بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في قوله: بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [سورة القيامة:5] قال سعيد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: يعني يمضي قدما.
وقال مجاهد: لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ليمضي أمامه راكباً رأسه.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: هو الكافر يكذب بيوم الحساب، وكذا قال ابن زيد؛ ولهذا قال بعده يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؟ أي يقول: متى يكون يوم القيامة؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه، وتكذيب لوجوده، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سورة سبأ:29، 30].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقول الله : بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، يمكن أن يكون ذلك من قبيل الاستفهام، كقوله: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ [سورة القيامة:3]، بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يعني: هل يريد ذلك؟ ويمكن أن يكون إيجاباً، وهذا هو الظاهر -والله تعالى أعلم، فهو كلام مستأنف يخبر الله به عن حقيقة هذا الإنسان الذي تحدث عنه في هذه السورة، أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ.
وهنا هذه التفسيرات التي نقلها عن السلف -رضي الله تعالى عنهم- كقول بعضهم: يمضي قدماً، يعني في معصية الله ، هذا قول ابن عباس يمضي قدماً في معصية الله، وقول مجاهد: ليمضي أمامه راكباً رأسه، هذا بمعنى قول ابن عباس، لا فرق بينهما، وكذلك قول ابن عباس الآخر: هو الكافر يكذب بيوم الحساب، فإذا نظرت بهذه الأقاويل تجد أنها ترجع إلى قولين في الجملة:
الأول: ما يؤخذ من ظاهر اللفظ، كلمة "يفجر"، والفجور هو العصيان، وتجاوز حدود الله ، ومحادّته بمخالفته، هذا هو الفجور، وإذا أخذت بظاهر هذا اللفظ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ هنا يدخل فيها على هذا التفسير جملة من الأقاويل التي قال بها بعض السلف مثل أنه يعمل بالمعاصي، وإذا عمل بالمعاصي يؤمل التوبة -طول الأمل، أو أنه يعمل المعصية ويؤخر التوبة، وهذا بمعنى طول الأمل، أو أنه يمضي راكباً رأسه، أو يمضي قدماً يعني في معصية الله ، كل هذه الأقوال ترجع إلى هذا المعنى، أخذاً من ظاهر اللفظ لِيَفْجُرَ الفجور.
ومن نظر إليه من جهة المعنى والتركيب قال: لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ قالوا: ليكذب، قالوا: إن السياق يدل على هذا، بغض النظر عن لفظ لِيَفْجُرَ، فيكون هكذا أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ الكلام في التكذيب بيوم القيامة، ثم قال الله : بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ أي: ليكذب بما أمامه، يعني حينما يستبعد إعادة العظام من جديد، أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [سورة القيامة:3-5] ثم ماذا قال بعده؟ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:6].
فعلى القول بأن المقصود به التكذيب يكون ذلك أخذاً من دلالة السياق؛ لأن الحديث عن اليوم الآخر والقيامة والمكذبين باليوم الآخر، فقالوا: المقصود لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ أي: ليكذب بما أمامه، فـ"بما"، حرف جر ومعه الموصول "ما" فهذا محذوف، فهذا من جهة المعنى.
المعنى الثاني الذي ترجع إليه الأقاويل الأخرى: أنه يكذب بيوم القيامة، يكذب بالبعث، يكذب بالحساب، يكذب باليوم الآخر بجملته، هذا يؤخذ من السياق، والمعنى الأول يفهم من لفظة يفجر، الفجور، ويقوي المعنى الأول ظاهر اللفظ، والذي يؤيد المعنى الثاني السياق، فالسياق كله في التكذيب باليوم الآخر وليس الكلام في الفجور والمعاصي، وما سيقت الآية من أجل هذا.
وبهذا نعلم أن المعاني التي تحتملها الآية قد يتنازعها جملة من المرجحات، فقد يكون بعضها أقرب إلى ظاهر اللفظ، وقد يكون بعضها له مرجح آخر من السياق والموضوع الذي تتحدث عنه الآيات، السياق وما قبله وما بعده، والله تعالى أعلم.
فالحاصل أن ظاهر اللفظ أنه يقدم الفجور ويؤخر التوبة، لكن الآيات ما سيقت للكلام على هذا المعنى، وما قبله وما بعده في التكذيب باليوم الآخر، وبهذا يكون المعنى بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ أي: بل يريد الإنسان ليكذب ويكفر بما أمامه، "بما" هذه حرف الجر والموصول، من جهة المعنى والسياق، والمعنى الأول أخذاً من ظاهر اللفظ الذي هو لفظة الفجور، لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، ومن كذب باليوم الآخر كذب بيوم القيامة.
ولذلك الله يعلل كثيراً كفر الكافرين وإعراضهم، ويعلل ما يقع منهم من الجرائم وما أشبه ذلك بأنهم لا يرجون لقاء الله، وإذا خوّف المؤمنين وذكّرهم وما أشبه ذلك قال: لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [سورة الأحزاب:21]، فاليوم الآخر هو المحرك الذي يجعل الإنسان يمتثل، وإلا فإن الناس لو تُركوا من غير حساب فإنهم يفعلون ما يحلو لهم.
الحافظ ابن كثير اختار أن المعنى: يكفر بما أمامه، يعني بيوم القيامة، واستشهد لهذا بما بعده، بما يلحقه في اللفظ، بما جاء بعده، بما عقب به، يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بمعنى أنه يكذب بيوم القيامة، متى يكون؟ فهذا سؤال استبعاد، يعني: هو لا يسأل عن وقته، وإنما يسأل مستبعداً له مكذباً لوقوعه.
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وفي القراءة الأخرى وهي قراءة متواترة فَإِذَا بَرَقَ الْبَصَرُ بالفتح، بَرَق، وأصل البروق يأتي بمعنى اللمعان، تقول: هذا المعدن يبرق، بمعنى أنه يلمع، ومعنى "برِق البصر" على هذه القراءة بعض أهل العلم يقول: المراد به: حار واضطرب، أي: أن الإنسان من شدة الخوف يضطرب بصره فلا يستطيع أن يصوبه نحو الأمور التي يريد رؤيتها، لا يتحكم ببصره، فيضطرب هذا البصر ويحار من شدة الفزع، كما هو معروف إذا اشتد الخوف فإن البصر يضطرب.
و"بَرَقَ" بعض أهل العلم يقول: الفرق بينهما أن بَرِق أي: حار واضطرب، وبَرَق أي شَخَصَ، يقولون: هو شخوصه عند الموت، فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ولا يلزم أن يكون ذلك عند الموت؛ لأن الله ذكر أهوال القيامة، فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ بمعنى: حار واضطرب، ويمكن أن يكون أيضاً بمعنى شَخَص.
المقصود أنه يلمع، لمعان البصر لشدة اضطرابه وخوفه، فيحصل له مثل هذا فلا يستطيع أن يصوبه نحو الأمور التي يريد رؤيتها، لا يتحكم ببصره، فكما قال الله عما وقع لأهل الإيمان في سورة الأحزاب: وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [سورة الأحزاب:10]، ومعنى زاغت أي: مالت، وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، بمعنى أن الإنسان ما عاد يتحكم ببصره، وهذا شيء مشاهد معروف، في حالات الفزع الشديد يبقى بصر الإنسان في حال من الدهشة والاضطراب.
وأما شخوصه عند الموت فإنه لا يكون فيه اضطراب، وإنما يكون فيه هذا الشخوص، إذا خرجت الروح شخص البصر وتبعها، تبع الروح، وليس السياق في هذا، فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ إذا وقعت أهوال القيامة حصل مثل هذا، الآن لو وقعت قنبلة عند ناس، قنبلة لها صوت هائل جداً ويحصل بسببها من الحطام للناس القريبين منها، ويتطايرون كالفراش، وترميهم لربما مائة متر وأكثر، هؤلاء ما أصابتهم وإنما فقط الهواء، فمثل هذه الحالات ما الذي يحصل للناس من شدة الفزع؟
تشخص الأبصار، لا يستطيع أن يركز الإنسان بصره على شيء معين ينظر إليه، فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ فأصله من اللمعان، بمعنى جال وتحرك واضطرب من غير إرادة صاحبه، يضطرب عليه بصره من شدة الفزع، والقراءتان "برِق وبرَق" يمكن أن يكونا بمعنى واحد، وكل ذلك عند وقوع أهوال القيامة -والله أعلم.
إي نعم، هذه قراءة نافع وهي قراءة سبعية، "بَرَق البصر".
والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور.
وقوله: وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي: ذهب ضوءه.
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [سورة القيامة:9] قال مجاهد: كُوّرا.
وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الآية: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [سورة التكوير:1، 2] ورُوي عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أنه قرأ: "وجُمع بين الشمس والقمر".
قوله: وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي: ذهب ضوءه، وبعض أهل العلم يفرق بين الخسوف والكسوف يقول: الخسوف أي يذهب ضوءه، يعني: بالكلية، والكسوف أي يذهب بعضه، فهنا يذهب ضوء القمر تماماً.
وبعض أهل العلم يفرق تفريقاً آخر، فيجعل أحدهما مثل الخسوف للقمر، والكسوف للشمس، فهنا قال: وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، بعض السلف يقولون: جمع بينهما فيما ذكر وهوالخسوف، ويستعمل الخسوف للشمس والقمر أيضاً، وهو معروف ومشهور، جمع بينهما فيما ذكر بمعنى أنهما وقع لهما الخسوف فذهب ضوءهما، كما فسر هنا، ذهب ضوءهما، جمع بينهما في ذهاب الضوء.
وبعضهم يقول: إنهما يخرجان من غير ضوء، أي مسودان من جهة المغرب، وأحسن ما يفسر به هذا هو أن "خسف": ذهب ضوءه، وهذا مما يقع في يوم القيامة، وأن الجمع بينهما هو ما أخبر به النبي ﷺ، وهذا من تفسير القرآن بالسنة، أنهما يكوران ويلقيان في النار، لا كما قال بعض السلف مثل عطاء -رحمه الله- بأنهما يلقيان فيكونان نار الله الموقدة، أن النار هي عبارة عن الشمس والقمر، فهذا غير صحيح؛ لأن الشمس والقمر يكوران فيلقيان في النار، والنار موجودة الآن، ولا تكون في يوم القيامة باعتبار أن الشمس والقمر هما نار جهنم، والله أعلم.
وقوله تعالى: يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ [سورة القيامة:10] أي: إذا عاين ابنُ آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول: أين المفر؟ أي: هل من ملجأ أو موئل؟ قال الله تعالى: كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [سورة القيامة:11، 12] قال ابن مسعود، وابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن جُبَير، وغير واحد من السلف: أي لا نجاة.
وهذه كقوله تعالى: مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ [سورة الشورى:47] أي: ليس لكم مكان تتنكرون فيه، وكذا قال هاهنا لا وَزَرَ أي: ليس لكم مكان تعتصمون فيه؛ ولهذا قال: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [سورة القيامة:12] أي: المرجع والمصير.
يعني بمعنى أن الإنسان إذا وقعت له المخاوف إما أن يتنكر فلا يُعرف، وهذا أمر غير متأتٍّ؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء، وإما أن يلجأ إلى معتصم كما كان الناس يلجئون -ولا زالوا- إلى الجبال في الحروب، فيفرون إليها يعتصمون بها، فهنا لا ملجأ، كَلَّا لَا وَزَرَ، والوزَر هو ما يلجأ إليه الإنسان ويعتصم به، كالجبل والحصن، أو يلجأ إلى أناس يحمونه لهم قوة وشوكة، وما أشبه ذلك، كَلَّا لَا وَزَرَ أي: لا ملتجأ ولا معتصم يعصمكم ويحميكم من بأس الله وأخذه -والله المستعان.
أعمال الإنسان تكون بين يديه يوم القيامة:
ثم قال تعالى: يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [سورة القيامة:13] أي: يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49].
هذا هو المتبادر من ظاهر الآية -والله تعالى أعلم- وهو الذي يشهد له القرآن كما في آية الكهف، بمعنى أن الإنسان ينبأ أي يخبر، والنبأ هو الخبر العظيم الذي له شأن، إذ إن ذلك لا يقال لعامة الأخبار، الأخبار التي ليس لها شأن لا يقال عنها: نبأ في كلام العرب، وإنما يقال ذلك لما له خطب وشأن، كما تقول: جاءنا نبأ الحرب، وجاءنا نبأ الجيش، وجاءنا نبأ الخسف، وما أشبه ذلك، ولا تقول: جاءنا نبأ عن حمار الحجام؛ لأن حمار الحجام ليس له خطب ولا شأن.
فينبأ الإنسان بمعنى أن هذه الأمور تهمه غاية الأهمية، فينبأ بها، ينبأ بأخباره التي قدمها وأخرها في حياته، بمعنى أن يُخبَر عن أعماله القديمة، وأعماله المتأخرة في آخر حياته، لا يُخبَر عن المتأخرة فقط؛ لأنها التي حُفظت وما سَبق نُسي، وإنما يخبر عن كل شيء، ولهذا يقول: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [سورة الكهف:49]، كما قال الله : أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [سورة المجادلة:6]، نسوه إما لكثرته وتتابعه فينسي بعضه بعضاً، أو لأنه صغار، دقاق، أو أنهم لا يعبئون لفرط فجورهم، أو لبعد العهد، الذنوب القديمة ينسونها فأحصاها الله لهم، فكل ذلك يخبر عنه الإنسان، هذا هو المعنى المتبادر بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [سورة القيامة:13] أي: بأعماله القديمة وأعماله المتأخرة.
وبعض السلف يقولون: إن المراد ما قدم لآخرته، وما أخر أي ما ترك لورثته، يخبر عن هذا ما قدم وما أخر، ما أخر لورثته، هل يحرم عليه أن يترك شيئاً لورثته؟ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم فقراء عالة يتكففون الناس[1]، فليس هذا هو الظاهر -والله تعالى أعلم.
وكذلك قول من قال: يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ينبأ بما قدم أي: بما عمل وأنجز من الأعمال الصالحة، وما أخر أي ما أراد أن يعمله فلم يعمله من العمل الصالح، وهذا أيضاً ليس بمراد -والله تعالى أعلم؛ لأن الحساب لا يجري على هذا إلا إذا كان من قبيل ترك الواجبات، وإلا فمعلوم أن من هم بحسنة فإنه يؤجر على هذا الهم، فلم يعملها، وإنما الظاهر -والله تعالى أعلم- وهو ما يشهد له القرآن- أن المراد ما قدم وما أخر أي من أعماله القديمة وأعماله الجديدة الحديثة، والله تعالى أعلم.
هذا التفسير الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله: بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قال: أي هو شهيد على نفسه، معنى هذا الكلام أن قوله: بَصِيرَةٌ خبر عن الإنسان، بمعنى أن الإنسان شاهد، بصيرة بمعنى شاهد، فتكون "بصيرة" خبراً عن هذا الإنسان المحدث عنه، بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ أي: بل الإنسان شاهد على نفسه، فكلمة بَصِيرَةٌ هي: بمنزلة كلمة "شاهد"، تفسر بشاهد، بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ هذا هو المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى، وهو المعنى المشهور.
والآية تحتمل غير ذلك، بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، فالإنسان شاهد على نفسه، والمعنى الآخر الذي ذكره بعض السلف -أي أن جوارحه تشهد عليه- داخل في هذا المعنى، فيكون شاهده من نفسه، ينطق لسانه فيشهد عليه، وتنطق جوارحه فتشهد، فهذه شهادة من نفسه.
وكذلك أيضاً يدخل في معناه الأعم -وقد ذكره بعض السلف -رضي الله تعالى عنهم- أن الإنسان عالم بما في نفسه، عالم بحاله، فهو بصير بنفسه وإن خفي أمره على الناس، وإن تزيّا بغير حقيقته وباطنه، فهو يعلم صلاحه من فساده، وإقباله وفتوره وتراجعه وتردده في طاعة الله -تبارك وتعالى، مهما قال، ومهما اعتذر بالمعاذير، فهذا شيء يدركه من نفسه ولا يخفى عليه بحال من الأحوال، أنت أعلم بحالك مهما قدمت من المعاذير، ولذلك وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [سورة القيامة:15] الأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره أو فجوره أو كفره فهو أدرى بشأنه وحاله، وهذا هو الذي يناسب لظاهر اللفظ.
وبعض أهل العلم يقول: المعاذير هنا ليس المقصود بها الأعذار، وإنما المقصود بالمعاذير جمع مِعذار وهو الستر، أي ولو أرخى ستوره فاستتر بفجوره؛ لئلا يظهر للناس، فإنه أدرى بحاله وأبصر بنفسه مهما حاول أن يخفي عيوبه أمام الآخرين، بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ.
وهذا المعنى الثاني الذي ذكروه هو تفسير لها بما تحتمله في كلام العرب، باللغة، وإن لم يكن ذلك هو المتبادر، فهذه الأعذار التي يعتذر بها الإنسان، يعتذر بها عن تقصيره وذنوبه أليست هي كالستور التي يرخيها على عيبه ليستره، أو لا؟ إذا جلس يعتذر عن شيء كأنه يريد أن يستر عيبه ويغطيه فلا يظهر للناس، يقول: لا، أنا لم أقصد كذا، وأنا ما أردت بهذا الفعل كذا؛ ليغطي هذا العيب والسوءة.
فـ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ العذر معروف في كلام العرب، المعنى المتبادر ليس هو الستارة، ولا يجوز حمل القرآن على معنى خفي دون المعنى الظاهر إلا بدليل يجب الرجوع إليه، هذا الأصل، ولذلك يكفي أن يقال: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ يعني ولو اعتذر بألوان الأعذار، فهو يعرف حقيقة نفسه، وبالتالي هو يشهد على نفسه في الآخرة بحاله وعمله، في البداية ينكر ويكذب ثم يختم على فيه، فتشهد جوارحه، ثم بعد ذلك ينطق، وهذا هو الجمع بين الآيات الواردة في هذا.
بعض الآيات أخبر الله فيها أنهم يكذبون وينكرون، وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، ثم أخبر سبحانه: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة يس:65] وتشهد أرجلهم، ومع ذلك يقول الله : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [سورة النور:24]، كيف تشهد الألسنة وقد ختم على الأفواه؟ يقال: هم يكذبون وينكرون في البداية فيختم على الأفواه، ثم بعد ذلك تنطق الجوارح، فإذا نطقت عند ذلك يذمها ويقول: عنكِ كنت أناضل، أو أدافع، ثم بعد ذلك يشهد على نفسه، ويطلب الرجعة إلى الدنيا مرة ثانية.
هذا لا ينافي القول الأول، فهو يشهد على نفسه، تشهد عليه جوارحه، وهو أعرف بحاله ونفسه، وإنما يشهد على نفسه لأنه عالم بحاله، فهذه الأمور كلها حق، والله أعلم.
بمعنى أنه عالم بحاله، وإن حصل منه غفلة وإعراض فصار شغله بعيوب الناس -بعيوب الآخرين- مع تجاوز لأخطائه وعيوبه وذنوبه وتقصيره وفجوره.
يعني هذه الأقاويل ليست متنافية، الآن لو جادل عنها فهو بصير عليها، والقول: إنه لو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه أي لو اعتذر وهو أدرى أن هذا غير حق وأنه عذر كاذب وأن حاله غير ما ذكر، وكذلك قول العوفي عن ابن عباس -ما رواه العوفي عن ابن عباس: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ هي الاعتذار، أخذه من ظاهر اللفظ، يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [سورة غافر:52]، فهذا أحسن من تفسيره بإرخاء الستور.
وكقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [سورة المجادلة:18].
وقال العوفي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال: لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [سورة غافر:52]، وقال: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [سورة النحل: 87]، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [سورة النحل:28]، وقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
هذه الطريقة في الترجيح جيدة، كيف نرجح بين القولين؟ الآن وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ أي: أعذاره، أو أرخى ستوره فعصى الله في مكان لا يراه فيه الناس؛ ليخفي عيوبه عنهم، فهو أعرف بنفسه، كيف نرجح بين القولين؟ نستطيع أن نقول: إنه يجب حمل القرآن على المعنى المتبادر دون المعنى الخفي، فهذا وجه، كذلك أيضاً نقول: المعنى الأول يوجد ما يشهد له من القرآن، بخلاف المعنى الثاني، لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، فـ "معذرة" هنا الظاهر أنها العذر وليس المقصود بها الستور.
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [سورة القيامة:16-25].
هذا تعليم من الله لرسوله ﷺ في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى: جمعه في صدره، والثانية: تلاوته، والثالثة: تفسيره وإيضاح معناه.
يعني إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ جمعه في صدرك، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، وأصل مادة "قرأ" عند جمع من أهل العلم، وهو اختيار ابن فارس -رحمه الله: أنها تعود إلى الضم والجمع، وتدور على هذا المعنى سائر الاستعمالات، وإن قيل غير هذا، فـ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ أي: جمعه في صدرك، وقراءته، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ اتبع قرآنه: أي استمع إلى القراءة وأنصت لها، ولا تحمل هم حفظ هذا المتلو أو الموحى به، ويمكن أن يكون فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي: فاتبع ما تضمنه، اتبع هذه الشرائع والأحكام التي أوحى الله بها إليك.
والأقرب في المعنى -والله تعالى أعلم- هو الأول، فهو يرشده كيف يتلقى الوحي، ما هو في قضية الأحكام والعمل بالأحكام؛ لأنه يوحي إليه ثم يبين له معانيه ثم يطالبون بالعمل بها، فهو يقول: لا تعجل به، لا تحرك شفتيك وتسابق الملك من أجل أن تتلقفه منه وتضبط ذلك وتحفظه، فنحن نكفيك، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، استمع وأنصت لما يتلو عليك الملك ويوحي إليك، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي: توضيح معانيه، فيلهمه الله ويعلمه ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه[2]، وهي السنة شارحة للقرآن، ويبين الله له معاني القرآن.
وبعض السلف يقول: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي: أننا نبينه على لسانك، بمعنى أنه بلسان عربي مبين، أي: أنه يبينه على لسان النبي ﷺ، ليس معناه تفسير المعاني، وإنما بمعنى أنه يُنطق رسوله ﷺ به، يجريه على لسان نبيه ﷺ، يبلغه للناس، ولا شك أن هذا نوع من البيان، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، فالبيان تارة يكون بمجرد التلاوة على الناس، وتلقينهم للقرآن، وتارة يكون ببيان المعنى وشرحه وما يحتاج إليه، وكل ذلك حاصل من رسول الله ﷺ.
وقد ذكرنا لكم قبلُ -في أصول التفسير، أو في شرح مقدمة شيخ الإسلام- أن الأقرب هو أن النبي ﷺ لم يفسر لهم القرآن لفظة لفظة بمعنى يشرحها؛ لأنهم لا يحتاجون إلى هذا، وإنما فسر لهم ما يحتاجون إليه فقط، وما زاد على ذلك فهو غير خارج عن قوله -تبارك وتعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل:44]، وهو ما احتج به شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- على أن النبي ﷺ فسر لهم القرآن جميعاً، فيقال: إن قوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ بمعنى: يبين لهم المعنى، يشرح لهم ما يحتاجون إليه، وما لا يحتاجون إلى تفسيره فإنه يبلغهم إياه، كما قرأ النبي ﷺ آيات الربا، وكذلك توبة كعب بن مالك وأصحابه، كل ذلك قرأه على الناس -عليه الصلاة والسلام، و جلس لهم وشرح لهم ما يحتاجون لتفسيره.
ولهذا قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ أي: بالقرآن، كما قال تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [سورة طه:114].
ثم قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ أي: في صدرك، وَقُرْآنَهُ أي: أن تقرأه، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك.
إي، ولا تستغربون أن وَقُرْآنَهُ بمعنى: قراءته، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [سورة القيامة:18] أي: قراءته؛ لأن القرآن يأتي بمعنى القراءة؛ لأنه مصدر، يأتي بمعنى القراءة ويأتي بمعنى المقروء، هذا الكتاب العظيم يقال له: القرآن بناءً على أنه مشتق وهو الراجح، مشتق من القراءة، وقيل غير ذلك، لكنه مشتق على الأرجح، فتأتي لفظة القرآن، القراءة مصدر والقرآن بعضهم يقول: هو اسم مصدر، فالقرآن يأتي بمعنى القراءة، ويأتي بمعنى المقروء كما هو حال المصادر غالباً، فالمقروء هذا الكتاب يقال له: قرآن، والقراءة مثل هنا فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي: قراءته، كما قال حسان في عثمان :
ضحَّوْا بأشمطَ عُنوانُ السجودِِ بهِ | يُقطِّع الليلَ تسبيحاً وقرآناً |
وقرآناً يعني: وقراءة، يمضي ليله في قراءة القرآن.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه -قال: فقال لي ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: أنا أحرك شفتيّ كما كان رسول الله ﷺ يحرك شفتيه، وقال لي سعيد: وأنا أحرك شفتيّ كما رأيت ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- يحرك شفتيه- فأنزل الله : لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قال: جمعه في صدرك، ثم تقرأه، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ فاستمع له وأنصت، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه.
وقد رواه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله .
سبب تكذيب يوم القيامة حب الدنيا والغفلة عن الآخرة:
وقوله: كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ أي: إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله الله على رسوله ﷺ من الوحي الحق والقرآن العظيم: إنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة.
كلمة "كلا" تدل على الردع والزجر، وبعض أهل العلم يقول: الردع هنا والزجر عن أي شيء؟ عن العجلة، التي هي من طبيعة الإنسان، كما قال الله : خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [سورة الأنبياء:37]، وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً [سورة الإسراء:11]، فهذا الردع نظراً لهذه الصفة المذمومة في الإنسان، ولكن المعنى المتبادر للآية -والله تعالى أعلم، كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ يعني: الدنيا، وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ يعني: دار المقامة.
والمعنى الأول الذي ذكره بعض السلف، كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ، قالوا: المراد أنهم يستعجلون، هذا مما يؤخذ ويستنبط من هذه الآية وليس ذلك هو معناها الظاهر المتبادر، معنى الآية: كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ يعني: الدنيا، وليس العجلة، وقيل لها عاجلة لسرعة انقضائها، وتحولها، فهي لا شيء بالنسبة للآخرة، كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ، فقابل هذا بهذا.
وبالتالي لا يسوغ بحال من الأحوال أن تفسر العاجلة بغير الدنيا، والمعنى الذي ذكره مَن ذكره أن المقصود به العجلة هو يؤخذ ويستنبط من هذا، هم حينما أرادوا الدنيا لفرط عجلتهم استعجلوا النعيم واللذة قبل أوانها، فعوقبوا بحرمانها، ومن استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، فهؤلاء استعجلوا الخمر واللذات، واستعجلوا معاصي الله في الدنيا، أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [سورة الأحقاف:20].
فالإنسان هذه طبيعته يؤثر الفاني على الباقي، وينظر نظراً قريباً يريد أن يحصل شيئاً قريباً في متناوله، ويترك الأمور العظيمة إذا كانت بعد حين، فهذا من عجلته، إنما أوقعه بذلك هو هذه الطبيعة التي جبل عليها، ولكن لا تفسر الآية: كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ بمعني: العجلة، لكن لا يمنع أن يفهم من الآية أنها تعليم للأناة، كما علم الله قبلها نبيه ﷺ الأناة بقوله: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فهذه تعليم له بالأناة في التعلم والتلقي، لا يستعجل، فيسمع ويحسن السماع، ولا يستعجل يبادر بالسؤال أو بتحريك شفتيه أو نحو ذلك قبل أن يقضى الكلام الذي يسمعه، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أنه يؤخذ منها أدب في التعلم أن الإنسان لا يبادر بالسؤال، أو بالاعتراض أو بالرد أو بالمناقشة قبل أن يستمع بقية الكلام، ثم بعد ذلك ينظر فيه فإن كان حقاً قبله وإن كان فيه إشكال ناقش هذا.
رؤية الله في الآخرة:
ثم قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ من النضارة، أي حسنة بهيّة مشرقة مسرورة، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أي: تراه عيانا، كما رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: إنكم سترون ربكم عَيَانا[3].
هو هذا، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تفسر الآية بغير هذا، أبداً، وكل تفسير غير هذا فهو باطل قطعاً، والأحاديث الواردة في الرؤية أحاديث متواترة لا ينازع فيها إلا مكابر، ويمكن أن تؤوَّل آيات الوعيد وغيرها، ولربما يكون ذلك أسهل على المتأول من تأويل مثل هذه الآية التي تواترت النصوص بتقرير معناها.
انظر إلى قوله -تبارك وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ تحدث عن الوجوه، أي أنها موصوفة بالنضارة والبهاء والحسن والوضاءة، وهي وجوه أهل الفضل والخير والإيمان والصلاح، بخلاف أهل الفجور فهي إلى السواد، فكلما ازدادت معاصيه وأظلم قلبه ازداد كلوحاً وظلمة.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ بها نضرة من النعيم، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أضاف النظر إلى الوجوه التي فيها الأبصار، ولا يمكن أن يفسر ذلك بالانتظار، منتظرة ثوابه كما يقول أهل التحريف من المعتزلة، أبداً، هو يتحدث عن الوجوه، ونظر الوجوه التي فيها البصر.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ حسنة جميلة فيها نضرة النعيم، تنظر إلى ربها -تبارك وتعالى، وهذا أعظم لذةٍ ونعيمٍ، فلفظ النظر يعدى بنفسه فيكون بمعنى الانتظار، انظرونا بمعنى انتظرونا، كما في قوله تعالى: انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ [سورة الحديد:13] يعني: تمهلوا انتظرونا، وذلك على الصراط، ويعدى بـ"إلى" وإذا عدي بـ"إلى" فهو لا يفسر بحال من الأحوال بغير النظر بالعين، النظر الحقيقي، ويعدي بـ"في"، يقال: نظر في كذا، فيأتي بمعنى التأمل والتفكر وإجالة الذهن في هذا الأمر، تقول: سأنظر في أمرك، نظرت في أمر كذا، نظرت في قول فلان، نظرت في هذه المسألة، بمعنى أجلت الذهن فيها.
أحاديث الرؤية رواها أكثر من عشرين صحابياً عن النبي ﷺ، رواها نحو واحد وعشرين صحابياً من طرق مختلفة، ونص على تواترها جماعة من أهل العلم.
يعني بمعنى أنهم يرون الله رؤية حقيقية بأبصارهم، بعين رأسه، ولا تضارون في رؤيته أي لا يلحقكم الضرر بسبب هذه الرؤية، تضارون بسبب الزحام مثلاً أو نحو ذلك كما في اللفظ الآخر: لا تَضامُّون، أو لا تُضامُون أيضاً بمعنى لا يلحقكم الضيم، أو لا تَضامُّون بمعنى لا تزدحمون على رؤيته، كما ترون القمر، القمر يراه كل أحد ولو كان خالياً، لا يحصل تزاحم كما يحصل على رؤية بعض الأشياء التي في الدنيا، لو ازدحم الناس ليروا شخصاً مثلاً أو جوهرة أو نحو هذا فيزدحمون ازدحاماً شديداً عليه، لكن يرون الله من غير هذا.
وفي أفراد مسلم عن صهيب -رضي الله تعالى عنه- عن النبي ﷺ قال: إذا دخل أهلُ الجنة الجنة قال: يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيضْ وجوهنا؟ ألم تدخلْنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة، ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ[6] [سورة يونس:26].
وفي أفراد مسلم عن جابر -رضي الله تعالى عنه- في حديثه: إن الله يتجلَّى للمؤمنين يضحك[7] يعني في عَرصات القيامة، ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم في العرصات، وفي روضات الجنات.
ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مواضعَ من هذا التفسير، وبالله التوفيق، وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهُدَاة الأنام.
يدل عليه من القرآن مفهوم المخالفة كما في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [سورة المطففين:15]، كما قال الشافعي: إذا حجب هؤلاء في حال السخط فإن أهل الإيمان يرونه في حال الرضا، هذا مفهوم المخالفة، ولذلك حرمانهم من رؤية الله وحجبهم عنه أعظم، لا شك أنه أعظم من أعظم العذاب الذي يقع بهم، فيكون من أعظم النعيم الذي يحصل لأهل الجنة هو أنهم يرونه -تبارك وتعالى.
- رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، برقم (2742)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1628).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (17174)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، غير عبد الرحمن بن أبي عوف الجُرَشي فمن رجال أبي داود والنسائي، وهو ثقة، حريز: هو ابن عثمان الرحبي".
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول اللَّهِ تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة: 23]، برقم (7435).
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول اللَّهِ تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، برقم (7439)، ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (183).
- رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (554)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، برقم (633).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (181).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (191).