحللنا لكم الأنعام في جميع الأحوال إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام؛ لقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة النحل:115].

هذا لا يخلو من إشكال؛ لأن إباحة الأنعام ليست مشروطة بالتزام حرمة الصيد.

أي: أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغٍ ولا متعدٍّ، وهكذا هنا أي: كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال، فحرموا الصيد في حال الإحرام، فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [سورة المائدة:1].

ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2] قال ابن عباس -ا: يعني بذلك مناسك الحج، وقال مجاهد: الصفا والمروة والهدي والبُدن من شعائر الله، وقيل: شعائر الله محارمه أي: لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى؛ ولهذا قال تعالى: وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه.

قول مجاهد: "الصفا والمروة والهدي والبدن من شعائر الله" معناه لا تحلوا هذه الشعائر فيقع منكم شيء من الإخلال بها والتعدي عليها بلون من ألوان التعدي كأن تحولوا بين من أراد إيصالها إلى البيت أو تقوموا بأخذها أو بغير ذلك مما يحصل به إجرام وانتهاك لحرمتها، وعلى هذا تكون هذه الشعائر مما يتعلق بالحج والمناسك، والبيت، والمشاعر، وما يقدم من القرابين والهدايا ونحو ذلك، وهذا هو الغالب عند الإطلاق، والشعائر تطلق أيضًا ويراد بها معالم الدين. 

ومن أهل العلم من يقسّم الدين إلى شعائر وأمانات، فالشعائر مثل الأذان والتكبير في الأعياد، ومثل التلبية وسائر العبادات الظاهرة، والأمانات هي التي لا يطلع عليها إلا الله كالوضوء والطهارة والصيام والنيات ونحو ذلك، فهذه بين الإنسان وبين ربه لا يطلع عليها الناس، لكن قوله: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2] هل تختص بهذه الأمور المتعلقة بالبيت من الصفا والمروة والهدي ونحو هذا بمعنى لا تنتهكوا حرمتها بل عظموها حق التعظيم، أم أن ذلك يشمل جميع الشعائر ومعالم الدين التي شرعها الله لعباده حيث إن تعظيمها مطلوب، والله يقول: وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحـج:32] فيدخل في ذلك شعائره في الحج، ويدخل فيه سائر الشعائر كالأذان واللحية وما إلى ذلك من الأمور الظاهرة فتعظم، ومن هذا: القلائد التي توضع على الهدي وذلك يقتضي تعظيم الهدي، وهكذا.

وقيل: شعائر الله محارمه أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها الله تعالى، وهذا بالاقتضاء يعني لا تضيعوا أوامره بترك الحج، وبترك العمرة، وبترك الهدي، وبتضييع حقوق الله -تبارك وتعالى، فكل هذا مما يدخل في هذا اللفظ، والله تعالى أعلم.

يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [سورة البقرة:217]، وقال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا الآية [سورة التوبة:36].

بالنسبة لشعائر الله، ابن جرير -رحمه الله- يحملها على الجميع -على العموم- أي أنها لا تختص بالصفا والمروة والهدي وما يتعلق بالحج والمناسك.

وقوله تعالى: وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] أي بالقتال فيه على سبيل التعدي مع الإقرار بحرمته، أو بالتلاعب بالأشهر الحرم كما قال الله : إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [سورة التوبة:37] فهذا من التعدي على حدود الله وانتهاك الأشهر الحرم، حيث كانوا ينقلون مثلًا حرمة المحرم إلى صفر؛ من أجل أن يقاتلوا ويغيروا في المحرم، أو يجعلون حرمة رجب إلى شعبان ويغيرون اسمه، وهكذا يتلاعبون بالأشهر، فمثل هذا كله يعتبر من التعدي على الشهر الحرام وانتهاك محارم الله.

وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال في حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان[1]. وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت.

بالنسبة للأشهر الحرم العلماء مختلفون كثيرًا هل حرمتها باقية بمعنى تحريم القتال في الأشهر الحرم، وهي الأشهر الأربعة، ثلاثة متوالية، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب، فهل هذه الأشهر لا يجوز القتال فيها، وذلك من قبيل المحكم الذي لم ينسخ؟

ابن جرير -رحمه الله- ينقل الإجماع -ويقصد بالإجماع كما هو معروف وذكرناه مرارًا قول الأكثر- على أن في الآية نسخًا، والعلماء يختلفون في تحديد المنسوخ في هذه الآية، وابن جرير -رحمه الله- يرى أن المنسوخ فيها من قوله: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:2] كل هذا يرى ابن جرير أنه من المنسوخ، وأن الذي نسخه قوله تعالى في سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [سورة التوبة:5].

والعلماء مختلفون في الأشهر الحرم في هذه الآية، فبعضهم يقول: هي أشهر الإمهال الأربعة، التي قال الله فيها: فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [سورة التوبة:2]، فإذا انسلخت هذه الأشهر الأربعة وقد نبذتم إلى المشركين عهودهم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.

ومنهم من يقول: هذه الأشهر الحرم هي الأشهر الأربعة التي حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض التي ذكرناها آنفًا، وأن حرمتها باقية لم تنسخ.

وبعض أهل العلم أيضًا يستدل على النسخ بقوله تعالى: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [سورة التوبة:36] ويقول: إن ذلك يقتضي قتال الجميع ويقتضي أيضًا قتالًا في كل وقت، وهذا فيه نظر، فالآية تقول: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً [سورة التوبة:36] ولا تعلق لهذا بالزمان، والزمان قد بينه الله في آيات أخرى. 

ويستدلون أيضًا بأن النبي ﷺ في غزوة حنين سار إلى المشركين، وكان قد وقع قتال في الطائف في شهر ذي القعدة، وهذا لا يصلح أن يكون دليلًا -والله تعالى أعلم- على النسخ؛ فالنبي ﷺ حينما فتح مكة اجتمعت هوازن ومن جاء معهم وجاءوا إلى وادي حنين -بين مكة والطائف- فالنبي ﷺ سار إليهم باعتبار أنهم اجتمعوا له وتوجهوا صوب مكة إلى وادي حنين، فيكون هذا القتال من غير ابتداءٍ من النبي ﷺ، ولذلك فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن حرمة هذه الأشهر في القتال باقية، ولا يجوز لأحد أن يقاتل فيها ابتداءً، لكن على سبيل رد الاعتداء فإن ذلك مشروع كما قال الله : وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191] فكذلك الأمر أيضًا في الأشهر الحرم، وسيرة النبي ﷺ وهديه يدل على ذلك، وهذا أقرب القولين في المسألة، والخلاف فيها قوي جدًا، والقولان متقاربان، والكلام في هذا يطول، وإنما المقصود الإشارة فقط.

وعلى كل حال تبقى مسألة في هذه الآية: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [سورة المائدة:2] مع قوله تعالى في سورة براءة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [سورة التوبة:28] فقوله: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يعني القاصدين، وبالتالي فإما أن يقال: إن المراد بقوله: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يعني من المسلمين، وهذا قد يكون فيه شيء من البعد والتكلف.

وعلى أنها في المشركين فهذا الذي حمل بعض العلماء -رحمهم الله- على القول بأن في الآية نسخًا، وقالوا هذا معناه أن المشركين يمنعون من المجيء إلى البيت، وعلى كلام ابن جرير يكون المحكم في الآية فقط قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2] وما بعده منسوخ، لكن يمكن أن يقال -والعلم عند الله: إن هذه الآية ليست آخر ما نزل مما يتصل بهذا الموضوع.

وبعض أهل العلم يقول: هذا نزل في عام الفتح وفي عام الفتح لم يكن يحرم على المشركين أن يأتوا إلى البيت الحرام، أي أنهم لم يمنعوا، وجاء في أسباب النزول -وبعض ذلك قد صح- أنها نزلت بسبب أنهم استأذنوا النبي ﷺ بأن يغيروا على بعض المشركين، وفي بعض الروايات على سبيل الاقتصاص مما وقع من بعضهم من الاعتداء على المسلمين، وفي بعضها أنهم طلبوا ذلك ابتداءً، وبعض الروايات ضعيفة وبعض الروايات صحيحة، وسيأتي بعضها -إن شاء الله، فتكون هذه الآية بهذه المثابة، وإلا فمتى كان أولئك المشركون يسوقون الهدايا ويأتون إلى البيت الحرام؟

كان ذلك قبل أن تنزل آية براءة، يعني هم إلى السنة التاسعة حجوا مع المسلمين في حجة أبي بكر ، ثم بعد ذلك بعث بها النبي ﷺ مع علي، لما نزلت صدر سورة براءة ومنعوا بعد ذلك، فحج المسلمون على سبيل الانفراد بالبيت ولم يشاركهم أحد من المشركين، فعلى هذا يمكن أن يكون هذا القدر من الآية أعني قوله: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] يمكن أن يكون منسوخًا بقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [سورة التوبة:28]، يمكن أن يكون بهذا الاعتبار.

ويمكن أن يقول قائل: إن هذا ليس نسخًا للحكم من أصله بل يمكن أن يقال: هو مبين أو مخصص في هذا، حيث مُنع المشركون من المجيء إلى البيت ولكن بقيت هذه الآية محكمة، ولا يجوز التعدي على أحد ممن يقصد البيت الحرام، أو صدهم عنه، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي - باب من قال الأضحى يوم النحر (5230) (ج 5 / ص 2110) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).

مواد ذات صلة