بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [سورة المطففين:18]، كتاب الأبرار الأخيار أهل الإيمان والعمل الصالح، أخبر أن كتابهم في عليين، أي: أنهم كُتبوا هنالك، أو أن موضع كتاب الأبرار الذي كتبت فيه أعمالهم، أو كتبت فيه سعادتهم في عليين من العلو والارتفاع، فذلك موضع فوق السماء السابعة.
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ [سورة المطففين:19، 20] يعني أن ذلك قد كتب، يعني كتب وحكم لهم فيه بالسعادة، أو أن ذلك كتاب -على قول بعض المفسرين- يسمى بعليين أو أن موضعه في عليين، ومن ثَمّ فالشهادة هنا يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [سورة المطففين:21] إذا قيل بأنه موضع فمعنى ذلك أنه يشهده ويحضره ويأتيه المقربون من الملائكة، وإذا كان المقصود الكتابة فيعني أنه يشهد على ذلك المقربون من الملائكة.
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [سورة المطففين:22] هذا النعيم فسره بما بعده وهو قوله: عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [سورة المطففين:23]، ومضى كلام ابن القيم -رحمه الله- في تعميم ذلك، ولكن السياق في الآخرة، ولا شك أنهم في نعيم في الدنيا والبرزخ، ويُعرف ذلك من أمور أخرى.
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ على السرر تحت الحجال، والسرير إذا كان في الحَجَلة يقال له: أريكة، يعني أنها عليها مثل المظلة في أعلاها، ينظرون إلى وجه الله الكريم، وينظرون إلى ما أعطاهم الله من النعيم، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [سورة المطففين:24] فهذا النعيم يلوح عليهم ويظهر أثره على وجوههم.
يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ [سورة المطففين:25] يسقون من خمر يجدون في آخرها طعم المسك ورائحته، وبعضهم كما سبق يقول: إنّ أفواه تلك الآنية أو الدنان ختمت بالمسك فلا يفتحها إلا هم.
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [سورة المطففين:26] ختامه خاتَمه مسك، وَفِي ذَلِكَ يعني هذا الخمر أو هذا النعيم، فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ فيبذل كل أحد جهده ووسعه في طلبه وتحصيله، وأن لا يُسبق إليه، وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ [سورة المطففين:27] يمزج لهم ويخلط من هذه العين التي هي في أعلى الجنة، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [سورة المطففين:28] وهذا تفسير للتسنيم، يشرب بها المقربون صِرفًا، ويُمزج ماؤها مع شراب غيرهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين وللمسلمين أجمعين.
يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المطففين:29-36].
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين، أي: يستهزئون بهم ويحتقرونهم، وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم، أي: محتقرين لهم.
قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعني الكفار، كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ في الدنيا، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ يعني هؤلاء الذين حصّلوا هذا النعيم المقيم، هذه الجنات، هذه الملاذ بأنواعها كان المجرمون يسخرون منهم في الدنيا، ويحتقرونهم ويستضعفون عقولهم وآراءهم ويضحكون منهم.
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ يشير بعينه أو بشيء في تعابير وجهه أو بيده أو غير ذلك مما يقصد به لمزهم وعيبهم، فإذا مر أهل الإيمان تغامز أهل الإجرام، يعني على سبيل السخرية والاستهزاء، انظر إليه، انظر إلى هذا يرى أنه مهتدٍ وأنه على حق، وأنه تكون له العاقبة والآخرة والنصر وما إلى ذلك، كل هذا يذكرونه على سبيل الاستهزاء والسخرية في الدنيا، وهذه عادة أهل الإجرام يسخرون من أهل الإيمان.
ونوح ﷺ لما أمره الله -تبارك وتعالى- أن يصنع السفينة فكان الحال كلما مر به ملأ من قومه سخروا منه، يسخرون من نبي الله والعذابُ والعقاب أقرب إليهم من اليد للفم ومع ذلك يسخرون منه، لكن ماذا كان جوابه؟ قال: إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [سورة هود:38] فماذا كانت النتيجة وماذا كانت العاقبة؟
ولو تتبعت النصوص الواردة في القرآن في السخرية والاستهزاء الصادرة من البشر -من الناس- لوجدت ذلك إنما يكون من الكفار والمنافقين هذه هي عادتهم، وإلا فموسى ﷺ لما أمر بني إسرائيل في القصة المعروفة أن يذبحوا بقرة من أجل أن يحيا القتيل فيخبر عن قاتله قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] فدل على أن الذي يستهزئ بالناس من الجاهلين، فالعاقل لا يستهزئ ولا يشمت.
قوله: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ على قول ابن كثير هنا إذا رجعوا إلى منازلهم انقلبوا إليها فكهين أي: مهما طلبوا وجدوا ومع هذا ما شكروا، يعني أن هذه الجملة أو هذه الصفة لا علاقة لها بالاستهزاء يعني غير مرتبطة به، هم يستهزئون ويسخرون وإذا انقلبوا إلى أهلهم وجدوا الملاذ والنعم التي يتفكهون بها، ومع ذلك لم يشكروا الله على ذلك، فتكون صفة أخرى لهم لا ترتبط بموضوع الاستهزاء ارتباطًا مباشرًا، ولكن من جهة الشكر لله على هذه النعم.
هنا فسر الفكهين أو الفاكهين قال: مهما طلبوا وجدوا، فكهين، وابن جرير يقول: ناعمين معجبين، بعض أهل العلم من المفسرين يربط هذا بما قبله، يقول: إذا رأوهم استهزءوا بهم، وإذا انقلبوا إلى أهلهم إذا رجعوا إلى أهلهم انْقَلَبُوا فَكِهِينَ يعني معجبين بما هم فيه من الحال والمقام يتلذذون بذكر أهل الإيمان، ويقعون في أعراضهم فيتفكهون بذكرهم والطعن فيهم.
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ فيكونون في حال رؤيتهم لهم يستهزئون بهم، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا أيضًا يتفكهون ويتندرون بذكرهم والسخرية منهم، والاستهزاء بهم، وقراءة الجمهور وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين وفي قراءة حفص التي نقرأ بها فَكِهِينَ، والفاكِه والفكِه هل هما بمعنى واحد؟
بعض أهل العلم يفرق بين القراءتين يقول: الفكِه هو الأشِر البطِر، يعني فإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا في حال من الأشَر والبطَر، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى [سورة القيامة:33]، والفاكِه الناعم المتنعم المترف، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [سورة الواقعة:65] يعني: تطرحون التنعم، هكذا فسره بعض أهل العلم لِمَا نزل بكم وحل بكم، فالفكِه هو البطِر، والفاكِه المتنعم الناعم المترف، فهم متصفون بهذه الأوصاف، وهذه الصفة هي صفة أعداء الرسل -عليهم الصلاة والسلام؛ لأن أتباع الرسل في الغالب هم الضعفاء ضعفاء الناس، أما هؤلاء الأعداء فهم أهل البطَر، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [سورة المزمل:11]، والله المستعان.
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّون أي: لكونهم على غير دينهم، قال الله تعالى: وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِين أي: وما بُعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم من أعمالهم وأقوالهم، ولا كُلِّفوا بهم، فلمَ اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم؟ كما قال تعالى: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [سورة المؤمنون:108-111].
ولهذا قال هاهنا: فَالْيَوْمَ يعني: يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ أي: في مقابلة ما ضحك بهم أولئك.
قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِين أي: يحفظون أعمالهم ومن ثمّ يشتغلون بغير ما كلفوا به من قولهم: إن هؤلاء على ضلال، كما قال الله -تبارك وتعالى- في هذه: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا الاتخاذ أخص من مطلق الفعل يعني الاتخاذ يدل على مزيد عناية بهذا الشيء المتخَذ، تقول: اتخذت فلانًا جليسًا، اتخذت الكتاب جليسًا، اتخذت المسجد مجلسًا وما أشبه ذلك.
"فاتخذتموهم" وهو يدل على أنهم جعلوا هذا ديدنهم الذي اشتغلوا به "سخريًا حتى أنسوكم ذكري" اشتغلتم بهم وأعرضتم عما أُمرتم به من الإيمان والعمل الصالح، فهذا الاشتغال بهؤلاء حيث صوبتم النظر والفكر إليهم فلم يعد لكم اهتمام واشتغال إلا بهؤلاء من أهل الإيمان تسخرون منهم، وتستهزئون بهم، وتصدرون هذه الأحكام عليهم بالضلالة، حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي [سورة المؤمنون:110] ذكر الله -تبارك وتعالى، أنسوهم عبادته، أنسوهم كلامه وكتابه الذي أنزله عليهم يأمرهم به وينهاهم، فلم يذكروا الله -تبارك وتعالى، وأعرضوا عن كتابه، لم يذكروا ربهم بألسنتهم، ولا بقلوبهم، ولا بجوارحهم.
وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ هذا قابله الله بما ذكر بعده، وهنا في هذه الآيات في سورة المطففين: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ.
وشتان بين من كان يضحك في الدنيا ومن يضحك في الآخرة، ورجوع أولائك إلى أهلهم أعني أهل الإجرام فكهين وفاكهين انظر كيف قابله هنا بقوله: عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ، فأهل الإيمان يضحكون منهم وهم على أرائك الجنة، وأولائك في دركات الجحيم.
يؤخذ من هذا أن الإنسان لا يشتغل بالناس يسخر منهم ويستهزئ بهم ويقع في أعراضهم، يشتغل بقالة السوء والحكم على زيد وعمرو، هذا فعل وهذا ترك وهذا ضال، إنما إذا مُكر بالعبد صار شغله بغيره وأنساه الله -تبارك وتعالى- نفسه والعمل لآخرته، فالموفق من جد واجتهد في طاعة الله وعبادته، وأشغل قلبه ولسانه وجوارحه في التقرب إلى الله ، والمخذول من أعرض عن ذلك وصار شغله بالناس، والله المستعان.
فالآخرة دار لا تصلح للمفاليس، وبئس الزاد إلى المعاد أعراض العباد.
وقوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ؟ أي: هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقص أم لا؟ يعني: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله.
آخر تفسير سورة المطففين.
هَلْ ثُوِّبَ هذا الاستفهام للتقرير، يعني هل حصل لهم الجزاء الرادع اللائق بأمثالهم؟
الجواب: نعم حيث صاروا إلى النار، وصار أهل الإيمان عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ إليهم، ويضحكون منهم هَلْ ثُوِّبَ فثُوب فعل من الثواب والجزاء، يعني: هل جوزي؟