بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [سورة الطور:29-34].
يقول تعالى آمرا رسوله ﷺ بأن يبلغ رسالته إلى عباده، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه، ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أي: لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش، والكاهن: الذي يأتيه الرَّئِيّ من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء، وَلا مَجْنُونٍوهو الذي يتخبطه الشيطان من المس.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ، فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ، بنعمة ربك يعني بما أنعم به عليك وتفضل من النبوة والوحي، فإنهم كانوا يقولون له ﷺ الأمين، ولما جاءهم بما جاءهم به اتهموه بالجنون والشعر والكهانة والسحر، وما إلى ذلك من الأوصاف القبيحة، فالله يقول: فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وفي سورة القلم ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [سورة القلم:1-2] أي: بالنبوة والرسالة والوحي الذي أوحى الله به إليك، كما قال في الآية الأخرى: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ [سورة التكوير:22].
والكاهن: يقول: الذي يأتيه الرَّئِيّ من الجن، ويقال بالكسر أيضاً الرِّئيّ من الجن، والمقصود بالرَّئيّ من الجن أو الرِّئيّ من الجن هو ما يعرض له من الجن، جني يعرض لهذا الإنسان ويزعم أنه يخبره عن أمر الغيب، كما جاء في خبر عمرو بن لحي الخزاعي أنه كان له رَئِيٌّ من الجن، فأتاه فقال: اذهب إلى ساحل جدة تجد أصناماً معدة، إلى آخر ما قال.
فجاء بهذه الأصنام التي عبدها العرب في الجاهلية، وهي بقية أصنام قوم نوح قد غمرها الطوفان واندثرت ثم بعد ذلك استخرجها، وهي ودٌّ وسواعٌ ويغوثُ ويعوقُ ونسرٌ.
فالحاصل أن الكاهن هو الذي يزعم أنه يأتيه خبر الغيب ويتلقفه عن طريق الشياطين، كما جاء وصفهم في الحديث بأنهم هكذا، يعني بعضهم فوق بعض حتى يصل إلى السماء، وفي بعض الروايات ما يوضح المراد أنه يأتي حتى يصل إلى السماء، أن الملائكة ينزلون إلى العنان -يعني السحاب، فيتحدثون عن أمر الغيب، فهؤلاء بعضهم فوق بعض فيخطف الكلمة ثم يلقيها لمن تحته ولمن تحته، ثم يلقيها بسرعة على الكاهن، فقد يدركه الشهاب وقد لا يدركه، فيلقيها عليه إلقاءً سريعاً فيخطفها هذا الكاهن.
مثلما قال النبي ﷺ لابن صياد حينما أراد أن يختبره قال: خبَأتُ لك.. فسأله عن شيء خبأه له، فقال: هو الدُّخُّ، والمراد الدخان، فخطف طرف الكلمة، فقال النبي ﷺ: اخسأ فلن تعدو قدرك[1]، فهذا هو الكاهن، فكان النبي ﷺ يخبرهم عن أمور من الغيب أطلعه الله عليها، فاتهمه بعضهم بالكهانة، وأما الجنون فقالوا: كيف يدّعي أن الله يوحي إليه وأنه رسول، هذا قد فقد عقله؛ لأنهم يعتقدون أن الرسالة والنبوة والوحي لا يكون للبشر، وإنما يكون للملائكة، أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94].
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ، "أم" هذه سيبويه -رحمه الله- يقول: إنها استفهامية، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ، استفهام إنكاري، وكثير من أهل العلم يقولون: إنها المنقطعة، "أم" المنقطعة هذه تفسر ببل والهمزة، فإذا وضعت بل والهمزة كيف تكون؟ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ، بل أيقولون: شاعر، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ، يعني: ننتظر، هي مسألة وقت يموت وينتهي خبره، كما مات من قبله، نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ يعني: صروف الدهر، والله يقول: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [سورة الحاقة:41-46].
قال الله تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي: انتظروا فإني منتظر معكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنّصرة في الدنيا والآخرة.
قال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نَجِيح عن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: إن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي ﷺ قال قائل منهم: احتبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، كما هلك من هلك قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك من قولهم: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ.
هذه الرواية لا تخلو من ضعف لعنعنة محمد بن إسحاق وهو مدلس كما هو معروف.
بناءً على ما سبق من تفسير "أم" بالمنقطعة يكون المعنى هكذا أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا بل أتأمرهم أحلامهم، وبل هذه تفيد الإضراب عما قبلها، وهكذا ما بعده أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ، بل أطغوا فقالوا ذلك.
أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أي: ولكن هم قوم ضلال معاندون، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك.
وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي: اختلقه وافتراه من عند نفسه، يعنون القرآن، قال الله تعالى: بَلْ لا يُؤْمِنُونَ أي: كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ أي: إن كانوا صادقين في قولهم: "تَقوّله وافتراه" فليأتوا بمثل ما جاء به محمد ﷺ من هذا القرآن، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ما جاءوا بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا ب سورة من مثله.
هذه الآية تحداهم فيها أن يأتوا بحديث مثله، بكل القرآن، والتحدي تعرفون أنه تدرج، فالله تحداهم بمثله فلم يستطيعوا، وتحداهم بعشر سور مفتريات، بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ [سورة هود:3]، فما استطاعوا، كما في سورة هود، وتحداهم ب سورة كما في يونس قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ [سورة يونس:38]، وكذلك أيضاً في الموضع الآخر فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [سورة البقرة:23].
وأقل ما يحصل به الإعجاز على المشهور من أقوال أهل العلم أنها سورة، أقصر سورة، وهل يحصل ذلك بما يعادلها من آية أو بعض آية؟ فيه خلاف معروف بين أهل العلم، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الإعجاز حاصل بذلك، يعني بما يعادل أقصر سورة، يعني أقصر سورة أو ما يعادلها، مثل آية الديْن آية طويلة أطول من سورة الكوثر، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر.
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة الطور:35-43].
هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أي: أوُجدوا من غير موجِد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي: لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً.
قوله هنا: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، "أم" هذه كما سبق هي المنقطعة، يعني: بل أيقولون: إنهم خلقوا من غير شيء، وهكذا ما بعدها، وقوله هنا: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ "مِن" هذه من أهل العلم من فسرها باللام، جعلها بمعنى اللام، والمعنى أم خلقوا لغير شيء، يعني بلا غاية، وهذا المعنى دل عليه آيات في كتاب الله ، كما قال الله -تبارك وتعالى- مثلاً: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [سورة المؤمنون:115]، فنزه نفسه عن هذا فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ [سورة المؤمنون:116]، قال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [سورة ص:27]، وقال: لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا [سورة الأنبياء:17].
فالحاصل أن هؤلاء فسروا "مِن" بمعنى اللام أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي: لغير شيء، لغير غاية عظيمة، وهي الابتلاء والامتحان، وأن الله يرسل إليهم الرسل وينزل إليهم الكتب، خلقهم من أجل عبادته.
ومن أهل العلم من فسرها أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي: من غير أبٍ ولا أم، فهم كالجمادات التي لا تعقل، وهذا قال به كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله، مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير أب ولا أم، فهم كالجمادات.
ومن أهل العلم من فسره بغير ذلك كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا أي: أوجدوا من غير موجد، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وجدوا من غير موجد، أم هم أوجدوا أنفسهم؟ لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي أوجدهم وهذا هو المعنى المتبادر الذي يفهم من ظاهر الآية، وهو الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله.
المعنى الأخير الذي ذكرته تدل عليه قرينة في نفس الآية أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؛ لأن هذا يقابله أنهم أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يعني: من غير خالق خلقهم وأوجدهم، أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، لكن لو قيل: إنهم خلقوا لغير غاية لا يكون هذا في ارتباطه ومناسبته مع ما بعده كالقول السابق، أم خلقوا لغير غاية أم هم الخالقون، وكذلك على قول ابن جرير -رحمه الله: أم خلقوا من غير أب ولا أم أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، الأقرب أنه كما ذكر أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير خالق وموجد أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ.
يعني هذه الآية كانت سبباً لدخول الإسلام في قلبه، لكنه لم يذعن ولم يعلن إسلامه آنذاك، ثم بعد ذلك رجع إلى مكة فأسلم، ويقول: كاد قلبي أن يطير، لما سمعها، ونحن نسمعها ولا يتحرك لنا قلب، والسبب أننا لا نفهم كالأعاجم، ولذلك فتجد من يفهم كالأعرابي الذي سمع القارئ يقرأ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سورة الحجر:94] سجد، فقيل: لماذا سجدت؟ فقال: سجدت لفصاحته، أسره ما سمع، سمع فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ فسجد، فكلما كان الإنسان أكثر تذوقاً للغة العربية فهماً ومعرفة بها كلما كان هذا أدعى إلى تأثره بالقرآن، هذا مشرك ويقول: كاد قلبي أن يطير.
الخزائن هنا فسرت بخزائن الرزق، أو خزائن الرحمة، أو خزائن الرسالة.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ أي: بل أيقولون: إن لهم سلماً يستمعون فيه، والسلم معروف، المِرقاة مثل الدرج.
فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أي: فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال، أي: وليس لهم سبيل إلى ذلك، فليسوا على شيء، ولا لهم دليل.
ثم قال منكراً عليهم فيما نسبوه إليه من البنات، وجعلهم الملائكة إناثاً، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث، بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله، وعبدوهم مع الله، فقال: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا أي: أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله؟ أي: لست تسألهم على ذلك شيئاً، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي: فهم من أدنى شيء يتبرمون منه، ويثقلهم ويشق عليهم، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي: ليس الأمر كذلك، فإنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا الله.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي: بل أيدعون أن عندهم الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ قيل: يحكمون بما شاءوا، والأحسن من هذا -والله أعلم- هو ما قاله ابن جرير -رحمه الله- في تفسيرها فَهُمْ يَكْتُبُونَ يعني: يكتبون ذلك للناس، يُنبئون عن هذا الغيب.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ يقول تعالى: أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول ﷺ وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم، فالذين كفروا هم المكيدون.
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله، ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون، فقال: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ [سورة الطور:44-49].
يقول تعالى مخبراً عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا أي: عليهم يعذبون به لمَا صدقوا ولمَا أيقنوا، بل يقولون: هذا سَحَابٌ مَرْكُومٌ أي: متراكم.
يعني أنهم في غاية المكابرة، مهما رأوا من آية فإنهم يكابرون، لا يؤمنون، وقوله -تبارك وتعالى: وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا، الكسف جمع كسفة، وهو القطعة من الشيء.
يعني أنهم يقولون ذلك على سبيل المكابرة، هم يطلبون الآيات ولو جاءتهم الآيات لردوها وكذبوا بها، فهذه الآية كهذه الآية، الآيتان بمعنى واحد من هذه الحيثية، أن ذلك خرج مخرج المكابرة والعناد، وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ.
وقد ذكرت في الكلام على الإعجاز العلمي أن من يتكلمون على الإعجاز يقولون: هذه الآية هي من آيات الإعجاز العلمي: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، يقولون: هؤلاء المشركون لو صعدوا لصاروا بعد الغلاف الجوي إلى ظلمة، فعندئذ سيقولون: إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ [سورة الحجر:15]، يقولون: كيف عرف النبي ﷺ أنه بعد الغلاف الجوي ظلمة؟
فهؤلاء الله يخبر أنهم لو صعدوا لصاروا بعد الغلاف إلى ظلمة، وهذا المعنى إذا فسرت الآية به فإنه يعود بالتخطئة لجميع ما قاله السلف، الآية: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ [سورة الحجر:14]، السماء لها أبواب، ظلوا هم على أحد القولين يصعدون فإنهم يكابرون ويقولون: إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا سدت، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ سحرنا، يقولونه على سبيل المكابرة ليس أنه حقيقة يصيرون إلى ظلمة فيقولون عندئذ: سكرت أبصارنا، لا إنما هم في غاية المكابرة، إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، وفي الأخرى المتواترة إِنَّمَا سُكِرَتْ أَبْصَارُنَا سكرت: أخذت أبصارنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}، يقول: وعلى القول الآخر في الآية فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ أي: رأوا الملائكة تصعد إلى السماء لقالوا: أخذت أبصارنا، سدت أبصارنا، سحرنا فصار يخيل إلينا أن الملائكة تصعد.
هؤلاء يقولون: لا، هم يقولونه حينما يصيرون إلى ظلام.
يوم القيامة، وفسره بعض أهل العلم -ومنهم ابن جرير -رحمه الله- بأن الذي يصعقون فيه أنه يوم النفخة الأولى الذي يصعق فيه جميع الخلائق، وهذا لا يعارض ما قاله ابن كثير؛ لأن الناس متى يصعقون؟ في يوم القيامة، ينفخ النفخة الأولى فتموت جميع الخلائق، ثم ينفخ النفخة الثانية فيقوم جميع الناس.
ومن أهل العلم من قال: يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يوم الموت، يوم موتهم، وبعضهم فسره بيوم بدر، والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه يفسر بظاهره وهو يوم الصعق، ويوم الصعق معروف حينما ينفخ الملك بالقرن النفخة الأولى فيصعق كل الأحياء إلا من شاء الله ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ [سورة الزمر:68].
يعني أنهم لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا لا تنفعهم الحيل للخلاص في ذلك اليوم، ولا يوجد من يخلصهم وينصرهم ويطلقهم بالقوة، لا هذا ولا هذا، لا يستطيعون هم فعل شيء، ولا يستطيع أحد تخليصهم.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ يعني: دون عذاب النار -عذاب الآخرة، ولاحظ تسلسل هذه الآيات، وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ هذه قرينة تدل على أن قوله قبله فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ أنه يوم النفخ في الصور، أو يوم القيامة، فعند ذلك لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ، وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ دون يوم القيامة، فيدخل فيه عذاب البرزخ، كما قال الله : وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ.
وإن كان في هذه الآية الأخيرة من أهل العلم من حمله على ما يقع لهم في الدنيا من القتل والأسر والهزائم والأمراض والجوع وما أشبه ذلك، وهو أقرب، ولقوله -تبارك وتعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أما هنا، وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ فيدخل فيه عذاب القبر، عذاب البرزخ، كما عبر به جماعة من السلف، وممن قال به من أهل العلم أيضاً الحافظ ابن القيم، ويدخل فيه أيضاً ما يقع لهم في الدنيا من الأوصاب والأوجال والمصائب والهزائم وما إلى ذلك مما يحصل لهم، فهذا كله من العذاب الذي يكون قبل يوم القيامة، فمن مات منهم حصل له عذاب البرزخ، ومن بقي حياً فإنه يقع له في هذه الدنيا من الأكدار ما يقع.
وقوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا أي: اصبر على أذاهم ولا تبالهم، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس.
وقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ قال الضحاك: أي إلى الصلاة، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
وروى مسلم في صحيحه عن عمر -رضي الله تعالى عنه- "أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة"[3]، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره عن النبي ﷺ أنه كان يقول ذلك.
من اعترض على هذا ولم يقل بهذا القول قالوا: إن الله قال: حِينَ تَقُومُ يعني عند قيامك، ودعاء الاستفتاح لا يكون عند القيام، وإنما يكون بعد الدخول في الصلاة.
وقال أبو الجوزاء: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي: من نومك من فراشك، واختاره ابن جرير.
وإن كان ابن جرير -رحمه الله- خصه بالقيام من نوم القيلولة، والقيلولة تكون قبل الظهر وتكون بعد الظهر، ففسره هنا بالقيام من القيلولة لصلاة الظهر؛ لأنه قال بعده: وَمِنَ اللَّيْلِ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ، فذكر الأوقات الثلاثة، فلو كان عند القيام من الليل -من نوم الليل- فذلك يكون تكراراً مع قوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ، إدبار النجوم يعني حينما يستيقظ لصلاة الفجر، فهذا قول كما ترون قد تدل عليه هذه القرينة، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي: من نومك، من فراشك.
ومن أهل العلم من قال: المراد بذلك حينما يقوم من مجلسه، يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كفارة المجلس يعني، والإنسان إذا قام إلى الصلاة قال دعاء الاستفتاح، وإذا قام من المجلس سبح وقال كفارة المجلس، وإذا قام من الليل ليصلي الليل كان النبي ﷺ يقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة آل عمران:190-191].
ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله ﷺ قال: من تَعارّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي -أو قال: ثم دعا- استجيب له، فإن عزم فتوضأ ثم صلى تقبلت صلاته[4].
وأخرجه البخاري في صحيحه، وأهل السنن.
هذا مما قد يدخل في عموم الآية، إذا تعارّ من الليل بمعنى حصلت له يقظة، انتبه، فقال هذا، فهذا من التسبيح.
وقال ابن أبي نَجِيح عن مجاهد: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ قال: من كل مجلس.
وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ قال: إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك.
عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك[5].
رواه الترمذي -وهذا لفظه- والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج، وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال: إسناده على شرط مسلم.
وقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي: اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل، كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [سورة الإسراء:79].
وابن جرير -رحمه الله- فسر هذا بصلاتي المغرب والعشاء.
يعني إذا غربت النجوم، وهذا في وقت الفجر.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "لم يكن رسول الله ﷺ على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر"[6]، وفي لفظ لمسلم: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها[7].
آخر تفسير سورة الطور، ولله الحمد والمنة.
وأما ابن جرير -رحمه الله- فقد فسر ذلك وَإِدْبَارَ النُّجُومِ بصلاة الفجر نفسها، نفس صلاة الفجر، ويقال لها: تسبيح وتسبيحة، ويقول ابن عمر : لو كنت مسبحاً لأتممت، يعني في صلاة النافلة في السفر، أو السنة الراتبة في السفر، لو كنت مسبحاً لأتممت، ويطلق على التسبيح المعروف، أي تنزيه الله عما لا يليق به -سبحان الله، والله أمر بتسبيحه حين يقوم، ولم يحدد شيئاً من هذه، فكلٌّ جاء باجتهاده، وهذه التفسيرات المذكورة فيه -والله تعالى أعلم- الآية تصدق عليها جميعاً، لو قال قائل ذلك لما كان بعيداً، فكل ما قيل في هذا صحيح من هذه الأقوال التي سمعناها، وهو داخل في هذا التسبيح حِينَ تَقُومُ، والله تعالى أعلم.
- رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ برقم (1354)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، برقم (2924)
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ [سورة ق:39]، برقم (4854).
- رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، برقم (399).
- رواه البخاري، كتاب التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلى، برقم (1154).
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في كفارة المجلس، برقم (4859)، والترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما يقول إذا قام من المجلس، برقم (3433)، وأحمد في المسند، برقم (19769)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد منقطع، أبو هاشم لم يسمع من أبي برزة، بينهما أبو العالية الرياحي كما سيأتي، وهو ثقة، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين غير حجاج -وهو ابن دينار الواسطي- فقد روى له أصحاب السنن، وهو ثقة"، وصححه الألباني في الصحيحة، برقم (2651).
- رواه البخاري، كتاب التهجد، باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سماهما تطوعا، برقم (1169).
- رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما والمحافظة عليهما وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما، برقم (725).