الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} الآية:34 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ٠٦ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 8772
مرات الإستماع: 29160

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- عن فرعون لما جاءه موسى ﷺ بأمر الله ودعاه إلى الإيمان بألطف عبارة، وأراه المعجزة الباهرة فَكَذَّبَ وَعَصَى ۝ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى۝ فَحَشَرَ فَنَادَى [سورة النازعات:21-23]، بدلًا من أن يذعن ويؤمن وينقاد انقلب يجمع أتباعه وقومه وجنده لتقرير باطله وكفره، ونادى بهم بهذه العبارة الفجّة، التي هي في غاية النكارة، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24]، فعاقبه الله على ذلك فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [سورة النازعات:25]، ونكّل به في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بعذاب النار.

ويحتمل أن يكون ذلك يرجع إلى كلمتيه، يعني أن الله -تبارك وتعالى- عاقبه بمقالتيه: بقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، وبقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38].

ثم قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى [سورة النازعات:26] في خبر موسى مع فرعون وما جرى له، وما عاقبه الله  به، أو فيما ذكر في صدر هذه السورة مع خبر موسى وفرعون لَعِبْرَةً عظة لِّمَن يَخْشَى، ينتفع بها ويعتبر من كان يخشى الله والدار الآخرة.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- مخاطبًا هؤلاء المكذبين: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا [سورة النازعات:27]، يا من تنكرون البعث خلْقُ السماوات أعظم وأكبر من خلقكم، والله -تبارك وتعالى- قد خلقها، بناها، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [سورة النازعات:28ٍ] أعلى بناء السماء، وسوى خلقها فصار في غاية الاعتدال، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا [سورة النازعات:29] فجعله مظلمًا.

وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [سورة النازعات:29] يعني: صار ضحاها منيرًا بطلوع الشمس، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ليل السماء؛ لأن الليل إنما يكون بغروب الشمس، والشمس في السماء، والنهار بطلوعها، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [سورة النازعات:29]، فأضاف ذلك إليها، وذكر الضحى؛ لأنه أجلّ وأشرف أوقات اليوم.

قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [سورة النازعات:30] يعني: بعد خلق السماء دحا الأرض، وفسره بما بعده، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا [سورة النازعات:31].

قال: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [سورة النازعات:32] يعني: أثبتها، فصارت راسية، وأرسى الأرض بها أيضًا وثبتها، فلا تميد بأهلها، كل ذلك فعله مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [سورة النازعات:33]، من أجل أن تتمتعوا بهذه الأرض، وما بث فيها من الأرزاق والأقوات، أنتم وأنعامكم.

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ۝ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ۝ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ۝ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۝ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ۝ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ۝ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ۝ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [سورة النازعات:33-46].

يقول تعالى: فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [سورة النازعات:34] وهو يوم القيامة، قاله ابن عباس، سميت بذلك لأنها تَطُمّ على كل أمر هائل مفظع، كما قال تعالى: وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [سورة القمر:46].

فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [سورة النازعات:34]، الطامة: هي الداهية العظمى، التي تطم على سائر الطامات، تقول: هذا جاء الوادي الذي طم القرى، فهذه أعظم واقعة، فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، وذلك يوم القيامة، وهي النفخة الثانية، فلعظم هولها قيل لها: الطامة، ووصفت بالكبرى، فالطامات تقع للناس -الحوادث الكبار- ولكن هذه هي الطامة الكبرى، وكل داهية لا تستطاع يقال لها: طامة عند العرب، كما يقوله المُبرِّد.

لكن الطامة الكبرى هي التي تطغى على سائر الطوام والطامات، فهي لا يُقادَر قدرها، فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى والجواب قوله سبحانه: فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى الآيات، فهذا هو الجواب، إذا جاءت يكون الناس على حالين، فالطغاة إلى الجحيم، وأهل الخوف والخشية، وإيثار مرضاة الله -تبارك وتعالى- هؤلاء إلى الجنة.

وبعضهم يقول: الجواب مقدر محذوف، فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى فإن الأمر كذلك، أو إذا جاءت الطامة الكبرى عاينوا عندها الحقائق التي كانوا يكابرون بها، وينكرونها، فرأوا ذلك عيانًا، أو إذا جاءت الطامة الكبرى علموا حقيقة ذلك، فهذه معانٍ متقاربة، وبعضهم يقول: فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار -والله تعالى أعلم.

يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى [سورة النازعات:35] أي: حينئذٍ يتذكرُ ابنُ آدم جميع عمله خيره وشره، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [سورة الفجر: 23].

إذا جاءت الطامة الكبرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى، ذلك اليوم يوم القيامة الذي هو يوم الطامة الكبرى، هو اليوم الذي يتذكر الإنسان فيه عمله، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.

يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى جنس الإنسان، كل الناس ينظر فيما عمل وما قدَّم، وهنا عُبر بالسعي، وقد مضى أن السعي يقال للعمل، وسواءً كان ذلك العمل بطاعة الله أو العمل بمعصيته، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ۝ فَحَشَرَ فَنَادَى [سورة النازعات:22، 23]، وهو يدل على المبادرة، والله يقول: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [سورة النجم:40] يعني: عمله.

فهنا يتذكر ما سعى، يبدأ يعيد الأعمال، ويراجع سعيه، وما صدر عنه، فمثل هذا يحتاج من العبد إلى تذكر قبل ذلك اليوم من أجل أن لا تتحقق خسارته فيندم، ولا ينفعه عندها الندم، كل أحد سيتذكر في ذلك اليوم ما سعى، إذن فليقدم بين يدي هذا السعي في الدنيا حسابًا، وليقدم أيضًا معه وبعده حسابًا، فيكون الحساب قبل العمل وفي أثنائه وبعده.

قبل العمل بالنظر في الوجهة، وموضع هذا العمل هل هو من محابّ الله، أو من مساخطه؟

ومعه، فهو يلاحظ استصحاب النية الصحيحة كي لا تتحول، مع النظر المستمر الدائم في ملاحظة هذا العمل أن يأتي به على الوجه المشروع، وليس القضية أن يؤدي الإنسان ِأي عمل، وإنما كيف عَمِل؟ كيف أدى هذه الأعمال والعبادات؟ والله يقول: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [سورة الملك:2]، ما قال: أيكم أكثر عملًا، فإذا قرأ القرآن قبل أن يقرأ يكون له محاسبة، وأثناء القراءة يكون له محاسبة، هل هذه القراءة على الوجه المطلوب؟ وهل هو مستصحب للنية الصالحة فيها؟ وكذلك أيضًا بعد العمل من صلاة وغير ذلك، هل هذا العمل جاء على الوجه المشروع؟ هل هذا العمل يقربني إلى الله أو أنه يحتاج إلى توبة؟

ولهذا الإنسان يستغفر بعد الصلاة، وبعدما يقضي النسك، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [سورة البقرة:200]، هذه مقامات للذكر، والمراجعة، والإخبات بعد العمل، لا أن يبقى في غفلة تامة، فإذا وافَى القيامة عند ذلك نظر في عمله فتذكر ما قدَّم وأخَّر، ثم بعد ذلك يندم، فهذه الأنفاس هي خزائن للأعمال، وسيجد الإنسان خزائن كثيرة فارغة ما استغلها بشيء يعود عليه بطائلة، وهناك خزائن فيها أعمال قد تكون ناقصة، وهناك خزائن مليئة باللغو، وما لا فائدة فيه، وهناك خزائن مليئة بالشرور والمعاصي، وبعضها في أثواب طاعات، وصور قربات، يعني عبادات لم يكن له فيها نية، أو لم يأتِ بها على الوجه المطلوب المشروع فرُدّت، وكل هذا يكون في كفة السيئات.

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى [سورة النازعات:36] أي: أُظهرت للناظرين فرآها الناس عيانًا.

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ يراها الناس، ويشاهدونها، وعندئذ يصيبهم ما يصيبهم من الهول والخوف والشدة مخافة أن يكونوا من أهلها، وهم يعلمون أنهم سيمرون عليها، وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا [سورة مريم:71]، فإذا كان الناس يعلمون ذلك ويشاهدون هذه النار العظيمة التي الأرض كلها لا تساوي شيئًا لو رميت فيها، ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا، إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [سورة الفرقان:12]، لها سبعون ألف زمام، كل زمام يقوده سبعون ألف ملك، لو كان هذا في شيء في الدنيا له سبعون ألف زمام، يجر كلَّ زمام سبعون ألف رجل لكان شيئًا هائلًا، فكيف بملائكة أقوياء في غاية القوة والشدة يجرونها ويقودونها؟!، فهذه حقًا لا تبقي ولا تذر، هذه التي من أجلها ينبغي أن يحاسب الإنسان نفسه كثيرًا طويلًا، في حاله.

فَأَمَّا مَن طَغَى [سورة النازعات:37]، أي: تَمَرّد وعتا، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [سورة النازعات:38] أي: قدمها على أمر دينه وأخراه، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:39] أي: فإن مصيرَه إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم، ومشربه من الحميم.

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [سورة النازعات:40] أي: خاف القيام بين يدي الله ، وخاف حُكْمَ الله فيه، ونهى نفسه عن هواها، ورَدها إلى طاعة مولاها، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:41].

قوله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، أي: الحساب بين يدي الله -تبارك وتعالى- وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [سورة الأنعام:30]، فهم يوقفون هناك، ويوقفون على النار، وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ [سورة الأنعام:27]، فهذه مقامات للناس في ذلك اليوم.

خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: يوم الحساب، كما يقوله بعض السلف كالربيع، ويقول قتادة: إن لله مقامًا قد خافه المؤمنون، وقال مجاهد: هذا في الدنيا، يخاف في الدنيا من الله عند مواقعة الذنب، فيقلع عنه، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [سورة الرحمن: 46]، ليس المقصود خاف مقام الحساب، وإنما خاف في الدنيا، لكن هذا -والله أعلم- لا يعارض ولا ينافي ما ذكر من أنه القيام بين يديه للحساب، فهو يخاف في الدنيا، خاف ذلك اليوم وصار يحسب له حسابًا في وقت مبكر وهو في الدنيا، حيث تنفعه المراجعة والتوبة والمحاسبة والخوف، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [سورة النازعات:40].

وابن كثير –رحمه الله– لا يقصد أن هذا الخوف يكون في الآخرة، إنما يقصد أنه في الدنيا، يعني يحسب حسابًا لذلك اليوم.

وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى هذا يوافق ما اشتهر من أن الهوى إذا أطلق فالأصل أنه للذم؛ ولهذا جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الله ما ذكر الهوى إلا مذمومًا، ولكن السياق قد يدل على استعمال الهوى أحيانًا في غير موضع الذم، مثل قول عائشة -رضي الله عنها- للنبي ﷺ: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك[1].

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:40- 42] قال: أي: منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء، هذا كله يرجع إلى أن المعتبر هو الإيثار، بمعنى أن داعِيَ الله يدعوه، والنفس والهوى والشيطان كل ذلك يدعوه أيضًا، فداعي الله يدعوه إلى الإيمان والعمل الصالح، والنفس والهوى والشيطان كل ذلك يدعوه إلى خلاف ذلك.

وكما هو معلوم في الحديث لما خلق النار وخلق الجنة أرسل جبريل -عليه الصلاة والسلام- فنظر إلى النار، فرآها في حال يحطم بعضها بعضًا، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها[2]، فحُفت بالشهوات، الصور المحرمة الجميلة، الأموال المحرمة، الكسل عن طاعة الله ، كل هذه الأشياء من النظر الحرام، والأكل الحرام، والكسب الحرام، والأصوات المحرمة، فلما رآها جبريل قال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد.

ولما خلق الجنة وبعث إليها جبريل -عليه الصلاة والسلام- ونظر إليها في حال، قال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فلما حُفت بالمكاره، صيام، صلاة، إذا أذن ذهب إلى المسجد، قام من فراشه، يحفظ لسانه عن الحرام، يحفظ نظره عن الحرام، يحتاج إلى مكابدة وصبر، ومجاهدة، وعمل صالح.

ويوجد في أعماق الإنسان دواعٍ، توجد النفس المطمئنة وتدعوه إلى الله، والتوبة، والمراجعة، والعمل الصالح، والإيمان، كما توجد النفس اللوامة، تلومه على فعل المعصية، والتقصير، ويوجد داعي الله في قلب المؤمن، والملك له أيضًا لمة بالقلب، هذه كلها من الداخل، مع الفطرة خلقت عبادي حنفاء[3]، ويوجد في الخارج شياطين الإنس من الصامتين والناطقين، فالناطق يدعوه مباشرة للمنكر، وإذا ما استجاب أنكر عليه عدم الاستجابة، وعابه بذلك، كما يعيبه على طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ.

ويوجد أيضًا الدعوة الصامتة للمنكر، فكل ممارسة للمنكر هي دعوة صامتة إليه، مثل هذه الأمور تدعو إلى الشر، والمنكر، كلها دواعٍ تسهل عليه مواقعة المنكر، خذ مثالًا على ذلك: التصوير، كان الناس يستوحشون منه، وما كنا نعرف صدق توبة الإنسان إلا إذا أتلف ألبومات الصور التي عنده، اليوم تريد النهي عن التصوير وتقول: لا يصورْ أحدٌ، ثم تُفاجأ بواحد يثني ركبته ويجلس أمامك ويصورك، ويستغرب إذا قلت له: لا تصور اتق الله؛ لأن هذا كثر، ونُسيت النصوص الواردة فيه، وصار الذي ينكر هذا غريبًا في الناس، تبرج المرأة يبدأ بواحدة، تعرفون ما ذكره الشيخ علي الطنطاوي: واحدة في دمشق وكيلة مدرسة خرجت سافرة عن وجهها، فأضربت دمشق عن آخرها، وأغلقت المحال التجارية حتى فصلت هذه الوكيلة من عملها؛ لأنها فقط كشفت الوجه، هذا في بلاد الشام يوم كان الناس ناسًا، أسأل الله أن يفرج عنهم، ولعل هذه الحرب تعيد الناس إلى معادنهم، وتزيل عنهم هذا الركام.

قال ابن القيم -رحمه الله: "قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:37- 39]، النفس تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى خوفه، ونهْي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعييْن يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والابتلاء.

قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [سورة النازعات:40] وهو مقام الرب على عبده بالاطلاع والقدرة والربوبية، فخوفه من هذا المقام يوجب له خشوع القلب لا محالة، وكلما كان أشد استحضارًا له كان أشد خشوعًا، وإنما يفارق القلبَ إذا غفل عن اطلاع الله عليه، ونظره إليه"[4].

لاحظْ، يعني هذا ليس المقام بين يدي الحساب، وإنما خاف مقام ربه يعني: باطلاعه عليه، يعني مقام المراقبة الذي يبعث على مرتبة الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه، ولمن خاف مقام ربه جنتان، هذا المعنى الأول.

"والتأويل الثاني: أنه مقام العبد بين يدي ربه عند لقائه، فعلى الأول يكون من باب إضافة المصدر إلى الفاعل، وعلى الثاني -وهو أليق بالآية- يكون من باب إضافة المصدر إلى المخوف، والله أعلم"[5].

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [سورة الرحمن:46]، يعني: يوم الحساب، خاف ذلك الموضع، خاف قيامه بين يدي ربه، أضيف إلى المفعول.

ثم قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۝ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ۝ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ۝ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [سورة النازعات:42 - 45] أي: ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق، بل مَردها ومَرجعها إلى الله ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين، ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [سورة الأعراف:187].

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، هؤلاء الذين يسألون على نوعين:

النوع الأول: من يسأل استبعادًا، واستهزاءً، وتكذيبًا، وكفرًا، هذا كان سؤال الكفار، يقولون: متى هي؟ متى تقوم الساعة؟ ويستعجلونه بها -عليه الصلاة والسلام، يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [سورة الشورى:18]، فهذا نوع من سؤال السائلين.

والنوع الثاني: هو سؤال أهل الإيمان، متى الساعة؟ من أجل أن نستعد، وأن نعمل لها، فالأول مذموم، والثاني غير مذموم، إلا أن جوابه غير معلوم لدى من يوجَّه إليه السؤال، وفي حديث جبريل: متى الساعة؟ لو كان السؤال مذمومًا لما وجهه للنبي ﷺ، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل[6].

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [سورة النازعات:42]، يعني: منتهى قيام الساعة، مثل رسو السفينة، لمّا ينتهي سيرها وإبحارها ترسو على الشاطئ أو في الميناء، فهذا منتهى إبحارها، أو سيرها، أَيَّانَ مُرْسَاهَا يعني: منتهى قيام الساعة، كرسو السفينة، كما يقوله الفرَّاء.

فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا [سورة النازعات:43]، ابن جرير –رحمه الله– يقول: وكان النبي ﷺ يكثر ذكر الساعة حتى نزلت الآية، وبعضهم يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۝ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا، أيّ شيء أعلمك بوقت وقوعها؟ كأنه يقول: ما شأنك وهذا؟ هذا السؤال لا يوجه إليك، ليس علمها إليك، وإنما إلى الله .

 وقال هاهنا: إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [سورة النازعات:44] ولهذا لما سأل جبريلُ رسولَ الله ﷺ عن وقت الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.

يعني إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا أي: أن الذي ينتهي علمها إليه هو الله وحده، وأما الناس فلا يعرفون ذلك، لا يعلم وقتها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.

وقوله تعالى: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا [سورة النازعات:45]، أي: إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده اتبعك فأفلح وأنجح، والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك.

إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ هنا جاء بأسلوب الحصر، حَصَرَ مهمته ﷺ بالإنذار، مع أن الله -تبارك وتعالى- أخبر في مواضع أنه بعثه بشيرًا ونذيرًا، فهو يجمع بين البشارة والنذارة.

وقوله: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [سورة النازعات:46] أي: إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مُدّة الحياة الدنيا، حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضُحى من يوم.

قال جُويْبر عن الضحاك، عن ابن عباس: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا أما عَشِيَّة: فما بين الظهر إلى غروب الشمس، أَوْ ضُحَاهَا ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار.

وقال قتادة: وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.                                    

آخر تفسير سورة "النازعات"، ولله الحمد والمنة.

  1. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟ (7/ 12)، رقم: (5113).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في خلق الجنة والنار (4/ 236)، رقم (4744)، والترمذي (4/ 693) رقم: (2560) أبواب صفة الجنة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات.
  3. مسلم (4/ 2197) رقم (2865)،  كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.
  4. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 1/ 518- 519.
  5. المصدر السابق 1/ 519.
  6. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة (1/ 19)، رقم: (50).

مواد ذات صلة