الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[9] من قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} الآية 7 إلى قوله تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} الآية 11
تاريخ النشر: ٠٤ / ذو الحجة / ١٤٢٦
التحميل: 3586
مرات الإستماع: 2189

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه:

قد تقدم في حديث أميري المؤمنين عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب - وأرضاهم- أن رسول الله ﷺ غسل الرجلين في وضوئه إما مرة وإما مرتين، أو ثلاثاً، على اختلاف رواياتهم.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو -ا- قال: تخلف عنا رسول الله ﷺ في سفرة سافرناها فأدرَكَنا وقد أرهقتنا الصلاةُ -صلاةُ العصر- ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار[1] وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة [2] وفي صحيح مسلم عن عائشة -ا- عن النبي ﷺ أنه قال: أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار[3].

وعن عبد الله بن الحارث بن جزء أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعْقَاب وبُطون الأقدام من النار رواه البيهقي والحاكم وهذا إسناد صحيح[4].

وقد روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي ﷺ وقال: ارجع فأحسن وضوءك.

وروى الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ قد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له رسول الله ﷺ: ارجع فأحسن وضوءك[5].

وروى الإمام أحمد عن بعض أزواج النبي ﷺ -ون- أن رسول الله ﷺ رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لُمْعَة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله ﷺ أن يعيد الوضوء ورواه أبو داود من حديث بقية، وزاد: والصلاة وهذا إسناد جيد قوي صحيح[6] والله أعلم.

وفي حديث حمران عن عثمان –- في صفة وضوء النبي ﷺ: أنه خلل بين أصابعه[7].

وروى أهل السنن عن لقِيط بن صبرة قال، قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء: فقال: أسبغ الوضوء، وخَلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً[8].

روى الإمام أحمد بن حنبل عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله ﷺ توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة[9] وقد رواه أبو داود عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله ﷺ أتى سُبَاطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه[10].

وروى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البَجَلي قال: أنا أسلمت بعد نزول المائدة، وأنا رأيت رسول الله ﷺ يمسح بعد ما أسلمت، تفرد به أحمد[11].

وفي الصحيحين عن هَمَّام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله ﷺ بال ثم توضأ ومسح على خفيه، قال الأعمش: قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، لفظ مسلم[12].

وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله ﷺ مشروعية المسح على الخفين قولاً منه وفعلاً.

وقوله تعالى: وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ [سورة المائدة:6] كل ذلك قد تقدَّم الكلام عليه في تفسير آية النساء فلا حاجة بنا إلى إعادته؛ لئلا يطول الكلام، وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك، لكن البخاري روى هاهنا حديثا خاصاً بهذه الآية الكريمة، فقد روى عن عائشة -ا- قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ رسول الله ﷺ ونزل، فثنى رأسه في حجري راقدًا، فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة، وقال: حبست الناس في قلادة، فتمنيت الموت لمكان رسول الله ﷺ مني، وقد أوجعني، ثم إن النبي ﷺ استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجَد، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ [سورة المائدة:6] إلى آخر الآية، فقال أسَيْد بن الحُضَير -: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركة لهم[13].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكثير من التفاصيل التي تضمنتها هذه الآية مضت في الكلام على سورة النساء، وعلى كل حال ليس المقصود من مثل هذه القراءة التوسع في الأحكام، وما قد يحتاج إلى تعليق هنا هو أن الله قال هنا في سورة المائدة: فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ [سورة المائدة:6] فـ"مِن" هنا تحتمل أن تكون تبعيضية، وبهذا احتج من قال: إنه لا بد أن يعلق شيء من هذا الصعيد باليد، وهو قول الإمام أحمد -رحمه الله- والشافعي، وطائفة من أهل العلم، ومن قال: إنها لابتداء الغاية قال: لا يشترط أن يعلق بيده شيء، وهو أيضاً قول معروف قال به من الأئمة الإمام مالك وأبو حنيفة، وعلى كل حال هذه مسألة معروفة.

وقوله: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ [سورة المائدة:6] أي: فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر، بل أباح التيمم عند المرض، وعند فقد الماء، توسعة عليكم ورحمة بكم وجعله في حق من شرع الله يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه، كما تقدم بيانه، وكما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير.

وقوله تعالى: وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة:6] أي: لعلكم تشكرون نعمَه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة.

وقد وردت السنة بالحثِّ على الدعاء عقب الوضوء بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروّحتها بعشيٍّ، فأدركت رسول الله ﷺ قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة قال: قلت: ما أجود هذا! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود منها، فنظرت فإذا عمر فقال: إني قد رأيتك جئت آنفاً، قال: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ -أو فيسبغ- الوضوء، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء لفظ مسلم[14].

وروى مالك عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطْر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء -أو مع آخر قطْر الماء- حتى يخرج نقياً من الذنوب [رواه مسلم][15].

وروى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله ﷺ قال: الطَّهور شَطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جنة، والصبر ضياء، والصدقة بُرهان، والقرآن حُجَّة لك أو عليك، كلُّ الناس يَغْدُو، فبائع نفسه فَمعتِقهَا أو مُوبِقُهَا[16].

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور[17].

ابن جرير –رحمه الله- له كلام فيما يتعلق بالرجْلين وهي فائدة لو سافر أحد إلى أقصى الشرق أو أقصى الغرب من أجلها لما كان كثيراً، وعلى كل حال فالمشهور عن ابن جرير -الذي يُتناقل عنه- أنه يقول بمسح الرجلين إلا أن الصواب خلافه، فلنقرأ كلام ابن جرير -رحمه الله- حول هذه المسألة.

قال أبو جعفر –رحمه الله: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأه جماعة من قرأة الحجاز والعراق: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [سورة المائدة:6] نصباً، فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إلى المرافق وأرجلَكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم، وإذا قرئ كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم وتكون الأرجل منصوبة عطفاً على الأيدي، وتأول قارئو ذلك كذلك أن الله -جل ثناؤه- إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها.

وقال: وقرأ ذلك آخرون من قرأة الحجاز والعراق: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) [سورة المائدة:6] بخفض الأرجل، وتأول قارئو ذلك كذلك أنّ الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها وجعلوا الأرجل عطفاً على الرأس فخفضوها لذلك.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله -عزّ ذكره- أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم.

ابن جرير ذكر القولين والآن سيرجح، حيث إن طريقته –رحمه الله- أنه كثيراً ما يذكر القولين والثلاثة والأربعة ثم يذكر ترجيحه الذي يجمع فيه بين هذه الأقوال، فهو لا يقتصر على واحد منها في كل حال، وإنما أحياناً يرجح واحداً وأحياناً يجمع بين هذه الأقوال بوجه من الجمع.

كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم، وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقاً اسم ماسحٍ غاسلٍ؛ لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء، ومسحهما إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح.

ولذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض والآخر مسح بالجميع.

اختلفت قراءة القرأة في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ [سورة المائدة:6] فنصبها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل.

يقول: إن الآية محتملة للمسح ببعض والمسح بالجميع، وقوله: مسح ببعض هو القول الثاني في المسألة التي ذكرها وهو ما يفعله الرافضية حيث يرون مسح ظاهر الرجل كما يمسح في التيمم.

وقوله: "والآخر مسح بالجميع" يعني مسح مع الغسل بحيث يمر يده عليها، وهذه الصورة من الفقهاء من يجعلها واجباً وأن الغسل يُطلب فيه دلك العضو ولا يكفي إمرار الماء عليه، ولا يقال له غسل أصلاًِ إلا بسيلان الماء على العضو.

فنصبها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكاراً منه المسح عليهما مع تضافر الأخبار عن رسول الله ﷺ بعموم مسحهما بالماء.

لم تتضافر الأخبار عن النبي ﷺ أنه مسح عليهما بمعنى المسح المعروف وإنما يقصد به الدلك ولذلك جاء استحباب تخليل الأصابع.

وخفضها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح، ولما قلنا في تأويل ذلك إنه معنيّ به عموم مسح الرجلين بالماء، كره من كره للمتوضئ الاجتزاءَ بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده.

مجرد صب الماء على الرجلين يقول: إنه كرهه بعضهم أي لأنه لا بد من إمرار اليد مع إمرار الماء على العضو، وليس المقصود أنه يمسح مسحاً مجرداً كما هو مشهور عنه.

كره من كره للمتوضئ الاجتزاءَ بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد توجيهاً منه قوله: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [سورة المائدة:6] إلى مسح جميعهما عامًّا باليد أو بما قام مقام اليد دون بعضهما مع غسلهما بالماء، فإذا كان المسحَ المعنيان اللذان وصفنا من عموم الرجلين بالماء وخصوص بعضهما به وكان صحيحًا بالأدلّة الدالة التي سنذكرها بعدُ أنّ مراد الله من مسحهما العموم وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل والمسح فبيِّنٌ صواب قرأة القراءتين جميعًا -أعني النصب في الأرجل والخفض-؛ لأن في عموم الرجلين بمَسحهما بالماء غسلهما وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحهما.

قوله: "لأن في عموم الرجلين بمَسحهما بالماء غسلُهما وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحُهما"، يعني أن هذا هو الجمع بين القراءتين، فعلى الجر: أن تمر يدك عليهما، وعلى النصب: أن تغسلهما بصب الماء عليهما.

فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصباً لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما، ووجهُ صواب قراءة من قرأ خفضاً لما في ذلك من إمرار اليد عليهما أو ما قام مقام اليد مسحاً بهما غير أنّ ذلك وإن كان كذلك وكانت القراءتان كلتاهما حسناً صواباً فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضًا؛ لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت ولأنه بعد قوله: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ فالعطف به على الرءوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي، وقد حيل بينه وبينها بقوله: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ [سورة المائدة:6].

فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم دون أن يكون خصوصًا، نظيرَ قولك في المسح بالرأس؟ قيل: الدليل على ذلك تظاهرُ الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال: ويل للأعقاب وبُطون الأقدام من النار[18] ولو كان مسح بعض القدم مجزئاً من عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما تُرك مسحه منها بالماء بعد أن يُمسح بعضها؛ لأن من أدَّى فرض الله عليه فيما لزمه غسلُه منها لم يستحق الويل، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل، وفي وجوب الويل لعَقِب تارك غسل عَقِبه في وضوئه أوضحُ الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء وصحة ما قلنا في ذلك، وفساد ما خالفه.

الكلام واضح منه أن ابن جرير –رحمه الله- يرجح قراءة الجر من جهة المعنى ومن جهة الإعراب؛ لأن فيها الجمع بين الغسل والمسح أي بأن تصب الماء عليها وتمر اليد، ويقول: لأن ذلك يرجع إلى ما قبله: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُِمْ) فيكون معطوفاً على الذي قبله فلا يخالف بينه وبينه في الإعراب، هذا هو معنى كلام ابن جرير إذا أخذت كلامه بمجموعه بأن ضممت الكلام بعضه إلى بعض، ومعروف أن أسلوب ابن جرير -رحمه الله- ومن كان في عصره مثل ابن قتيبة وأمثالهما كانوا يكتبون بهذه الطريقة. 

وهذه الطريقة تعتبر في زمانهم طريقة راقية في الأسلوب والتعبير والخطاب، والناس لم يكونوا يعهدونها في الأزمان التي بعدهم، ولذلك يجد القارئ إشكالات أثناء القراءة، ولهذا فإن الشيخ محمود شاكر -رحمه الله- كما قال بعض المحققين الكبار عنه: إنه يستحق أن يعطى رسالة دكتوراه فخرية لمجرد علامات الترقيم التي وضعها في تحقيقه لابن جرير؛ لأن تفسير ابن جرير بدون علامات الترقيم التي وضعها يشكل فهم كثير من المواضع فيه فلا تفهم المراد، لكن لما يضع شرطة في مكان معين دلَّ ذلك على أن الكلام الآن يتصل بما قبله وأن ما سبق فيه نوع تفصيل، وهكذا أحياناً لا تستطيع أن تفهم المعنى حتى تفكر في الكلام الذي قاله قبلُ وتضم بعض الجمل إلى بعض فترجع هذه هنا وهذه هنا وتعيد الصياغة حتى تفهم، فربما كان هذا سبب استشكال بعض كلام ابن جرير في التفسير مع أن عباراته واضحة إذا جمعناها إلى غيرها من خلال ذكره تضافر الأخبار عن رسول الله ﷺ بالمسح، وذكره حديث: ويل للأعقاب من النار[19].

وإذا كانت الآية على قراءة الجر يمكن أن يفهم منها مجرد المسح فهي تحتمل هذا المعنى، لكن السنة مفسرة للقرآن فلا بد من الجمع بينهما، وإلا فمن أين عرفنا استحباب تخليل الأصابع وتخليل اللحية في الوضوء وكذلك بعض التفاصيل الأخرى المتعلقة بالوضوء مما لم يذكر في الآية؟!

والمضمضة والاستنشاق هل هي داخلة في غسل الوجه أو أنها أمر زائد عرف من السنة؟ وهكذا فالسنة مفسرة للقرآن، فلو بقينا مع الآية بمفردها فقد يفهم منها هذا على قراءة الجر، ولكن ويل للأعقاب من النار ووضوء النبي ﷺ كل هذا يدل على أنه لا يجزئ المسح بل لا بد من الغسل.

وبعض أهل العلم قال: القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالآية بقراءتيها دلت على الحالتين بالنسبة للرجْل، فإن كانت مكشوفة فالغسل وإن كان لها الجورب أو الخف فالمسح -أيْ بقراءة الجر، وبعضهم قال: إن هذا عبر به بالمسح من أجل أن لا يكون هناك إسراف؛ لأن الرجل مظنة لصب الماء الكثير، هكذا فهم بعضهم، وبعضهم قال غير هذا.

ومن قال بأن المراد بالمسح من الآية المسح على الخفين فهذا قول له وجه، وكلام ابن جرير –الغسل مع المسح- أيضاً له وجه.

وهذه الآية مثل قوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ [سورة البقرة:222] فعلى القراءة الأخرى: (ولا تقربوهن حتى يطَّهَّرن)، فعلى القراءة الأولى يقال: انقطاع الدم، وعلى الثانية: الاغتسال.

وعلى كل حال فعلى القراءتين لا يجوز إتيان المرأة إلا إذا تحقق الأمران معاً –انقطاع الدم والاغتسال- ويحتج لذلك من نفس الآية ومن السنة؛ أي أن القراءة الأولى لا تدل على جواز الإتيان قبل الاغتسال لأن الله قال: وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ثم قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ أي فلا يأتيها قبل تحقق الأمرين، وهذا قول الجمهور.

وفي آية الوضوء يقول ابن جرير: إن كل واحدة من القراءتين دلت على جزء من الطهارة، فهذه دلت على الغسل بإجراء الماء، والثانية بدلك العضو، أي إمرار اليد عليه.

وعند ابن جرير وطائفة من أهل العلم أنه لا يكفي في الغسل أن تدخل يدك أو رجلك تحت الماء في الوضوء وتصب عليه الماء وإنما لا بد عندهم من الدلك سواء الرجل واليد والوجه.

وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۝ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة المائدة:7-11].

يقول تعالى مُذكرًا عباده المؤمنين نعمتَه عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه فقال تعالى: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة المائدة:7] وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله ﷺ عند إسلامهم كما قالوا: بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وقال الله تعالى: وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة الحديد:8].

وقيل: هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد ﷺ والانقياد لشرعه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا.

القول الأول هو المتبادر وهو الأرجح الذي عليه الجمهور من المفسرين، فالله يخاطب أهل الإيمان بقوله: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة المائدة:7] وليس هذا خطاباً لليهود.

ومن أهل العلم من يقول: إن هذا الميثاق المراد به ما أخذ عليهم وهم في ظهر آدم ﷺ حينما استخرج ربنا -تبارك وتعالى- الذرية من صلبه كأمثال الذر.

وعلى كل حال الأقرب هو هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير، وهو قول ابن جرير وقول عامة المفسرين من السلف والخلف أنه ما أخذ عليهم من المواثيق من طاعة النبي ﷺ واتباعه ونصرته ونصرة دينه، وما شابه ذلك، كما حصل في بيعة العقبة ونحوها.

ثم قال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال، ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر، فقال: إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة المائدة:7].

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ [سورة المائدة:8] أي: كونوا قوامين بالحق لله لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا شُهَدَاء بِالْقِسْطِ أي: بالعدل لا بالجور.

وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير -ا- أنه قال: نحلني أبي نحلاً فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله ﷺ.

قوله: "نحلني أبي نحلاً " يعني أعطاني عطية دون باقي أبنائه وبناته.

فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله، واعدلوا في أولادكم وقال: إني لا أشهد على جَوْر[20] قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة.

هذا يستدل به من يقول: إن العطية في الأولاد تكون للذكور والإناث على السواء، وأما قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [11سورة النساء:] فهذا في الميراث فقط؛ لأن النبي ﷺ هنا قال: أكل ولدك؟ والولد يصدق على الذكر والأنثى، إذ لم يستفصله النبي ﷺ هل لك أبناء وبنات، وإنما قال: أكل ولدك نحلت مثله؟ والمثل هو نظير الشيء من كل وجه، فدل ذلك على أن العطية والهبة للأولاد تكون متساوية للذكور والإناث ولا تكون كالميراث للذكر مثل حظ الأنثيين، والقول الآخر هو أنها كالميراث، واحتجوا بأن الله قسم الميراث بهذه الطريقة، قالوا: وهذا في غاية العدل فكذلك الهبة، لكن هذا القول قد لا يخلو من إشكال.

وعلى كل حال توجد هناك مبررات أخرى للتفاضل نحو ما إذا كان أحد الأبناء صالحاً تقياً مطيعاً لله والآخر مدمن مخدرات مثلاً، فهل يسوي بينهما ويعطي كلاً منهما بالتساوي خاصة وأن الآخر سيشتري بالمال مخدرات يتعاطاها؟

هذه المسألة تكلم فيها العلماء، فمن أهل العلم من قال: لا بأس أن يعطي البار الذي يعينه والذي يعمل معه والذي يقوم على حوائجه وشئونه ما لا يعطي ذاك الذي قد أدار إليه ظهره، وكذلك إذا كان أحدهما به إعاقة ويحتاج ما لا يحتاجه الآخر، هل يسوي بينهما أو لا؟ هذه مسائل أخرى تكلم حولها أهل العلم، لكن الكلام الآن عن كونه ذكراً أو أنثى، هل يجب التسوية أم للذكر مثل حظ الأنثيين؟

وقوله تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ [سورة المائدة:8] أي: لا يحملنكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم بل استعملوا العدل في كل أحد صديقاً كان أو عدواً؛ ولهذا قال: اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة:8] أي: عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه.

ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه، كما في نظائره من القرآن وغيره، كما في قوله: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [سورة النــور:28].

وقوله: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [سورة الفرقان:24].

يقصد هنا أن أفعل التفضيل ليس على بابه، فالأصل في أفعل التفضيل أنه في شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر، تقول: زيد أكرم من عمر، أي كلاهما اشترك في الكرم فزاد أحدهما، لكن حينما يقول الله : اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فليس من هذا الباب؛ لأن خلاف العدل لا يقال فيه: إنه قريب للتقوى لكن العدل أقرب منه، لهذا يكون -بهذا الاعتبار- أفعل التفضيل ليس على بابه هنا، وإنما المقصود به مطلق الاتصاف، بمعنى اعدلوا فالعدل قريب من التقوى، ومن هذا الباب قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [سورة الفرقان:24] فقوله: خَيْرٌ هذه صيغة تفضيل ومع ذلك لا مقارنة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وكذلك الأمر في قوله: أوَأَحْسَنُ مَقِيلًا لا وجه للمقارنة بين مقيل أهل الجنة، ومقيل أهل النار، ولذلك فإن أفعل التفضيل هنا -أحسن مقيلاً- ليس على بابه، وإنما المقصود وصف مقيلهم بالحُسن.

وكقول بعض الصحابيات لعمر - أجمعين: أنت أفَظُّ وأغلظ من رسول الله ﷺ.

يعني ليس معناه أن النبي ﷺ كان فظاً ولا غليظاً، وعمر زاد عليه، حاشاه –عليه الصلاة والسلام.

ثم قال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي: وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها، إن خيرًا فخير، وإن شراً فشر؛ ولهذا قال بعده: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ [سورة المائدة:9] أي: لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وهو الجنة التي هي من رحمته على عباده لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم، وهو تعالى الذي جعلها أسباباً إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه، فالكل منه وله، فله الحمد والمنة.

ثم قال: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [سورة المائدة:10] وهذا من عدله تعالى، وحكمته وحُكْمه الذي لا يجور فيه بل هو الحَكَمُ العدل الحكيم القدير.

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ [سورة المائدة:11].

روى عبد الرزاق عن جابر أن النبي ﷺ نزل منزلاً وتفرق الناس في العضَاه يستظلون تحتها، وعلق النبي ﷺ سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله ﷺ فأخذه فسلَّه، ثم أقبل على النبي ﷺ فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله قال الأعرابي مرتين أو ثلاثاً: من يمنعك مني؟ والنبي ﷺ يقول: الله قال: فَشَام الأعرابي السيف، فدعا النبي ﷺ أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي، وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه[21].

هذه الواقعة ثابتة لا شك في صحتها، لكن كون هذا هو سبب النزول فهذا لم يرد في رواية صحيحة فيما أعلم، ومثل ذلك القول بأنها نزلت في بني النضير من اليهود، فكل ذلك لا يخلو من ضعف، وإن كان أصل هذه الواقعة لا شك في ثبوته.

وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله ﷺ فأرسلوا هذا الأعرابي، وتأول: اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ الآية [سورة المائدة:11] وقصة هذا الأعرابي -وهو غورث بن الحارث- ثابتة في الصحيح[22].

هنا يقول: "وتأول: اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ.. [سورة المائدة:11]" وهذه ليست من العبارات الصريحة في سبب النزول، وإنما أشبه ما تكون بقوله: نزلت هذه الآية في كذا، وقد ذكرنا أن هذا من قبيل التفسير، يعني كأنه يقول: إن هذه الآية تشير إلى مثل هذا الذي وقع، لكن لا يعني هذا أنه سبب النزول، وهذه من الألفاظ النادرة التي ترد فيما يتعلق بأسباب النزول مثل تأول قوله كذا، ومثل قوله: نزلت في كذا.. الخ.

ويمكن تقسيم هذه الألفاظ على النحو الآتي:

إذا ذكر واقعة حدثت أو سئل سؤال ثم قال: فنزلت أو فأنزل الله، فهذه أقوى المراتب التي سنذكرها هنا، ثم يليها نزلت هذه الآية في كذا؛ فهذه تحتمل أن تكون سبب النزول، ثم يلي ذلك مثل هذا الذي ذكر في هذه الآية: "وتأول: اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ الآية [سورة المائدة:11]" فهذا واضح أنه لا يقصد أن ذلك سبب النزول، وإنما يقصد أنها مما يدخل في الآية، والله أعلم.

وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار ومجاهد وعكْرِمَة وغير واحد أنها نزلت في شأن بني النَّضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله ﷺ الرحَى.

وهذا أيضاً يقول به ابن جرير لكنه لا يحدد هذه القضية، فابن جرير -رحمه الله- يقول: هذه في غدر اليهود وما هموا به من الإساءة أو العدوان على النبي ﷺ وعلى المسلمين، ولم يحدد مثل هذا، لكن مثل هذه الروايات عن محمد بن إسحاق بن يسار ومجاهد، وعكرمة وغير واحد تجعل ذلك من قبيل المرسل.

أنها نزلت في شأن بني النَّضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله ﷺ الرحَى، لما جاءهم يستعينهم في ديَةِ العامرييْن، ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك.

قوله: "في ديَةِ العامرييْن" أي في قصة عمرو بن أمية الضمري لما كان الغدر الذي وقع لأصحاب النبي ﷺ في حادثة القراء السبعين الذين قتلوا في وقعة بئر معونة، فعمرو بن أمية نجا فرجع وفي الطريق وجد رجلين دخل معهما في غار فقتلهما بعدما ناما ظناً منه أنهما من القوم الذين غدروا، فلما جاء إلى النبي ﷺ وأخبره وتبين أنهم ممن بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد، ذهب النبي ﷺ إلى قباء ومر على هؤلاء اليهود ومنازلهم على يسار مسجد قباء في الحرة. 

فالحاصل أن النبي ﷺ ذكر لهم الدية وأن يعينوه فيها، وهذا يذكره أهل السير، لكن كون هذا هو سبب النزول فيه إشكال، خاصة وأن هذه الروايات من المراسيل.

قوله: "ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك" أي أنه هو الذي تكفل برمي حجر الرحى على رسول الله ﷺ.

ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك وأمروه إن جلس النبي ﷺ تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي ﷺ على ما تمالئوا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية.

على كل حال الروايات كثيرة في هذا، وكلها من المراسيل، والمراسيل إذا جاءت من وجوه متعددة، وكذا فإنها يقوي بعضها بعضاً.

هذا أيضاً يذكر في سبب وقعة النضير لِمَا هموا به من قتل النبي ﷺ في هذه الواقعة، وبعضهم يذكر أنهم طلبوا من النبي ﷺ أن يخرج في مائة ويخرجون في مائة ويلتقون بنصف الطريق ويكون هناك حوار، ثم بعد ذلك تآمروا فيما بينهم وقالوا: إن خرج في مائة لا تستطيعون أن تتمكنوا منه، ثم قالوا له: اخرج بعشرة ونخرج بعشرة، فأطلع الله نبيه على ما أرادوا، فالمقصود أن بعضهم يذكر هذا، وبعضهم يذكر غير هذا في غدر بني النضير، فالله أعلم.

وقوله تعالى: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة المائدة:11] يعني من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه، ثم أُمر رسول الله ﷺ أن يغدوَ إليهم فحاصرهم، حتى أنزلهم فأجلاهم.
  1. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب من رفع صوته بالعلم (60) (ج 1 / ص 33) ومسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (241) (ج 1 / ص 214).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء – باب غسل الأعقاب (163) (ج 1 / ص 73) ومسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (242) (ج 1 / ص 214).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (240) (ج 1 / ص 213).
  4. أخرجه أحمد (17747) (ج 4 / ص 191) والبيهقي في السنن الكبرى (331) (ج 1 / ص 70) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (220).
  5. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة (243) (ج 1 / ص 215).
  6. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب تفريق الوضوء (175) (ج 1 / ص 68) وأحمد (15534) (ج 3 / ص 424) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (175).
  7. الحديث في الصحيحين وسيأتي ذكره وتخريجه.
  8. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب في الاستنثار (142) (ج 1 / ص 54) والترمذي في كتاب الصوم - باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم (788) (ج 3 / ص 155) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (405).
  9. أخرجه أحمد (16203) (ج 4 / ص 8) وقال الأرنؤوط: إسناده ضعيف.
  10. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب 62(160) (ج 1 / ص 62) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (150).
  11. أخرجه أحمد (19241) (ج 4 / ص 363) وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على هذا الحديث: "رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن مجاهداً لم يتحرر لنا أمره أسمع من جرير أم لم يسمع وزياد بن عبد الله بن علاثة وإن وثقه ابن معين إلا أن في حفظه شيئاً".
  12. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين (272) (ج 1 / ص 227).
  13. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4332) (ج 4 / ص 1684).
  14. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب الذكر المستحب عقب الوضوء (234) (ج 1 / ص 209).
  15. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء (244) (ج 1 / ص 215).
  16. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل الوضوء (223) (ج 1 / ص 203).
  17. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب الطهارة للصلاة (224) (ج 1 / ص 203).
  18. أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء ويل للأعقاب من النار (41) (ج 1 / ص 58) وأحمد (17742) (ج 4 / ص 190) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (220) وأصله في الصحيحين كما سيأتي.
  19. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب من رفع صوته بالعلم (60) (ج 1 / ص 33) ومسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (240) (ج 1 / ص 213).
  20. أخرجه البخاري في كتاب الشهادات - باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2507) (ج 2 / ص 938) ومسلم في كتاب الهبات - باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) (ج 3 / ص 1241).
  21. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة (2753) (ج 3 / ص 1065) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة الخوف (843) (ج 1 / ص 576).
  22. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة (2753) (ج 3 / ص 1065).

مواد ذات صلة