بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا تفسير سورتي المعوذتين "قل أعوذ برب الفلق"، و"قل أعوذ برب الناس"، وهاتان السورتان سماهما البعض كما جاء عند السيوطي "المُشقشِقتين"، وذكرنا في "قل يا أيها الكافرون" أنها مع "قل هو الله أحد" سماهما بعضهم بـ"المُقشقِشتين"، ترفعان الإشراك، وقلنا: إن سورة براءة سماها بعضهم "المُقشقِشة" التي تفضح المنافقين، وهي تصلح أن تكون رقية لكل منافق في كل زمان ومكان، كثير من الناس يحتاج أن يرقى بهذه السورة، من ابتلي بمرض القلب، من في قلبه مرض يمكن أن يُقرأ عليه بسورة براءة، وبسورة المنافقين، لو قُرئت عليه ثلاثًا لعل ذلك يكون سببًا لرفع ما به من بلاء.
لا يأتي أحد ويقول: من أين الدليل؟ الرُّقى الأصل فيها أنها من باب الطب، والطب الأصل فيه الإباحة، فكل ما كان له تعلق في المعنى أو دلت التجربة على أنه ينفع فلا إشكال في هذا، يعني لا يحتاج إلى دليل خاص ما لم يشتمل على محرم، فهنا سَمَّى هاتين السورتين "الفلق والناس" مع بعضهما بـ"المُشقشِقتين" هكذا، وقد يكون هذا حصل فيه شيء من التصحيف أو التحريف، لكن العرب تقول: خطيب مُشقشِق بمعني مسترسل في الكلام، لكن ما وجه هذا هنا في هاتين السورتين؟
أخشى أن يكون من قبيل التصحيف أو التحريف ولا أستبعد هذا، ذكر هذا السيوطي في الإتقان ولعله تَصحَّف، لكن عند غيره كالقرطبي وصاحب الكشاف قالوا: المُقشقِشتين، وهذا أدل على أن ذلك وقع فيه شيء من التحريف، وزاد القرطبي أنهما تبرئان من النفاق، وهذا واضح.
هاتان السورتان قال: هما مدنيتان، هذه رواية ابن عباس وبه قال قتادة، وهو قول الجمهور باعتبار أنهما نزلتا على النبي ﷺ حينما سحر، فهذا كان في المدينة، وبعضهم يقول: مكيتان، أي أن سورة الفلق مكية، وكذلك أيضًا سورة الناس، هذا منقول عن الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ورواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما.
والأقرب أن السورتين نزلتا بالمدينة.
هذا ثابت أن ابن مسعود لم يكتب المعوذتين في مصحفه، وإن أنكره بعض أهل العلم كابن حزم باعتبار أنه كان يسمع النبي ﷺ يقرأ هاتين السورتين في الصلاة وفي خارج الصلاة، فقد يخفى على بعض الصحابة -على فضله ومكانته- بعض الأمور التي قد تكون من الوضوح بمكان.
فبعض أهل العلم قال: إن ابن مسعود لم يكتب المعوذتين في مصحفه باعتبار أنه تحصيل حاصل؛ لأنهما محفوظتان لكل أحد ولا تحتاجان إلى كتابة، وليس ذلك يعني أنه لا يرى أنهما من القرآن، لكن ورد أنه كان يَحُكُّهما، وورد أنه كان يقول: إنهما تعويذة، فالذي يظهر -والله أعلم- أن ابن مسعود كان يعتقد أن هاتين السورتين تعويذتان كان النبي ﷺ يتعوذ بهما وأنهما ليستا من القرآن، هكذا ما بلغه، ولكن الإجماع منعقد على أنهما من القرآن، والنبي ﷺ كان يقرؤهما، وهذا أمر لا إشكال فيه ولا مرية، وإن خفي على ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه.
وحديث أبي بن كعب لما قيل له ذلك قال: أشهد أن رسول الله أخبرني أن جبريل قال له: قل أعوذ برب الفلق، فقلتها، قال: قل أعوذ برب الناس، فقلتها، فنحن نقول ما قال النبي ﷺ"، بمعنى أن نقول ذلك نصًا "قل أعوذ برب الفلق" وسورة "قل يا أيها الكافرون" هذه السور الأربع التي تسمى "القواقل الأربع" (قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس)، هذا للبلاغ فتقال هكذا: "قل يا أيها الكافرون، قل هو الله أحد"، فالنبي ﷺ مأمور أن يبلغ وهو يقرؤها هكذا، فالله يقول: "قل هو الله أحد"، "قل يا أيها الكافرون"، لكن في "قل أعوذ برب الفلق"، و"قل أعوذ برب الناس" هذا للامتثال، يعني يقولهما النبي ﷺ لنفسه، يقوله يرقي به، يقرأ، يتلو، وليس معناه أن الله -تبارك وتعالى- يعوذ برب الفلق واضح؟
يعني الآن لو لم تأتِ "قل" وجاءت هكذا "أعوذ برب الفلق" كانت تعويذة، مجرد تعويذة، أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس، هذا لا يكون من الله -تبارك وتعالى؛ لأن الله لا يتعوذ فهو العظيم الأعظم، إنما يتعوذ من كان يتخوف من شيء، فأبي بن كعب يقول: فنحن نقول كما يقول النبي ﷺ، يعني لو كانت تعويذة ما كان يقول: "قل أعوذ برب الفلق"، كان يقول: أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس إلى آخره، فحينما يقول: "قل أعوذ برب الفلق" -هكذا- يقول: سمعت النبي ﷺ يقول ذلك فنحن نقول كما قال، هذا هو مراد أبي بن كعب ، هذا القرآن يتلى وجاء هذا بروايات وأوجه عن أبي بن كعب، كل ذلك ثابت وصحيح.
ثم أيضًا مما ذكره أهل العلم أن هذه القراءات التي جاءت بالتواتر إنما تلقاها التابعون عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، وفيها "قل أعوذ برب الفلق"، "قل أعوذ برب الناس"، ومما قاله ابن حزم في ما ادعاه من أن ذلك لا يثبت عن ابن مسعود قال: كيف يثبت عنه وبعض هذه القراءات المتواترة أصلًا ترجع إلى ابن مسعود، وفيها "قل أعوذ برب الفلق"، "قل أعوذ برب الناس" من القرآن؟ كيف تُلقيت عنه؟
وهذا وجه قوي مما قاله ابن حزم للاحتجاج على أن ذلك لا يثبت عن ابن مسعود ، يعني كيف تلقوها منه على أن ذلك من القرآن ورويت عنه هذه القراءة بالتواتر؟!
على كل حال هاتان السورتان من القرآن بالإجماع سواء قيل: إن ذلك لم يبلغ ابن مسعود فيكون معذورًا بهذا، أو كان ابن مسعود لا يثبت عنه هذا، أو كان قد رجع عنه، ظن أنها تعويذة فقط ليست من القرآن ثم تبين له، ولو نظرت إلى الأشياء التي خفيت عن بعض كبار الصحابة لوجدت الكثير من هذا القبيل، فعمر بن الخطاب خفي عليه أمر التيمم في الجنابة فلما ذكّره عمار لم يتذكر، وعمرو بن العاص صلى بأصحابه وهو جنب، سأله النبي ﷺ صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فاحتج بقوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة النساء:29]، كان الجو باردًا وهم في غزوة، عمار يقول: تمرغت كما تتمرغ الدابة، فبين له النبي ﷺ: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا"[2]، هذا يدل على أن التيمم كان قد نزل، وكان هذا في غزوة المصطلق يعني مقفلهم ورجوعهم من الغزوة.
وهذا ابن مسعود خفي عليه وضع الكفين على الركبتين في الركوع فكان يطبِّق بين يديه، والتطبيق هذا كان أولًا ثم نُسخ، فهذا خفي على ابن مسعود مع أنه كان يصلي خلف النبي ﷺ، فقد يخفى على بعض كبار الصحابة أشياء من هذا القبيل، والعلماء ذكروا أمثلة كثيرة مما قد يخفى على كبارهم، ذكر هذا جماعة منهم الشوكاني في بعض المناسبات في كتابه "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"، وهذا أمر لا إشكال فيه.
ألم تر آيات هذا نص صريح في أنهما من القرآن، وحديث عقبة هذا جاء من غير وجه من طرق وألفاظ متعددة:
يا عقيب تصغير لعقبة، يقول: فتقدم رسول الله ﷺ فقرأ بهما، لو كانتا مجرد تعويذة ليستا من القرآن لا يقرأ بهما.
روى النسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: إن الناس لم يتعوذوا بمثل هذين: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس[5].
روى النسائي عن عقبة بن عامر قال: كنت أمشي مع رسول الله ﷺ فقال: يا عقبة، قل، قال: قلت: ماذا أقول؟ فسكت عني ثم قال: قل، قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: قل أعوذ برب الفلق، فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال: قل، فقلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ فقال: قل أعوذ برب الناس فقرأتها ثم أتيت على آخرها، ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: ما سأل سائل بمثلها، ولا استعاذ مستعيذ بمثلها[6].
روى النسائي عن ابن عابس الجهني أن النبي ﷺ قال له: يا ابن عابس، ألا أدلك أو ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟، قال: بلى يا رسول الله، قال: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس هاتان السورتان[7].
وروى الإمام مالك عن عائشة: "أن رسول الله ﷺ كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه بالمعوذات، وأمسح بيده عليه رجاء بركتها"[8]، ورواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
وعن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ: "كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنسان، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما"[9]، رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
هذه الأحاديث يذكر فيها النبي ﷺ أنه ما سأل سائل بمثلهما ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما، أفضل ما يتعوذ به المتعوذون، إذاً هذه من الرقى البليغة، والذي لربما يبتلى بشيء من المس أو السحر أو نحو هذا فهذا أبلغ ما يكون في رقيته، وكذلك أيضًا إذا كان يفعل ذلك من باب التوقي والحذر وما أشبه هذا، فإنه يقوله من أجل أن يقيه الله من المكاره والمخاوف ونحو هذا، فهذه أبلغ ما يكون، يعني قد يكون الإنسان يعوّذ أولاده ونحو هذا يقول: أعيذكم بكلمات الله التامات، أو يقول مثلًا: أعيذكم بالله تعالى من كل شر ونحو ذلك من العبارات، وهذا لا إشكال فيه، لكن أن يعوّذ بهاتين السورتين يعوذ نفسه أو يعلم ولده أن يقول ذلك وهكذا في باب الرقى فهذا أبلغ.
ما جاء عن ابن مسعود في الكلام على المعوذتين لو قال قائل: ما حكم من أنكر حرفًا من القرآن؟ يكفر، ما حكم من أنكر سورة؟ من باب أولى، ما حكم من أنكر سورتين؟ من باب أولى، إذاً ماذا يمكن أن يقال عن ابن مسعود وهو من خيار الصحابة، ومن علمائهم، من أعلم الصحابة تلقي القرآن من في رسول الله ﷺ، سبعين سورة، هل يمكن لأحد أن يقول فيه شيئًا من ذلك؟
حاشا وكلا لا يمكن، إذاً غاية ما هنالك أن يقال: إن ذلك ما بلغه، وانتهى، فهذه تصلح في المحاجة لبعض من يتسرعون في إطلاق العبارات والأحكام الكبرى لمجرد الشبهة دون النظر إلى تحقق شروط أو انتفاء موانع، وللأسف صارت هذه بضاعة رائجة اليوم تجدها تقال بكل سهولة، وتجري بكل خفة على ألسن بعض الناس، لاسيما مع هذه الوسائل في الاتصال والإعلام الجديد وما إلى ذلك.
تجد مثل هذه العبارات تقال في حق علماء، في حق طلبة علم، في حق أخيار، في حق صلحاء، في حق دعاة إلى الله، لا يمكن أن يُطعن فيه، ولا يمكن أن يشكك بشبهة، الذي يفتي بكذا، الذي يقول بكذا، الذي يقول: يجوز التصويت للدستور الفلاني أو نحو ذلك هذا كافر، هذا لا يمكن أن يقال، ولا يمكن أن يقول هذا أحد من أهل العلم، وهذه مصيبة ومشكلة إذا تصدر من لم يتأهل، وتكلم في دقائق العلم وفي المسائل الكبار.
فالأمر ليس بالشيء السهل اليسير، الأمر خطير، مثل هذا لو أنه سئل لأول وهلة ما تقول فيمن أنكر حرفًا؟ ما تقول فيمن أنكر سورة؟ ما تقول فيمن أنكر سورتين؟ هذا ابن مسعود -رضي الله عنه- إذاً فماذا تقول فيه؟
فإن قال: يكفر فهذا -نسأل الله العافية- يكون في حالة من الجهل والضلال والعمى، بحيث لا يحتاج معه إلى مكالمة، لا يحتاج إلى من يكلمه، أو يرد عليه أو يناقشه، وقد بلغ الأمر في بعض الناس إلى هذا المستوى، حدثني بعض الإخوان قبل سنين قبل أكثر من خمس عشرة سنة أن هناك من تكلم في حق رسول الله ﷺ في مسألة أهل بدر، وأنه لم يحكم بالحكم الذي أراده الله ، مع أنه لم ينزل عليه في هذا شيء، كان أول لقاء مع المشركين وأول معركة، حكم بذلك على رسول الله ﷺ وقال: إنه تاب ورجع، إلى هذا الحد!
يعني هذا المستوى ما قال به كبار وأئمة الخوارج، الخوارج حكموا على أهل العراق والشام بالكفر من الصحابة ومن معهم، وحكموا على أنفسهم قالوا: إنهم كفروا حينما قبلوا بذلك لأول وهلة لكنهم تابوا، هم يقولون عن أنفسهم -نسأل الله العافية، ولذلك ابن عباس لما ذهب إليهم قال له علي : إني أتخوف عليك منهم، لماذا؟ لأنه يعرف في ذلك الوقت أنهم من الممكن أن يجترئوا عليه؛ لأنهم يرون كفره، فيمكن أن يقتلوه بدم بارد، يقول: إني أتخوف عليك منهم.
يقول ابن عباس كما في بعض الروايات: وكنت رجلًا سهلًا لينًا، يعني في الخلق والتعامل، لا أوذي أحدًا، ذهب إليهم بحلة جميلة، وجاء إليهم، قُدر عددهم في بعض التقديرات بعشرين ألفاً، وقدر باثني عشر ألفاً، وقدر بغير هذا، تصور هذا العدد الكبير أيام الصحابة!، أين عقولهم؟ أين إيمانهم؟ أين علمهم؟ يتركون كبار الصحابة وما معهم صحابي واحد، ويحكمون عليهم بالردة والكفر، ولما جاءهم ابن عباس قالوا: ما الذي جاء بك، وما هذه الحلة التي عليك؟ فهم أهل عبادة وزهد يقومون الليل، ويصومون النهار، لكن هذا الدين ما كان يحجزهم ويمنعهم لما قل علمهم فكيف بمن لا عبادة ولا علم؟!
ثم قال لهم: جئتكم من أصحاب رسول الله ﷺ من ابن عمه وختنه، يعني زوج ابنته ما تنقمون عليه؟ فقال بعضهم: لا تكلموه الله قال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [سورة الزخرف:58] يعني قريشًا، فكلمه بعضهم، وذكروا له أنه حكّم الرجال في كتاب الله ولا حكم إلا لله؛ لأنه بعدما حصلت قضية الحكمين ضجوا وقالوا: لا حكم إلا لله، هذه كلمة صحيحة، كلمة حق أريد بها باطل.
فناظرهم ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال لهم: لا حكم إلا لله ما تقولون في رجل وامرأته اختصما قال الله: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا [سورة النساء:35] ما تقولون في هذا؟ قال في رجل وامرأته اختلفا على شيء، وكذلك في صيد الحرم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:95] فهنا رجال يحكمون، فتبين لهم بهذه أنهم قد أخطئوا، ورجعوا عنها.
قالوا: إذن هؤلاء الذين قاتلهم لماذا لم يَسْبِ نساءهم؟ قال: أيكم يرضى بأن تكون عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- في سهمه؟ إن قلتم بهذا فقد كفرتم، أقررتم على أنفسكم الكفر فوقعوا في حرج، من منهم يقول: عائشة تكون في سهمي باعتبار أنهم كفار، فالشاهد أنه ناظرهم بهذه الطريقة فرجع منهم ألوف، بعضهم يقول: رجع أربعة آلاف، وبعضهم يقول: أكثر، لاحظ آلاف في موقف مثل هذا.
ولاحظ هذه الحجج التي ظنوا أنها شيء، وليست بشيء، ومن هنا يتضح أن مثل هذه القضايا لا يمكن أن يخلص منها إلا العلم الصحيح الراسخ، هذه لا يمكن أن يتكلم فيها الكل، وإلا يكون قد خاب سعيه وضل عمله، من أصعب الأشياء أيها الإخوان أن الإنسان يركب الأهوال والأخطار، ويقدم نفسه سهلة رخيصة يطلب ما عند الله، ثم في النهاية يكون حاله ممن ضل عمله، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الكهف:104] -نسأل الله العافية- وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا كل إنسان يركب الأخطار ويقدم نفسه يريد ما عند الله، يبذل نفسه، ما في أكثر من بذل النفس
يجود بالنَّفس إن ضنَّ البخيلُ بها | والجودُ بالنَّفس أقصى غايةِ الجودِ |
حينما يبذلها الإنسان، ويتحمل في سبيل ذلك أنواع البلاء التي تتنوع معنى ذلك أنه يتحمل أنواع التحمل في سبيل مطلوبه، ويؤذَى غاية الأذى بأنواع الأذى، وهو مع ذلك يصبر ويتحمل، فيأتي بعد هذا بما قد يذهب عمله جميعًا، هذه ورطة ومصيبة ينبغي على المؤمن أن يحذر ويتنزه من هذا كله.
إذا كانت عائشة -رضي الله عنها- تقول لصحابي شهد مع النبي ﷺ بدرًا في مسألة فيها شبهة تتصل بمعاملة من معاملات الربا: أخبريه أن جهاده مع رسول الله ﷺ قد حبط، يعني إن لم يتب، في مسألة كهذه، وكلام العلماء فيه وتوجيه هذا القول من عائشة معروف، ولكن أقول: إذا كان في شبهة مثل هذه -معاملة من المعاملات- فكيف بمسألة كبيرة يطلق فيها عبارات الكفر على خيار الأمة علمائها وصلحائها، وفضائلها الذين لا يتهمون، ولا شك بصدقهم ونزاهتهم وجهادهم وبذلهم، ثم ما يترتب على هذا من استحلال الدماء، ممن ينظر إلى هذا العالِم أو المجاهد أو الداعية على أنه مرتد عن الإسلام، فمعنى ذلك أنه حلال الدم والمال، فتتحول التصورات والقلوب، ويحال بين المرء وقلبه -نسأل الله العافية.
وقد يُشرب هذه الأمور وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ [سورة البقرة:93]، يُشرب هذه الانحرافات فلا يفارقها ولا يوفق للهدى ولا يوفق للتوبة، ثم يموت شر ميتة -نسأل الله العافية، فهذا خطير، والله يقول عن أقوام: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] هنا تقليب الأفئدة والأبصار، تقليب القلوب والأبصار يعني يقلبها عن الحق لا تهتدي إليه، فإذا صُرف بصر الإنسان صرفت بصيرته وانعكست، وصرف قلبه عن الهدى والحق، فإنه -نسأل الله العافية- يرى الأمور مقلوبة، خيار الناس يتحولون عنده إلى شرار الناس، وقد يكون هو في يوم من الأيام كان يرى هؤلاء هم الأخيار والفضلاء، وأنهم هم القدوة، ثم بعد ذلك يراهم مردة لماذا؟
انظر إلى هذا الذي قتل عليًّا ، وعليٌّ هو أفضل الأمة في زمانه، وأتقى الأمة وأعلم الأمة وأرجح الأمة في زمانه، هذا الذي قتله ينتسب للإسلام، وقتله تقربًا إلى الله، يرى أنه هو المشكلة، وأن محور الشر يدور على هؤلاء، فيرى أن التخلص منه أفضل للجهاد، ثم ذاك الذي يمدحه
يا ضربةً مِن تقيٍّ ما أراد بها | إلا ليبلغَ من ذي العرش رضوانا |
يمدحه بهذا، هذا يريد ما عند الله، والثاني ابن جرموز الذي قتل الزبير بن العوام غيلة في واد السباع، وهو راجع إلى المدينة قد ترك القتال عندما ذكّره علي بقول رسول الله ﷺ: تقاتله وأنت ظالم له[10]، فرجع، ولحقه هذا الشقي وقتله، وجاء يتقرب إلى علي ويفتخر بأنه قتله فبشره علي بالنار، هذا الذي اجترأ على قتل الزبير، والزبير من العشرة المبشرين بالجنة، وحواري النبي ﷺ ما هذا العقل؟! وما هذه اليد التي اجترأت هذه الجرأة؟ ما هذه النفس؟ كيف تحولت أبصار هؤلاء لئنْ يرى الزبير بن العوام أنه شر يجب الخلاص منه؟ ثم بعد ذلك أكلته الحسرات، فلما ولي عبد الله بن الزبير الحجاز والعراق وخراسان جاء هذا الشقي إلى مصعب بن الزبير وكان واليًا على العراق فأراد أن يقتص منه في قتل الزبير، فكتب مصعب لأخيه عبد الله يسأله في هذا، فرفض عبد الله بن الزبير أن يقتص للزبير منه، رأى أنه أحقر من ذلك، فكان الرجل يتحسر.
فهؤلاء الذين سطروا التاريخ لهم بطولات وإقدام في الحروب وشجاعة مفرطة، يبذلون النفوس أرخص ما تكون ولا يبالون في مواجهة الأعداء، ولهم شعر من أصدق الشعر وأنقاه، معروف، تجد هؤلاء عندهم استعداد أن يفترقوا لأتفه الأسباب، وكان بعض الدهاة من الأمراء إذا حصلت مواجهة معهم دس إليهم بعض من يعرض بعض المسائل فينقسم عسكرهم إلى قسمين، يكفر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا فيجتاحهم جميعاً، قابلية عجيبة للانقسام، للتفرق، للاختلاف، للتكفير، في العسكر نفسه، وهم في مقام حرب، والتاريخ مليء بالأحداث.
الصحابة لهم أخبار في هذا بعضهم لما رأى رءوسًا عند الجامع الأموي أو في الشام بكى وقرأ الآية: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنونَ صُنْعًا [سورة الكهف:104] أو قرأ نحو ذلك، فلماذا الإنسان يغرر بنفسه؟ لماذا يجترئ على أمور لم يتأهل لها؟ لماذا يركب الإنسان المراكب الصعبة، ويجعل من نفسه مفتيًا في قضايا دماء، وقضايا أحكام كبيرة مثل هذه وهو لم يتأهل، ما عنده رسوخ في العلم لربما عمره في العشرينات، فيتكلم في مسائل لو جمع لها أهل بدر لتوقفوا فيها، ويجترئ عليها، ويطلق الأحكام، ويطلق العبارات الكبار فلان العالم يستتاب، وفلان أتقى من نعرف في هذا الزمان، وأعلم من نعرف، هكذا بهذه السهولة، يجترئ عليهم بهذه السهولة، فهذا خطير.
فينبغي على كل من أراد الخلاص لنفسه أن يتوقى، وأن يحذر وأن يخاف أن يقع في مثل هذه الورطات الكبار، فيقع على رأسه في حفرة من حفر جهنم، العبرة ليست بكثرة ما يبذل الإنسان، ولا العبرة بتاريخ أمضاه الإنسان في عمل صالح، العبرة فيما يموت عليه المرء، العبرة في إحسان العمل، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الملك:2] العبرة بالصواب، والصواب لا يمكن أن يأتي إلا بالعلم الصحيح، والعلم الصحيح لا يحصّل بمزاولات وأعمال أخرى، العلم يحتاج إلى ثني ركب، إلى الأخذ عن العلماء الراسخين، ولا يمكن أن يُؤخذ العلم والأحكام من غير ذلك، نسأل الله الهداية للجميع، وأن يصلح حالنا، وأن يقينا وإياكم ويعيذنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
- رواه أحمد في المسند، برقم (21186)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم بن بَهْدلة، فهو صدوق حسن الحديث، وقد توبع، عفان: هو ابن مسلم الصفَّار البصري"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4352).
- رواه البخاري، كتاب التيمم، باب التيمم ضربة، برقم (347)، ومسلم، كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (368).
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل قراءة المعوذتين، برقم (814).
- رواه النسائي، أوائل كتاب الاستعاذة، برقم (5437)، وأحمد في المسند، برقم (17296)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير القاسم أبي عبد الرحمن- وهو ابن عبد الرحمن الدمشقي- فقد روى له البخاري في "الأدب" وأصحاب السنن، ووثقه غير واحد من أهل العلم كالبخاري وابن معين وغيرهما، وقد صرح القاسم بسماعه من عقبة بن عامر في رواية ابن المبارك وبشر بن بكر عن ابن جابر، وابن جابر: هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر".
- رواه النسائي في الكبرى، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة أخبرنا أبو القاسم حمزة بن محمد بن علي بن محمد بن العباس الكناني بقراءتي عليه قال أنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان النسائي قراءة عليّ وأنا أسمع أخبركم قال، برقم (7856).
- رواه النسائي، في أوائل كتاب الاستعاذة، برقم (5438)، وقال الألباني: "حسن صحيح"، في صحيح أبي داود برقم (1316).
- رواه النسائي في السنن الكبرى، برقم (7814).
- رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات، برقم (5016).
- رواه الترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين، برقم (2058)، والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من عين الجان، برقم (5449)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4902).
- رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، برقم (37827)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2659).