الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} الآية:7 إلى قوله تعالى: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} الآية:17
تاريخ النشر: ١٥ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 4434
مرات الإستماع: 13092

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ فتوعد الله المطففين الذين وصفهم بقوله: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرونَ [سورة المطففين:2، 3] فهؤلاء الذين يبخسون في المكاييل والموازين وينقصون حقوق الناس، وإذا كان الكيل أو الوزن لهم استوفوا وأخذوا ذلك على وجه التمام والكمال، فلا يقبلون النقص لأنفسهم مع أنهم يفعلون ذلك مع غيرهم.

أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ [سورة المطففين:4] ألا يعلم هؤلاء أنهم سيبعثون فيحاسبون ويجازون على هذه الأعمال لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ليوم شديد الأهوال والأوجال، يجزي الله فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا اليوم يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة المطففين:6] في ذلك اليوم العظيم يقف الناس وقوفًا طويلاً في أرض المحشر، أو يقفون للحساب.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين، ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ۝ كِتَابٌ مَرقُومٌ ۝ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ۝ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ۝ ومَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ۝ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ۝ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۝ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ۝ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ۝ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [سورة المطففين:7-17].

يقول تعالى: حقًّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ  أي: إن مصيرهم ومأواهم لفي سجين، فِعِّيل من السَّجن، وهو الضيق.

السِّجن هو الموضع والمكان الذي يُسجن فيه، والسَّجن هو المصدر، فكتابهم في سجين، هنا قال: فِعِّيل من السَّجن وهو الضيق، فهل السَّجن هو الضيق؟ أصل هذه المادة يرجع إلى الضيق، فالسِّجن هو الموضع، والسَّجن هو المصدر يعني الذي هو الفعل نفسه من السَّجن، فهل هنا قال: من السِّجن أو من السَّجن؟ مأواهم لفي سجين فِعِّيل من السَّجن وهو الضيق أو السِّجن؟

الأصل في رد الكلمات إلى أصولها أن يُرجع إلى المصادر، وبعضهم يرجعها إلى أصل الفعل ثلاثيًا أو رباعيًا أو غير ذلك، فهنا إذا أردنا أن نرجعها إلى الأصل وهو المصدر نقول: سجين من السَّجن فِعِّيل صيغة مبالغة من السَّجن، لكن هل السَّجن هو الضيق؟ السَّجن هو المصدر يراد به الفعل فعل السَّجن، لكن أصل مادة السَّجن ترجع إلى الضيق، والله أعلم.

كما يقال: فسِّيق وشرِّيب وخمِّير وسكِّير، ونحو ذلك.

وبنحو هذا يقول ابن جرير -رحمه الله.

 ولهذا عظَّم أمره فقال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ؟ أي: هو أمر عظيم، وسِجن مقيم وعذاب أليم.

ثم قد قال قائلون: هي تحت الأرض السابعة، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب في حديثه الطويل: يقول الله في روح الكافر: اكتبوا كتابه في سجين[1].

وسجين: هي تحت الأرض السابعة، ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين، كما قال تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ۝ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة التين:5، 6]، وقال هاهنا: كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ وهو يجمع الضيق والسفول، كما قال تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [سورة الفرقان:13].

هنا قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وسيأتي أيضًا في كتاب الأبرار "لفي عليين" فهنا قابل بين الكتابين كتاب الأبرار وكتاب الفجار، فهل المراد بسجين موضع مكان، أو المراد أن هذا اسم للكتاب أو للديوان كما يقال أيضًا في عليين يرِد هذا السؤال هل عليون موضع أو أنه ديوان مسمى بهذا الاسم؟

فإذا تأملت عبارات المفسرين تجد هنا يقول ابن كثير: أي: أن مصيرهم ومأواهم لفي سجين ثم ذكر قول من قال: تحت الأرض السابعة إلى آخره، وهذا الذي اختاره ابن جرير، ويستدل لهذا بحديث البراء: اكتبوا كتابه في سجين وهو تحت الأرض السابعة، يعني أن سجين تحت الأرض السابعة، أي أنه موضع يقال له: سجين على هذا القول، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك.

لكن الآن هذا هو الاحتمال والقول الأول، لكن هذا ليس محل اتفاق، فبعض أهل العلم يقول: هذا اسم للكتاب الذي يدون فيه هؤلاء الفجار وأهل النار اسمه سجين، كما أن الكتاب الآخر الذي دون فيه الأبرار يسمى بعليين، يعني أن عليين علم على ذلك الكتاب، اسم علم، يقال له: عليون، وهذا يقال له: سجين، اسم للكتاب، فالله قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ۝ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ فالذين فهموا من قوله: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ أن هذا تفسير لسجين أنه كتاب، وهناك في عليين أيضًا كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ومرقوم أي مسطور، مكتوب من الرقْم الكتابة.

فبعضهم يقول: هذا كتاب جامع لأعمال أهل الشر الصادرة عنهم إلى آخره، هؤلاء الكفرة والشياطين فهذا علَم لهذا الكتاب، لكن كثيرًا من السلف فمن بعدهم يقولون: هذا موضع، ويفسرونه بنحو ما قال ابن كثير -رحمه الله- ضيق، حبس، شدة، مكان ضيق، لفي سجين، وهذا الذي مشى عليه كثير من أصحاب المعاني كالأخفش، والمبرد، والزجاج، وأيضًا قال به أبو عبيدة معمر بن المثنى، والآية تحتمل هذا وهذا، تحتمل المعنيين، وهذه الاحتمالات ستأتي في "عليين".

فقوله هنا: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ أي: مكتوب، كما يقول قتادة: رُقم لهم بشرٍّ، يعني كأنه عُلِّم بعلامة يعرف بها أنه كافر، وحتى أصل هذه المادة "سجين" اختلفوا فيها، هل النون هذه أصلية فيكون مشتقًا من السَّجن -وهو الحبس، ويكون ذلك على سبيل المبالغة مثل ما ذكر هنا خِمِّير وسِكيِّر ونحو ذلك، أو أنها بدل من اللام أي "سجيل" مشتق من السِّجل يعني الكتاب الذي يدون ويكتب به، هكذا بعضهم يقول، وهو خلاف الأصل، يعني كأن هؤلاء الذين يقولون: إن النون مبدلة من اللام، يقولون: أصل مادة سجين كتاب اسمه سجين هكذا، كأنهم يقولون: إنها غير معهودة.

والواقع أنها إذا كانت من السَّجن فهي صيغة مبالغة "سِجين" ولا إشكال في هذا، وتأملوا العبارات التي نقلها ابن كثير أو بعض ما أورد كل ذلك يرجع إلى أن هذا اسم للكتاب فسره بقوله: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ هذا الكتاب اسمه سجين، دونت أسماء هؤلاء وأعمالهم في كتاب أهل الشقاء، المسمى "سجين" أو أن المقصود أن هؤلاء في موضع يقال له: سجين، يعني كُتبوا في سجين، هذا معنى كتاب الفجار، ليس هو اسم الكتاب أنهم كتبوا في سجين، وأين تقع سجين هذه؟

أكثر السلف يقولون: الأرض السابعة على اختلاف في العبارات، بعضهم يقول: تحت خد إبليس، وبعضهم يقول: تحت صخرة، لكن هؤلاء القائلين يختلفون أيضًا، منهم من يقول: هذا الكتاب موضعه هناك، وبعضهم يقول: لا، أرواحهم؛ لأن العلماء من السلف فمن بعدهم اختلفوا في أرواح الكفار أين تكون إذا ماتوا؟ يعني قبل دخول الجنة والنار، أهل الجنة، والنار لأهلها، أين تكون أرواح الكفار؟

أقوال كثيرة معروفة، ومن أكثر من تكلم بهذا وأوسع من تكلم فيه ابن القيم -رحمه الله، فمما ذكره السلف في ذلك أن أرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة، وعليه هنا حينما قال الله : إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ يحتمل أن يكون سجين اسمًا لهذا الكتاب، هذا القول الأول، والقول الثاني: إن "كتاب" بمعنى أن هؤلاء كتبوا في أهل الشقاء، أين أهل الشقاء؟ في سجين، يعني أن مصيرهم سجين، هذا سجن مكان ضيق إلى آخره تكون فيه أرواح الكفار، أو أن الكتاب هذا "في سجين" موضعه في سجين، كما أن كتاب الأبرار موضعه في عليين، اتضحت الآن المناحي الثلاثة، وذلك يرجع إلى الأصل، إلى قولين في الأصل هل المراد أن "سجين" اسم للكتاب أو أنه موضع؟ الذين قالوا: موضع هم على منحيين، طائفة يقولون: كتاب يعني كُتبوا، سيئولون، هناك مآلهم، مصيرهم، وبعضهم يقول: إن هذا الكتاب الذي كتبت فيه أعمال أهل الشقاء وأسماء أهل الشقاء موضعه في مكان يقال له: سجين تحت الأرض السابعة.

في الأصل يقول: والصحيح أن سجينًا مأخوذ من السَّجن وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق، وكل ما تعالى منها اتسع، ثم ذكر كلاماً ثم قال أيضًا: وقوله تعالى:كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ليس تفسيرًا لقوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي: مرقوم مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد، قاله محمد بن كعب القرظي.

هذا الكلام يرجع للمعنى الذي ذكرته آنفًا أن قوله: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ليس تفسيراً لسجين.

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ شيء هائل عظيم، ثم قال: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ليس بتفسير له، يعني أن هذا كُتب وفرغ منه، هذا الموضوع انتهى، يعني أن هذا المصير محتوم فـكِتَابٌ مَّرْقُومٌ أي: قضية فُرغ منها، كتبت، لا تبدل ولا تغير، حكم نافذ، كتاب يمضي على هؤلاء ولابدّ، هذا يسير معنا، والذين قالوا: اسم الكتاب قالوا: ما بعده يكون تفسيرًا له، كِتَابٌ مَّرْقُومٌ، ابن كثير يقول: ليس تفسيرًا لقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين أي: مرقوم مكتوب مفروغ منه إلى آخر الكلام الذي نقل عن محمدبن كعب.

ابن جرير يقول: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ أي: مكتوب.

ثم قال: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي: إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السجن والعذاب المهين. وقد تقدم الكلام على قوله: وَيْلٌ بما أغنى عن إعادته، وأن المراد من ذلك الهلاك والدمار، كما يقال: ويل لفلان، وكما جاء في المسند والسنن من رواية بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدة، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: ويل للذي يُحَدِّث فيكذب ليُضحِكَ الناس، ويل له، ويل له[2].

وَيْلٌ كلمة تقال: للوعيد.

كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ۝ كِتَابٌ مَرقُومٌ ۝ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يتوعدهم، أي كلا، ليس الأمر كما يزعمون من أنه لا بعث، إن كتابهم الذي كتبت فيه أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ على أحد المعاني السابقة.

ثم قال تعالى مفسرًا للمكذبين الفجار الكفرة: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: لا يصدقون بوقوعه، ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره، قال الله تعالى: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أي: معتدٍ في أفعاله؛ من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح، والأثيم في أقواله إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر.

هكذا بعضهم يقول: إن المعتدي يعني في أفعاله، والأثيم في أقواله، والمعتدي هو كل من تجاوز ما حده الله  -تبارك وتعالى- فتعدى حدود الله، أو كان متعديًا على حقوق الخلق، والأثيم كثير الآثام، قال: فلان أثيم يعني كثير الإثم، والإثم تارة يقال للفعل الذي هو سبب للإثم، وقد يقال للخمر خاصة، وقد سبق في بعض المناسبات قول الشاعر:

شربتُ الإثمَ حتى ضلَّ عقلي كذاك الإثمُ تذهب بالعقولِ

ويقال لنتيجة الذنب والمعصية من المؤاخذة: إثم، يقال: من يفعل كذا يأثم، هذا فيه إثم على الإنسان المؤاخذ.

وقوله: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ أي: إذا سمع كلام الله تعالى من الرسول يكذب به، ويظن به ظن السوء، فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [سورة النحل:24]، وقال تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا [سورة الفرقان:5].

يقال: أسطورة وإسطارة ويقصدون بذلك الأخبار والحكايات التي هي من جملة المختلقات، أساطير الأولين: يعني مختلقات الأولين من الأقاصيص والحكايات والأخبار التي لا سند لها ولا ثبوت، يقولون: هذا أساطير الأولين، قرآن فيه قصص، فيه أخبار.

قال الله تعالى: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله ﷺ، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّيْن الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا؛ ولهذا قال تعالى: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ والرين يعتري قلوبَ الكافرين، والغَيم للأبرار، والغَين للمقربين.

وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إن العبد إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صُقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله تعالى: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[3]، وقال الترمذي: حسن صحيح.

إذًا هذا تفسير نبوي لـ "الران" فلا يعدل عنه إلى غيره، فهنا هؤلاء الذين كذبوا وقالوا في القرآن ما قالوا رد الله عليهم قال: كَلا يعني ليس الأمر كما يقولون في القرآن بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فالذي حجب قلوبهم عن الإيمان هو هذا الران حيث لم يؤمنوا به مع ظهور صدقه، وهذا الران يقول: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يعني كثرة الذنوب والخطايا غلبت على قلوبهم غمرتها وأحاطت بها فغطتها، فالذنب كما جاء في الحديث نكتة سوداء فيتكاثر ذلك على القلب حتى يسود.

ومجاهد -رحمه الله- بسط كفه وقال: إذا أذنب ذنبًا انقبض القلب، فقَبض الخنصر، وإذا أذنب آخر انقبض، وإذا أذنب ذنبًا آخر انقبض، ثم بعد ذلك يُختم عليه، فمجاهد هكذا يفسر الران، أن القلب بسبب هذه الذنوب يحصل له هذا، ينقبض فلا يصل إليه شيء، لا يدخل إلى هذا القلب شيء، يختم على قلبه كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله: "قوله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَالرَّيْنُ، وَالرَّانُّ هُوَ الْحِجَابُ الْكَثِيفُ الْمَانِعُ لِلْقَلْبِ مِنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ"[4].

لاحظ: حجاب كثيف حيث لا يصل إليه شيء، ولاحظ كلام ابن كثير يقول: والرين يعتري قلوب الكافرين، والغيم للأبرار والغين للمقربين فجعل ذلك على ثلاث مراتب، هذا قاله بعضهم، وهكذا فُسر به ما جاء في الحديث: إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله ليغان على قلبي يعني مع كثرة الاستغفار، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة، فيجد هذا الأثر من الغين، "ليغان على قلبي" يجد أثرًا مع كثرة الاستغفار، مع أن النبي ﷺ هو أكمل الناس حالاً ومع ذلك يجد هذا الأثر مع كثرة الاستغفار، فكيف بمن عطل الذكر والاستغفار لا يكاد يذكر الله فكيف يكون حاله؟!

فهذه أحوال تعرض للقلب فيجد الإنسان أحيانًا شيئًا من الضيق، أو التغير أو نحو ذلك، والعلماء -رحمهم الله- يقولون: إن النبي ﷺ كان يشتغل بطاعات وأعمال في أمور الجهاد وأمور مصالح الأمة وما إلى ذلك فكيف بمن يشتغل بأمور من الغفلة؟ كيف بمن يشتغل بأمور من المعاصي؟

ابن القيم لا يفسر ذلك بمثل ما ذكره ابن كثير، وغالب من يذكر هذا هم من المتأخرين من المتأثرين بالتصوف من شراح الحديث أو الذين يتكلمون في السلوك، وكأنهم إنما يدندنون حول هذا المعنى عند الكلام على الحديث، وما يعرض للقلوب وإنه ليغان على قلبي فكيف يقال: النبي ﷺ يعرض له شيء من التغير أو الضيق أو نحو ذلك وهو أكمل الناس معرفة بربه -تبارك وتعالى؟ فمن هنا قالوا: الغين إلى آخره، فسروه بتفسيرات أخرى قالوا: هذا يحصل للأبرار، وهذا يحصل للمقربين على خلاف ظاهر الحديث، لكنه ليس الران قطعًا.

وقال -رحمه الله: "وقال معاذ النحوي: الرين أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع، وهو أن يقفل على القلب"[5].

ابن القيم ذكر كل الأشياء التي تحصل للقلب في بعض كتبه، وما يعرض للقلب وموانع التدبر حينما يكون الإنسان قد ختم على قلبه، فالطبع والختم والران والأغلفة التي تكون على القلوب كل هذه نحو عشرة ذكرها ابن القيم وبين معانيها.

وقال -رحمه الله: "وقال الفراء: كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها، وقال أبو إسحاق: ران: غطى، يقال: ران على قلبه الذنب رينًا أي: غشيه، قال: والرين كالغشاء يغشى القلب، ومثله الغين.

قلت: أخطأ أبو إسحاق فالغين ألطف شيء وأرقه، قال رسول الله ﷺ: وإنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة[6]، وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها.

وقال مجاهد: هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه، فيموت القلب.

وقال مقاتل: غمرت القلوبَ أعمالُهم الخبيثة.

وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء...[7].

وقال عبد الله بن مسعود: كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله، فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينًا على قلوبهم، فكان سبب الران منهم، وهو خلق الله فيهم، فهو خالق السبب ومسبَّبه، لكن السبب اختيار العبد، والمسبَّب خارج عن قدرته واختياره"[8].

وقال -رحمه الله: "وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقَلْبَ يَصْدَأُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا زادَتْ غَلَبَ الصَّدَأُ حَتَّى يَصِيرَ رَانًا، ثُمَّ يَغْلِبُ حَتَّى يَصِيرَ طَبْعًا وَقُفْلًا وَخَتْمًا، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ فِي غِشَاوَةٍ وَغِلَافٍ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْهُدَى وَالْبَصِيرَةِ انْعَكَسَ فَصَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، فَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّاهُ عَدُوُّهُ وَيَسُوقُهُ حَيْثُ أَرَادَ"[9].

وقال -رحمه الله: "فَمَنَعَتْهُمُ الذُّنُوبُ أَنْ يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ بَيْنَهُمْ وَبيْنَ قُلُوبِهِمْ فَيَصِلُوا إِلَيْهَا فَيَرَوْا مَا يُصْلِحُهَا وَيُزَكِّيهَا، وَمَا يُفْسِدُهَا وَيُشْقِيهَا، وَأَنْ يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ بَيْنَ قلوبِهِمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، فَتَصِلَ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ فَتَفُوزَ بِقُرْبِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَتَقَرَّ بِهِ عَيْنًا وَتَطِيبَ بِهِ نَفْسًا، بَلْ كَانَتِ الذُّنُوبُ حجَابًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ"[10].

وقوله تعالى: كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ أي: لهم يوم القيامة مَنزلٌ ونزل سجين، ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم.

قال الإمام أبو عبد الله الشافعي: و في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه يومئذ.

كلّا، ما الأمر كما يقولون من أن لهم منزلة عند الله كما يقول ابن جرير -رحمه الله، بل هم على خلاف ذلك كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، فلما حجب هؤلاء من أهل الغضب والكفر دل ذلك بمفهوم المخالفة على أن أهل الرضا يرونه، فلو كان الجميع يحجبون عن رؤيته -تبارك وتعالى- لما كان لتخصيص هؤلاء وجه -والله أعلم، ومن هنا استنبط الشافعي -رحمه الله- من هذا الموضع أن المؤمنين يرون ربهم، فهذا بدلالة المفهوم.

وجاء بدلالة المنطوق بقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22، 23]، فهذا بدلالة المنطوق، فالرؤيا لله ثابتة بدلالة المنطوق وبدلالة المفهوم.

وبعض أهل العلم يقول: لمحجوبون يعني عن كرامته، عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ محجوبون عن ماذا؟

ابن جرير يقول أخذًا من عموم المقتضى هو ما صرح بالتعليل لكن هذا من حيث القاعدة الأصولية وهي أن: "المقتضى له عموم" يعني المحذوف المقدر يحمل على أعم معانيه، فهنا محجوبون عن رؤيته، محجوبون عن كرامته كل ذلك داخل فيه، فابن جرير يحمله على ذلك جميعًا، عن رؤيته وعن كرامته، ومثل هذا لا إشكال فيه، المهم إثبات الرؤية لأهل الإيمان وأن الكفار لا يرونه -تبارك وتعالى، وأهل السنة يوردون هذا من أدلة رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى، ويكون ذلك أيضًا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن حينما يذكر معه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فضلاً عن النصوص الواردة الصريحة: (إنكم سترون ربكم..[11]، ومسألة الرؤية متواترة.

يقول ابن القيم -رحمه الله: "قوله تعالى: كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ۝ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحيمِ فجمع عليهم نوعي العذاب: عذاب النار وعذاب الحجاب عنه سبحانه"[12].

فهذا من جملة ما يعاقبهم به.

وقال -رحمه الله: "كما جمع لأوليائه نوعي النعيم: نعيم التمتع بما جاء في الجنة، ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة في هذه السورة فقال في حق الأبرار: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [سورة المطففين:22- 35]"[13].

وسيأتي هناك أنهم ينظرون إلى وجه الله وهو أعظم النعيم، وينظرون إلى هذا النعيم الذي في الجنة، ويتمتعون برؤيته، كل ذلك.

وقال -رحمه الله: "وجه الاستدلال بها أنه جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته واستماع كلامه فلو لم يره المؤمنون ولم يسمعوا كلامه كانوا أيضًا محجوبين عنه"[14].

يعني لو لم يره المؤمنون لكانوا في هذا مع الكفار سواء، يعني حجبوا عن رؤيته

وقال -رحمه الله: "وقد احتج بهذه الحجة الشافعي نفسه وغيره من الأئمة، فذكر الطبراني وغيره عن المزني قال: سمعت الشافعي يقول في قوله كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فيها دليل على أن أولياء الله يرون ربهم يوم القيامة"[15].

وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ أي: ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي: يقال لهم ذلك على وجه التقريع، والتوبيخ، والتصغير، والتحقير.

وكما سبق في قوله: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [سورة الليل:15]، لَصَالُوا الْجَحِيمِ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ من أن ابن جرير يفسره بمعنييه: الدخول ومقاساة حر النار، يصلونها يحرقون بها، يشوون بها ويدخلونها، وهم إذا دخلوها فإن ذلك أيضًا من لازمه.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: " إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح"، والحاكم في المستدرك، برقم (107)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1676).
  2. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب، برقم (4990)، وأحمد في المسند، برقم (20046)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7136).
  3. رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، برقم (4244)، وأحمد في المسند، برقم (7952)، وقال محققوه: "إسناده قوي، محمد بن عجلان صدوق قوي الحديث، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح"، والحاكم في المستدرك، برقم (3908)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
  4. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 150).
  5. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:94).
  6. رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2702).
  7. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة ويل للمطففين، برقم (3334)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (10251)، وابن حبان في صحيحه، برقم (2787)، وقال محققه الأرناؤوط: "إسناده قوي".
  8. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:94).
  9. الجواب الكافي (ص:60).
  10. المصدر نفسه (ص:119).
  11. رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (554).
  12. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 32).
  13. المصدر نفسه.
  14. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص:292).
  15. المصدر نفسه.

مواد ذات صلة