السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
[2] من قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا..} الآية:13 إلى قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ...} الآية:29
تاريخ النشر: ٠٣ / ربيع الآخر / ١٤٣٤
التحميل: 8251
مرات الإستماع: 6621

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

قال المؤلف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ۝ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ۝ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ۝ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ۝ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۝ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [سورة فصلت:13-18].

يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق: إن أعرضتم عما جئتكم من عند الله تعالى فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم كما حلت بالأمم الماضين من المكذبين بالمرسلين، صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ أي: ومن شاكلهما ممن فعل كفعلهما.

 إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، كقوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [سورة الأحقاف:21] أي: في القرى المجاورة لبلادهم، بعث الله إليهم الرسل يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له، ومبشرين ومنذرين، ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم، وما ألبس أولياءه من النعم، ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا، بل كذبوا وجحدوا وقالوا: لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً أي: لو أرسل الله رسلًا لكانوا ملائكة من عنده، فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي: أيها البشر، كَافِرُونَ أي: لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا، قال الله تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّأي: بغوا وعتوا وعصوا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ الصاعقة المراد بها العذاب المهلك، فإنه يقال له في الجملة: صاعقة، من أي شيء كان، وتقدم ذلك في قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55].

وقوله -تبارك وتعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ۝ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: كقوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ فسرها هنا قال: أي في القرى المجاورة لبلادهم، بعث الله إليهم الرسل يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له، مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ هنا فسرها باعتبار المكان مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي: من النواحي التي تحتف بهم من جميع الجهات، يعني أن بلادهم بالأحقاف.

وقد مضى الكلام على شيء من هذا في بعض المناسبات، وأنها حبال الرمل فجاءت الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم، يعني من نواحي بلادهم؛ ولهذا فسره بعضهم بقريب من هذا قال: مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي: من جميع النواحي، ففسرت هنا بالمكان، والله -تبارك وتعالى- قال: وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ [سورة فاطر:24] فتكون القرى التي حولهم -البلاد التي حولهم- خلها فيها نذر من الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه.

وبعضهم فسرها من جهة الزمان مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني الرسل الذين سبقوهم، والرسل الذين جاءوا من بعدهم، وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ جاءت رسل قبلهم وجاءت رسل بعدهم يدعون إلى توحيد الله -تبارك وتعالى- ويحذرون من الشرك.

فلهذا قال ابن جرير: إن قوله: مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الذين جاءوا إلى آبائهم، عَنَى بذلك المتقدمين، الرسل الذين تقدموهم وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ [سورة المائدة:46].

كذلك في قوله عن هذا الكتاب الذي أنزله على محمد ﷺ: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48]، فإن المقصود بقوله: وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي الإنجيل مصدق الذي تقدمه من التوراة، وهكذا في قوله عن القرآن مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ يعني الكتب التي سبقته، وهنا النذر تقدمتهم جاءت قبلهم فهم الذين أرسلوا إلى آبائهم، وَمِنْ خَلْفِهِمْ الرسل الذين جاءوا بعد أولائك الذين بعثوا لآبائهم، هذا كلام ابن جرير -رحمه الله.

يعني أن هودًا ﷺ أنذر قومه بالأحقاف وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وقد لا يقيد ذلك بآبائهم، وإنما يقال: النذر خلت في الأمم قبلهم، وجاءت رسل بعدهم -عليهم الصلاة والسلام- فلا يكون مقيدًا بالآباء ومن جاء بعد الآباء، فإن رسل الله -عليهم الصلاة والسلام- كانت دعوتهم واحدة، وقد تقدم هودًا ﷺ رسلٌ، وجاء بعده رسل، فالله يذكر خبره لهذه الأمة في قوله: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، هذا القيد هنا "بغير الحق" هذا من قبيل الصفة الكاشفة.

يعني في قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38]؛ لأن الطائر إنما يطير بجناحيه، بعضهم ذكر أن السرعة يعبر أحيانًا عنها بمثل هذا، يعني بالطير، فحتى يعرف أن المراد الطير الحقيقي الذي يطير بجناحيه إلى آخره، فـ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ وهكذا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:21] وما أحد يقتل نبيًا بحق، ولكنها صفة كاشفة تبين الحال يعني ليست صفة مقيدة، الصفة المقيدة تقول: رجل طويل، لكن لما تقول: رجل ذكر، هذه صفة كاشفة؛ لأنه لا يوجد رجل ليس بذكر.

وهكذا في مثل قوله -تبارك وتعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] لا يوجد أحد يمكن أن يدعو مع الله إلهًا آخر له فيه برهان إطلاقًا، ولكنها صفة كاشفة تبين الواقع، تبين الحال كما هي تكشف عنها، فهنا "فاستكبروا في الأرض بغير الحق"، وذكرت في بعض المناسبات أن الاستكبار والكبر في القرآن يأتي بصيغة الاستفعال أو التفعّل، والشاهد أنه لماذا؟ لأن الكبر لا يصلح لبني آدم ولكنه يتكلفه، وإلا فهو ليس كذلك.

وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أي: مَنُّوا بشدة تركيبهم وقواهم، واعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله.

كما قال الله عنهم: وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [سورة الأعراف:69]، كانت أجسامهم عظيمة طويلة ممتدة، هذه الأغراض البلاغية كقوله: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] هو معلوم أنهم يكتبون بأيديهم، فهناك أجوبة أخرى لكن بناء على هذا أنها صفة كاشفة، وهنا لتقرير الجُرم وتحقيق الجُرم، كما تقول: مشى إليه برجله، نطق بفيه، وتقول: كتبه بيده، أنت كتبت هذا بيدك، قلته بفيك، الناس يقولون: بعظمة لسانك، واللسان ليس له عظمة وإنما يقصدون بهذا تقرير وإثبات الجرم، هذه أغراض بلاغية.

خلق عاد: توجد صور في الإنترنت -إن كانت صحيحة غير ملعوب بها- أنهم اكتشفوا وصوروا في هذه النواحي في الربع الخالي جثثًا ممتدة طويلة وضخمة، يعني الرجل بجانب الجمجمة كأنه يربوع، أنا لا أثق بشيء مما أراه في هذا الإنترنت؛ لأنهم يعبثون بالصور ويكبرونها ويصغرونها فتراها كأنها حقيقية، لكن هم صوروا في الحفْر حينما حفروا، ثم أخرجوها، ويضعون الرجل كسلّم حتى يصعد الناس إليه، ويطوفون بهذه الجثة كأنهم دمى صغيرة، والله أعلم.

قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي: أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة فإنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها، وإن بطشه شديد كما قال تعالى: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [سورة الذاريات:47] فبارزوا الجبار بالعداوة وجحدوا آياته وعصوا رسله فلهذا قال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا.

قال بعضهم: وهي شديدة الهبوب، وقيل: الباردة، وقيل: هي التي لها صوت، والحق أنها متصفة بجميع ذلك فإنها كانت ريحًا شديدة قوية؛ لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم، وكانت باردة شديدة البرد جداً، كقوله تعالى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [سورة الحاقة:6] أي: باردة شديدة وكانت ذات صوت مزعج، ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق صرصرًا لقوة صوت جريه.

قوله -تبارك وتعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا يقول: قال بعضهم: هي شديدة الهبوب، بمعنى أنها قوية، وهذا قال به أبو عبيدة معمر بن المثنى، يعني ريحًا عاصفة، رِيحًا صَرْصَرًا، ويقول: وقيل الباردة، هذا أيضًا قال به جماعة من السلف، الريح الصرصر: الباردة، كعكرمة وسعيد بن جبير، وقتادة، وكأنهم -والله تعالى أعلم- يفسرون ذلك ببعض معناها كما هي عادة السلف -رضي الله تعالى عنهم، فإنهم لا يدققون في الألفاظ، فإن الريح الشديدة يكون لها صوت، كالصوت مثلًا الذي يصدره الباب يقال له: صرصرة مثلًا ونحو هذا.

ولهذا قال بعضهم: إن المقصود بالريح الصرصر الريح التي لها صَرّة، وهو الصوت، الرياح إذا كانت شديدة يكون لها صوتًا؛ وذلك أنها حينما تصطدم بما يعلو الأرض يُحدث ذلك الاحتكاك صوتًا يقال له: الصرة، وهذه الريح الشديدة فسرها بعضهم بالصيحة، وجمع بعضهم بين كونها باردة وأنها تحرق، أي ريح شديدة باردة محرقة، باردة ومحرقة كما يقول الفراء.

وقد مضى في الكلام على الأمثال في القرآن وفي هذه المجالس أيضًا في التفسير الكلام على بعض المواضع التي فيها الجمع بين شدة البرودة والاحتراق، في الأمثال في قوله تعالى: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [سورة البقرة:266] فبعض المفسرين فسره بأنه إعصار لشدة برودته صارت كأنها محترقة، فإن النبات مع شدة البرد يسود، وتهلكه شدة البرودة، هكذا قال بعضهم.

وإن كان المعنى -والله تعالى أعلم- هناك غير هذا، ولا حاجة لذكر الأقاويل، وليس هذا المراد، ولكن الجمع بين هذا وهذا يوجد في بعض المواضع، حتى في قوله تعالى: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [سورة القلم:20] بعضهم يقول: سوداء محترقة، وبعضهم يقول: بيضاء لا شيء فيها، لا نبت فيها، وبعضهم كالفراء يقول: باردة تحرق كما تحرق النار، يعني من شدة البرودة يسود النبات، وبعضهم يقول: إنها صرصرة يعني شديدة السموم كما يقول مجاهد -رحمه الله، يعني حارة.

ابن كثير هنا ذكر هذين المعنيين أنها شديدة الهبوب، وقيل: الباردة، وقيل: هي التي لها صوت، والشنقيطي -رحمه الله- جمع بين المعنيين أي كونها قوية ولها صوت، فهذان بينهما ملازمة رِيحًا صَرْصَرًا فهي لشدة هبوبها لها صوت يقال له: الصَرّة -والله تعالى أعلم.

فابن كثير -رحمه الله- أيضًا جمع بينهما وقال: الحق أنها متصفة بجميع ذلك فإنها كانت ريحًا شديدة قوية؛ لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم وكانت باردة شديدة البرد، يعني كما يذكر ابن كثير في مواضع ومناسبات شتى أن العقوبات تكون من جنس الأعمال، وقد مضى نظائر لهذا، فهؤلاء لما اغتروا بأجسامهم الممتدة وقواهم أرسل الله عليهم هذه الريح العاتية، فعذبهم بالهواء.

العقوبات التي أرسلها الله لهذه الأمم المكذبة المتجبرة التي اغترت بقوتها وعتت على ربها -تبارك وتعالى: أهلكهم بالهواء الذي هو أرق وألطف الأشياء، ولكنه حينما يرسله الله عذابًا فإنه يكون شديد الوقع، عظيم البأس كما قال الله : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25]، وكذلك الماء الذي هو من ألطف الأشياء، كالطوفان الذي وقع لقوم نوح -عليه الصلاة والسلام، أو بالصوت المهلك المزعج الشديد الذي لا يتحمله البشر، فيصيح بهم الملك فيهلكون.

وإذا قلنا: إن هذه معانٍ منفردة صحيحة لها فيكون من قبيل المشترك، وإذا قيل: إنهم فسروه بجزء المعنى، وإن تمام المعنى أنها لا تكون كذلك إلا إذا كانت شديدة ولها صوت، فبهذا لا يكون من قبيل المشترك، يعني حينما يقال: ريح فهو الهواء شديد الهبوب، لمّا يقال: صرصر فهذا قيد، معنى ذلك أنه له صوت، ولما يقال: باردة، هذا قيد آخر وهكذا، فبهذا الاعتبار ما يكون من قبيل المشترك، لكن لو كان الصرصر يفسر بكل واحدة مما سبق أنها من معانيه في اللغة فيكون من قبيل المشترك، فيحمل على جميع هذه المعاني إن لم يوجد مانع.

قال: وكانت ذا صوت مزعج ومنه سمى النهر المشهور ببلاد المشرق صرصرًا هذا النهر هو من أحد الأنهار المتفرعة من نهر الفرات، أحد الأنهار في العراق، نهر صغير ليس ببعيد من بغداد يعني بين بغداد والكوفة وبجواره هذه القرية، يقول هنا: ببلاد المشرق صرصرًا لقوة صوت جريه، بجواره قرية تسمى بذلك تسمى "صرصر".

قال: وقوله تعالى: فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ أي: متتابعات سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [سورة الحاقة:7]، وكقوله: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ [سورة القمر:19].

فهنا نحسات يقول: يعني متتابعات، النحس ليس معناه التتابع، هي متتابعات نعم، لكن معنى النحس يختلف عن معنى التتابع، وإنما لمّا كانت متتابعات قال: أي: متتابعات وإلا فهو ليس بتفسير للفظ النحس، فالمقصود بذلك أنها نحسات يعني مشئومات، فِي يَوْمِ نَحْسٍ هذا بالنسبة إلى هؤلاء -نسأل الله العافية.

ومن فسرها بأنها شداد فهو وصف لها بأثرها، كأنه اعتبر الأثر فقال: شداد؛ فإن هذه الأيام التي تهب عليهم فيها هذه الريح الشديدة العاتية التي تدمر كل شيء لا شك أن أثرها ووقعها عليهم شديد وعظيم، فبعضهم قال: نحسات يعني شديدات، وبعضهم فسرها بباردات، وبعضهم فسرها بأنها ذوات غبار، نحسات يعني ذات غبار.

والنحس كما سبق هو ضد السعد، وذلك من قبيل الوصف، ومن ثمّ فما جاء في النهي عن سب الدهر هذا معلوم، فلا يجوز لأحد أن يسب اليوم، أو الساعة، أو الشهر أو غير ذلك، حديث: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر[1]، وأما ما كان من قبيل الوصف فهذا لا إشكال فيه، فيقال: ذلك يوم نحس، كما قال الله : فِي يَوْمِ نَحْسٍ، فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ فما كان من قبيل الوصف فذلك ليس من قبيل سب الدهر، فيجوز إطلاق ذلك وصفًا لليوم لا سبًّا له.

ومسألة الشر وهل في أفعال الله شر؟ أفعال الله ليس فيها شر، والله خلق الخير والشر، ولكنه لا ينسب إليه -تبارك وتعالى، "والشر ليس إليك" من باب التأدب مع الله -تبارك وتعالى؛ فإن أفعاله خير، ولكن الشر يكون في مفعولاته، فهو بالنسبة إلى هؤلاء الناس يكون نحسًا ويكون شرًا ويكون ضررًا عليهم، ولكن الله بالنسبة لأفعاله يتجلى في ذلك عدله وحكمته وما إلى ذلك من المعاني، تظهر فيه معاني بعض أسمائه الحسنى.

مثل المطر هو مظهر من مظاهر الرحمة، وإن كان يتضرر به بعض الناس فتخرب بيوتهم، أو لربما تضررت زروعهم ونحو هذا، لكنه في الجملة هو خير ورحمة ونعمة يفرح به الناس، وإن حصل ضرر، وإن حصل للطرقات والسيارات ما حصل وما إلى ذلك، وهذا لربما سيارته تضررت، أو لربما هذا الطريق تضرر، أو لربما بيته تضرر، أو لربما مزرعته تضررت، لكن في الجملة المطر رحمة، لكن بالنسبة إلى هذا وقع له الضرر، فأفعال الله -تبارك وتعالى- ليس فيها شر، ولكن في مفعولاته ما يكون شرًّا لمن لابسه ووقع له ذلك، والله تعالى أعلم.

قال: وكقوله: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ أي: ابتُدِئوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم.

هذا جواب على سؤال مقدر أن الله قال: "في يوم نحس" وهنا: فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ، سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، فابتُدِئ بيوم واستمر هذه المدة، يعني لم يكن عذابهم في يوم ولكن كان مبتدؤه في يوم هذه صفته.

واستمر بهم هذا النحس سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا حتى أبادهم عن آخرهم، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة؛ ولهذا قال: لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى أي: أشد خزيًا لهم، وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ أي: في الآخرة كما لم ينصروا في الدنيا، وما كان لهم من الله من واقٍ يقيهم العذاب، ويدرأ عنهم النكال.

قال ابن القيم -رحمه الله: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ فَلَا ريب أَن الْأَيَّام الَّتِي أوقع الله سُبْحَانَهُ فِيهَا الْعقُوبَة بأعدائه وأعداء رسله كَانَت أَيَّامًا نحسات عَلَيْهِم؛ لِأَن النحس أَصَابَهُم فِيهَا، وَإِن كَانَت أَيَّام خير لأوليائه الْمُؤمنِينَ، فَهِيَ نحس على المكذبين سعد للْمُؤمنِينَ، وَهَذَا كَيَوْم الْقِيَامَة فَإِنَّهُ عسير على الْكَافرين يَوْم نحس لَهُم، يسير على الْمُؤمنِينَ يَوْم سعد لَهُم، قَالَ مُجَاهِد: أَيَّام نحسات مشائيم، وَقَالَ الضَّحَّاك: مَعْنَاهُ شَدِيد، أَي: شديد الْبرد، حَتَّى كَانَ الْبرد عذَابا لَهُم.

وَقَالَ ابْن عَبَّاس: نحسات: مُتَتَابِعَات، وَكَذَلِكَ قَوْله: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ [سورة القمر:19] وَكَانَ الْيَوْم نحسا عَلَيْهِم لإرسال الْعَذَاب عَلَيْهِم، أَي: لَا يُقْلع عَنْهُم كَمَا تقلع مصائب الدُّنْيَا عَن أَهلهَا، بل هَذَا النحس دَائِم على هَؤُلَاءِ المكذبين للرسل، و"مستمر" صفة للنحس لَا لليوم، وَمن ظن أَنه صفة لليوم وأنه كَانَ يَوْم أربعاء آخر الشَّهْر وَأَن هَذَا الْيَوْم نحس أبداً فقد غلط وأخطأ فهم الْقُرْآن"[2].

يقصد أن ذلك اليوم الذي وقع لهم فيه العذاب هو النحس، لكن لا يستمر ذلك دومًا في هذا اليوم، يعني في الرواية الإسرائيلية أنه وقع هذا في يوم الأربعاء، فمن ثمّ كل أربعاء فهو نحس، وجاء هذا في بعض الروايات التي لا تصح، إنما ذلك اليوم الذي وقع لهم فحسب.

وقال -رحمه الله: "فإن الْيَوْم الْمَذْكُور بِحَسب مَا يَقع فِيهِ، وَكم لله من نعْمَة على أوليائه فِي هَذَا الْيَوْم، وإن كَانَ لَهُ فِيهِ بلايا ونقم على أعدائه، كَمَا يَقع ذَلِك فِي غَيره من الْأَيَّام، فسعود الْأَيَّام ونُحوسها إِنَّمَا هُوَ بسعود الْأَعْمَال وموافقتها لمرضاة الرب، ونُحوس الْأَعْمَال مخالفتها لما جَاءَت بِهِ الرُّسُل، وَالْيَوْم الْوَاحِد يكون يَوْم سعد لطائفة، ونحس لطائفة، كَمَا كَانَ يَوْمُ بدر يَوْمَ سعد للْمُؤْمِنين، وَيَوْمَ نحس على الْكَافرين، فَمَا للكوكبِ والطالعِ والِقراناتِ وَهَذَا السعدِ والنحسِ؟ وَكَيف يُستنبط علم أَحْكَام النُّجُوم من ذَلِك؟ وَلَو كَانَ الْمُؤثر فِي هَذَا النحس هُوَ نفس الْكَوْكَب والطالع لَكَانَ نحساً على الْعَالم، فَأَما أَن يَقْتَضِي الْكَوْكَب كَونه نحسًا لطائفة سَعْداً لطائفة فَهَذَا هو المحال"[3].

قال الشنقيطي -رحمه الله: "الصرصر: وزنه بالميزان الصرفي "فَعْفل"، وفي معنى الصرصر لعلماء التفسير وجهان معروفان:

أحدهما: أن الريح الصرصر هي الريح العاصفة الشديدة الهبوب التي يسمع لهبوبها صوت شديد، وعلى هذا؛ فالصرصر من الصَرّة التي هي الصيحة المزعجة.

ومنه قوله -تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [سورة الذاريات:29] أي: في صيحة، ومن هذا المعنى صرير الباب والقلم أي: صوتهما.

الوجه الثاني: أن الصرصر من الصِّر الذي هو البرد الشديد المحرق، ومنه على أصح التفسيرين قوله -تعالى: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ الآية [سورة البقرة:117]، أي: فيها برد شديد محرق، ومنه قول حاتم الطائي:

أوقِدْ فإنّ الليلَ ليلٌ قُرٌّ والريحَ يا واقدُ ريحٌ صِرُّ
علّ يرى نارَك مَن يمرُّ إنْ جلبتْ ضيفًا فأنتَ حرُّ

فقوله: ريح صِر، أي: باردة شديدة البرد.

والأظهر أن كلا القولين صحيح، وأن الريح المذكورة جامعة بين الأمرين، فهي عاصفة شديدة الهبوب، باردة شديدة البرد.

وما ذكره -جل وعلا- من إهلاكه عادًا بهذه الريح الصرصر في تلك الأيام النحسات -أي: المشئومات النكدات؛ لأن النحس ضد السعد وهو الشؤم- جاء موضحًا في آيات من كتاب الله"[4].

هو فسره هنا بالمشئومات، نحسات يعني مشئومات، وبهذا فسره ابن جرير أيضًا النحسات يعني المشئومات.

وقول الشنقيطي -رحمه الله: "أي: المشئومات النكدات؛ لأن النحس ضد السعد، وهو الشؤم جاء موضحًا في آيات من كتاب الله"، لا ينافي كون أن الإنسان لا يتشاءم، فالشؤم منهي عنه، ولكن الوصف لشيء وقع مما حصل به العذاب والهلاك بذلك لا إشكال فيه، لا أن يتشاءم الإنسان في شيء مستقبل، إذا سمع صوت الغراب أو رأى أحدًا بصورة لا توافقه، كما كانوا يتشاءمون بالطير أو الظباء أو نحو ذلك، أو بأمور أخرى، فهذا لا يجوز، أن يبني في المستقبل على أمور كهذه، لكن في وصف الأشياء الواقعة هذا لا إشكال فيه، فيما وقع الضرر وانتهى، هذه الأمم التي عذبها الله ذلك اليوم بالنسبة إليهم هو يوم مشئوم.

وقال -رحمه الله: وقد بين تعالى في بعضها عدد الأيام والليالي التي أرسل عليهم الريح فيها، كقوله تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ۝ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ۝ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ [سورة الحاقة:6-8].

وقوله تعالى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ۝ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [سورة الذاريات:41، 42]، وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ۝ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ [سورة القمر:19، 20].

وقوله تعالى: هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:24، 25]، وهذه الريح الصرصر هي المراد بصاعقة عاد في قوله تعالى: فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ الآية[5].

فُسرت الصاعقة كما سبق بالشيء المهلك من أي شيء كان، وقد يكون بالريح، فهنا يقول: فسرت بصاعقة عاد.

قال: ولهذا قال تعالى: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى أي: أشد خزيًا لهم، وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ.

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، وابن زيد: بيّنا لهم.

يعني أن المقصود بذلك هديناهم هداية الإرشاد؛ لأنه كما تعلمون الهداية هداية إرشاد وهداية توفيق، فلو كانت هداية توفيق لمَا استحبوا العمى على الهدى، ولكانوا مؤمنين، ولكنهم هنا كذبوا فدل على أن قوله: فَهَدَيْنَاهُمْ يعني أرشدناهم، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [سورة القصص:56] يعني هداية التوفيق، هذه المنفية، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52] هداية الإرشاد.

وقال الثوري: دعوناهم.

هو بالمعنى نفسه، هداية إرشاد.

فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أي: بصرناهم وبينا لهم ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح -عليه الصلاة والسلام- فخالفوه وكذبوه، وعقروا ناقة الله تعالى التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم، فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ أي: بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلًا وهوانًا وعذابًا ونكالًا بما كانوا يكسبون.

الهُون بمعنى الهوان.

قال: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أي: من التكذيب والجحود، وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي: من بين أظهرهم، لم يمسهم سوء ولا نالهم من ذلك ضرر، بل نجاهم الله تعالى مع نبيهم صالح -عليه الصلاة والسلام- بتقواهم لله .

والعلامة الشنقيطي -رحمه الله- جمع بين ما ورد من نصوص القرآن في عقوبتهم وما حل بهم فقال في الأضواء: "واعلم أن الله -جل وعلا- عبر عن الهلاك الذي أهلك به ثمود بعبارات مختلفة، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ، وقوله: فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ.

وعبر عنه أيضا بالصاعقة في سورة "الذاريات" في قوله -تعالى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ۝ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ [سورة الذاريات:43، 44].

وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه، كقوله -تعالى- في سورة "هود" في إهلاكه ثمود: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ۝ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ [سورة هود:67، 68].

وقوله -تعالى- في "الحجر": وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ۝ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [سورة الحجر:82، 83].

وقوله -تعالى- في القمر: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [سورة القمر:31].

وقوله -تعالى- في "العنكبوت": وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ [سورة العنكبوت:40] يعني به ثمود المذكورين في قوله قبله: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ [سورة العنكبوت:38].

وعبر عنه بالرجفة في سورة "الأعراف" في قوله -تعالى: فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الآية [سورة الأعراف:77، 78].

وعبر عنه بالتدمير في سورة "النمل" في قوله -تعالى: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة النمل:51].

وعبر عنه بالطاغية في "الحاقة" في قوله -تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [سورة الحاقة:5].

وعبر عنه بالدمدمة في "الشمس" في قوله -تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا [سورة الشمس:14].

وعبر عنه بالعذاب في سورة "الشعراء" في قوله -تعالى: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ۝ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [سورة الشعراء:157، 158].

ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم، والصيحة الصوت المزعج المهلك.

والصاعقة تطلق أيضا على الصوت المزعج المهلك، وعلى النار المحرقة، وعليهما معًا، ولشدة عظم الصيحة وهولها من فوقهم رجفت بهم الأرض من تحتهم، أي: تحركت حركة قوية، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة، وكون ذلك تدميرًا واضح، وقيل لها: طاغية؛ لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإهلاك.

والطغيان في لغة العرب مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء الآية [سورة الحاقة:11] أي: جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة.

واعلم أن التحقيق أن المراد بالطاغية في قوله تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [سورة الحاقة:5] أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها، كما يوضحه قوله بعده: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [سورة الحاقة:6].

خلافا لمن زعم أن الطاغية مصدر كالعاقبة والعافية، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم، أي: بكفرهم وتكذيبهم نبيهم"[6].

وقال -رحمه الله: وأما قوله -تعالى: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ [سورة الشمس:14] فإنه لا يخالف ما ذكرنا؛ لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم أي: أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه بسبب ذنبهم.

قال الزمخشري في معنى دمدم: وهو من تكرير قولهم: ناقة مدمومة إذا ألبسها الشحم.

وأما إطلاق العذاب عليه في سورة "الشعراء" فواضح، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد"[7].

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ۝ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ۝ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ۝ فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ [سورة فصلت:19-24].

يقول تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار يُوزَعُونَ أي: تجمع الزبانية أولهم على آخرهم كما قال -تبارك وتعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [سورة مريم:86] أي: عطاشًا.

هنا قوله: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ، قال: أي: اذكر لهؤلاء بمعنى أن مثل هذا يكون فيه مقدر محذوف، أي واذكر يوم يحشر أعداء الله إلى النار، وقوله -تبارك وتعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ يقول: أي تجمع الزبانية أولهم على آخرهم -نسأل الله العافية- وقد مضى هذا في الكلام على خبر سليمان وما قصه الله  -تبارك وتعالى- عنه وما كان في جنده لما حُشروا له من الجن والإنس والطير قال: فَهُمْ يُوزَعُونَ، ومعنى ذلك أنه يردّ أولهم على آخرهم، حتى لا يتفرقون ويتشتتون؛ لكثرتهم، فإنه يرد بعضهم إلى بعض بحيث يكون سيرهم بحال من الاجتماع والانتظام.

فهؤلاء الزُّمر الذين يساقون إلى النار -نسأل الله العافية، فهم يساقون مجموعات، وهذه المجموعات تسوقهم الملائكة سوقًا عنيفًا شديدًا يضربون وجوههم وأدبارهم، يردون بعضهم إلى بعض بحيث يسيرون سيرًا مجتمعًا، يعني مثل الغنم أو الدواب التي تسير وهي قطيع وجَمْع فبعضها قد يسبق، وبعضها قد يتأخر، فيرد بعضها إلى بعض من أجل أن تلتئم في سيرها وتجتمع، فَهُمْ يُوزَعُونَرد أولهم على آخرهم، هنا تصور التعبير بالفعل المضارع يُوزَعُونَ كأنك تشاهد الملائكة ترد بعضهم على بعض؛ ليُرد المتقدم أو المفترق عنهم إلى المجموع.

قال: وقوله : حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا أي: وقفوا عليها، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: بأعمالهم مما قدموه وأخروه لا يكتم منه حرف.

يعني هنا في قوله: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، الجلود: الذي عليه عامة المفسرين من السلف والخلف وهو الظاهر المتبادر من القرآن أنها الجلود المعروفة، تشهد، خلافًا لمن قال: إن المراد بالجلود الفروج، أنها تشهد عليهم بما قارفوا من الحرام، وهذا قال به الفراء، ولكن هذا خلاف الظاهر المتبادر، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ فذكر هذه الأذنين والعينين والجلود فهذه خمس على سبيل التفصيل، وثلاث على سبيل الإجمال.

فكلٌّ يشهد عليهم، كل شيء يشهد عليهم، حتى الألسنة ذكر الله -تبارك وتعالى- أنها تقر في النهاية حينما ينكرون في البداية ويقولون: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] فعند ذلك يُختم على الأفواه فتنطق الجلود والأرجل والأيدي فيقول: أبعدكنّ الله عنكنّ كنتُ أناضل[8]، فيقلن: أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فعند ذلك يقر ويعترف، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [سورة النور:24] فهذا لا تعارض فيه بين ما جاء من إنكارهم وجحودهم مع قوله: تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ فهذه شهادة بالألسن بعدما تنطق الجلود والجوارح ولا يبقى للإنكار موضع -والله المستعان، فيقر ويعترف.

شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ فذكر هذه الأشياء السمع والبصر والجلود؛ لأنها الأكثر ملابسة واستعمالًا في المعصية والمنكر، فإذا كان الإنسان يشاهد ما حرم الله -تبارك وتعالى، أو يسمع ما حرم الله فإن جوارحه تتحرك تجاه ذلك المنكر وتطلبه، فيكون ملابسًا له ببشرته، يواقع المنكر ويلابسه، وهذه الملابسة في الجلد، سواء كان ذلك بيده أو برجله أو بفرجه أو غير ذلك، فتشهد عليهم الجلود.

مع أن بعضهم يقول أشياء قريبة من هذا، يعني كأن يقال مثلًا: إن هذه الأشياء إما أن تكون مرئية، أو مسموعة، أو تقع على باقي الحس، كاللمس والذوق باللسان يرجع إلى هذا.

قال: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا أي: لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم، فعند ذلك أجابتهم الأعضاء: قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي: فهو لا يخالَف ولا يمانع، وإليه ترجعون، روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس بن مالك قال: ضحك رسول الله ﷺ ذات يوم وتبسم، فقال ﷺ: ألا تسألوني عن أي شيء ضحكتُ؟، قالوا: يا رسول الله، عن أي شيء ضحكت؟

قال ﷺ: عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: أي ربي أليس وعدتني ألا تظلمني؟ قال: بلى، فيقول: فإني لا أقبل عليّ شاهدًا إلا من نفسي، فيقول -تبارك وتعالى: أوليس كفى بي شهيدًا وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيردد هذا الكلام مرارًا، قال: فيُختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول: بعدًا لكنّ وسحقًا، عنكنّ كنت أجادل[9] رواه هو وابن أبي حاتم وقد أخرجه مسلم والنسائي.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي بردة قال: قال أبو موسى: ويُدعى الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه ربه عمله فيجحد ويقول: أي ربي وعزتك لقد كتب عليّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول له الملك: أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول: لا، وعزتك يا ربي ما عملته، قال: فإذا فعل ذلك خُتم على فيه، قال الأشعري : فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى.

وقوله تعالى: وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ أي: تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم: ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه، بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي ولا تبالون منه في زعمكم؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم، ولهذا قال تعالى: وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ۝ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ أي: هذا الظن الفاسد، وهو اعتقادكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرًا مما تعملون هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم.

فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ أي: في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم، روى الإمام أحمد عن عبد الله  قال: كنت مستترًا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشيٌّ وخَتَناه ثقفيان، أو ثقفي وخَتَناه قرشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم.

الخَتَن يعني أقارب الزوجة من أب وأخ يقال له: خَتَن.

قال: فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمع، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئًا سمعه كله، قال: فذكرت ذلك للنبي ﷺ، فأنزل الله : وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ إلى قوله: مِّنْ الْخَاسِرِينَ[10]، وهكذا رواه الترمذي، وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي أيضًا بنحوه، ورواه البخاري ومسلم.

قال ابن القيم -رحمه الله- في قوله: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ: "فهؤلاء لما ظنّوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرًا مما يعملون كان هذا إساءةً لظنهم بربهم، فأرداهم ذلك الظن.

وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله ووَصَفه بما لا يليق...

فيالله! ما ظنُّ أصحابِ الكبائر والظَّلَمةِ بالله إذا لقُوه، ومظالم العباد عندهم؟...

ومن تأمل هذا الموضع علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه"[11].

لا يكون ممن يقول: أنا أحسن الظن بالله، والله غفور رحيم، ويسيئ العمل.

وقال -رحمه الله: "فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعمالٍ ويثيبه عليها، ويتقبلها منه، فالذي حمله على العمل حسن الظن، وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز، كما في الترمذي من حديث شداد بن أوس عن النبي ﷺ: الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله[12]، وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة"[13].

قال الإمام ابن كثير: وقوله تعالى: فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ، أي: سواء عليهم صبروا أم لم يصبروا هم في النار لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويُبدوا أعذارًا فما لهم أعذار، ولا تقال لهم عثرات.

قال ابن جرير: ومعنى قوله تعالى: وَإِن يَسْتَعْتِبُوا أي: يسألوا الرجعة إلى الدنيا فلا جواب لهم، قال: وهذه كقوله تعالى إخبارًا عنهم: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ۝ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ۝ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:106-108].

كأن ابن جرير -رحمه الله- فسره بلازم معناه، "وإن يستعتبوا" هم يطلبون ذلك من أجل أن يعادوا ثانية، فهذا لازم المعنى، وليس هو معنى الاستعتاب، وإنما الاستعتاب تقول: أعتبني فلان يعني استرضاني حتى رضيت، لك العتبى حتى ترضى، فاستعتبني: أرضاني بعد إسخاطه إياي، واستعتبته: طلبت منه أن يرضى، يقولون: استعتبته فأعتبني يعني استرضيته فأرضاني.

فهنا وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ يعني أنهم إن طلبوا أن الله -تبارك وتعالى- يرضى عنهم أن يسامحهم، يعفو عنهم ويتجاوز عنهم فإنهم لن يحصل لهم ذلك، فهنا قال: وإن طلبوا أن يستعتبوا، ويُبدوا أعذارًا فما لهم أعذار، ولا تقال لهم عثرات "وإن يستعتبوا" يعني بحيث إنه يُطلب منهم الاعتذار فيعتذرون، يعتذرون من أجل الخلاص أو الرجعة ولن يحصل لهم ذلك.

والمعاتبة تارة تكون من أجل أن يبدي عذره فيُقبل، وتارة تكون من أجل التبكيت، وذلك حيث لا يقبل العذر، يعني حينما يقال: ما الذي حملك على هذا؟؛ ليعتذر فيقبل عذره فهذا لون، واللون الآخر أن يقال له: ما حملك على هذا؟ على سبيل التبكيت، لا ليبدي عذره فضلًا عن أن يقبل هذا العذر، يعني القائل لا يريد أن يسمع أصلًا العذر، وإنما يريد أن يبكته، ولهذا يقولون مثلًا: كثرة العتاب جالبة للعداوة أو النفرة أو نحو ذلك، أي: العتاب المقصود به من أجل أن يقدم عذره؟ لا، إنما العتاب الذي يكون على سبيل التبكيت كأنه يضربه بسوط، يقرعه، يعني كثرة الملامة، الحافظ ابن القيم تكلم على الاستعتاب والعتاب، وأعتبه وأعتبته، وفصّل فيها جاء بالاستعمالات كلها، يُرجع إليها في كتبه.

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ۝ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [سورة فصلت:25-29].

يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته وهو الحكيم في أفعاله بما قيض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن.

قوله -تبارك وتعالى: "وقيضنا لهم قرناء" العبارات التي فسر بها ذلك متقاربة ترجع إلى شيء واحد، التقييض بمعنى التهيئة، يعني هيأنا لهم قرناء، هؤلاء القرناء من الشياطين، وهذا الذي عليه عامة المفسرين، وبهذا قال جماعة من المحققين كابن القيم -رحمه الله- والشنقيطي، وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء، أي شياطين كما قال الله -تبارك وتعالى: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [سورة الزخرف:36].

فهذا بسبب جرمهم وهو من عدله -تبارك وتعالى، ولم يكن ظالمًا لهم، وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ يعني يعرض عنه ويعمى عنه، فإن الله يعاقبه بطمس بصيرته، ويقيض له من الشياطين من يدفعه إلى المنكر والكفر دفعًا حتى يلقى الله -تبارك وتعالى- وهو على ذلك، كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:201، 202] يعني إخوان الشياطين، يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ما تحصل لهم توبة ورجوع عما هم فيه، فيبقى الواحد منهم على غيه تمده الشياطين.

وهو يرى الموت أمام عينيه صباح مساء، وهو في أواخر حالات المرض يلقى الهلاك، يراه ويوقن، ربما يقول له الأطباء: ما بقي لك إلا أيام، ومع ذلك لا يتوب ولا يرجع، وهو على باطله -نسأل الله العافية- وضلاله، وفساده وإفساده إلى أن يموت، فالناظر لأول وهلة يستغرب ويقول: يرى الموت أمامه ولا يتوب؟! في آخر لحظاته؟! والسبب وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ يتوب من ماذا؟ زُين له هذا العمل السيئ، يرى أن عمله هذا جيد، ليس فيه ما يوجب التوبة -نسأل الله العافية، فيلقى الله على أسوأ حال.

قال: فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ أي: حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين، كما قال تعالى: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الزخرف:36، 37].

فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْكما سبق في مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [سورة المائدة:48]، وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [سورة الأحقاف:21]، فهنا ما المراد بقوله -تبارك وتعالى: فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ؟

الذي عليه الجمهور أن مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني من شهوات الدنيا، زينوا لهم المعاصي، والكفر، والشهوات، وما إلى ذلك من محادة الله -تبارك وتعالى، وَمَا خَلْفَهُمْ يعني الآخرة أنه ليس ثمّة حساب ولا بعث ولا جنة ولا نار، فيفعل الإنسان ما يحلو له، هذا قول الجمهور، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وابن القيم -رحمه الله- لما ذكر هذا القول لم يرجحه ترجيحًا واضحًا، ولكن وصفه بأنه مستقيم ظاهر، لكنه يحتاج إلى تقدير.

فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وهذا الذي رجحه أيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْمن المعاصي والشهوات، وَمَا خَلْفَهُمْ يعني في الآخرة من كونه لا حساب ولا بعث ولا نشور.

وقيل غير هذا، لكن هذا المشهور، وهذا الذي عليه عامة المفسرين من السلف فمن بعدهم.

وإلا فإن بعضهم يقول: مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني ما عملوا، وَمَا خَلْفَهُمْ مما عزموا على فعله ولم يفعلوه بعد، فزينوا لهم أعمالهم التي عملوها أنها جيدة، وما عزموا عليه أنه حسن وصواب وحق وما أشبه ذلك، فهذا القول كأن ابن القيم -رحمه الله- يميل إليه ويستحسنه، وإن لم يؤيده بقوة، لكن كلامه يشعر أنه يميل إلى هذا، يعني كأنه يقول: هذا الأليق بالسياق أو بالمعنى في الآية، وبه قال بعض أصحاب كتب المعاني كالزجاج، فيكون ما بين أيديهم مما عملوا، وما خلفهم ما عزموا عليه من الأعمال.

وبعضهم عكس المعنى، الأول ما بين أيديهم يعني من أمر الآخرة أنه لا حساب ولا عقاب، وما خلفهم مما كان في الدنيا مما صدر منهم من الأعمال، والله أعلم.

قال: وقوله تعالى: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ممن فعل كفعلهم من الجن والإنس.

حق القول يعني وجب وثبت، وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [سورة السجدة:13] فهذا معنى حق القول "ولكن حق القول" يعني ثبت ووجب، وهو أن الله -تبارك وتعالى- حكم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص:85] كما حق على أمم قد خلت من قبلهم، "على أمم" يمكن أن تكون "على" بمعنى "في"، ويمكن أن تكون بمعنى "مع" يعني كما حق مع أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، وهذا قال به ابن القيم -رحمه الله.

وهذا يدل على أن الجن كالإنس في مسألة الثواب والعقاب، وأنهم مثل الإنس يموتون، وينقضون جيلًا بعد جيل، فتلك أمم خلت من الجن كما تخلو أمم أيضًا من الإنس.

وكأن ابن القيم -رحمه الله- يفسر هنا "في أمم" بمعنى مع أمم، "وحق عليهم القول في أمم" يعني مع أمم.

إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ أي: استووا هم وإياهم في الخسار والدمار، وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ أي: تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا للقرآن ولا ينقادوا لأوامره.

هنا فسره كما فسره الكثيرون بأن النهي عن السماع يعني سماع الاستجابة لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ، لا تنقادوا له، وهذا من لازم السماع، فإنهم نهوهم عن سماعه أصلًا؛ لأنه قال: وَالْغَوْا فِيهِ حتى لا يطرق سمعهم فيتأثرون به، فالواقع -والله أعلم- أنه نهيٌ عن السماع من أصله، لا تسمعوا لهذا القرآن؛ ولهذا غضبوا على أبي بكر لما كان يقرأ القرآن، ثم صار يقرؤه بفناء بيته، فصاروا يسمعون وشكوا ذلك، فهم كانوا يتواصون، وهكذا لما كان يسمع بعضهم النبي ﷺ عند الكعبة يستخفون ليسمعوا، ويتواصون ألا يكرروا ذلك، فالنهي عن السماع من أصله، ومن ثمّ فإن هذا يقتضي النهي عن الاستجابة من باب أولى.

قال: وَالْغَوْا فِيهِ أي: إذا تُلي لا تسمعوا له كما قال مجاهد، وَالْغَوْا فِيهِ يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله ﷺ إذا قرأ القرآن.

المكاء يعني التصفير، وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء [سورة الأنفال:35] يعني التصفير، وَتَصْدِيَةً يعني التصفيق، فهنا "والغوا فيه" يعني أنهم يقولون ما يشوش على القارئ والسامع فلا يعقل منه شيئًا سواء كان ذلك بتصفير أو تصفيق أو صرف الأصوات، فعل السفهاء من أجل ألا يُعقل منه شيء ولا يُسمع، وبعضهم يقول: "والغوا فيه" يعني قولوا فيه ما يلبس ويشكك وما إلى ذلك من الأغاليط والأباطيل.

قال: قريش تفعله،لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن.

من كان خاوي الوفاض من الحجة والبرهان فليس أمامه إلا رفع الصوت لعله يغلب بصوته، لذلك تجد في بعض المناظرات والتي تذاع في بعض القنوات ونحو ذلك تجد أن البعض في حالة غير عادية، يعني كأنه قد سُلب عقله، يرفع صوته بطريقة لا يريد من الطرف الآخر أن يتكلم أو يسمع، وإنما ضجيج يريد أن يقضي الوقت بهذا، فهذا ليس عنده إلا هذا الصوت المرتفع.

قال: ولذلك أمر الله بخلاف ذلك، فقال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة الأعراف:204]، ثم قال منتصرًا للقرآن ومنتقمًا ممن عاداه من أهل الكفران: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا أي: في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعه، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَأي: بشرِّ أعمالهم وسيئ أفعالهم.

يعني بأسوأ الأعمال ما هو؟ بعضهم فسره بالشرك، هو أسوأ الأعمال، قال به جماعة من السلف، وبه قال مقاتل، وبعضهم يقول: الشرك وسائر المعاصي والذنوب والجرائم باعتبار أن لهم من الأعمال ما هو حسن كالصلة والبر والصدقة وما إلى ذلك، فإنهم لا يثابون في الآخرة، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23] فأعمال هؤلاء باطلة وداحضة وذاهبة وأعمالهم كرماد، فلا يبقى من هذه الأعمال شيء، وإنما يجازون بمساوئ الأعمال لا بمحاسنها، والله تعالى أعلم.

ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل "أسوأ" هنا ليست على بابها، وإنما المقصود مطلق الاتصاف، يعني بسيئ أعمالهم، وقد مضى الكلام على قوله -تبارك وتعالى: بِأَحْسَنِ [سورة الزمر:35] بالنسبة للمؤمنين، الّذي كَانُوا يَعْمَلُونَ ما المراد به؟ هل ترقى باقي الأعمال الصالحة إلى الأحسن من أعمالهم كرمًا من الله وتفضلًا، أو أن المقصود بذلك أن أعمالهم يكون منها ما هو طاعة ومنها ما هو معصية فالله يجازيهم على الطاعات، ويتجاوز عن السيئات، وهكذا الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَه [سورة الزمر:18] مضى الكلام في هذا هل المقصود مطلق الاتصاف يتبعون الحَسن؟ أو أن المقصود به القرآن ففيه العدل، وفيه الفضل، فيأخذون بالفضل؟ يعني مثلًا وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [سورة الشورى:40]، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فالجزاء بالسيئة هذا عدل، والعفو والصفح هذا فضل، فيستمعون القول فيتبعون أحسنه، أو من جملة كلام الناس، فكلام الناس فيه لغو، وفيه أشياء، فيأخذون منه الأفضل والأحسن والأنفع.

قال: ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [سورة فصلت:28، 29].

قال سفيان عن علي في قوله تعالى: الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا قال: إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه، وقال السدي عن علي : فإبليس يدعو به كل صاحب هوى وكل صاحب شرك، وابن آدم يدعو به كل صاحب كبيرة، فإبليس الداعي إلى كل شر من شرك فما دونه، وابن آدم الأول كما ثبت في الحديث: (ما قُتلت نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل[14].

هذا قال به كثير من السلف، أن المقصود ابن آدم الذي قتل أخاه فيكون أول من سن القتل، وإبليس، وقيل: إن ذلك يشمل شياطين الإنس والجن أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا يعني من الجن والإنس، شيطان الإنس والجن، وإن كل أحد كما أخبر النبي ﷺ قد وُكل به قرين من الجن[15]، فهنا في قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا هكذا قراءة الجمهور، وفي قراءة لأبي عمرو من بعض الطرق بإسكان الراء أرْنَا، وهي أيضًا قراءة ابن عامر، بعضهم يقول: المعنى واحد في القراءتين "أرِنا" و"أرْنا"، وبعضهم يقول: إنها بالإسكان بمعنى أعطنا، وبالكسر من الرؤية "أرِنا"، ولعل منه قول الشاعر:

أرْنَا إداوةَ عبد الله نملؤها من ماء زمزمَ إنّ القوم قد ظمئوا

أرْنا يعني أعطنا، وبعضهم يقول: معنى القراءتين واحد.

وقولهم: نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا أي أسفل منا في العذاب؛ ليكونا أشد عذابًا منا، ولهذا قالوا: ليكونا من الأسفلين أي: في الدرك الأسفل من النار كما تقدم في الأعراف في سؤال الأتباع من الله تعالى أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:38] أي: إنه تعالى قد أعطى كلًّا منهم ما يستحق من العذاب والنكال بحسب عمله وإفساده، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [سورة النحل:88].

هم يريدون التشفي بذلك، وليس بنافعهم -نسأل الله العافية.

  1. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [سورة الجاثية:24] الآية، برقم (4826)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246).
  2. مفتاح دار السعادة (2/ 194).
  3. المصدر نفسه.
  4. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 16-17).
  5. المصدر نفسه (7/ 17).
  6. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 21-23).
  7. المصدر نفسه (7/ 23).
  8. رواه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969).
  9. رواه البزار في مسنده، برقم (7476)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (3975).
  10. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة حم السجدة، برقم (3249)، وأحمد في المسند، برقم (3614)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، واللفظ له، والبخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ [سورة فصلت:22]، برقم (4816)، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2775).
  11. الداء والدواء ط المجمع (46-48)، بتصرف.
  12. رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2459)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد، برقم (4260)، وأحمد في المسند، برقم (17123)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف أبي بكر بن أبي مريم، وباقي رجال الإسناد ثقات، علي بن إسحاق: هو المروزي، وضمرة بن حبيب: هو ابن صُهيب الزُّبَيدي أبو عتبة الحمصي"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (4305).
  13. الداء والدواء (48، 49).
  14. رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم -صلوات الله عليه- وذريته، برقم (3335)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب بيان إثم من سن القتل، برقم (1677).
  15. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (1017)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (5143)، وقال محققه حسين سليم أسد: إسناده صحيح، والبزار في مسنده، برقم (1871).

مواد ذات صلة