السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ}.
تاريخ النشر: ٠٨ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 5634
مرات الإستماع: 42763

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: 

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ۝ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ۝ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ۝ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ۝ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ۝ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ۝ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [سورة الذاريات:24-30].

هذه القصة قد تقدمت في سورة "هود" و"الحجر" أيضا، وقوله: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ أي: الذين أرصد لهم الكرامة.

وقوله: قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ الرفع أقوى وأثبت من النصب، فرده أفضل من التسليم؛ ولهذا قال تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [سورة النساء:86]، فالخليل اختار الأفضل.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، لما ذكر الله ما للمكذبين، وما للمتقين المؤمنين ذكر بعد ذلك ما وقع لهؤلاء الأمم المكذبة من ألوان المثُلات، فذكر خبر إبراهيم ﷺ ومجيء الملائكة لإهلاك قوم لوط، ثم ذكر أمماً بعدهم.

والاستفهام هنا في هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ؟ كقوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ؟  [سورة الغاشية:1]، أن ذلك لا شك أبلغ وأدعى لتهيؤ السامع أو المخاطب لتلقي ذلك، ففيه من التشويق ما فيه، هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، وهو يدل على أن النبي ﷺ لا يعلم الغيب وإنما يتلقى عن الله -تبارك وتعالى.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، يعني: ضيوف إبراهيم، فهم جمع من الملائكة؛ لأن "ضيف" مفرد مضاف، والمفرد إذا أضيف إلى معرفة فإن ذلك يكون بمعنى الجمع.

يقول: ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، فسر المكرمين أي الذين أرصد لهم الكرامة، بمعنى أنه أكرمهم، ذبح لهم عجلاً، وأنضجه وهيأه وقربه، أن إبراهيم أكرمهم، ويمكن أن يفسر بأن ذلك يرجع إلى كونهم من الملائكة، وقد وصف الله -تبارك وتعالى- الملائكة فقال: بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ [سورة الأنبياء:26]، فهذه صفة ثابتة للملائكة، وقال الله : فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ۝ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:13-16]، فالملائكة موصوفون بهذا، وهذا فيه بيان فضل إبراهيم ﷺ، إذا كان هؤلاء ضيوفه، وخبره يذكره الله لنبيه ﷺ بهذه الطريقة التي فيها ما فيها من التشويق، ويذكر في أشرف كتاب، هذا يدل على منزلة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام.

وهنا قوله: الرفع أقوى وأثبت من النصب، فرده أفضل من التسليم، وجه هذا الكلام أن التقدير في قول إبراهيم : قَالَ سَلامٌ أي: سلام دائم ثابت عليكم، سلام دائم، فسلام مبتدأ، فهذه جملة اسمية، وتسليم الملائكة، فَقَالُوا سَلامًا أي: سلّمنا سلاماً، جملة فعلية، سلمنا سلاماً، والجملة الفعلية تدل على التجدد والحدوث، والجملة الاسمية تدل على الثبوت، فتسليم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- من هذه الناحية أبلغ من تسليم الملائكة، هكذا ذكر الحافظ ابن كثير، وذكر هذا جماعة كثيرة من أهل العلم كابن القيم وغيره، ومن أهل العلم من يفسره بغير هذا.

وقوله: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وذلك أن الملائكة وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل -عليهم السلام- قدموا عليه في صور شبان حسان عليهم مهابة عظيمة؛ ولهذا قال:قَوْمٌ مُنْكَرُونَ.

من أهل العلم من يقول: إنه استنكر واستغرب لأنهم سلموا عليه، ولا يُعرف السلام في أرضه، فمَن هؤلاء الذين يسلمون؟ فهذا وجه قوله: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، هكذا قال بعض أهل العلم، وبعضهم قال: لأنهم جاءوا بهذه الهيئة ولا يعرفهم فقال ما قال، ولم يوجه هذا إليهم مباشرة، ما قال: أنتم قوم منكرون، تأدباً معهم؛ لأن توجيه هذا لا شك أن فيه ما فيه من الإيحاش للضيف أو المخاطب، وإنما قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لم ينسب ذلك إليهم في الخطاب، تأدباً وتلطفاً.

وقوله : فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ أي: انسل خفية في سرعة.

الروغان يدل على هذين المعنيين معاً، راغ يعني ذهب –انصرف- في خفية وسرعة، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على هذه القضية في موضعين من كتبه، يقول: ما جعل يعد الفلوس أمامهم –الدراهم، ويقول: أنا سأذهب إلى السوق لأتبضع لكم وآتي بقراء أضعه بين أيديكم، فيحرج الضيف، وما جعل يتباطأ، وما احتاج أن يذهب إلى سوق؛ لأن قرى الضيفان موجود عنده، بل قال: إنه لم يذكر هنا أنهم استأذنوا عليه؛ قال: لأن بابه مفتوح للضيفان، يدخلون من غير استئذان، اعتاد الناس ذلك لكرمه، بابه مفتوح، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ذهب مسرعاً في خفاء؛ لئلا يشعر به الضيف، فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ جاء به من عند أهله، ما ذهب إلى سوق، فهو متهيئ لمثل هذا.

فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أي: من خيار ماله، وفي الآية الأخرى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [سورة هود:69] أي: مشوي على الرَّضْف.

والرَّضْف يعني الحجارة الرقاق، شرائح الحجارة، مشوي على الرضف، حنيذ، وجاء بعجل، العجل أنفس اللحم، وجاء به كاملاً من أجل أن الضيف يتخير ما شاء من لحم هذا العجل، قد يعجبه الظهر أو الكتف أو غير ذلك، وهذا يدل على أن ما يقدم للضيف مما لا يكون على سبيل المباهاة والتفاخر أنه لا إشكال فيه وهذا مطلوب، لكن بحيث إن هذا الطعام لا يفسد ويرمى ويهدر، وإنما ينتفع به، وإلا فلو قدمت لضيف واحد عجلاً لما كان ذلك كثيراً بشرط أن لا يكون هذا على سبيل المباهاة والتفاخر، ولا يمدح الإنسان بالبخل ولا بالتقتير، وإنما بالكرم.

فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ أي: أدناه منهم.

وهذا أبلغ في الإكرام، قربه إليهم ما قال لهم: قوموا لتأكلوا، أو جعلهم طوابير كل واحد ماسكٌ صحناً وملعقة لأجل أن يضعوا لهم ملعقة رز -بوفيه مفتوح، رجال بلحاهم يقفون طوابير، كل واحد معه صحن، فهذا ما يليق، وليس هذا من الإكرام، ولكن لتتبعن سنن من كان قبلكم[1]، فقربه إليهم ما أحوج الضيف إلى أن يقوم من أجل أن يأكل، فيشق ذلك عليه، ويجرحه بهذا، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ، وأيضاً بأسلوب لطيف رقيق، ما قال لهم: كلوا، وجه إليهم الأمر، وإنما بأسلوب العرض.

قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ تلطفٌ في العبارة وعرض حسن.

وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة؛ فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون، بسرعة، ولم يمتن عليهم أولا فقال: "نأتيكم بطعام؟" بل جاء به بسرعة وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتي سمين مشوي، فقربه إليهم، لم يضعه وقال: اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمراً يشق على سامعه بصيغة الجزم، بل قال: أَلا تَأْكُلُونَ على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل اليوم: إن رأيتَ أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل.

وقوله تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الأخرى، وهي قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ۝ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ [سورة هود:70، 71].

يعني أنهم لما لم يأكلوا من طعامه خاف أنهم أرادوا شراً؛ لأن من عادة من أراد شراً أن لا يأكل من طعام صاحبه، ومن عادة الناس إلى عهد قريب أن الإنسان إذا أراد أن يظهر حسن نية أن يأكل من طعام من نزل عليه، فإن لم يأكل فإنه يظن به السوء، وهنا الملائكة بينوا حالهم وأنهم ملائكة لا يأكلون، وأنهم جاءوا لغرض أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وهذا فيه فائدة وهي أن الإنسان يدفع عن نفسه الريبة والتهمة إذا كان في موقف قد يظن فيه ذلك، حسبكم إنها صفية[2]، أما الذي يضع نفسه في موضعٍ يجعل الناس يسيئون الظن به، ويلومهم بعد هذا فلا يلوم إلا نفسه.

وذكر هذا من الفوائد الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الكلام على قصة الحديبية، لما بركت ناقة النبي ﷺ فقالوا: خلأت القصواء، يعني انقطعت من طول السفر، فقال: ما خلأت القصواء، وما ذلك لها بخلق، إنما حبسها حابس الفيل، فبين لهم هذا، وما أنكر عليهم، ما قال: لماذا تقولون: خلأت القصواء؟ وإنما بين لهم حقيقة الأمر، فالإنسان يبين حاله، وإذا كان يتصرف تصرفات تجعل الآخرين يتوقفون فيه، أو ينظرون إليه بريبة فالمفروض أنه يبين يقول: أنا فعلت هذا من أجل هذا؛ حتى لا يسيء الناس الظن به، فإذا أساءوا الظن به فلا يلومن إلا نفسه.

وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ أي: استبشرت بهلاكهم؛ لتمردهم وعتوهم على الله، فعند ذلك بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.

هذا هو الظاهر المتبادر أن الضحك على ظاهره، ولا يجوز حمل ألفاظ القرآن إلا على المتبادر المشهور من معانيه، ولا يحمل على معنى قليل الاستعمال إلا لدليل يجب الرجوع إليه، فهذا أصل في التفسير، فهنا الضحك يحتمل الضحك المعروف، وهذا هو المتبادر، ويحتمل الحيض، ضحكت بمعنى حاضت، هي عقيم وكبيرة في السن قد انقطع حيضها، كما يقولون: جاوزت التسعين، وهو جاوز المائة، فجاءها الحيض بعد هذا السن مقدمة للحمل، صارت تحيض، من ذوات الأقراء، فهذا معنى وإن كان محتملاً من جهة اللغة إلا أن حمل الآية على المعنى المشهور المتبادر أولى، فضحكت يعني الضحك المعروف، لماذا ضحكت؟ بعضهم يقول: ضحكت لما رأت زوجها قد خاف منهم، لكن هذا ليس محلاً للضحك ولا سبباً للضحك، هذا ما يوجب الضحك لاسيما المرأة التي توقر زوجها وتعظمه، وهذا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أكمل الناس نفساً وأشجعهم قلباً، وأتمهم قوامة، والمعروف أنها ضحكت بسبب أنها فرحت بهلاك هؤلاء المجرمين، وهكذا المؤمن يفرح بهلاك أهل الظلم والإجرام والفساد والعتو على الله -تبارك وتعالى، وقد قال الله في خبر بني إسرائيل وإهلاك فرعون: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] فهذا أبلغ ما يكون في التشفي، أن يهلك عدوه وهو يشاهد ويتفرج، ينظر إليه وهو يهلك، فهذا امتن الله به عليهم وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ، وأبلغ منه إذا كان هذا الإهلاك بيده، كما قال الله قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [سورة التوبة:14]، ولهذا كان انتصار المؤمنين في غزوة بدر أبلغ بكثير من انتصارهم في يوم الأحزاب، فذاك جاء بالريح وزلزلة الملائكة -أعني يوم الأحزاب، وأما يوم بدر فبقتل صناديدهم وكبرائهم، وجرهم ورميهم في القليب، فحصل بهذا من التشفي من أعداء الله ما لا يقادر قدره، فهذا أبلغ، فهي ضحكت فرحاً، واستبشاراً وسروراً بهلاك هؤلاء المجرمين.

قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ۝ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [سورة هود:72، 73].

قال الله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ ۝ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:71، 72]، وفي الموضع الثاني قال: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، الكلام واحد وفي موقف واحد، أو حصل أكثر من مرة؟ مرة قالت: عَجُوزٌ عَقِيمٌ، ومرة قالت: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ؟ هو موقف واحد، وهذا كثير في القرآن في ذكر قصص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وغير ذلك، فينقل الكلام بصيغتين مثلاً وهو من متكلم واحد في موقف واحد، وسبب ذلك أن هذا نقل للكلام بمعناه، بمعنى أن هذا الكلام الذي قيل بلغة أعجمية، هؤلاء ليسوا من العرب، وما ينقل من مثل هذا إلى لغة أخرى فإنما ينقل المعنى، فتارة يختصر وتارة يبسط فهو نقل للمعنى، ولذلك فإن بعض اللطائف التي قد يستنبطها بعض أهل العلم من هذا قد تكون محل نظر وتأمل، يعني مثلاً ابن القيم -رحمه الله- في الموضع الذي قالت فيه: عَجُوزٌ عَقِيمٌ يقول: هذا فيه أدب المرأة المسلمة أنها تتكلم بأوجز عبارة، فما طولت الكلام، وإنما قالت كلمتين، ذكرت فيهما علتين كل علة تكفي بمفردها من أجل امتناع الولد عَجُوزٌ ما تلد، وعَقِيمٌ، وفي الموضع الثاني هنا قالت: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا، هذا كلام طويل، فحينما تذكر مثل هذه اللطائف أحياناً في بعض المواضع قد تُستملح ويستأنس بها، ولكن يبقى أن طالب العلم يراعي جوانب أخرى.

ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى- هاهنا: وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، فالبشارة له هي بشارة لها؛ لأن الولد منهما، فكل منهما بُشر به.

وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، هذا الغلام هو إسحاق، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، وما خالف في هذا إلا النادر مثل مجاهد، والدليل على أنه إسحاق من عدة وجوه: أنه في الآية الأخرى قال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [سورة هود:71].

وأم إسماعيل هاجر كانت في مكة، وجاءت بإسماعيل أولاً، فحصلت الغيرة كما هو معروف وكانت أم إسحاق سارة لا تلد، ثم بعد ذلك جاءها الولد، فهذه القصة، عَجُوزٌ عَقِيمٌ هذه التي لا تلد لم تكن هاجر، هاجر لم تكن كذلك، فهذا إسحاق، أما الذبيح فهو إسماعيل.

وقوله تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أي: في صرخة عظيمة ورنة، قاله ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد، وعكرمة، وأبو صالح، والضحاك، وزيد بن أسلم، والثوري، والسدي.

جاءت في صرة، أقبلت في صرة، صيحة، وفعلت فعلاً معها يدل على تعجبها وهو أنها لطمت وجهها، صكت وجهها، والصك هو الضرب بالشيء بعرضه، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا سواء قيل: إنها لطمت جبينها أو ضربت وجهها وضربت خدها، فهذا كله لا يتنافى، فمن ضرب جبينه فهذا جزء من الوجه، يصح أن يعبر عنه بالوجه، وصكت وجهها تعجباً.

وهي قولها: يَا وَيْلَتَا، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا أي: ضربت بيدها على جبينها، قاله مجاهد وابن سابط.

وقال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: لطمت، أي تعجباً كما تتعجب النساء من الأمر الغريب، وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي: كيف ألد وأنا عجوز عقيم، وقد كنتُ في حال الصبا عقيما لا أحبل؟

قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أي: عليم بما تستحقون من الكرامة، حكيم في أقواله وأفعاله.

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ۝ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ۝ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ۝ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ۝ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۝ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ [سورة الذاريات:31-37].

قال الله مخبرا عن إبراهيم، : فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ۝ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ۝ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [سورة هود:74-76].

وقال هاهنا: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي: ما شأنكم وفيم جئتم؟

قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط.

لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ۝ مُسَوَّمَةً أي: معلمة عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ أي: مكتتبة عنده بأسمائهم، كل حجر عليه اسم صاحبه، فقال في سورة العنكبوت: قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة العنكبوت:32].

لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ۝ مُسَوَّمَةً، معلمة، حِجَارَةً مِّن طِينٍ هذه تفسر الآية الأخرى وهي وَأمْطَرْنَا عَلَيْهِم حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ [سورة الحجر:74]، فالسجيل هو الطين، حِجَارَةً مِّن طِينٍ، مُسَوَّمَةً معلمة بعلامة، هذه العلامة قيل: إنها كتابة الأسماء، كل حجر عليه اسم صاحبه، وبعضهم يقول: عليها علامات تتميز بها، والله تعالى أعلم، مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ، وذكر هنا الصفة التي أوجبت لهم هذا الهلاك، ولهذا قال الله : وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83].

وهذا الخوف الذي وقع من إبراهيم ﷺ وما أجابه به الملائكة يدل على أن الأنبياء مهما علا قدرهم ومنزلتهم لا يعلمون الغيب، فذبح عجله وأنضجه وقربه إليهم، وهو يظن أنهم من البشر، فكيف بمن دون الأنبياء ممن يعتقد فيهم بعض الجهلة أنهم يعلمون الغيب، ويعلمون ما بين العرش إلى الأرض السفلى، وما أشبه ذلك مما يضيفونه إليهم، ويطلبون منهم قضاء الحاجات -والله المستعان، ويعبدونهم من دون الله؟!

وقال تعالى هاهنا:فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته.

فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

الإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، والإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام، وإذا ذكرا معاً فالإسلام باعتبار الظاهر والإيمان بما في القلب، النبي ﷺ قال في الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته... فسره بمتعلقه، وفي الإسلام قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة([3] إلى آخره، قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات:14]، فالإيمان مرتبة أعلى من الإسلام.

فَأَخْرَجْنَا الإنجاء وقع للمؤمنين، ولهذا قال الله : فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ [سورة الحجر:65] واستثنى امرأته، فالإنجاء للمؤمنين، والذي وجدوه: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، والإسلام هو إسلام الظاهر، فامرأة لوط كانت في الظاهر معه، ولكنها كانت تدل على أضيافه، فهي ليست من أهل الإنجاء، الإنجاء للمؤمنين، ووجدوا فيها بيتاً من المسلمين، إسلام الظاهر، وهؤلاء ليسوا ممن ينطبق عليهم وصف النجاة، الإنجاء للمؤمنين، ووجدوا فيها بيتاً من المسلمين باعتبار المجموع، بما فيهم امرأة لوط، فهي في الظاهر معه وفي الباطن معهم،

لما كانت الآية الأولى: فَأَخْرَجْنَا في الإنجاء فإن ذلك يختص بالمؤمنين الصادقين، وأما من وجدوا فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إسلام الظاهر، المنافقون يعتبرون من المسلمين، لكن في الباطن ليسوا كذلك، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فمعهم امرأة لوط، فهم بهذا المجموع يحكم عليهم بالإسلام لا بالإيمان، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ أي: جعلناها عبرة، لما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة، ففي ذلك عبرة للمؤمنين، لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ.

الله يقول: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ ۝ وَبِاللَّيْلِ [سورة الصافات:137، 138]، فهل مكان قول لوط هو البحر الميت؟ الله أعلم، ابن كثير يقصد هذا، بحيرة ميتة يعني البحر الميت، وإذا كان كذلك كان هو البحر الميت، فهل يجوز الانتفاع بمخرجاته؟ الآن تقوم مصانع شاسعة واسعة لها إنتاج في صنوف الأشياء التي ينتفع بها الناس من مواد التجميل والأدوية وغيرها تستخرج من البحر الميت، هل يجوز استعمالها باعتبار أنها منطقة معذبين أو لا؟ هذا يحتاج أن يثبت أولاً، هل فعلاً البحر الميت هو مكان قوم لوط؟ أو أنهم كانوا قريباً من تلك الناحية؟ فالله أعلم.

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ۝ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ۝ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ۝ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ۝ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ۝ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ۝ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ۝ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ۝ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [سورة الذاريات:38-46].

يقول تعالى: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي: بدليل باهر وحجة قاطعة، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي: فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين، استكباراً وعناداً.

كقوله تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الحج:9] أي: معرض عن الحق مستكبر.

الركن يقال للجانب أيضاً، كما قال الله : وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ [سورة فصلت:51]، ومن أهل العلم من فسره هنا فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِأي بجانبه الأقوى، وهذا يوافق قول من قال أيضاً: إنه تولى بجنوده وأتباعه وجمعه كما يقول كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وهذا لا يخالف قول من قال: إن الركن هو القوة، لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود:80]، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي: بقوته، فهذه الأقوال غير متعارضة، تولى بجانبه، بجنوده، بقوته، بأتباعه، ونحو هذا.

وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي: لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحراً أو مجنوناً.

قال الله تعالى: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ أي: ألقيناهم في اليم، وهو البحر، وَهُوَ مُلِيمٌ أي: وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند.

يعني قد قارف ما يستحق عليه الملامة، وقوله: وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، يحتمل أن تكون "أو" هذه بمعنى الواو، ساحر ومجنون، يحتمل هذا، أو أن ذلك على ظاهره، يعني إذا قيل: إنها بمعنى الواو تكون مثل وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [سورة الإنسان:24]، يعني ولا كفوراً، فـ "أو" تأتي بمعنى الواو، ويحتمل أنه ردد أمره بين هذا وهذا للتلبيس، كأنه يقول: هو ساحر أو مجنون، لا يخلو إما كذا وإما كذا، يحتمل أمره، بين وبين فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ ألقيناهم في اليم وَهُوَ مُلِيمٌ.

  1. رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم، برقم (7320).
  2. رواه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، برقم (2038)، ومسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رُئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرماً له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، برقم (2175).
  3. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [سورة لقمان:34]، برقم (4777)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله ، برقم (8).

مواد ذات صلة