بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين.
تفسير سورة فصلت
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [سورة فصلت:1-5].
يقول تعالى: حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يعني القرآن منزل من الرحمن الرحيم، كقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ [سورة النحل:102]، وقوله: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [سورة الشعراء:192-194]، وقوله -تبارك وتعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أي: بُينت معانيه وأحكمت أحكامه.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إضافة التنزيل إلى هذين الاسمين الكريمين "الرحمن الرحيم" فيه أن تنزيل هذا القرآن هو من آثار رحمته -تبارك وتعالى- بعباده، فإن من رحمته أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب.
وقوله -تبارك وتعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، يقول هنا: أي بُينت معانيه وأحكمت أحكامه، هذا معنى، وبعضهم يقول: إن المراد بذلك فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أي: جاءت بأساليب متنوعة للترغيب والترهيب وضرب الأمثال، وذكر القصص، فلوّن لهم الخطاب ونوّعه بحيث يحصل بذلك تمام البيان والإيضاح للحق فلا يبقى في الحق لبس.
وبعضهم يقول: إن المراد بتفصيل الآيات يعني بين الله فيه الحلال والحرام والطاعة والمعصية، فهذا هو التفصيل، كما يقوله بعض السلف كقتادة، وبعضهم يقول: إن المراد فُصِّلَتْ آيَاتُهُ بالوعد والوعيد، كما يقول الحسن البصري، وبعضهم يقول: فُصِّلَتْ آيَاتُهُ يعني ببيان الثواب والعقاب، وهذا يرجع إلى بعض ما ذكر.
هذه الأقاويل هي أشبه بكونها من قبيل ضرب المثال، يعني التمثيل على هذا التفصيل، فإن تفصيل الآيات ينتظم ذلك أن الله بينها بيانًا لا يدع في الحق لبسًا، فبين الحلال والحرام، وبين الجزاء والثواب والعقاب، وبين لهم كل ما يحتاجون إليه، والله -تبارك وتعالى- في هذا التفصيل تارة يذكر علمه فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [سورة الأعراف:52]، وهذا التفصيل هو من آثار هذا العلم، وتارة يذكر أن هذا التفصيل بعد الإحكام أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ، وتارة يذكر إنزال هذا الكتاب بهذه الصفة وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [سورة الأنعام:114]، وكل ما ذُكر -والله تعالى أعلم- داخل في هذا المعنى، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: أي: بُينت معانيه وأحكمت أحكامه، وهذا لا ينافي ما سبق.
وقوله: قُرْآنًا عَرَبِيًّا قال: أي في حال كونه قُرْآنًا عَرَبِيًّا بينًا واضحًا، يعني أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- اعتبر هنا النصب في هذا الموضع قُرْآنًا عَرَبِيًّا أنه منصوب على الحال، حال كونه قرآنًا عربيًا، وهذا أحد الأقوال الواضحة في إعرابه، وقيل غير ذلك، يعني بعضهم يقول مثلًا: إنه منصوب بفعل مقدر، والأصل عدم التقدير، ومهما أمكن الاستغناء عنه فهذا أولى.
قُرْآنًا عَرَبِيًّا أي: في حال كونه قرآنًا عربيًا واضحًا فمعانيه مفصلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة، كقوله تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود:1]، أي: هو معجز من حيث لفظه ومعناه لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت:42].
وقوله تعالى: لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَأي: إنما يعرف هذا البيانَ والوضوحَ العلماءُ الراسخون.
بعضهم يقول: لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وهم الذين أُنزل بلغتهم، أي العرب الذين خوطبوا به، فهم يفهمون هذا الخطاب، يعلمون معانيه ويفهمونها، فهم أهل اللسان، هكذا فسره بعض السلف، وبعضهم حمل ذلك على محمل آخر وهو أن المراد لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أنه منزل من عند الله -تبارك وتعالى، هذا قال به بعض السلف كالضحاك -رحمه الله، يعلمون أنه منزل من الله ومن ثمّ فإنهم يتقبلونه ويأخذونه على أنه كلام رب العالمين -تبارك وتعالى- وليس بكلام البشر.
وبعضهم يقول: إن المراد لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أنه إله واحد ، لمن يعلمون أن المعبود واحد لا شريك له، وهذا كأنه أبعد مما قبله وإن قال به بعض السلف -رضي الله تعالى عنهم، وهو منقول عن مجاهد -رحمه الله- لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أنه إله واحد في التوراة والإنجيل، فهذا الكتاب أنزل بهذه الصفة بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [سورة الشعراء:195]، والله -تبارك وتعالى- قال في مواضع أخرى: يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة يونس:5].
وإضافة ذلك إلى الذين يعلمون جاء في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى، وفي بعضها لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [سورة الأنعام:98]، والفقه أخص من مطلق العلم، فإن الفقه يكون فيما من شأنه أن يخفى، يعني يحتاج إلى دقة، يحتاج إلى لطافة ذهن، يحتاج إلى استنباط، والعلم أوسع من ذلك، يكون في هذا وهذا، كما قال الله : قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، فإذا جمعت بين هذا وهذا يمكن أن يؤخذ منه -والله تعالى أعلم- لو قال قائل: إن ذلك يدل على أن المراد لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أنه ليس مجرد معرفة اللسان العربي؛ لأن الآية الأخرى ذكر فيها الفقه، "لقوم يفقهون"؛ فيكون المعنى أخص من هذا، والله تعالى أعلم.
وابن كثير هنا -رحمه الله- يقول: أي: إنما يعرف هذا البيانَ والوضوحَ العلماءُ الراسخون يعني هذا الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- أخص من مطلق العلم، ومن قال: إن المراد لقوم يعلمون أنه منزل من عند الله يعني أنه كلام الله، وليس بكلام البشر، هذا أخص أيضًا، ومن قال: إن المراد لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أنه إله واحد، هذا أخص، لكن الذي قبله كأنه أقرب منه -والله تعالى أعلم، يعني كأن العلم هنا يرجع إلى أمر يتصل بهذا القرآن لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وليس مجرد العلم باللسان، والعلم عند الله .
بَشِيرًا وَنَذِيرًا هذا جاء في كتاب الله في مواضع كثيرة، أن القرآن يحمل هذين: البشارة والنذارة؛ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [سورة مريم:97]، هذا تفسير لكونه بهذه المثابة بشيرًا ونذيرًا، وهذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير، تارة يبشر المؤمنين وتارة ينذر الكافرين، وأما ما جاء مقتصَرًا به على أحدهما في بعض المواضع فهذا بحسب المناسبة، أو ليدل على الآخر، مثل: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [سورة الإسراء:9]، وهنا خصهم به، ولكن في بعض المواضع من غير تخصيص يعني جاء الإطلاق بالإنذار مثلًا، لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [سورة الأنعام:19].
فمثل هذا يقال: إما بحسب المناسبة فهو في مجال مخاطبتهم بهذا القرآن والمطالبة بالإيمان والاستجابة لهذه الدعوة الجديدة، أو ليدل على الآخر الذي هو البشارة مثلًا.
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ يقول: أي: أكثر قريش بمعنى أن الذين آمنوا خرجوا من هذا، أي الذين استجابوا، فعبر هنا بالأكثر فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ لم يعرض الجميع، فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ قال: أي لا يفهمون منه شيئًا، المقصود بنفي السماع عنهم ليس لانعدام الحاسة، وإنما لكونهم لا يسمعون سماع تفهّم وانتفاع، فمثل هذا يُنفى عنه السمع، كما قال الله : وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا [سورة الأعراف:179]، فآلة السمع موجودة ولكن هذا السمع لا ينفع، ولهذا يقولون بعد انكشاف الحقائق: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة الملك:10]، نسمع سماع انتفاع، لمّا صارت الحال وآلت إلى هذا، هذا المراد -والله تعالى أعلم، وهذا له نظائر في القرآن.
الكِنان هو ما يغطي الشيء، ومنه الكنانة التي توضع فيها السهام، وهذا بمعنى الأغلفة، الغلاف، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ، هذه دعواهم الآن مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، يعني نحن لا نعقل عنك شيئًا، ولا يصل إلى قلوبنا، فلا حاجة إلى توجيه هذا الخطاب إلينا، فإنه لا أثر له ألبته، هذا المراد، أرادوا قطع الطريق على مخاطبتهم بالدعوة، ومطالبتهم بالإيمان فقالوا: هذه حالنا قلوبنا في أكنة، هذا الكلام الذي تقوله لا يصل إلى قلوبنا.
وليس المقصود أنهم يخبرون عن حقيقة واقعة أن قلوبهم صارت في حال من الطمس والختم، فهم لا يعلمون ذلك، والله -تبارك وتعالى- ذكر هذا في مقام ذمهم وعيبهم، مع أن الله -تبارك وتعالى- أثبت الختم على قلوب المعاندين والمحادين له والكافرين الذين أعرضوا عن الحق، وكابروا خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [سورة البقرة:7]، فالختم واقع على القلوب والأسماع، فلا يصل إليها شيء من الحق، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ صارت تغطيها فهم لا يبصرون الحق الذي يبصره أهل البصائر والإيمان؛ فهذه طرق معرفة الحق كلها مغلقة، فهناك أثبته، وهنا ذكره في مقام العيب لمقالتهم التي ينسبون ذلك فيها إلى نفوسهم، وليس بين الموضعين منافاة، يعني حينما يذمهم الله أو يذكر هذا على سبيل الذم والعيب لدعواهم هذه مع أن الختم واقع حقيقة بهم كيف نجمع بين هذا وهذا؟
يعني هنا الله -تبارك وتعالى- ساق ذلك مساق الذم حينما ادعوا هذه الدعوى -قالوا قلوبنا في أكنة- أليس كذلك؟ يذمهم في هذا، مع أن الله -تبارك وتعالى- أثبت في مواضع أنه ختم على قلوب الكافرين الجاحدين المعاندين وعلى أسماعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، ولما قال اليهود: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [سورة النساء:155] يعني أنها في أغلفة مثل هنا، لكن غلف مغلفة بغلاف لا يصل إليها الحق، وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [سورة البقرة:88] خلافًا للقول الشاذ -وقد مضى الكلام على هذا- أي من قال: غلف يعني أغلفة للعلم، أوعية للعلم، هذا غير مراد، ولا يدل عليه السياق أصلًا.
إنما هي مغطاة، هم يقولون هذا، قال: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا، وبين السبب أن ذلك لم يكن من قبيل الظلمبِكُفْرِهِمْ فلا يُؤمنونَ إلا قليلًافما الجواب عن هذا؟
يعني هم ادعوا هذه الدعوى، فالله -تبارك وتعالى- ذمهم بردهم الحق ومكابرتهم في رده وجحده حتى إنهم قالوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ، وقالوا أيضًا: وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ أي صمم، وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ يعني لا تحاول، فكان رد الحق وهذه المكابرة فيه سببًا للطبع على القلوب وحجب الحق عنها جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26]، كما قال الله : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5] زاغوا عن الحق فأزاغ الله قلوبهم.
وكما ذكرنا في سورة الأنعام الله -تبارك وتعالى- قال: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ [سورة الأنعام:111]، فكل هذا لو اجتمع ما آمنوا، ما الذي قاله قبلها؟
قبلها ذكر أن عدم الإيمان وعدم التوفيق للهدى بما كذبوا من قبل، ورد الحق حينما يطرق الأسماع، فالمبادرة إلى رده قد تكون سببًا لعدم التوفيق، وأن الإنسان يُبلى بالحرمان -نسأل الله العافية، فلا يستطيع بعد ذلك الإيمان كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24]، فإذا رَدّ الحق لم يُؤمن عليه بعد ذلك أن يُبلى بالحرمان، فلا يحصل له الإيمان، ولا يوفق للهدى بعد ذلك، كما قال الله : كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110].
والآية الأولى التي ذكرت هي في الموضع نفسه والشاهد نفسه، لكن التي في الأنعام قبلها: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قال: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ [سورة الأنعام:111]؛ لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة حينما طرق أسماعهم ووجهت الدعوة إليهم، على أرجح الأقوال في التفسير، فهنا ذم الله قولهم وعابه، وقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ في هذا المقام، مع أنه أثبت الختم والطبع عليها حقيقة، فكان هذا الختم والطبع له سبب هو هذا الإعراض والمكابرة فيه حتى قالوا مقالتهم هذه: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ إلى هذا الحد، فطبع الله عليها كما قال الله لما قال اليهود مثل هذه المقالة: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ادّعوا الدعوى نفسها، قال: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [سورة النساء:155]، والباء للسببية، أي بسبب كفرهم الذي هذا مظهر من مظاهره، بل من مظاهر المكابرة في هذا الكفر والمبالغة فيه.
الوقر يعني الصمم، وأصل ذلك بمعنى الثقل، والمراد به هنا الصمم.
فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ، اعمل على طريقتك، ونحن نعمل على طريقتنا، أنت في سبيلك، ونحن في سبيلنا، وهذا من أوضح ما قيل في تفسير هذا الموضع، وبنحوه قال به كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وزاد عليه زيادة مكملة: ودعْ دعوتنا إلى دينك، وما جئت به، ونحن ندعُ دعوتك إلى ديننا وإلى ما نؤمن به، امض في سبيلك ولا تشتغل بنا، يعني أنت مستغنٍ ونحن مستغنون، هذا مستغنٍ عما عند هذا، وهذا مستغن عما عند هذا، وكلٌّ بما عنده راضٍ، كما يقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنتَ بما | عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ |
كل واحد راضٍ بالذي عنده، نحن مقتنعون أنا على حق، ولسنا بحاجة إلى ما عندك، وأنت أيضًا مقتنع بما عندك فلا تخاطبنا بهذا الخطاب، اعمل بما أنت معتقده ومؤمن به، ولا تشتغل بنا، ونحن لن نشتغل بك، "فاعمل إننا عاملون"، هذا الذي اختاره ابن جرير، دعنا في حالنا، وأنت في حالك، كما قال عبد الله بن أُبيّ لما جاء النبيُّ ﷺ يزور سعد بن عبادة يعوده، ومر على نفر فيهم المسلمون والمشركون قبل إظهار رئيس المنافقين الإسلام، نفر معهم ابن رواحة ، والنبي ﷺ على حمار، فوضع ثوبه على أنفه وقال: لا تغبروا علينا، فوعظهم النبي ﷺ وذكّرهم ودعاهم، فقال ابن أبيّ: يا هذا، أو أيها الرجل، ابقَ في موضعك فمن شاء أن يستمع منك أتاك، ولا تغشَ مجالسنا، لا تأتِ إلينا، الذي يريدك يأتيك ويقصدك، فقال عبد الله بن رواحة : بل يا رسول الله اغشَ مجالسنا وادعنا، وعظنا وذكّرنا، ووقع ما وقع.
فهذا معنى ظاهر -والله تعالى أعلم، بخلاف قول من قال: فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ اعمل في إهلاكنا والكيد لنا، ونحن عاملون بذلك، يعني هات الذي عندك مما تقدر عليه في الكيد لنا، وإلحاق الضرر بنا، ونحن أيضًا لن نفتأ ولن نألوا جهدًا في هذا السبيل، ما تقدر عليه افعله في حربنا، وما نقدر عليه نفعله لا ندخر جهدًا في ذلك.
وهكذا قول من قال: اعمل لآخرتك طالما أنك تؤمن بها، ونحن نعمل لدنيانا التي هي غايتنا، وليس بعدها حياة تُطلب، ولكن هذا والذي قبله بعيد، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وذكره ابن جرير قبله هو الأقرب -والله تعالى أعلم.
فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ يعني نحن لا يصل إلينا من هذا الخطاب شيء، كن في حالك، ونحن في حالنا، أنت في عالمك ونحن في عالمنا، لا تظن ولا تتوقع ولا تؤمل أننا سنصغي إليك، وسنستجيب وسنتحول إلى دينك، فهذا أمر بعيد المنال، والله أعلم.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [سورة فصلت:6-8].
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لا كما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين، إنما الله إله واحد.
قوله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ كان الكفار -كما هو معلوم وجاء هذا في مواضع من كتاب الله- يستنكفون أن يبعث بشرًا وأن يستجيبوا إلى بشر، قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً، فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [سورة التغابن:6]، هكذا قالت الأمم لرسلهم -عليهم الصلاة والسلام، والله -تبارك وتعالى- رد هذه المقولة في مواضع وأنه لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:95].
وقال: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام:9]، فبين أن الناس لا يطيقون الأخذ عن ملَك، ولا مشاهدة الملك، ولا معاشرته، هم لا يألفونه، ثم إن ذلك لو جاء بصورة رجل -تشكل بصورة رجل- لوقع اللبس هل هو ملك أو رجل، فهنا قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ.
بعضهم يقول: المعنى أنا كواحد منكم من حيث الجنس، يعني في البشرية، أنني بشر لست من جنس مغاير حتى تقولوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ أنا مثلكم أخاطبكم بما تفهمون، لم آتِ من كوكب آخر، ولست من جنس آخر حتى تقولوا هذه المقولة، هكذا قال بعض المفسرين، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ فما الداعي لمثل هذا القول؟
وبعضهم يقول: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ يعني لا أملك هدايتكم، ولا أملك قسركم وحملكم على الإيمان؛ فإن ذلك بيد الله ، ومهمتي مختلفة، أنا بشر يوحى إليّ فأبلغكم هذا الوحي، وأدعوكم إلى الله -تبارك وتعالى.
وبعضهم يقول: إن المراد إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ يعني لستُ بملَك ولكني بشر يوحى إليه، فعليكم اتباعي، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، يعني أنا لا أدعي أكثر من ذلك، ولكن الله أوحى إليّ، فهذا الوحي هو الذي تميزت به عليكم، فعليكم أن تستجيبوا، وأن تذعنوا، وأن تؤمنوا، وأن تنتفعوا بهذا الوحي.
وذهب بعضهم كالحسن البصري -رحمه الله- إلى أن هذا تعليم من الله لنبيه ﷺ التواضع، أن يعلن في الناس، ويقول: أنا مجرد بشر يوحى إليّ، ولكن الذي قبله -والله أعلم- كأنه هو المراد.
والحصر في قوله: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ طبعًا هو ﷺ بشر، وله أيضًا أوصاف أخرى غير خارجة عن البشرية، لكن جاء الحصر هنا بهذا الوصف باعتبار أن المجادلة والمكابرة بسبب هذا الجانب، كيف يكون بشراً رسولاً؟ عندهم هذا لا يتأتى، كيف اختار الله من البشر رسولًا؟
الاستقامة يدخل فيها الاستقامة بالقصد بالتوحيد والإخلاص، ويدخل فيها الاستقامة في العمل بما أمرهم به، يعني أن يكونوا على الصراط المستقيم، فهذا كله داخل في الأمر بالاستقامة، استقيموا إليه ظاهرًا وباطنًا، استقامة الباطن بتوجه القلوب إلى باريها وفاطرها وحده دونما سواه، فهذا الإيمان والتوحيد والإخلاص، وبالعمل بالاشتغال بطاعته على الوجه الذي شرعه فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ.
فَلِواحدٍ كن واحدًا في واحدِ | أعني سبيلَ الحقِّ والإيمانِ |
يعني على طريق واحد، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [سورة الأنعام:153]، فهنا ذكر المعنيين، ابن كثير -رحمه الله- قال: أي: أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل، هذه العبارة هي تتضمن المعنيين، على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل، هذا المتابعة، والأول الإخلاص، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر المعنيين.
طبعًا هنا "فاستقيموا إليه واستغفروه" قال: لسالف الذنوب، الإنسان كما قال النبي ﷺ: استقيموا ولن تُحْصُوا[1]، فالتقصير لابدّ منه، ومن ثمّ فإن الاستغفار يكون لسالف الذنوب، ويكون أيضًا لما يعتور هذه الأعمال حال استقامتكم من نقص وتقصير وفتور وضعف، فهذه طبيعة البشر، فيحتاج إلى استغفار، استقيموا إليه واستغفروه، وهذا هو الطريق هذا هو المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه السالك إلى الله -تبارك وتعالى، أن يجمع بين هذا وهذا، أن يجتهد في طاعة ربه ومليكه -تبارك وتعالى، يسلك الطريق وأن يستغفر؛ لأنه لابدّ له من تقصير فيجمع بين الأمرين، ومن ثم فهو أبعد ما يكون عن العجب والنظر إلى العمل والإدلاء على ربه -تبارك وتعالى- بعمله، لا يكون مدلًا على الله بعمله.
وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ أي: دمار لهم وهلاك عليهم، يعني هذه كلمة وعيد، وابن جرير -رحمه الله- يفسرها عادة بواد في جهنم.
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وكذا قال عكرمة، وهذا كقوله -تبارك وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [سورة الشمس:9، 10]، وكقوله -جلت عظمته: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى:14، 15]، وقوله : فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى [سورة النازعات:18].
والمراد بالزكاة هنا طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة، ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك، وزكاة المال إنما سميت زكاة؛ لأنها تطهره من الحرام، وتكون سببًا لزيادته وبركته وكثرة نفعه، وتوفيقًا إلى استعماله في الطاعات.
وقال قتادة: يمنعون زكاة أموالهم، وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير، وفيه نظر؛ لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة على ما ذكره غير واحد، وهذه الآية مكية، اللهم إلا أن يقال: لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة كان مأمورًا به في ابتداء البعثة، كقوله -تبارك وتعالى: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141]، فأما الزكاة ذات النُّصب والمقادير فإنما بين أمرها بالمدينة، ويكون هذا جمعًا بين القولين، كما أن أصل الصلاة كان واجبًا قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها في ابتداء البعثة، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله تعالى على رسوله -صلوات ربي وسلامه عليه- الصلوات الخمس، وفصل شروطها، وأركانها، وما يتعلق بها بعد ذلك شيئًا فشيئًا -والله أعلم.
هنا في قوله -تبارك وتعالى: وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ذكر القول الأول: وهو أن المراد لا يؤتون الزكاة يعني تزكية النفوس بالإيمان، وطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ والاستجابة لما يدعوهم إليه، فإن أصل هذه المادة "زَكَا" تدل على معنيين:
الأول: النماء، والثاني: الطهارة، وهذا واقع بزكاة النفوس، وزكاة الأموال، بمعنى أن زكاة النفوس إنما تكون بتعمير القلوب بالإيمان والطاعة والأعمال الصالحة، من زكَا الزرع يعني نما، وهذا مقصود لذاته، يعني أن تعمر القلوب بالإيمان.
والجانب الثاني: وهو تطهيرها مما يضاد ذلك من الشرك وما يتفرع عنه من المعاصي والذنوب والأرجاس والأدناس، وهذا يؤثر سلبًا في الجانب الأول فلا يحصل النماء المطلوب إلا بتطهير المحل، أن يكون المحل قابلًا، فإذا كان المحل فيه من الدنس والأرجاس فإنه لا يزكو كما ينبغي بالإيمان والعمل الصالح، فكان لابدّ من هذين لتزكية النفوس.
ومن هنا هذه الآيات كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا، فالمراد بها هنا تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، والتدسية بأضداد ذلك بالشرك والمعاصي -يعني دساها، فهذا يكون به وضع النفس، وتكون في حال من الانحطاط والهبوط والسفول بحسب ما فيها من الأرجاس والأدناس من الشرك والمعاصي؛ لأن الإنسان ينسفل بذلك.
وهكذا قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى مع أن هذا الموضع قال بعض المفسرين: إن المراد به إخراج زكاة الفطر، قالوا: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ هذا التكبير قبل صلاة العيد، فَصَلَّى صلاة العيد، مع أن السورة مكية، فهذا يكون القائلون به على مذهبين أو على منحيين:
الأول: أن بعضهم يلجأ في مثل هذه المواضع -وهو يعلم أن السورة مكية- إلى أن يقول: هذه السورة مكية لكن الآية هذه نزلت في المدينة باعتبار المعنى الذي فهمه، هي تتحدث عن زكاة الفطر وصلاة العيد، وهذا قطعًا ما شرع إلا في المدينة، قالوا: هذه مستثناة بناء على المعنى.
والثاني: قال بعضهم: هي نازلة معها في مكة ولكن هذا مما نزل قبل تقرير حكمه، يكون سابقًا على الحكم، فهناك أحكام تُقَر وتنزل الآية بعد ذلك، مثل التيمم، الوضوء، إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [سورة المائدة:6]، وهناك أشياء تنزل ويكون تقرير الحكم بعد ذلك، والحكم هنا أوسع من الحكم الذي هو الحلال والحرام، والأمر والنهي، فأحيانًا يكون مقتضى هذا الشيء الذي تحدثت عنه مثل: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر:45]، عمر كان يقول: أيّ دبر وأي جمع في مكة؟ يقول: لما رأيت النبي ﷺ في يوم بدر يثب في الدرع ويردد هذه الآية: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ عرفت أنها في هذا.
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى فيها القولان هل المراد تزكية النفوس أو المقصود زكاة الفطر؟ والأقرب أنها في تزكية النفوس، أما التي قبلها قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا فهي تزكية النفوس، وهكذا فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [سورة النازعات:18، 19]، خطاب موسى لفرعون فهذا في تزكية النفوس قطعًا، فالتزكية تأتي في هذا وتأتي في هذا، يقول: زكاة المال إنما سميت زكاة؛ لأنها تطهره من الحرام وتكون سببًا لزيادته، يعني جمع بين الأمرين التطهير والنماء.
قال: وقال قتادة: يمنعون زكاة الأموال، هذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين واختاره ابن جرير، ما قال: عند أكثر المفسرين، قال: عند كثير من المفسرين حملوه على زكاة المال، بينما بعض المفسرين عزا القول الأول إلى أكثر المفسرين يعني أن المراد بذلك الإيمان، وممن عزاه لأكثر المفسرين ابن القيم -رحمه الله، قال: هذا قول أكثر المفسرين، وإن لم يصرح بالترجيح، وهنا قال: وفيه نظر؛ لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة، لهذا الاعتبار الآية هنا تحتمل، وفيها القولان، الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ فالذين قالوا: إن ذلك لا يكون في زكاة المال، وإنما تزكية النفوس قالوا: الزكاة ما فرضت إلا في المدينة، ومن يقول: إنها في زكاة المال يمكن أن يجيب بأحد جوابين:
الجواب الأول: أن هذا قد يكون مما نزل قبل تقرير الحكم.
والجواب الثاني: وهو أوضح، وهو الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن أصل الزكاة كان في مكة، وهذا كما في قوله: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] أي أن هذا هو الأقرب، أن أصل الزكاة كان في مكة فكان يُخرِج شيئًا غير محدد، وإذا حضر من حضر من الفقراء أعطاهم شيئًا غير محدد، وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، مع أن بعض المفسرين يلجأ إلى ما سبق، يقول: سورة الأنعام مكية، وهذه الآية مدنية؛ لأنها تتحدث عن الزكاة، هي لا تتحدث عن تزكية النفوس، تتحدث عن زكاة المال.
وهذا لا حاجة إليه، بل يكفي أن يقال: سورة الأنعام جاء في روايات كثيرة عن جمع من الصحابة أنها نزلت في ليلة واحدة، هذه الروايات لا تخلو من ضعف لكن بمجموعها تتقوى، ومع إقرارهم بأنها نزلت مجتمعة في ليلة إلا أن بعضهم يقول: هذه الآية نزلت في المدينة، ومثل هذا لا يصح، بمعنى أن أسباب النزول موقوفة على النقل والسماع، وليس ذلك للاجتهاد.
أي أن المفسر إذا رأى آية تتحدث عن موضوع، تتحدث عن المنافقين أو عن اليهود أو عن الزكاة أو نحو ذلك قال: هذه نزلت في المدينة، هذا لا يكفي، بل لابدّ من النقل، ولا يدخل في ذلك الفهم والاجتهاد، هذا فيما يتعلق بأماكن النزول، الذي يسمونه المكي والمدني.
فهنا ابن كثير لما ذكر هذا القول قال: فيه نظر، أي أنها في زكاة المال، بعد ذلك قال: يمكن الجمع بين الأمرين باعتبار أن أصل الزكاة نزل في مكة والنُّصب والمقادير والأموال المحددة كان ذلك جميعًا في المدينة، هذا صحيح، فيقول: ممكن أنهم لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ زكاة النفوس، وزكاة الأموال على هذا الاعتبار، وهذا ليس بعيداً، لكن المعنى المتوجه والمعنى الظاهر هو الأول الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وعند من قال: إنها زكاة المال أو من أمكن عنده الجمع بين الأمرين يستدل بها على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، هذا أحد الأدلة عند الأصوليين الذين يقولون: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، مع أنهم لو جاءوا بها ما صحت إلا بالإيمان، لكنهم يقولون: يترتب على ذلك -يعني المخاطبة بفروع الشريعة- أثر، هذا الأثر كثيرون يقولون: هو أثر أخروي ولا أثر له في الدنيا؛ لأنهم لو جاءوا بها لم تصح ولم تقبل.
ما هو الأثر الأخروي؟ زيادة العذاب، فهم يعذبون على الشرك، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [سورة المدثر:42-47] هذا من الكفر، وهناك أعمال لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [سورة الماعون:1-5]، إذا قيل: إنها في المنافقين كما يقول بعض السلف، وفيها أقاويل أخرى.
فالشاهد أن الذين يقولون: الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يحتجون ببعض الآيات منها هذه التي في سورة فصلت، الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، فيضاعف لهم العذاب يحاسبون على الزكاة والصيام والجرائم التي عملوها وما إلى ذلك مما تركوا من طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، وإن كان بعض الأصوليين يقول: إن ذلك لا يختص بالآخرة، بل يترتب عليه أعمال في الدنيا، فيذكرون أشياء يعني في مسألة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والاحتساب، هل يُقَرون أو ما يقرون على المنكرات التي يفعلونها؟
هذا من تفسير القرآن بالقرآن، وهذا أشهر الأقوال أن المقصود بـ غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني غير مقطوع، وبعضهم قال: غير منقوص، فالممنون المنقوص، لكن الأول أشهر، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، ويدل عليه قوله: عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وبعضهم كمجاهد يقول: غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني غير محسوب، يعني أنهم يعطون عطاء كثيرًا بلا عدٍّ، وبعضهم فسر ذلك بالمنة عطاء غير ممنون يعني لا يحصل عليهم به منة، ولكن الأقرب -والله أعلم- أن المراد غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا [سورة الرعد:35].
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة فصلت:9-12].
هذا إنكار من الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره، وهو الخالق لكل شيء، القاهر لكل شيء، المقتدر على كل شيء، فقال: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا أي: نظراء وأمثالًا تعبدونها معه ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
الند هو النظير المناوئ، يعني أخص من مجرد النظير، أي نظير وزيادة، هذا هو الأدق في تفسير الند، ولكن العلماء أحيانًا يتوسعون، ويتجوزون فيقولون: الند هو النظير، وإلا هو نظير خاص.
هنا سؤال: تأملوا كلام ابن كثير -رحمه الله- في خلق الأرض في يومين، وتقدير الأقوات في يومين، وخلق السماوات في يومين، مع قوله تعالى هنا: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء يعني بعد خلق الأرض، وهناك قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا، فما الجمع بين هذه الآيات؟
ترك القول المرجوح لا يضر في المختصر، هو لا حاجة للاشتغال به في مثل هذا المختصر، يفترض أن المقصود تنقية الكتاب من الأقوال المرجوحة والروايات الضعيفة، يعني ليس بحاجة إلى إيراد القول الضعيف مثلًا مَن رد عليه، ولكني أورد بعض ذلك هنا في هذا المجلس من أجل أن يكون هذا للتمرين والتعليم وتربية الملكة لدى طالب العلم، وتفتيق الأذهان عمدًا، فتق الذهن كيف يذهب الذهن في تفسير الآيات والاحتمالات الواردة فيها، ولهذا كان السلف يقولون: لا تعْلَم كل العلم حتى ترى للقرآن وجوهًا، فإذا اعتاد الذهن على هذا وتمرن عليه اتسع، فيبدأ الإنسان يتحرج ويتحرز ويتوقف؛ لأنه تبدو له أشياء واحتمالات ووجوه فلا يستعجل، يحتاج أنه يتأنى، بينما ترى الذي ليس عنده أصلًا شيء من هذا العلم مباشرة يبادر، الجواب عنده مقطوع به، ويسبق إلى الجواب دون أن يُسأل.
ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي: خالق الأشياء هو رب العالمين كلهم، وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [سورة الأعراف:54]، ففصل هاهنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء، فذكر أنه خلق الأرض أولًا لأنها كالأساس، والأصل أن يبدأ بالأساس ثم بعده بالسقف كما قال : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [سورة البقرة:29] الآية.
فأما قوله تعالى: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [سورة النازعات:27-33]، ففي هذه الآية أنّ دحْي الأرض كان بعد خلق السماء، فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص.
وبهذا أجاب ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من صحيحه فإنه روى عن سعيد بن جبير قال رجل لابن عباس -رضي الله عنهما: إني لأجد في القرآن أشياء تختلف عليّ قال: فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ [سورة المؤمنون:101]، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ [سورة الصافات:27]، [سورة الطور:25]، وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42]، وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23].
يعني كل آية بما قبلها، وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا كيف ينكرون أنهم كانوا على الإشراك فهم بذلك كتموا؟
فقد كتموا في هذه الآية؟ وقال تعالى: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا إلى قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إلى قوله: طَائِعِينَ، فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء، قال: وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:96]، عزيزًا حكيمًا، سميعًا بصيرًا فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس -رضي الله عنهما: فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ في النفخة الأولى ثم نفخ في الصور وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ [سورة الزمر:68].
يعني تكون الأولى هنا باعتبار أنها نفخة الفزع، وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ [سورة النمل:87]، وسبق الكلام على هذا، هل نفخة الفزع قبل نفخة الصعق؟ فعلى هذا تكون النفخة الأولى هي نفخة الفزع على هذه الراوية.
ليس هذا هو المراد، لكنه ساق الرواية بطولها لما يتصل بهذا الموضع في سورة فصلت، ولكن حتى هذا السؤال من الإجابات عنه أيضًا الواضحة التي لها وجه ظاهر أن يوم القيامة كما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يوم طويل، ففي بعض المواقف لا يتساءلون، وفي بعضها يسأل بعضهم بعضًا.
بمعنى أنهم لا يكتمون الله حديثًا، مع قولهم وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] فهم في البداية ينكرون ثم بعد ذلك يختم على الأفواه فتنطق الجوارح ثم بعد ذلك يقرون، ولهذا وجه، وهذا جمعٌ أيضًا بين نطق الجوارح وما جاء من إنكار الإنسان وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ مع قوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [سورة النور:24] في الإفك، فالألسن تشهد، إذا كانت الألسن تشهد فما شهادتها؟
أن تقر بما فعل الإنسان، مع قوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ [سورة يس:65] ففي البداية يكابر، فإذا خُتم على فيه نطقت جوارحه فعند ذلك يقول: أبعدكنّ الله، عنكنّ كنت أناضل، ثم بعد ذلك لا يكتمون الله حديثًا، يقر ويعترف فيشهد عليه لسانه الذي كان منكرًا، هذا وجه الجمع.
وهو مفسر بما بعده دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا.
هذه الرواية توضح وجه الجمع، ولاحظوا الآيات قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا، ثم قال: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ هذا الدحو، قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ يعني بعد خلق الأرض ودحو الأرض، هذه أربعة أيام ابتداء من يوم الأحد إلى يوم الأربعاء، خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام، هذا الذي قاله عامة المفسرين من السلف فمن بعدهم، فهذه تدل على خلقها وعلى دحوها وأنه استوى إلى السماء بعد ذلك، فكان خلق السماوات في يومين: الخميس والجمعة، وهذا الذي قالوه من أن خلق السماء جاء بعد ذلك، وأن آدم ﷺ خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة، يكون على هذا الاعتبار خَلقَ الأرض في يومين ودحاها في يومين فهذه أربعة أيام، ثم السماء في يومين.
وليس المقصود بذلك ثمانية أيام قطعًا، وما قال بهذا أحد، ولكن العلماء يذكرونه من باب التنبيه؛ لئلا يخطئ أحد في الفهم، يعني لما يذكر الله أنه خلق الأرض في يومين ثم يذكر بعد ذلك من أمر دحوها ثم يذكر المجموع في أربعة أيام فلا يصح جمع اليومين مع الأربعة، فإن ذلك -يعني الأربعة- مجموع ما يتصل بالأرض، ولا يقال: خلقها في يومين ثم بعد ذلك وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ فيكون المجموع ستة، ثم السماء في يومين صار المجموع ثمانية، هذا لا يمكن، وليس هذا المراد.
مثل قول النبي ﷺ: من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان[2]، هل المقصود ثلاثة قراريط؟ قيراط للصلاة عليها، وقيراطان لشهودها حتى تدفن؟ لا، ليس هذا هو المراد، وإنما المجموع يكون هكذا في قيراطين الأول للصلاة، والثاني لاتباع الجنازة، فهذا مثل هذا.
يدل على هذا المعنى آيات كثيرة إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، هذا كثير في كتاب الله -تبارك وتعالى- فليست ثمانية، انظر هنا قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [سورة البقرة:29] أصل خلق الأرض في يومين زائد الدحو أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا هذا مجمل، خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً يعني في أربعة أيام، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فدل على أن خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد الدحو هنا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ.
والآية الأخرى: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا لاحظ هنا ذكر السماء أولًا، ثم ذكر الأرض، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا فبعض أهل العلم يقول: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ المعنى هنا ليس على الترتيب في الوقوع، وإنما كما تقول: فعلت كذا وكذا ثم أنت أيضًا فعلت كذا وكذا فوقه، يعني فوق ذلك تفعل كذا، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [سورة البلد:17] فالإيمان أولًا وليس المقصود أن الإيمان يحصل بعد العمل، لكن هنا يمكن أن يقال: الترتيب هنا في الرتبة وليس في الوقوع، وبعضهم يفسر "ثم" بالواو في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ يقول: هي بمعنى الواو وليس المقصود بها الترتيب.
هنا قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وبعض العلماء يقول: إن خلق الأرض في يومين، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثم بعد ذلك دحا الأرض في يومين بناء على هذه الآية: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا فكان المجموع في أربعة أيام، فذكرها في بعض المواضع مجملة، حينما ذكر خلق الأرض ذكر ما يتصل بها فكان مجملًا، وإن كان الترتيب في الخلق أن الأرض أولًا ثم السماء ثم الدحو ثالثًا، فكان مجموع ما يتصل بالأرض أربعة أيام ذكرت مجملة في بعض المواضع دون تفريق، هذا من الأجوبة عن ذلك.
وهذا الجواب أخذ هذا المنحى أن الدحو كان بعد خلق السماء، والأولون يقولون: لا، أخذوا بظواهر الآيات الأولى أن خلق الأرض أولًا، ثم الدحو، ثم بعد ذلك في اليومين الأخيرين من الأسبوع كان خلق السماء، وهذا الذي عليه أكثر المفسرين من السلف فمن بعدهم، أن الأرض وما يتصل بها في الأربعة الأيام الأولى.
وتكلم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- على هذه المسألة في كتاب دفع إيهام الاضطراب فقال -رحمه الله: "قوله تعالى: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ الظاهر أن معنى قوله هنا: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي: في تتمة أربعة أيام، وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط، لأنه تعالى قال: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثم قال: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي: في تتمة أربعة أيام، ثم قال: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما ستة أيام، وهذا التفسير الذي ذكرناه في الآية لا يصح غيره بحال؛ لأن الله تعالى صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله في الفرقان: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [سورة الفرقان:59].
وقوله تعالى في السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [سورة السجدة:4] الآية.
وقوله تعالى في ق: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [سورة ق:38].
وقوله تعالى في الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
فلو لم يفسر قوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بأن معناه في تتمة أربعة أيام لكان المعنى أنه تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام"([3]).
وقال -رحمه الله: "وقد ذكرنا في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" أن آية فصلت هذه، أعني قوله تعالى: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كقوله هنا: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثم رتب على ذلك بـ "ثم"، قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ إلى قوله: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض، كقوله تعالى في النازعات: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا إلى قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا.
فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء، الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء، بدليل لفظة "ثم" التي هي للترتيب والانفصال.
وكذلك آية "حم السجدة" تدل أيضا على خلق الأرض قبل السماء؛ لأنه قال فيها: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إلى أن قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ الآية.
مع أن آية "النازعات" تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء؛ لأنه قال فيها: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا، ثم قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا.
اعلم أولا أن ابن عباس -رضي الله عنهما- سئل عن الجمع بين آية السجدة، وآية النازعات فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعًا في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك.
فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء.
ويدل لهذا أنه قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ولم يقل: خلقها، ثم فسر دحوه إياها بقوله: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا، وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية البقرة هذه.
وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء.
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء؛ لأنه قال فيها: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء الآية.
وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم، ففهمته من القرآن العظيم.
وإيضاحه: أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين، كل منهما تدل عليه آية من القرآن.
الأول: أن المراد بخلق ما في الأرض جميعًا قبل خلق السماء الخلق اللغوي الذي هو التقدير، لا الخلق بالفعل، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود، والعرب تسمي التقدير خلقًا، ومنه قول زهير:
ولأنتَ تفري ما خلقتَ وبَعْ | ضُ القومِ يخلق ثم لا يفري[3] |
يعني ما قدرتَ، فالخالق بمعنى المقدر، ثم الذي أوجد الأشياء على مقتضى ما قدر، ويمكن أن نمثل لتقريب المعنى بصناعة الطاولة مثلًا هذا يحتاج إلى تقدير أولًا، وبناء المسجد يحتاج إلى مخطط هندسي؛ تقدير معين، حجم المسجد وأبعاده وارتفاعه، ثم بعد ذلك التنفيذ فهذا الإيجاد.
لأنتَ تفري ما خلقتَ: يمدح ملكًا يقول: تخطط وتنفذ.
وبعض القوم يخلق: أي يقدِّر، ثم لا يفري: لا يستطيع أن ينفذ، ليس عنده إمكانيات من أجل تنفيذ ما يؤمله ويخطط له.
وقال -رحمه الله: "والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير أنه تعالى نص على ذلك في سورة فصلت حيث قال: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، ثم قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ الآية"[4].
هذا الجواب يكون بمعنى أنه خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً آية البقرة، بمعنى التقدير، والواقع أن هذا الجواب لا يخلو من إشكال، باعتبار أننا حينما نقول: هو التقدير والواقع أنه خُلق أصل الأرض قبل السماء هذا بلا إشكال فصار بعض ما يتصل بالأرض منجزًا واقعًا، والبعض مقدرًا وهو الدحو، فيرجع إلى قول ابن عباس؛ لأنه أصلًا لا يكون وقوع شيء إلا بعد أن يقدره الله -تبارك وتعالى- فصار هذا من قبيل تحصيل الحاصل، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، إذاً تحقيق الدحو كان بعد خلق السماء ولا يقصد هو بهذا القول أن أصل الأرض إنما قدرت، وكان خلق السماء قبلها، لكن يريد أن يكون المجموع خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً بمعنى قدر فسينقسم هذا: أصل الأرض قُدر ووجد قبل السماء، والجزء المتعلق بالدحو كان بعد خلق السماء، لكنه أطلق عليه أنه خلق ما في الأرض جميعًا لنا باعتبار أنه قدر، فهذا فيه شيء -والله أعلم- من الإشكال، هذا الجواب الأول الذي ذكره.
يعني باعتبار خلق أصل الأرض، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، في آية البقرة: خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً يعني حتى الدحو يعني أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا فيقول: لما خلق الأرض كأنه خلق ما فيها، لما خلق الأصل كأنه خلق ما فيها، وهذا الجواب أيضًا ليس بذاك الوضوح، وجواب ابن عباس المتقدم أقوى بكثير، بعضهم يقول: إن "ثم" هي بمعنى الواو، أو أن الترتيب ليس بالوقوع، وإنما في الرتبة.
هذا جواب آخر، "والأرض بعد ذلك" يعني مع ذلك دحاها.
وقوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ يعني ليست في الترتيب للوقوع، وإنما مع ذلك.
والقراءة الشاذة إذا صح سندها تفسر المتواترة.
العُصْب باليمن هي أردية، أي نوع من اللباس معروف في أرض اليمن، بعضهم يقول: العصب يقال لما يعصب غزله، ثم بعد ذلك يصبغ ثم ينسج بعد الصبغ، العصب في اليمن، والسابوري نوع من الثياب منسوبة إلى بلاد سابور، والطيالسة بالري الطيالسة أكسية أو أردية لها صور مختلفة لكنها في القديم كانت توضع على المنكبين، ثم بعد ذلك صارت في أوقات متأخرة تقال على ما يكون مجتمعًا، مجتمع الرأس مع ما يغطي البدن، الطيلسان، وهي لها صور وأشكال وألوان أيضًا، وفي الحديث: يتبع الدجالَ سبعون ألفًا من يهود أصبهان عليهم الطيالسة[5]، يعني يلبسون هذا اللباس.
قال: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَاقدر فيها أقواتها كما يقول بعض السلف -وعباراتهم في هذا متقاربة: خلق فيها أشجارها وأنهارها ودوابها كما يقول قتادة ومجاهد، وهكذا قول من يقول: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يعني قدر فيها أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات وما إلى ذلك، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يعني أقوات أهل الأرض، قدر أقوات ساكنيها، هذا قال به جماعة من السلف كالحسن وعكرمة والضحاك.
قدر فيها أقواتها كما يقول بعض السلف -وعباراتهم في هذا متقاربة: خلق فيها أشجارها وأنهارها ودوابها كما يقول قتادة ومجاهد، وهكذا قول من يقول: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يعني قدر فيها أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات وما إلى ذلك، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يعني أقوات أهل الأرض، قدر أقوات ساكنيها، هذا قال به جماعة من السلف كالحسن وعكرمة والضحاك.
كل هذا لا إشكال فيه، وهو من تقدير الأقوات، ولهذا حملها ابن جرير -رحمه الله- على هذه المعاني جميعًا قدر فيها أرزاق أهلها، معايشهم، ما تقوم به مصالحهم، تجاراتهم وزروعهم وحروثهم وما إلى ذلك، كل هذا داخل فيه، وكأن هؤلاء السلف -رضي الله تعالى عنهم- فسروه بالمثال، يمثلون لذلك، ولا يقصدون الحصر.
سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ يعني فسره بعض السلف كالحسن: في أربعة أيام مستوية للسائلين، يعني سواء للسائلين في أربعة أيام مستوية تامة، فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء يعني أنها مستوية تامة ليس فيها نقص، وبعضهم يقول: إنه متعلق بقوله: سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ يعني مستويات للسائلين.
وبعضهم يقول: إن الآية فيها تقديم وتأخير، تأمل فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ، يعني قدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام، والسؤال يعني الطلب والحاجة، وليس الذين يسألون عن خلقها في كم خلقت؟ لا، سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ قدر فيها أقواتها للسائلين في أربعة سواء للمحتاجين، يعني أعطاهم ما يحتاجون إليه كلٌّ بحسبه سواء للسائلين للمحتاجين بمنافعها وأقواتها.
ولذلك تجد هذه القسمة الله جعلها في هذه الخليقة فتجد -سبحان الله- أنه أعطى الناس لما يصلح لمثلهم في كل قطر، فتجد ما يخرج من النباتات في البلاد الباردة غير النباتات التي في البلاد الحارة، وهؤلاء يصلح لهم هذا، وهؤلاء يصلح لهم هذا، ولذلك تجد مثل ابن القيم حينما يتكلم في مثل كتاب "أقسام القرآن" على التين والزيتون والمفاضلة بينهما، وكذلك العنب أو النخيل -التمر- أيهما أفضل؟ فيجعل هذه المفاضلة، يتحدث عنها ثم يخرج بنتيجة أن التين والزيتون وهذه الأشياء أفضل لأهل البلاد الباردة، والتمر أفضل لأهل البلاد الحارة، فهؤلاء جعل لهم ما يصلح لمثلهم، وهؤلاء جعل لهم ما يصلح لمثلهم.
وحتى الحيوانات: تجد الحيوانات التي تعيش في المناطق في سيبيريا أو نحو ذلك حتى الإبل تجد عليها من الوبر الكثيف، والحيوانات الباقية من ذوات الشعر تجد عليها من الشعر الكثيف؛ لأنها في مناطق باردة، وتجد هذه الحيوانات أضخم أجسامًا حتى تتحمل، وتجد أجسام هؤلاء الناس في الغالب ضخمة لطبيعة هذه الأرض التي يعيشون عليها، وتجد الحيوانات التي تعيش في المناطق الجبلية دقيقة القوائم، وتجد الناس الذين يعيشون في المناطق الجبلية أدق أيضًا أجسامًا من غيرهم، فالله -تبارك وتعالى- جعل هذه الخليقة منقسمة وفق حكمته -تبارك وتعالى.
وفي بعض المناطق في أمريكا نوع من الظباء أو الغزلان تتغذى على نوع من النباتات والزهور، ويوجد في هذه المنطقة أسود كثيرة تتغذى على هذه الغزلان، فقامت البلدية هناك فقتلوا كثيرًا من هذه الأسود فتكاثرت هذه الغزلان جداً فأكلت جميع هذا النوع من النباتات التي تتغذى عليها وما بقي لها شيء، فصارت تموت بالجماعات، سبحان الله! كان هناك توازن، كانت هذه الأسود تتغذى عليها ويرزق الله بعض هذه الحيوانات من بعض، وهذه الغزلان أو هذا النوع يتغذى على نوع من الزهور والنباتات بقدر محدود، فلما قُتلت هذه الأسود تكاثرت الغزلان ففنيت هذه النباتات، فماتت هذه الغزلان بالجموع، فهذا من تقدير هذه الأقوات.
وإذا تأملت في حال هذا الخلق وجدته على نظام دقيق، وتكلم ابن كثير على الأنهار السارحة في بعض البلاد في مثل مصر تأتيها من مكان بعيد؛ لأنها سباخ إذا نزل عليها المطر لا تنتفع به وإنما تحتاج إلى أنهار ممتدة طول العام ينتفعون بها ويزرعون منها، وليس المطر، فيسوق إليها الماء من أماكن بعيدة.
قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا التقدير هنا بمعنى الخلق، ويفسر بالخلق، وهذا الذي فسره به الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.
وقال ابن زيد معناه:وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ أي: على وفق مراده، مَن له حاجة إلى رزق فإن الله تعالى قدر له ما هو محتاج إليه، وهذا القول يشبه ما ذكروه في قوله تعالى: وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [سورة إبراهيم:34]، والله أعلم.
وقوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ وهو بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض.
يعني يصير سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ليس المقصود الذي يستفسر ويسأل في كم خلقت؟ وإنما لِّلسَّائِلِينَ يعني للطالبين.
في آية البقرة ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء قال: قصَدَ، وليس هذا من قبيل التأويل، هو فسرها في هذا الموضع "ثم استوى إلى السماء" قال: قصد، لكنه في المواضع الأخرى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [سورة يونس:3] يفسرها كما يقول السلف: بمعنى علا وارتفع، ولكن يبقى النظر هل يأتي استوى بمعنى قصد أو لا؟
ابن كثير -رحمه الله- فهم أنها بمعنى قصد من جهة التعدية بـ "إلى"، أنها إذا عديت بـ "إلى" فهي بمعنى قصد، وإذا عديت بـ "على" فهي بمعنى ارتفع، والذي عليه عامة أهل العلم من أهل السنة أنهم يفسرون الجميع بمعنى علا وارتفع، وابن جرير -رحمه الله- فسرها في الموضعين بـ"علا" استوى إلى السماء أي علا وارتفع، لكن هل يقال: إن ابن كثير -رحمه الله- وقع في التأويل؟
الجواب: لا، غاية ما هناك أن يقال: هذا من قبيل الخطأ في التفسير طالما أنه يثبت حقيقة الاستواء من الآيات الأخرى، فهذا يكون من قبيل الخطأ في التفسير، يعني مثل قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ [سورة القلم:42]، من قال: المقصود كرْبٌ وشدةٌ، هذا معنى في لغة العرب لكنه أثبت الساق من الحديث: فيكشف عن ساقه[6].
فهنا غاية ما يقوله من فسر الآية بأن الساق هو صفته -تبارك وتعالى- في الآية: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ أي: عن ساقه -تبارك وتعالى- فيسجدون له أعني أهل الإيمان فيكون القول بأن الساق بمعنى الشدة في تفسيره بالآية من قبيل الخطأ إذا كان يثبت هذه الصفة من نصوص أخرى، ومثل أيضًا ما ذكره شيخ الإسلام في كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص:88]، يعني إلا ما قُصد به التقرب إليه وطاعته، أي الإخلاص، فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] هنا فسره بالجهة يعني هل هذا من التأويل؟
بعضهم يقول مثل شيخ الإسلام في بعض هذه الآيات: أصلًا هي ليست من آيات الصفات، لكنه يثبت الوجه من النصوص الأخرى الكثيرة، ولا ينكر هذا إطلاقًا بل يثبته ويقرره ويستدل له، لكن الكلام في بعض الآيات هل هذه من آيات الصفات يقصد بها صفة الوجه أو لا يقصد بها، يقصد بها الجهة مثلًا؟ فيكون غاية ما هنالك عند القائل بأنها من آيات الصفات أن هذا من قبيل الخطأ في التفسير، مع أن ابن القيم -رحمه الله- يثبت أنها من آيات الصفات ويخالف شيخه في هذا.
هل المقصود اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا أن تأتي السماء إلى ربها -تبارك وتعالى، وتأتي الأرض أي دعاها أن تأتيه هل هذا هو المقصود؟ الظاهر أنه ليس هذا هو المقصود، قال هنا: أي استجيبا لأمري وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين فهذا المعنى هو الذي ذكره أهل العلم فابن جرير -رحمه الله- يقول: أي: جيئا بما خلقتما له، وما هُيئتما له، جيئا به، انفعلا لفعلي أو لأمري فتُخرج الأرض النبات والأشجار وما إلى ذلك، والسماء تُنزل المطر، وتَخرج الشمس وتغرب وما إلى ذلك مما جعله الله فيهما، فتُخرج السماء القمر والشمس وينزل منها المطر، والأرض تخرج النبات والثمار وما إلى ذلك مما أودعه الله فيها، قدر فيها أقواتها، ثم قال: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.
وهذا قول عامة أهل العلم، وعلى القول الآخر أن الدحو هو في آخر يومين، خلقُ السماء كان قبل ذلك، يعني الأرض ثم السماء ثم الدحو في يومين.
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا بعضهم يقول: يعني خلق شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها وما فيها من الملائكة وما إلى ذلك مما أراده الله -تبارك وتعالى، هذا قال به جماعة من السلف كقتادة والسدي، وبعضهم يقول: وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا يعني بما أراده وما أمر به.
يعني بعضهم يقول: فيه مقدر محذوف يعني وحفظناها حفظًا، وبعضهم يقول: إنه منصوب على الحال، "زينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا" يعني أيضًا أن هذه المصابيح تكون حفظًا للسماء كما قال الله : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ [سورة الملك:5] فتكون بمعنى هذه الآية، حفظًا لها، تكون هذه النجوم المصابيح رجومًا للشياطين.
- رواه ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب المحافظة على الوضوء، برقم (278)، وأحمد في المسند، برقم (22378)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (2/ 135)، برقم (412).
- رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، برقم (945).
- المصدر نفسه (7/ 13-15).
- المصدر نفسه (7/ 15).
- رواه ابن حبان في صحيحه، برقم (6798)، وقال محققه شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط البخاري".
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:23]، برقم (7439).