الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[1] من أول السورة إلى قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية:6
تاريخ النشر: ١٤ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 8235
مرات الإستماع: 4299

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ۝ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ [سورة الإنفطار:1، 2] تساقطت وانفرط نظامها وحصل لها التفرق والاندثار، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [سورة الإنفطار:3] فتح بعض هذه البحار على بعض فصارت بحرًا واحدًا فامتلأت وفاضت.

يقول: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [سورة الإنفطار:4] يعني هذه القبور تبعثر تحرك فتُقلب، يقلب ما فيها، ويقلب ترابها فيستخرج ما فيها من الأموات، وبعضهم يقول: والدفائن من الأموال والكنوز ونحو ذلك.

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [سورة الإنفطار:5] هذا جواب ما سبق، أي إذا حصلت الأمور السابقة عندها تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت، ما عملت في دنياها من خير وشر، وما تركت بعد موتها من سنة حسنة أو سيئة يصلها بعد موتها ثوابها أو عقابها، ويحتمل أن يكون المعنى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يعلم جميع أعماله المتقدم والمتأخر، أوائل الأعمال وأواخر الأعمال وما بين ذلك.

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [سورة الإنفطار:6] ما الذي غرك بهذا الرب المتصف بهذه الصفة؟ ما الذي صرفك عن عبادته وأقعدك عن طاعته؟ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [سورة الإنفطار:7] أوجدك من العدم فَسَوَّاكَ جعلك في هذا الخلق السوي، فَعَدَلَكَ جعلك معتدلاً في خلقتك وهيئتك وأبعاضك وأعضائك، وعدلك فجعلك كيف شاء من الأشباه والأشكال والهيئات؛ ولهذا قال: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [سورة الإنفطار:8]، اختار لك الصورة التي قضى بها عن علم وحكمة ولم يكن لك اختيار في شيء من ذلك قلّ أو كثر.

كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [سورة الإنفطار:9] ليس الأمر كما تقولون بأنه لا بعث ولا جزاء بل الأمر بخلاف ذلك، تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ يعني بيوم الجزاء والحساب، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [سورة الإنفطار:10] وهم الملائكة الكرام الذين جاء تفسيرهم فيما بعده بقوله: كِرَامًا كَاتِبِينَ [سورة الإنفطار:11] يكتبون ويحصون مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18].

يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [سورة الإنفطار:12] كل ما يصدر عنكم من الأقوال والأفعال لا يخفى عليهم منه شيء، فهم لا يغفلون عن ذلك، ولا ينصرفون عنه، ولا يشتغلون بغيره، ولا يذهلهم عمل عن عمل، ولا يحتاجون إلى نوم كما يحتاجه البشر بل هم راصدون لمن كلفوا بحفظه لا يصدر عنه شيء إلا كتبوه، قد جاء في الحديث: أن الملَك يمهل العبد إذا وقع الخطأ ست ساعات لا يكتب ذلك عليه، فإن تاب ورجع لم يُكتب عليه شيء، وإن لم يتب كتبت عليه خطيئة[1].

سورة المطففين من السور التي اختلف السلف فمن بعدهم في موضع نزولها هل نزلت في مكة أو نزلت في المدينة؟ وهنا يقول: هي مدينة، ولكن هذا ليس محل اتفاق، وبعض أهل العلم يقول بأنها نازلة في المدينة، وهو مروي عن جماعة من السلف كالحسن وعكرمة، بل جاء عن مقاتل وفي رواية عن ابن عباس أنها أول سورة نزلت في المدينة.

وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو مروي عن قتادة أيضًا: أنها نازلة في المدينة إلا ثماني آيات من قوله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ۝ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [سورة المطففين:29، 30] إلى آخر السورة، وكأن هذا لوحظ فيه المعنى، يعني باعتبار أن هذه الأشياء من الاستهزاء والسخرية كانت تحصل في مكة في وقت الاستضعاف، ومسألة النزول يعني مكان النزول والحكم بأنها نزلت بالمدينة أو مكة أو يستثنى كذا هذا لا ينظر فيه إلى المعنى، وإنما ينظر فيه إلى الرواية فقط، ويوجد كثيرًا في كتب التفسير: هذه السورة نازلة بمكة مثلاً إلا كذا، لماذا؟ بناء على معنى فهمه كأن يكون مثلاً في هذه السورة المكية ذكرٌ للمنافقين مثلاً، يقول: المنافقون وُجدوا في المدينة إذًا هذه الآية مستثناة، نقول: هذا فيه نظر، ويجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: وهو جواب عام أن يقال: قد تنزل الآية قبل تقرير حكمها -الحكم ليس مقصودًا به الأمر والنهي والحلال والحرام- يعني مقتضاها، فتكون نازلة سابقة للحدث، وهذا له أمثلة.

والجواب الثاني: خاص وهو أن يقال مثلاً: إن القول بأن النفاق ما وجد إلا في المدينة فيه نظر، ليس بدقيق، صحيح هذا المشهور، لكنه فيه نظر، فعندنا ما يدل على أن النفاق وجد من وقت مبكر، ما الدليل على هذا؟

أدلة من القرآن يغفل أكثر الناس عنها في سورة الابتلاء سورة العنكبوت، وهي سورة مكية قال الله فيها من ذكر المنافقين: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [سورة العنكبوت:11] فهي سورة مكية، وعندنا سورة مدنية تذكر أمرًا يشبه هذا، يعني المشهور أن النفاق ما وجد إلا بعد غزوة بدر أليس كذلك؟ لما قوي المسلمون بعد غزوة بدر دخل عبد الله بن أبي ومن معه في الإسلام ظاهرًا، قال: ما أرى هذا إلا أمرًا قد توجّه، فأرى أن تدخلوا فيه ظاهرًا.

لكن عندنا في قوله تعالى في سورة الأنفال وهي سورة مدنية: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ [سورة الأحزاب:12] يتحدث عن غزوة بدر إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [سورة الأنفال:49]، يعني هم ذهبوا لمواجهة المشركين في بدر، فمَن هؤلاء في ذلك الوقت الذي يقولون: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ مثلما قال المنافقون في آخر الغزوات -غزوة تبوك: تظنون جلاد بني الأصفر كجلاد العرب، كأنّا نراكم موثقين بالحبال.

قد يقول قائل: وكيف يوجد النفاق في وقت الاستضعاف؟ ما حاجة هذا في وقت الأذى في مكة أو أوائل الهجرة قبل غزوة بدر ما حاجته إلى النفاق؟ يقال: فيه حاجة، هناك من يفسد، هناك من يتربص، هناك ضعفاء إيمان، لو تتبعتم الروايات: نافق فلان، دعني أضرب عنق هذا المنافق، إنه منافق، كلمات قيلت في ناس من المسلمين، كل هذا، والأحاديث الأخرى: يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه لعرض من الدنيا[2]، فدل على أن النفوس لها أحوال وتقلبات، ولذلك تجدون في التاريخ بعد الهزائم أو دخول العدو بلاد المسلمين يقولون: ونَجَمَ النفاق، يعني الآن مرحلة ضعف فيبدأ التلون وتغير المواقف كما قال الله عن المنافقين: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ [سورة الأحزاب:14] يعني الكفر، لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا هؤلاء منافقون.

لكن أيضًا يوجد من ضعفاء الإيمان من تتحول مواقفهم وتتغير بحسب المقام من الشدة والضعف والقوة والنصر والهزيمة، فتجد الرجل لربما في أول النهار من أهل الإيمان الصادقين غير متهم، وفي آخر النهار تحول إلى شيء من النفاق إما الكلي وإما الجزئي، ولذلك النفاق له شعب وهو أنواع، منه ما هو عملي، ومنه ما هو اعتقادي.

فقد يحصل عند بعض الناس شك، قد يحصل عندهم انتكاسة، يقول: لم نرَ شيئًا مما وُعدنا به من النصر والتمكين، فينتكس ويركب مركبًا آخر، ولربما تحول إلى داعية إلى هذه الضلالة التي قد تكون إلحادًا، وقد تكون مذهبًا كفرياً يرتكبه الإنسان ويتبجح به ويسخر من أهل الإيمان، ويحمد الشيطان الذي أنقذه مما كان عليه من الهدى، فيرى أنه الآن عرف، والآن تبصّر، والآن فتّح، والآن فهم، وقبل ذلك ما كان يفهم ولا يبصر، فيحصل للشخص الواحد تحولات، وهناك مساحة رمادية بين المؤمن والكافر، تجد بعض الناس يقترب منها، وبعض الناس يلج فيها، واعتبرْ هذا في كل زمان، ترى التحولات في هذا الإنسان نقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فالإنسان قد يزيغ قلبه.

فالمقصود أنه لا يلزم أن يكون هذا المنافق متربصًا وعدوًّا منذ البداية، لا، قد يكون من الصادقين الضعفاء فيحصل له شيء من التحول والتغير إما تدريجًا وإما دفعة واحدة لضعفه، ولهذا كان النبي ﷺ يتألف أقوامًا فيعطيهم ما لا يعطي غيرهم، لماذا؟ حفظًا لإيمانهم، ويكل آخرين إلى ما عرف عنهم من ثبات الإيمان وقوته وصدقه، فليس بالضرورة أن يكون النفاق إنما وجد في المدينة في مرحلة القوة، لا، ليس كذلك بل الضعف مراحل لها نفاق ولها منافقون.

فالقول بأن الآية نازلة في كذا بناء على المعنى أو هذا الموضوع كان موجودًا في المدينة، أو ذكر الأساطير كان موجودًا في مكة، نسبة القرآن إلى الأساطير هذا من قول المشركين في مكة، إذًا سورة المطففين من السور النازلة في مكة لذكر الأساطير فيها، نقول: ليس بالضرورة، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنها مكية وهو مروي عن ابن مسعود والضحاك ومقاتل، واختاره القرطبي.

وبعضهم يقول: نزلت بين مكة والمدينة كما جاء عن جابر بن زيد والكلبي، وابن عاشور استحسن هذا القول، وقال: هذا جيد؛ لأن التطفيف كان فاشيًا في مكة والمدينة فنزوله بين القريتين -بين البلدتين- أمر مقبول، وأضاف إلى ذلك كون النبي ﷺ يهاجر إلى المدينة من مكة فيكون تهيئة لها لتكون محلا صالحًا لهجرته فتتنقى وتتطهر من هذا، لكن هذا الكلام ليس بذاك، وليست هذه تعليلات، ويكفينا الرواية الثابتة الصحيحة في سبب النزول التي تدل على أنها نزلت بعد مهاجر النبي ﷺ إلى المدينة لمّا كانوا أسوأ الناس كيلاً فنزلت الآية، إذًا سبب النزول يدل على أنها نازلة في المدينة، أما باقي التعليلات مراعاة للمعنى فمثل هذا لا يقال، ولا يعتبر، وله أمثلة كثيرة جدًا.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ۝ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ۝ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة المطففين:1-6].

روى النسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال: لما قدم نبي الله ﷺ المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فحسَّنوا الكيلَ بعد ذلك[3].

هذه الراوية ثابتة عن ابن عباس -رضي الله عنهما، ومبنى القول بأن السورة نازلة بمكة أو المدينة على الرواية، فهذا سبب نزول، وأسباب النزول لها حكم الرفع، يقول: لما قدم النبي ﷺ المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، إذًا لا حاجة أن يقال: إنها نازلة بمكة بناء على المعنى، أو نزلت بين مكة والمدينة باعتبار كذا، فهي نازلة في المدينة.

والمراد بالتطفيف هاهنا: البَخْس في المكيال والميزان، إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قَضَاهم؛ ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخَسَار والهَلاك وهو الويل بقوله: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ أي: من الناس، يَسْتَوْفُونَ أي: يأخذون حقهم بالوافي والزائد، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أي: يُنقصون، والأحسن أن يجعل "كالوا" و "وزنوا" متعديًا، ويكون هم في محل نصب، ومنهم من يجعلها ضميرًا مؤكدًا للمستتر في قوله: "كالوا"، و"وزنوا"، ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وكلاهما متقارب.

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ويل هذه كلمة للوعيد والتهديد هذا هو المشهور، وابن جرير يفسرها عادة بأنها وادٍ في جهنم.

قوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ المطفِّف هو المنقص، وحقيقة التطفيف هو الإنقاص من الوزن أو الكيل شيئًا طفيفًا، يعني شيئًا نزرًا يسيرًا، ما يقال للكثير، وإنما يقال لليسير، للقليل، هذا هو التطفيف؛ لأنه مأخوذ من الطَّفِّ وهو القليل، فهذا المطفف هو المقلل المنقص حق صاحبه إذا وزن له أو كاله، وهذا كما يقول الزجاج: إنه عُبر عنه بذلك؛ لأنه لا يكاد يُنقص إلا شيئًا يسيرًا لا يذكر -نسأل الله العافية، هذا نوع من السرقة، والاختلاس.

لكن هذا التصرف جمع ثلاث خصال، هذه يقال: إنها أول سورة نازلة في المدينة، وبعضهم يقول: آخر سورة نازلة في مكة، وعرفنا أنها نازلة في المدينة وهي من أوائل ما نزل في المدينة، لكن الرواية في سبب النزول تدل على أنها نزلت حينما هاجر النبي ﷺ فذلك يدل على أنها مبدأ الهجرة، يكون التعليم والتوجيه والتربية في أول هجرته ﷺ "ويل للمطففين".

فدل هذا على أن هذا الأمر مع أنه إنما يطفف شيئًا يسيرًا لكن هذا ليس بالشيء السهل، هذه قضية في غاية الأهمية، فهذا الصنيع فيه ظلم للناس، وأكل لأموال الناس بالباطل، وفيه تدليس وفيه لؤم؛ لأنه لا يفعل ذلك -يعني يطفف حبات ويطفف كذا- إلا إنسان بهذه المثابة، مهين، فهو خلاف المروءة وخلاف العدل وخلاف الأمانة وخلاف الصدق في هذا الصنيع.

ولذلك لمّا يذكر العلماء مسألة وقوع المعصية من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هل تقع أو لا تقع؟ فالجمهور الذين يقولون: تقع منهم الصغائر يستثنون ما يسمى بصغائر الخسة، وما المقصود بها؟ قالوا كالتطفيف؛ لأن هذا ما يصدر إلا من نفس مهينة، ما يمكن أن يصدر من النفوس الكريمة أبدًا، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هم أكرم الناس نفسًا، هذا التصرف فيه هذه المفاسد مجتمعة، إضافة إلى أن هذا التصرف في المكاييل والموازين التي ذُكرت هذا أمر يهدد الاقتصاد برمته؛ لأن مبنى الاقتصاد في معايش الناس الضرورية فيما يتصل بالمكاييل والموازين، ابدأ من الذهب إلى آخر الأقوات أليست الدنانير توزن، والأقوات تكال؟

فهذا مبنى اقتصاد الناس على هذا الوزن والكيل، فإذا حصل به التلاعب فهذا يؤذن بخراب وفساد الذمم، وفقد الثقة بحيث لا يثق أحد بأحد، هو يشعر بأنه يُخدع وأن الذي أمامه يريد أن يتلاعب به دون أن يشعر، والإنسان قد يُعطِي زيادة على الثمن ولكنه لا يحتمل أبدًا أن يخدع ويستغفل، فهذا الذي يطفف هو يستغفل الناس، والإنسان إذا عرف من هذا البائع أنه قد استغفله ولو بشيء يسير أحيانًا بالحساب يعطيه رقمًا غير الذي ظهر في الشاشة، حينما يحسب عليه من أجل أن يدخل المبلغ عن طريق الآلة فيكتشف أنه زاد ريالًا واحدًا لربما يفوت له هذا لكن لا يذهب إليه ثانية؛ لأنه لا يثق به، ولا يقبل الناس أبدا الاستغفال، فهذا التصرف يجعل الناس يفقدون الثقة ببعضهم.

وللأسف هذا التطفيف لا يقتصر لا اليوم ولا في السابق على ما يكال ويوزن بل حتى فيما يُذرع ويُعد، لكن ذكر المكاييل والموازين باعتبار أنها هي الغالب، وعليها أقوات الناس وأساس المعايش فهنا ذكر المكيال والميزان، وإلا فلو أنه الآن البنّاء أو الصباغ أو المساح أو غير ذلك يقول: أنا أبني لك المتر بسعر كذا، أو أصبغ لك هذا الجدار المتر بسعر كذا، وقد يعطيك بسعر أقل من الناس لكنه يزيد في التمتير والذرع، ويعطيك مساحة غير حقيقية، أنت ما بجالس معه تعد بالسنتيمتر، وتظن أنك كاسب ورابح وأنك وجدت سعرًا أقل من السوق، وأنت مغلوب في الواقع بكثير.

وهكذا تذهب إلى مكان لشراء سجاد مثلاً، تذهب إلى مكان بسيط، ومتواضع، والصنف نفسه يقول لك: هذا المتر بمائة وثلاثين ريالًا مثلاً، وتذهب إلى مكان فاخر ويقول لك: المتر بمائتين وعشرين، الصنف نفسه، وقد سألت أحد هؤلاء أصحاب الأماكن الفاخرة صاحب المحل سألته -المالك: هذا الصنف يوجد عند الأماكن الثانية البسيطة بأقل من هذا بكثير، فأجابني بثلاث إجابات أذكر واحدة منها وهي التي يتعلق بها الموضوع قال: هذا يعطيك بهذا السعر ويذهب ويمتِّر ويزيد عليك في التمتير، لكن نحن نحسب لك بالسنتي ما يحتاج أن تكون موجودًا.

وقد جربتُ هذا مرة مع أحد هؤلاء الذين يعطون أسعارًا أقل من غيرهم حينما يقوم بدهان طلاء أو نحو ذلك، فلما انتهى من العمل قلت للمهندس: متِّر لأجل أن نحاسب الرجل هذا، فأبى الدهان كل الإباء، وغضب أشد الغضب، لماذا تغضب؟! نحن نريد أن نعطيك حقك، الآن، انتهيتَ من عملك خلاص قبل أن تذهب، قال: لا، أنا عندي التمتير، وأخرج ورقة، هذا تمتيرك أنت لكن عندنا هذا المهندس سيمتر وأنت واقف معه لماذا أنت منزعج؟ فغضب ورفض رفضًا قاطعًا، فقلت للمهندس: متر ونعطي الرجل حقه، فلمّا متَّر إذا الفرق شاسع جدًا يعني يبلغ الآلاف.

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، فيعطيك سعرًا أقل من الآخرين ولكنه في الواقع يأخذ لربما ضعف ما يأخذه الآخرون، تطفيف وغش بطرق عجيبة وخفية بحيث الإنسان لا يشعر بهذا، ويحتاج إلى معرفة وحذق، وهذا في غاية الكذب والتدليس، فن في التدليس والغش وأخذ حقوق الناس بطرق لا يشعرون بها.

التمر تجد سيارة واقفة في زاوية أو ركن أو نحو ذلك تنظر إلى التاريخ في موسم التمر في بدايته، تاريخ هذا الأسبوع مطبوع مختوم ختم المصنع تقرأ وأنت مطمئن ما بعد هذا شيء، أنا ليس لي شأن بكلامه هو متى هذا قديم أو جديد، حق العام أو حق هذه السنة، أنا أقرأ وأعرف، تقرأ تاريخ هذا الأسبوع ما تكلمه ولا بحرف، ويبيع لك الكرتون بمائة وعشرين، مائة وثلاثين، الواقع أنه من تعبئة الأسبوع هذا، والمصنع وضع التاريخ لكن الثمرة حق العام، ويباع هذا التمر عند المصنع الكرتون بخمسين ريالًا، فيأخذه هذا ويقف في الطرقات وغيرها، وهو موجود بكثرة.

فالشاهد أن هذا يكتشفه الإنسان؟ هذا ما يكتشفه إلا من يعرف مصنعًا أو صاحب مصانع أو يزور معارض المصانع فيخيرونه يقولون له: اختر، كله تاريخ هذا الأسبوع لكن هذا ثمرة العام الماضي، وهذا ثمرة هذه السنة، هذا بخمسين وهذا بمائة وعشرين عند المصنع، سعر الجملة، يعني لو أخذ هذا سعر الجملة حق هذه السنة ما يمكن أن يبيعها بمائة وعشرين، سيبيعها بمائة وثمانين بمائتين، ثمرة هذه السنة، والكل مكتوب عليه تاريخ الأسبوع نفسه، لكن أصحاب المصانع في المعارض التي عندهم يبيعون في الجملة يقول لك: هذه ثمرة العام، وهذه ثمرة هذه السنة، نصف القيمة، يقول لك: نحن خزنّاها في مبردات هي ثمرة العام، طيب ما الفرق؟

الفرق أن هذه بعد مدة بسيطة تسود وتتغير، لكن الآن جميلة جدًا ويشتري الإنسان وهو مطمئن، تاريخ هذا الأسبوع، وهو من العام الماضي، كيف يكتشف هذا؟ ولو شئتم لأعطيتكم من الأمثلة فيها العجائب من هذا العالم، إن جئت في عالم الأدوية، إن جئت في عالم الطيب، إن جئت في عالم البناء، وغير ذلك..، أنا أسمع من الناس من هؤلاء الذين يأتون، أحيانًا يكون أجيرًا أو كذا يقول: نحن نزاول عملًا، وأنا مضغوط عليّ أنا لابدّ أن أقوم بهذا وإلا صاحب العمل سيقول لي: اذهب، فيذكر أشياء عجيبة جدًا في الدواء هذا الذي نشتريه أو في أي شأن، تذهب إلى أماكن المواد الصحية أو الخلاطات أو غير ذلك تكون حافظًا اسم نوعية ممتازة يقول لك: نعم هذا هو وفعلاً مكتوب عليه لكن يتبين أنه ليس الأمر كذلك، بل هذا صار يصنع بأماكن أخرى بجودة أقل، وأمور كثيرة جدًا.

فمسألة التطفيف حينما يأتي الوعيد في سورة في أوائل ما نزل بالمدينة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ المسألة ليست سهلة؛ ولذلك انظروا: هذه القضايا قد تبدو دقيقة في نظر بعض الناس، لكن جاءت العناية بها في القرآن، وفي أوائل ما نزل، تأسيس، تشريع في المدينة، أول ما ينزل هذا، قضايا تطفيف، تهتمون بأمور يسيرة، بأمور تافهة!، هي تافهة في نظرك أنت، لكن الله عليم حكيم؛ ولهذا نحن نأخذ الشريعة من مأخذها الصحيح.

انظروا إلى قول النبي ﷺ: لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين وجوهكم[4]، يعني بين قلوبكم، في مسألة تسوية صفوف، هي قضية سهلة يقول لك: أنت تهتم بهذه الأشياء؟ انظر إلى مصالح الناس الكلية، هموم المجتمع، هكذا يقول بعض الشباب.

معاوية لما أخذ خصلة من شعر على المنبر عندما جاء إلى المدينة أخذها من يد حارس معه –شرطي- أخذها وقال: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ أين فقهاؤكم؟ وذكر الحديث عن رسول الله ﷺ في هلاك بني إسرائيل بمثل هذه، هلاك بني إسرائيل لما تساهلوا في وصل الشعر -شعر النساء، فبعض الناس يقول: أنتم ما عندكم إلا كشف الوجه والحجاب وتاركون الهموم الكبرى للمجتمع، ويسخرون ممن يتكلم على المسائل الشرعية في الطهارة والعبادة وما إلى ذلك، وهؤلاء ما فهموا حقيقة الدين، إذا كان لتسونّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم وخصلة شعر سبب هلاك لبني إسرائيل، فهذه الأمور التي يظن أنها حقيرة قد تكون هي سببًا لمصائب تقع للأمة، لغلبة العدو، لهلاك، لعقوبات عامة، فالدين يؤخذ كاملاً كما أنزله الله .

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ثم هذا التطفيف ليس فقط في حبوب وكذا، أيضًا التطفيف المعنوي الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، يطالب الآخرين بحقوقه ولا يعطي الآخرين حقهم، الرجل يستنطف ويستنظف حقه من المرأة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، لا يفوت ولا يتنازل ولا يغضي ولا يسامح، ولكنه مضيع لحقوقها، فيحاسبها حسابًا عسيرًا على أدنى تقصير.

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ هذا لا يجوز، قد يطالِب الأولاد بأن يؤدوا حقوقه كاملة، ولكنه مضيع لهم، وقل مثل ذلك في المرأة التي قد يحصل منها هذا، تطالب الزوج وهي مضيعة، وقل مثل هذا في علاقة الناس ببعضهم، يطالب بحقوقه وأن يقوموا بواجبه وما إلى ذلك وهو مضيع حقوقهم، الإنسان ينظر إلى نفسه قبل أن ينظر إلى الآخرين.

كذلك في المدح والذم إذا كان الإنسان يتكلم عمن يحبه أو نحو ذلك أطراه وأعطاه الأوصاف الكبار العظام وجعله الإمام الأوحد، وإذا تكلم فيمن يبغض بخسه تمامًا وجعله في أسفل سافلين، لا علم ولا دين ولا عمل، مسخه مسخًا كاملاً، وقد يكون أثنى عليه قبل ذلك، لكن لما اختلف معه أعوذ بالله، يعني هذه الصفة من صفات اليهود كما حدث لابن سلام -رضي الله تعالى عنه- عندما جاء إلى النبي ﷺ وأراد أن يسلم، فأسلم وطلب من النبي ﷺ أن يكتم ذلك عليه حتى يسأل اليهود عنه، فسألهم عنه فقالوا: هو خيرنا وابن خيرنا، وحبرنا، فلما قال: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: معاذ الله، فلما رأوه أسلم قالوا: شرُّنا وابن شرنا[5]، في مجلس واحد! فهذا من التطفيف، بخس الناس أشياءهم وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [سورة الشعراء:183].

الإنسان يتكلم بعلم وعدل، ويتقي الله فيما يقوله مع من يحب ومن يكره بحال الرضا والغضب، كلمة الحق يلزمها دائمًا ولا يجوز أن يبخس أحدًا؛ لأنه لا يحبه، فيقول: فلان ليس عنده علم، فلان فاجر، فلان منافق، فهذا لا يجوز -نسأل الله العافية، وهو من التطفيف.

هنا وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ لاحظ كلام ابن كثير هنا الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ أي: من الناس يَسْتَوْفُونَ يأخذ حقه كاملاً، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ يعني يُنقصون، يقول: والأحسن أن يجعل "كالوا" و"وزنوا" متعديًا ويكون هم في محل نصب، يعني تكون كلمة واحدة كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ تكون هم في محل نصب يعني هي مفعول به، يكون الضمير في محل نصب على أنه مفعول به "كالوهم" كالَه، "كالوهم" كلمة واحدة تكتب كما هي في الرسم، فهذا هو الأحسن، كلمة واحدة فيكون هم مفعولاً به.

ويقول: ومنهم من يجعلها ضميرًا مؤكدًا للمستتر، يعني ما في مفعول به هنا، غير مذكور، مؤكدًا للمستتر في قوله: كَالُوهُمْ أي: واو الجماعة، وواو الجماعة في محل رفع فاعل "كال"، فهنا يقول: ضميرًا مؤكدًا للمستتر في قوله: "كالوا ووزنوا" يعني يصير للتوكيد، "كالوا" من الذي كال؟ هم، "أو وزنوا هم"، هذا قال به بعض أهل العلم.

يقول: ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه وكلاهما متقارب، يعني يصير الوقف على "كالوا"، وهذا يصلح للذين يبحثون عن الإغراب في قضايا الوقف من بعض القراء، يبتكرون أحيانًا أشياء لا وجه لها إطلاقًا، خطأ تُفسد المعنى، على الأقل هذا قيل وإن كان خلاف الراجح، ويدل على أنه خلاف الراجح الرسم العثماني، فهو أحد المرجحات، فهي جاءت على أساس أنها متصلة "كالوهم"، وهو مفعول به، لكن الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ، "وإذا كالوا" ويقف "هم يُخسرون" يعني فتنة، وابن جرير يقول: هذه لغة الحجاز، يعني يقولون: كلتك الطعام، ما يحتاج أن يقوله معدى بحرف، ما يقول: كلت لك، وزنت لك، أهل الحجاز يقولون: كلتك الطعام ووزنتك الطعام، وَإِذَا كَالُوهُمْ عداه بنفسه، أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، ومعنى يُخْسِرُونَ يعني يُنقصون.

وقد أمر الله- تعالى- بالوفاء في الكيل والميزان، فقال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا [سورة الإسراء:35]، وقال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا [سورة الأنعام:152]، وقال: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [سورة الرحمن:9].

وأهلك الله قوم شعيب ودَمَّرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال.

أمة عوقبت، وكان من أبرز جرائمهم التطفيف.

ثم قال تعالى متوعدا لهم: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ۝ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ؟ أي: ما يخافُ أولائك من البعث والقيام بين يَدَي من يعلم السرائر والضمائر، في يوم عظيم الهول، كثير الفزع، جليل الخطب، من خسر فيه أدخل نارًا حامية؟

هنا كما ذكرنا في التدبر في التعليل أو الربط بين الجنايات والتضييع لحقوق الله وما إلى ذلك بمسألة التكذيب أو عدم الإيمان بالآخرة، وقلنا: الإيمان باليوم الآخر هو المحرك الذي يحمل الإنسان على الامتثال، فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ۝ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ كيف يجترئون على هذا؟ ألا يعلمون أن الله سيحاسبهم ويجازيهم على هذا العمل؟

يظنون: يعلمون ويوقنون، مع أن بعض المفسرين يقول: ألا يدور في خلدهم؟

وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ أي: يقومون حفاة عراة غُرْلا في موقف صعب حَرج ضيق ضنك على المجرم، ويغشاهم من أمر الله تعالى ما تَعْجزُ القوى والحواس عنه.

روى الإمام مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه رواه البخاري[6]، من حديث مالك وعبد الله بن عون، كلاهما عن نافع، به، ورواه مسلم[7].

روى الإمام أحمد عن المقداد -يعني ابن الأسود الكندي- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا كان يومُ القيامة أدنِيَت الشمس من العباد، حتى تكون قيدَ ميل أو ميلين، قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العَرق كقَدْر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عَقِبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حَقْوَيه، ومنهم من يلجمه إلجامًا[8]، رواه مسلم والترمذي.

وفي سنن أبي داود: "أن رسول الله ﷺ كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة".

وعن ابن مسعود: "يقومون أربعين سنة رافعي رءوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق بَرّهم وفاجرهم"[9].

وعن ابن عمر: "يقومون مائة سنة"[10]، رواهما ابن جرير.

وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة: أن رسول الله ﷺ كان يفتتح قيام الليل يكبر عشرًا، ويحمد عشرًا، ويسبح عشرًا، ويستغفر عشرًا، ويقول: اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة[11].

هذه الأحاديث هي تفسر قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ يعني يقومون للجزاء والحساب، لحكمه وقضائه في ذلك اليوم الذي يحشر الناس فيه حفاة عراة غُرْلاً، ويحصل لهم من الشدة والعرق وتدنو الشمس يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وهذا أولى وأقرب من قول من قال: إنهم يقومون من قبورهم لأمر رب العالمين، فهذا فيه بُعد، وإنما يقومون لحكمه وقضائه، لفصله، أو للحساب.

وقوله هنا: في سنن أبي داود أن رسول الله ﷺ كان يتعوذ من ضيق المُقام يوم القيامة الحديث الذي ورد فيه هو الحديث الذي ذكره عن عائشة -رضي الله تعالى عنها، ومثل هذا يستفتح به الصلاة، يعني مثل الآن صلاة التراويح يمكن أن يدعو الإنسان دعاء الاستفتاح بهذا، والحديث ثابت صحيح، يكبر عشرًا ويحمد عشرًا ويسبح عشرًا ويستغفر عشرًا، ويقول: اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة، وجاء في بعض الروايات صريحًا: وأعوذ بك من ضيق المقام يوم القيامة.

  1. رواه الطبراني في المعجم الكبير، عن أبي أمامة عن رسول الله ﷺ قال: إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها وإلا كتبت واحدة، برقم (7765)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1209).
  2. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، برقم (118).
  3. رواه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب التوقي في الكيل والوزن، برقم (2223)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (11654).
  4. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، برقم (717)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام، برقم (436).
  5. رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم -صلوات الله عليه- وذريته، برقم (3329)، وأحمد في المسند، برقم (12057)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  6. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ [سورة المطففين:6]، برقم (4938).
  7. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة يوم القيامة أعاننا الله على أهوالها، برقم (2862).
  8. رواه أحمد في المسند، برقم (23813)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة يوم القيامة أعاننا الله على أهوالها، برقم (2864)، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص، برقم (2421).
  9. تفسير الطبري (24/ 281).
  10. المصدر السابق.
  11. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، برقم (766)، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب ذكر ما يستفتح به القيام، برقم (1617)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الليل، برقم (1356)، وقال الشيخ الألباني: "إسناده حسن صحيح"، صحيح أبي داود، برقم (742).

مواد ذات صلة