السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية:1، إلى قوله: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} الآية:4.
تاريخ النشر: ٢٨ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 4489
مرات الإستماع: 12933

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى: تفسير سورة القيامة وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۝ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۝ أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ۝ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ۝ بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ۝ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ۝ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ۝ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ۝ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۝ يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ۝ كَلا لا وَزَرَ ۝ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ۝ يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ۝ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۝ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [سورة القيامة:1-15].

القسم على وقوع المعاد يوم القيامة والرد على حيل المتحايلين:

هذه السورة يقال لها: سورة القيامة، ويقال لها: سورة لا أقسم، وذكرنا لكم أن السور لربما تسمى بأولها، وأنها لربما تسمى بكلمة –لفظة- أو بالموضوع الذي تتحدث عنه، فهذه السورة نزلت جميعها بمكة لا يُستثنى منها شيء.

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ والموضوع الذي تتحدث عنه يمكن أن يقال باختصار: إنها تتحدث عن القيامة، هذا الموضوع الأساس الذي تدور عليه آياتها، وإذا أردنا أن ندقق ونقرأ ما بين السطور كما يقال فيمكن أن يقال: إنها تتحدث عن القيامة -عن الآخرة، وتتحدث عن القرآن، وتتحدث عن الرسالة، هذا إذا أردنا أن نقرأ ما بين السطور.

ولذلك قال الله -عز وجل: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ۝ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة:16، 1 7]، بل حتى في أولها لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۝ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۝ أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، هذه النفس لماذا تلوم صاحبها؟ تلومه على ترك الخير، وعلى فعل الشر مثلاً، أو تلومه في القيامة؛ لأنها تندم، فهذا يتضمن إثبات الرسالة، وأيضاً ما جاء في القرآن من الهدايات والمواعظ فأعرضتْ عن ذلك، وقصرت فيه، ولم تتعظ، فوقعت في ما يجلب لها الندم، والموضوع الواضح الذي تدور حوله هو موضوع القيامة، وبالتالي يمكن أن نقول: إن هذه السورة تدور على موضوع واحد في الأساس، وإن وجد آية أو آيتان تحدثت عن قضية أخرى، ولكن جملتها تتحدث عن هذه القضية.

قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفياً جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي.

المقسم عليه إذا كان منتفياً: يعني أن هناك من نفاه وكذب به ورده، فمثل هذا يقال فيه إذا أقسمتَ لإثباته وتأكيده وتقريره تقول: لا لما تقولون، لا لدعاواكم الباطلة في التكذيب بيوم القيامة، ثم قال: أُقْسِمُ بِيَوْمِ، لا لما تقولون، لا لما تدعون وتفترون، لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فصار هناك فصل بين "لا" وبين الفعل، فعل القسم الذي هو أقسم، فـ"لا" تتعلق بشيء قبلها، وهو تكذيب المكذبين، لما كذبوا -وقع التكذيب منهم- قال: "لا" لفِراكم وتكذيبكم أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وعلى هذا تكون "لا" نافية.

وعلى القول بأنها نافية -كما هو الظاهر- بعض أهل العلم يقول: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، نفي، أي أنه لا يقسم بهذا اليوم؛ لأن الأمر لا يحتاج إلى هذا الإقسام، أي أن النفي على وجهه، نفى أن يقسم بيوم القيامة، لماذا؟ قالوا: الأمر أوضح وأجلى من أن يقسم عليه، فلا حاجة لهذا الإقسام، فهي نفي على بابه.

وبعض أهل العلم يقول: "لا" هذه نافية، ولكنها يؤتى بها للتأكيد، يؤتى بها لتأكيد القسم فقط، وهو أسلوب عربي معروف، ويعبر بعضهم عن هذا يقولون: هي زائدة، ويقصدون بذلك زائدة إعراباً، والقرآن ليس فيه زائد من جهة المعنى.

ولم يكنْ في الوحي حشوٌ يقعُ  

ولا يليق أصلاً التعبير بهذا، لا يليق أن يعبر عن شيء من القرآن بأنه زائد، تكلم على هذا جماعة من أهل العلم منهم الزركشي في نحو موضعين في كتابه "البرهان"، وكذلك أيضاً في كتابه "البحر المحيط في أصول الفقه"، في أكثر من موضع.

فالحاصل أن هذا التعبير لا يليق، ولهذا بعضهم يتأدب ويقول: صلة، والمقصود أن مراد هؤلاء الذين قالوا: إنها زائدة، قالوا: المراد بذلك التوكيد، فزيادة المبنى لزيادة المعنى، لكنه لا يراد بها النفي، لا يراد بها نفي القسم، ولا نفي شيء سبقه، "لا" أصلاً في كلام العرب تأتي نافية لكنها تزاد لتأكيد الكلام، لتأكيد القسم دون أن تدل على معناها من النفي فيه، فكأنها غير موجودة، إنما المقصود بها التوكيد، ولهذا قالوا: زائدة، لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، قالوا: المعنى: أقسم بيوم القيامة، لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1].

على القول بأنها هنا زائدة يكون المعنى: أقسم بهذا البلد، لكن على قول من قال: إن البلد مكة، وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:2] أي حالٌّ، تكون نفياً للقسم، هذا أحد التفسيرات بغض النظر عن صحته، وأنت حالٌّ في المدينة، لا أقسم بمكة وأنت مقيم في المدينة، هكذا قال بعضهم، لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، فالنفي على بابه على هذا القول، وهذا له نظائر، لكن المقصود هنا لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أي: أن الله أقسم بيوم القيامة، وأكد ذلك بالمجيء بلا قبل القسم، وهو أسلوب عربي معروف يؤكد به القسم، وهذا أقرب الأقوال، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، وكلام العرب في هذا كثير جداً.

فلا وأبي جليلةَ ما أفأنا مِن النَّعمِ المؤبّلِ مِن بعيرِ
ولكنا نهكنا القومَ ضرباً على الأثباجِ منهم والنحورِ

تجدهم يؤكدون القسم بمثل هذا، يأتون بلا قبل فعل القسم، والله تعالى أعلم، لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أي: أقسم بيوم القيامة.

فإذا كان منتفياً يعني منفياً عند المخاطبين الكفار -وهذه السورة مكية- فهو يقول لهم: لا لما تقولون أقسم بيوم القيامة، ورجحنا القول الآ خر؛ لأن الأصل في الكلام الاستقلال دون الإضمار، فلا يحتاج إلى تقدير إذا أمكن حمله على وجه صحيح من المعنى، لكن القول الذي ذكره ابن كثير قال به طائفة كثيرة من أهل العلم، وله أيضاً ما يرجحه، فهو من ناحية اللياقة بالقرآن لا شك أن الإتيان بلا على معناها المتبادر وهو النفي أنه أوفق من القول بأنها لا محل لها، وأنها زائدة كما يعبر بعض أهل العلم، فجعلوها نافية على وجهها لكن لمعنى في الذهن، أو مقدر.

والمقسم عليه هاهنا هو إثبات المعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بَعث الأجساد.

الآن لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۝ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۝ أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ أين المقسم عليه؟

القسم يتكون من: حرف قسم، ومقسم به، ومقسم عليه، وفعل القسم، ففعل القسم هنا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، والمقسم به هو يوم القيامة والنفس اللوامة، أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة، والمقسم عليه يقول ابن كثير: المقسم عليه هاهنا هو إثبات المعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد، وإذا أردنا أن نقدره في اللفظ على كلام ابن كثير نقول: لَا أُقْسِمُ أي: أقسم بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وأقسم بالنفس اللوامة لتبعثن، وحينما تريد أن تضع النقاط على الحروف، وتعبر بعبارة دقيقة لابد أن تقدر مقدراً.

فابن كثير فسر ذلك عموماً وإجمالاً، لكن لابد من تقدير دقيق في الكلام ينتظم به السياق، أو اللفظ، فتقول: أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة لتبعثن، إذن على هذا هو مقدر، مقدر فُهم مما ذكر من قوله -تبارك وتعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ ۝ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ.

ولهذا بعض أهل العلم يقول: إنه مضمن في قوله -تبارك وتعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ؛ لأن الهمزة هنا للإنكار، الله ينكر عليه، على هذا الإنسان المكذب الكافر، مثلما تقول لإنسان تنكر عليه: أتفعل كذا وكذا وأنت تعلم أنه حرام،، يعني لماذا تفعل هذا الشيء؟ كيف تفعل هذا الشيء؟

الهمزة للإنكار، أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ، فهذا الإنكار عليه بسبب تكذيبه بيوم القيامة مضمن معنى إقرار وإثبات البعث، ينكر عليه كيف يكذب بيوم القيامة، فهذا يتضمن إثبات ذلك اليوم.

وبعض أهل العلم يقول: إنه لا جواب أصلاً هنا، وهذا صحيح من حيث اللغة، وهو موجود في القرآن: ألا يوجد الجواب أصلاً، لا يوجد جواب، تقول: أين جواب القسم؟ نقول: لا جواب أصلاً، إذن ما الفائدة؟

يقال: الفائدة هي تعظيم المقسم به، والقاعدة في هذا الباب أن القسم لا يكون إلا بمعظم، فإذا أقسم الله بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة فهذا فيه لفت للأنظار إلى عظمة هذا المقسم به، وشدته وعظم شأنه، قالوا: إن الله قصد بيان منزلة هذا المقسم به، الذي هو يوم القيامة والنفس اللوامة، ولم يقصد جواباً للقسم، وهذا ليس بمستبعد، فقول من قال: إن المقسم عليه مقدر دل عليه ما ذكر لعله أقرب هذه الأقوال، والعلم عند الله ، لَا أُقْسِمُ أقسم بيوم القيامة والنفس اللوامة على أنكم ستبعثون، وتعاد أجسادكم من جديد، وتحاسبون على أعمالكم.

والمقسم عليه هاهنا هو إثبات المعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بَعث الأجساد، ولهذا قال تعالى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۝ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ وقال قتادة: بل أقسم بهما جميعاً.

فمعناه أن "لا" هذه في لَا أُقْسِمُ أي: أقسم، ليس لنفي القسم.

وهو المروي عن ابن عباس، وسعيد بن جُبَير، واختاره ابن جرير.

فأما يوم القيامة فمعروف، وأما النفس اللوامة فقال قرة بن خالد عن الحسن البصري في هذه الآية: إن المؤمن -والله- ما نراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قُدُما ما يعاتب نفسه.

على قول الحسن البصري وهو قول مشهور معروف في التفسير تكون النفس خاصة، والمراد بها نفس المؤمن، فالنفس إما أن تكون مطمئنة ارتاضت على طاعة الله ، وإما أن تكون لوامة، أي أن الإنسان في مجاهدة ولا زال الإيمان نابضاً في قلبه، فلربما غلبته نفسه فعصى الله ، ولكنه ما يلبث أن تلومه نفسه ويستدرك التقصير والخطأ، والنفس الثالثة هي النفس الأمارة بالسوء.

وهذه النفوس قد توجد للإنسان الواحد في أحوال شتى، فتارة نفسه تأمره بالسوء، وتارة تلومه، وتارة تكون مطمئنة بطاعة ربها ومليكها ، فعلى قول الحسن البصري هنا تكون النفس اللوامة المراد بها نفس خاصة وهي نفس المؤمن، أقسم الله بها، والإقسام هنا وجهه ظاهر، والقسم لا يكون إلا بمعظم، والنفس اللوامة نفس عظيمة تستحق أن يقسم بها، تستحق الإقسام بها.

والقول الآخر: هو أن النفس المراد بها العموم، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ كل نفس فهي لوامة، لا يخلو أبداً إما أن تلوم نفسها، وإما أن تلوم غيرها، الإنسان دائماً يلوم، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ [سورة القلم:30]، فيلوم بعضهم بعضاً، فيلوم غيره، وقد يلوم نفسه، كما هنا مثلاً على تفسيرها بأنها تلوم نفسها على معصية الله، ومخالفة أمره أو التقصير في طاعته، أو تلوم نفسها أنها لم تستكثر من الخير، وسواء كان ذلك في الدنيا أو كان ذلك في الآخرة، ولربما لامت نفسها على فوات أمر مذموم، وهذه نفوس الأشرار، يلوم نفسه أنه لم يستكثر من العمل السيئ، أو أنه فوت عملاً سيئاً لم يعمله، وما أشبه ذلك، فهذا اللوم هو من طبيعة النفس، فيكون بذلك المراد بالنفس العموم، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ.

وهذا قال به كثير من السلف فمن بعدهم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم، أن المراد بالنفس العموم، كل إنسان يلوم نفسه ويلوم غيره أيضاً، يلوم نفسه ويلوم غيره إما بالحق وإما بالباطل، من طبيعته اللوم، من طبيعة النفس اللوم، وسواء كان في الدنيا أو في الآخرة، وبعض أهل العلم يقول: هذا في الآخرة، المؤمن يلوم نفسه أنه لم يتكثر من طاعة الله لما يرى من الخير، والنعيم والمنازل التي هي في غاية التفاوت، والكافر يلوم نفسه على ما ضيع من الأوقات في معصية الله ، فهذا كله واقع في الدنيا وفي الآخرة، لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ.

وروى ابن جرير عن سعيد بن جُبَير في: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال: تلوم على الخير والشر، ونحوه عن عكرمة.

وقال علي بن أبي نجيح عن مجاهد: تندم على ما فات وتلوم عليه.

وقوله: أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ أي: يوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة؟

هنا سؤال: أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، لماذا حدد العظام ولم يقل: أيحسب الإنسان ألن نبعثه أو نعيده أو نجمع ما تفرق من جسده؟

الكفار ماذا كانوا يقولون: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ۝ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [سورة النازعات:11، 12]، فيقولون: كيف نرجع وقد رَمّتْ عظامناً وفنيت وبادت، وهذا يأتي بالعظم متفتتاً وينفخه في وجه النبي ﷺ، ويقول: أتزعم أن الله يعيد هذه بعد أن رَمّتْ؟ فكانوا يكذبون بهذا ويستبعدون، ورد الله عليهم قولهم: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ ۝ بَلَى قَادِرِينَ، ثم إن العظام هي التي يكون عليها بناء الجسد، كيف يقوم الجسد إلا بالعظام؟ فهي الأساس، تخيل لو إنسان ما له أي عظم، مخلوق بدون عظم، أين تذهب العين، وأين يذهب الفم، وأين يذهب الرأس؟ قطعة لحم.

بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ أي: أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نُسَوِّي بنانه، أي: قدرتنا صالحة لجمعها، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان، فتُجعل بنانه -وهي أطراف أصابعه-مستوية.

هذه العبارة يقصد بها أن الله خلقه هذا الخلق مفرق الأصابع، هذا البنان: أطراف الأصابع، فهو يمسك بها الأشياء اللطيفة، يمسك بها الإبرة، ويمسك بها سلاحه، ولهذا قال الله : فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12]، لماذا يضرب منهم كل بنان؟ أرشدهم إلى المواضع التي يحصل فيها الإعاقة عن القتال، ضرب الأعناق، وذلك بإفنائهم، وضرب كل بنان بحيث إنه لا يستطيع أن يحمل السلاح، يتعطل، وإنما ببنانه يمسك هذا السلاح كما قال عنترة:

وإنّ الموتَ طوعُ يدي إذا ما وصلتُ بنانَها بالهِندُوانِ

الهِندُوان يعني السيف الهندي، يقول: بمجرد ما أقول هكذا به الموت طوع يدي، فالمقصود أن هذا البنان هو الذي يستطيع فيه أن يصرف -يعد- المال، ويأخذ ويعطي، وينظم الأشياء الدقيقة، ويقبضها، ويمسك الكتاب ويكتب، فإذا قطعتَ هذا البنان يتعطل.

فهنا على كلام ابن كثير العبارة التي ذكرها هو يشير بها إلى قول بعض السلف، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ يعني: أزيد مما كان، هو مفرق الآن، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ أي: أننا نعيده خلقاً آخر فتستوي هذه الأيدي، الأصابع، تسوي البنان بحيث إنها تكون ملتصقة كخف الجمل أو حافر الفرس أو الحمار فلا يتصرف فيها شيئاً.

فإذا كان الله يقدر على خلقها بصفة أخرى فإن قدرته على إعادتها كما كانت متحققة أيضاً، بالنسبة لإعادة الشيء ثانية لا شك أن المخلوق يكون عليه أقدر وأسهل، وأما الله فكل ذلك ميسور بالنسبة إليه ، فالله يقول: ليس ذلك فحسب بل نحن قادرون على أن نعيد يده ملتصقة بهيئة خلق أخرى غير الخلق الذي تعجبون منه، حيث جعلها قادرة على التصرف في هذه الأمور الدقيقة، فهذا يكون أبلغ من هذه الحيثية.

والمعنى الثاني: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ، وهذا هو الظاهر: أن الله يقول: أنتم تنكرون إعادة هذه الأجساد والعظام بعدما رَمّت، نحن قادرون على إعادتها ثانياً -أي هذه العظام، بل نحن قادرون على إعادة اللطيف والدقيق منها وهي رءوس الأصابع، إذ أن رءوس الأصابع للطافتها ودقتها وتفاوتها يستطيع الإنسان أن يحرك أصبعاً واحداً ولا يحرك البقية، ويستطيع أن يحرك اثنين، ويستطيع أن يقبض واحداً واثنين وثلاثة، وهكذا، ويتصرف بها هذا التصرف، فالله قادر على إعادة هذه الأجزاء الدقيقة من العظام، أفلا يقدر على إعادة بقية عظام الإنسان؟ وهذا هو المتبادر، وماذا عما يقوله أصحاب الإعجاز العلمي: إن هذا يؤخذ منه البصمات؛ لأنها تكون برءوس الأصابع، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ هذا البنان، فماذا عن هذا القول؟

نقول: لا إشكال فيه؛ لأن هذا التفسير العلمي أو هذا الإعجاز العلمي الذي يقولونه منه ما يدل على معنى صحيح، وهو ثابت ليس نظرية، هذا شيء ثابت وهو هذه البصمات، لا ينكره أحد، والله قال: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ، والبنان يشمل طرف الأصبع بما فيه العظم، وبما فيه الجلد، وما شده به من الأظفار، كل هذا بهذا التركيب العجيب الذي يدل على قوة خالقه ، والله يقول: نحن قادرون ثانية أن نعيده بهذه الدقة أيضاً، فيدخل فيه مثل هذه الخطوط التي تسمى بالبصمات.

فهذا لا يعارض القول المشهور عن السلف بأن هذه الأجزاء الدقيقة في أطراف الأصابع لدقتها الله قادر على إعادتها فكيف بالأجزاء الكبيرة؟ فيكون هذا من باب زيادة المعنى وزيادة العلم، وهذا ما اكتشف إلا في العصور المتأخرة، فهو معنى صحيح يدخل في ضمن هذا المعنى الكلي العام للآية، أطراف الأصابع شدها بالأظفار، وذلك يكون منعة لها وحماية، أضف إلى ذلك دقة هذه الأطراف، وما يحصل فيها من ألوان التصرفات، أضف إلى ذلك ما يوجد فيها من هذه الخطوط اللطيفة الدقيقة التي توصّل الناس بها إلى معرفة المجرمين وما أشبه ذلك، فهذا الكلام كله صحيح، فهذا من التفسير العلمي المقبول الذي لا يعارض أقوال السلف ويعود عليها بالإبطال، هذا لا إشكال فيه، والله أعلم.

بعض أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ نفي، يعني على القول بأنها نفس الكافر تلومه على ترك طاعة الله، وعلى ترك الإيمان، وما أشبه ذلك، وأن هذا يكون في الآخرة، قالوا: هذا نفي للإقسام "لا أقسم"، قالوا: وهذا يؤيَّد بأن قول من قال: إن "لا" نافية للقسم، "لا أقسم" أي: نفى أن يقسم بيوم القيامة؛ لأن الأمر لا يستحق ذلك، وهو أوضح وأجلى من أن يقسم عليه، فكذلك نفى أيضاً الإقسام بالنفس اللوامة إذا قلنا: إنها نفس الكافر؛ لأنه لا شأن لها، ولا يكترث لها، ولكن هذا خلاف الظاهر، -والله تعالى أعلم، والمراد بذلك كله القسم لا نفي القسم، والله أعلم.

مواد ذات صلة