الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
[13] من قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي} الآية 26 إلى قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم} الآية 29.
تاريخ النشر: ١٣ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 8864
مرات الإستماع: 9607

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المفسر -رحمه الله تعالى: روى السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من الصحابة - أجمعين- لمّا ضرب الله هذا المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا سورة البقرة:17، وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ سورة البقرة:19 الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: هُمُ الْخَاسِرُونَ سورة البقرة:27.

وقال سعيد عن قتادة: أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئًا مما قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا سورة البقرة:26.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا؛ إذ البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله عند ذلك، ثم تلا: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ سورة الأنعام:44.

 ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي: لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلا ما، أي: أيّ مثل كان، بأي شيء كان، صغيرًا كان أو كبيرًا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه الآية هي جواب عن قيل من قال: إن الله أجلّ شأنًا من أن يضرب مثلاً بالذباب وما إلى ذلك، وليست -والله تعالى أعلم- مثلاً للدنيا، وإنما الدنيا قال فيها النبي ﷺ: لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء[1]، وإنما هذا جواب عن قول أولئك، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فلا يستحيي هذا نفي للحياء في مثل هذا المقام الذي يكون فيه بيان الحق بأجلى صوره بضرب الأمثال، وإلا فإن صفة الحياء ثابتة لله : إن الله حيي ستِّير[2]

وليس معنى لا يستحيي يعني لا يخشى، وإنما هو نفي للحياء الذي هو من أوصاف الكمال ثبوتًا وكونه يوجد في بعض المقامات مما ينبغي أن يكون ليس ذلك من الكمال، ولهذا نفى الله ذلك في مثل هذا إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا البعوضة هي تفسير، هنا منصوبة إما على التمييز أو على أنها صفة -نعت- لما قبلها "أن يضرب مثلاً ما" فقد تكون تفسيرًا لـ"ما" الدالة على الاستفهام، وقد تكون عائدة إلى المثل على خلاف بين أهل العلم، بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.

وقوله تعالى: فَمَا فَوْقَهَا أي: ما هو أكبر منها، لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة، روى مسلم عن عائشة -ا وأرضاها، أن رسول الله ﷺ قال: ما من مسلم يشاك شوكةً فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة[3].

يعني ابن كثير -رحمه الله- فسر هذه الجملة بالمشهور من أحد المعنيين في تفسيرها؛ لأن قوله: فَمَا فَوْقَهَا يحتمل معنيين:

المعنى الأول: فَمَا فَوْقَهَا يعني فما هو أعظم وأكبر منها، أكبر من البعوضة.

والمعنى الثاني الذي تحتمله: وهو أن ما فوقها أي ما هو أدق وأصغر منها، فتقول مثلاً: هذه الإبرة فوق هذه الإبرة يعني أدق منها، أو أن هذا السن فوق هذا السن، يعني أنه دونه وأصغر منه، فتطلق هذه اللفظة بالاشتراك على معنيين اثنين متقابلين تمام المقابلة: 

الأول: ما هو أكبر، والثاني: ما هو أصغر، ولكلٍّ قائل في هذه الآية، فبعض أهل العلم يقول: فما فوقها يعني فما دونها وأحقر منها. 

والمعنى الثاني: فما فوقها يعني ما هو أكبر من البعوضة، وهذا هو المعنى المتبادر، وهو المشهور، وهو الذي اقتصر عليه الحافظ ابن كثير، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم من السلف فمن بعدهم، واستدل عليه هنا، وهذا من قبيل تفسير الشيء بنظيره، يعني يفسر القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بالقرآن إلى آخره. 

والشيء قد يفسر بنظيره مما هو ظاهر في مقام آخر، يعني يُفسَّر سياق بسياق، وتفسر لفظة بلفظة كما مضى في أصول التفسير، تفسر جملة بجملة وإن كانت جملة من هذه الجمل قد وردت لتقرير معنى آخر لا تعلق له بالمعنى الأول، فهنا "بعوضة فما فوقها" فسره بقول النبي ﷺ يشاك شوكة فما فوقها، ما المقصود بالحديث؟ يعني هل المقصود ما هو أصغر منها أو ما هو أكبر منها؟

ما هو أكبر منها؛ لأن الشوكة في العادة تقال لأدنى الأشياء التي تصيب الإنسان كما قال خبيب : "والله ما أحب أن أكون في أهلي آمنًا ورسول الله ﷺ يشاك بشوكة"[4]، يعني هو ذكر أدنى ما يقال، طبعًا العقل يتخيل ما هو أدنى من الشوكة لكن عقول المخاطبين تفهم من مثل هذا الخطاب المرادَ به؛ ولذلك لا يأتي متنحل ومتعنت يقول: "يشاك شوكة فما فوقها" طيب لماذا لا يقول: أدنى من الشوكة مما يصيب الإنسان من الآفات والعوارض التي تعرض له، يقال: ليس هذا هو المراد، وليست هذه طريقة العرب في الخطاب، وليس هذا بفهم، وإنما هذا من العجمة في الفهم. 

فالحاصل أن هذا التفسير مثال على تفسير الشيء بنظيره، مما يقرب معناه من جهة اتحاد السياق، وإن كان المعنى مغايرًا كل المغايرة بين المفسر والمفسر به.

فَمَا فَوْقَهَا ما هو أكبر منها، طبعًا هو جاء بالحديث ليوضح هذه القضية؛ لأن الشيء قد يكون خفيًّا في بعض المواضع بسبب التركيب، ويكون في موضع آخر أوضح، يحتمل معنيين، وإن كان لا يمت بصلة إلى المعنى لكنه واضح -أي هذا التركيب- في مكان آخر، وتذكرون أننا مثلنا له بأمثلة في أصول التفسير، ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ سورة البقرة:58 أي: مسألتنا حطة، هذه تفسر به في شيء أوضح من هذا، لا يمت له بصلة، لكن التركيب يشبه التركيب.

فأخبر أنه لا يستصغر شيئًا يَضْرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [سورة الحج:73]، وقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة العنكبوت:41]. 

وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ۝ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ۝ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ۝ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [سورة إبراهيم:24-27]. 

وقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ الآية [سورة النحل:75]، ثم قال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الآية [سورة النحل:76]، كما قال: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ الآية [سورة الروم:28].

وقال مجاهد: قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها.

يعني فيما ضُرب فيه المثل وإلا فالأمثال لا شك أنها عظيمة، والبعوضة لم يَرِد ضرب المثل بها في القرآن في موضع من المواضع، وقوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً هو لم يضرب بها المثل، وإنما يخبر -تبارك وتعالى- ردًّا على هؤلاء القائلين- أنه لا يستنكف ولا يمنعه الحياء أن يضرب المثل بها وبما هو أعظم منها أو أكبر منها في الخلقة. 

وقوله هنا: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا هو الذي حمل الربيع -رحمه الله- أن يقول: إن الله ضربها مثلاً للدنيا بأنها إذا زادت نقصت، وإذا اكتملت كان ذلك إيذانًا بزوالها واضمحلالها كالبعوضة، ولكن ليس هذا المراد هنا من ضرب المثل بها، والعلم عند الله .

روى السدي في تفسيره عن ابن عباس، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا يعني: المنافقين، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا يعني المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم، وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به، وَيَهْدِي بِهِ يعني بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق لما ضربه الله له مثلا، وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ.

هنا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا يضل به المنافقين، ويضل به أيضاً الكافرين، كل من في قلبه رجس، كما قال الله : فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ سورة التوبة:125، وأخبر عن المنافقين كيف يكون حالهم إذا سمعوا آية أنزلت على النبي ﷺ: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [سورة التوبة:124]، فأهل الإيمان تزيدهم إيمانًا هذه الأمثال والآيات المنزلة على النبي -عليه الصلاة والسلام- بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين، ولهذا قال بعدُ: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ثم وصفهم: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ سورة البقرة:27، فالمقصود أن ذلك لا يُخص بالمنافقين.

 قال: هم المنافقون.

الفسق معروف يطلق على كل من خرج عن طاعة الله  خروجًا أصغر أو خروجًا أكبر، فالخروج الأكبر يشمل أهل النفاق، ويشمل الكفار، والخروج الأصغر هم أهل المعاصي، وهذا إطلاق معروف في اللغة وفي الشرع، يطلق هذا على هذه المعاني جميعًا؛ لذلك المثال الشهير في أصول الفقه الذي يذكرونه عند الكلام على مفهوم الموافقة الأولوي يقولون: الظني؛ لأنه على قسمين قسم ظني وقسم قطعي.

فيقولون في مفهوم الموافقة القطعي الأولوي -يعني من باب أولى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ سورة الإسراء:23 يعني الضرب من باب أولى قطعًا. 

والظني: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا سورة الحجرات:6 وإن جاء كافر من باب أولى لكن هذا ظنًّا؛ لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه يعني متدينًا ودينه يحرم عليه الكذب، فيقولون: لا يُقطع بهذا -أي إن جاء كافر من باب أولى أننا نتثبت، لكن هذا المثال مع أنه مشهور جدًّا إلا أنه في ظني فيه نظر؛ لأن قوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ هنا يشمل الكافر ويشمل العاصي فَتَبَيَّنُوا فنحن مأمورون بالتبين إلا إذا جاء العدل، والكافر لا يكون عدلاً.

 وتقول العرب: فسقت الرطبةُ إذا خرجت من قشرتها؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة، لخروجها عن جُحْرها للفساد.

هو هذا خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحل والحرم...)، كل ما خرج عن الجادة يقال له: فاسق، وفَسَقَ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ سورة الكهف:50يعني خرج عن أمر ربه بالسجود لآدم ﷺ، وهذا كثير ومعروف حتى في كلام العرب وأشعارهم:

فواسقاً عن قصدها جوائرَ ..............

 يعني خارجة عن الطريق.

وثبت في الصحيحين، عن عائشة -ا- أن رسول الله ﷺ قال: خمس فواسق يُقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور[5].

فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش، والمراد من الآية الفاسق الكافر -والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ سورة البقرة:28.

هذا الآن الترجيح الذي ذكره ابن كثير اللفظة تحتمل معنيين بل هي عامة في هذا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ، فيدخل فيه الكافر والمنافق، ويدخل فيه أيضاً العاصي من المؤمنين فقوله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ هل القصود به من خرج عن طاعة الله من أهل الإيمان أن الله يضلهم بهذه الأمثال؟

الجواب: لا، ليس هذا هو المراد، فالقاعدة أن الآية قد تحتمل معنيين فأكثر، ويوجد في الآية قرينة ترجح أحد هذه المعاني، وهذا له أمثلة كثيرة جدًّا هذا واحد من هذه الأمثلة، الآية تحتمل معنيين فأكثر، ويوجد في نفس الآية قرينة ترجح أحد هذه المعاني، طبعًا نحن لا نشتغل بالأمثلة لكن أنت اسمع المثال فإن أعجبك وإلا فخذ مثالاً آخر، هناك عشرات الأمثلة، لا تتعلقوا بالأمثلة، قاعدة صحيحة. 

فمثلاً في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ سورة البقرة:228، فإن القرء مشترك بين معنيين متناقضين الطهر والحيض، لا يوجد واحدة لا طاهر ولا حائض -يلحق بالحيض النفاس، لا طاهر ولا حائض يعني نصف نصف، ما في، فالمقصود أنه هنا ثلاثة قروء هل المراد الحِيَض أو الأطهار؟

من رجح أن المراد به الأطهار قال: إن العدد هنا لحقته تاء التأنيث "ثلاثة"، فلو كان المقصود الحِيَض فإن العدد ثلاثة لا تلحقه تاء التأنيث إذا كان المعدود مؤنثًا: ثلاث نسوة، بينما إذا كان مذكراً تقول: ثلاثة رجال، فهنا هل نقول: ثلاثة حِيَض أو ثلاثة أطهار؟ الطهر مذكر فالذين فسروا القرء بالطهر قالوا: في الآية قرينة ترجح هذا المعنى، وإن كانت لفظة القرء تصدق على الطهر والحيض؛ لأنها من قبيل المشترك، قال: ثلاثة هذا مؤنث ولا يكون إلا مع المعدود المذكر، ثلاثة أطهار، طبعًا هذا ليس بقاطع؛ لأن لفظة "قرء" مذكّرة، "ثلاثة قروء" ليس بقاطع، لكن قالوا: هي قرينة. 

فهنا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ليس المقصود به من خرج عن طاعة الله من أهل الإيمان، وإنما الكفار وأهل النفاق، ما القرينة في الآية؟ قال: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ سورة البقرة:27 ليست هذه صفة الفسقة من أهل الإيمان هذه صفات الكفار كما جاء ذلك في آيات أخرى.

وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ۝ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ الآيات، إلى أن قال: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ سورة الرعد:19-25.

انظر: نفس الأوصاف المراد بها الكفار هنا لأمرين:

الأمر الأول: أنه قابلها بصفة أهل الإيمان، والمقابلة العادة أن تكون بين المؤمنين والكفار.

الأمر الثاني: ما عقب به "لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وهذا إنما يكون للكافرين.

والعهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه: هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.

بعض أهل العلم يقول: هو العهد الذي أخذه الله على بني آدم حينما استخرجهم من آدم ﷺ على هيئة الذر وأخذ عليهم الميثاق، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۝ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ سورة الأعراف:172-173.

فهذه في أخذ الميثاق فبعض أهل العلم يقول: "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" العهد هو ما أخذه عليهم وهم في ظهر آدم ﷺ. 

وبعضهم يقول: لا، ليس هذا هو المراد، وإنما المقصود به هو ما أمرهم به ووصاهم به على ألسن الرسل -عليهم الصلاة والسلام، فقد جاءهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يأمرونهم بالتوحيد، وبكل عمل وأمر طيب صالح، وينهونهم عن الشرك وعما تفرع به من كل أمر سيئ، فهذا هو العهد.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ العهد مفرد مضاف، والمفرد إذا أضيف فإنه من صيغ العموم، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ أي: عهود، كل عهد لله يصدق عليه ذلك، فالتوبة عهد بين الله وبين العبد، والنذر عهد، والوعد عهد، والإسلام عهد، وما أخذه الله على بني آدم حينما استخرجهم من ظهر آدم ﷺ عهد، وهكذا ما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هو عهد من الله لخلقه، فهذا كله -والله تعالى أعلم- يدخل في معنى الآية، والعلم عند الله ، مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ يعني الميثاق تقول: وثّق الشيء يعني قواه وأكده.

وقيل: بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد ﷺ إذا بعث، والتصديق به، وبما جاء به من عند ربهم.

هذا من جملة العهد، قلنا: مفرد مضاف، وهو للعموم، فيدخل فيه ما أخذه الله على أهل الكتاب فهذا من العهد، عهد إليهم إذا جاءهم رسول مصدق لما معهم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ۝ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ سورة آل عمران:81-82 فهذا كله من العهد وهو داخل فيه، فلا تختص هذه الآية بأهل الكتاب بخصوص هذا العهد الذي أخذه عليهم، والله تعالى أعلم.

ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلا.

وقيل: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه: ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما ثبتت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي أيضًا عن مقاتل بن حيان نحو هذا، وهو حسن، وإليه مال الزمخشري.

فالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه لا شك أنه يشمل الكفار والمنافقين كما سبق ولا يختص بأهل الكتاب، ولكن ذلك لا يكون بمجرد ما وضعه من الدلائل الدالة على ربوبيته ووحدانيته، بل لابد أن ينضم مع ذلك ما ذكر من التصديق برسله -عليهم الصلاة والسلام- واتباعهم والإقرار بما جاءوا به، والقبول عن الله بأمره.

وقوله: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسره قتادة كقوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ سورة محمد:22 ورجحه ابن جرير، وقيل: المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه.

لكن عادة إذا ذُكرت الصلةُ وصلةُ ما أمر الله به أن يوصل فالمراد بها صلة الأرحام، هذا المراد بها وإن كان بعض أهل العلم قال: إنه يدخل فيها من المعاني غير هذا كصلة القول بالعمل، وكذلك صلة الإيمان والتصديق بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فيؤمن بهم جميعًا لا يؤمن بنبي ويكفر بالآخرين، هذا فُسر به يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ سورة الرعد:21

ولكن ليس هذا هو المتبادر من معنى الآية، والآية يجب أن تحمل على المعنى المتبادر دون المعنى الخفي المغمور إلا بدليل يجب الرجوع إليه، فإذا أطلق مثل هذا "يصلون ما أمر الله به أن يوصل" فمباشرة يتبادر إلى الأذهان أنها صلة الأرحام، وعيدُ أهل القطيعة أو الفسق أو الانحراف بما جاء بوصفه بهذه الآيات شيء آخر .

لكن الكلام هنا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ۝ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ سورة البقرة:26-27 هؤلاء هم الكفار وإلا فإن هؤلاء الفسقة من أهل الإيمان لا يقفون عند هذه الأمثال وينكرونها، ويقولون: الله أعظم من أن يضرب مثلاً بهذه المحقرات، لا يقولون هذا، فالآية من سياقها يُعلم أنهم غير داخلين في هذا المعنى وإن كانوا من جملة الفاسقين، ولكن اللفظ قد يخص ببعض معانيه -بعض ما يدخل تحته- بدليل في الآية أو قرينة، فـ"الفاسقين" هنا لا تُحمل على أعم معانيها.

وقال مقاتل بن حيان في قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قال: في الآخرة.

ابن كثيرإذا ذكر مقاتلا فهو مقاتل بن حيان المتوفى سنة 150 للهجرة، وهناك مقاتل آخر وهو مقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 للهجرة أيضاً، فهذا مقاتل بن حيان لم يُتكلم فيه، ولم يتهم لا في النقل ولا الرواية، ولم يتهم أيضاً في الدين والاعتقاد، مقاتل بن سليمان متهم بالأمرين يعني اتهم بالكذب، واتهم أيضاً بالقول بالتجسيم. 

والعلماء -رحمهم الله- يتناقلون كثيرًا القول المنسوب لأبي حنيفة: إنه قد جاءنا من المشرق رأيان خبيثان مقاتل مجسم، وجهم معطل، فطارت هذه المقولة وتناقلها الكبار كالشافعي -رحمه الله- والذهبي وأئمة كثير، مع أن هذا بالنسبة للتهمة بالكذب والضعف الشديد في الرواية أو عدم التوثيق في أقل الدرجات لا شك أن هذا العلماء تتابعوا عليه، وكلامهم كثير فيه. 

لكن تبقى القضية الثانية التي هي رمي مقاتل بالتجسيم، هو له كتاب أربعة مجلدات في التفسير مطبوع لكنه قليل التداول، ورأيته قبل سنتين ظهر طبعة سقيمة ما فيه شيء من التجسيم أبدًا، وله تفسير خمسمائة آية عندي نسخة منه مطبوعة على الآلة الكاتبة لا يوجد فيها شيء من التجسيم، وله كتب لا يوجد في كتبه التي وصلت إلينا شيء من التجسيم، لذلك شيخ الإسلام من دقته لمّا ذكره في بعض كتبه كالمنهاج -منهاج السنة- قال: ولعله لا يثبت عنه، ولذلك لما استُقرئت هذه الكتب لم يوجد فيها شيء وهي بين أيدينا، أبدًا، فلا تدري هل هذا مما كان يقال عن أهل السنة: إن من أثبت الصفات فهو مجسم فقيلت عنه؟

ومثل هذا كثير، تجد الكرامية مثلاً يُرمون بأشياء، شيخ الإسلام -رحمه الله- من دقته تجده يقول: وعن بعضهم، ما هو كل ما يقال عنهم، هناك أشياء ثابتة عنهم، كلامهم في الإيمان مثلاً، ولكن في بعض الأشياء تجده يقول: وهذا قد لا يثبت عنهم، ولذلك أكثر من شوه الكرامية -الكرامية هم فرقة من الفرق المنحرفة- ونشر عنهم السمعة السيئة ابن فورك من الأشاعرة؛ لأنه ناظر ابن كرام أمام الأمير وأفحمه، وبعد ذلك هذا الأمير أبعد ابن فورك والأشعرية وصار يقرب أهل الحديث، كيف يقرب أهل الحديث بعد مناظرة ابن كرام؟

أنا لا أقول أبدًا: إن ابن كرام من أهل الحديث، ولكن ما يرمونه به في بعض الأمور إنما نقل إلينا عن طريق خصومه، ولذلك تجد كثيرًا مما ينقل عن الفرق في كتب الفرق إنما ينقل عن خصومهم، ولذلك تجدهم ينقلون أشياء عجيبة وغير دقيقة وأشياء غريبة جدًّا، فالشهرستاني عندما يصنف بعض أئمة السنة كالشعبي وجماعة من الكبار يصنفهم من الإمامية الرافضة، لو قال: فيه تشيع يمكن أن نتقبلها، لكن إمامية! وهذا كثير.

ابن كثير ينقل عن الزمخشري كثيراً في هذا الكتاب، وينقل عن غيره أيضاً كالرازي، وهذا أمر معروف عند أهل العلم، البخاري -رحمه الله- تراجم الأبواب فيها أشياء لغوية عامتها مأخوذ من أبي عبيدة معمر بن المثنى الخارجي المعتزلي، فالنقل من كتب أناس عندهم انحرافات أمر معروف عند العلماء، ولا زالوا قديمًا وحديثًا من عهد السلف ينقلون أشياء ويستفيدون منها بلا غضاضة، لكن لا ينقلون الباطل والانحراف إلا للرد عليه، لكن ينقلون الأشياء الصحيحة الجيدة.

والإمام أحمد نُقل عنه الإنكار أنكر على أبي عبيدة القاسم بن سلام ما كان ينقله عن الفراء، وأمثال الفراء فيما يكتب، أنكر عليه ذلك مع أن الفراء ليس من أصحاب العقائد المنحرفة، لكن الفراء قال بعض الأشياء التي أنكرها عليه الإمام أحمد في التفسير وهي يقول بها علماء كثير من أهل السنة، مثل قول الله -تبارك وتعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سورة الأعلى:9 هو يقول: إن نفعت وإن لم تنفع، فقد ذكر أشرف الأمرين وهذا من باب الاكتفاء، اكتفى عن القسم الآخر مثل: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ سورة النحل:81 فسكت عن البرد، فهذا يسمى بالاكتفاء، يذكر أحد الشقين ليدل على الآخر، فالإمام أحمد ما أعجبه هذا ورده ونهى أبا عبيدة. 

الإمام أحمد كان ينهى عن وضع الكتب، ونُقل هذا عن بعض المتقدمين، طيب هل أحد الآن ينكر وضع الكتب -التأليف، تأليف غير الحديث، غير ذكر الروايات، أحد الآن ينهى عنه؟ ما في أحد ينهى عنه الآن، فتتابع العلماء على أن الناس احتاجوا إلى ذلك، الإمام أحمد كان في وقت الفتنة والشر والابتداع، كان في بدايته فأراد أن يقمع ذلك فيقتصر الناس على الأثر. 

لكن الباب لا أقول: فتح بل كسر، وكسرت الجدران، اختلط الحابل بالنابل، والخير بالشر، فصار العلماء يضعون الكتب بلا إشكال، وإلا لو قرأت فقط كلام الإمام أحمد -رحمه الله- في النهي عن وضع الكتب وعن تدوين كلامه لمَا وُجد لا مذهب الإمام أحمد، ولا أحدٌ ألّف شيئًا، فهذه الكلمات والعبارات التي نسمعها عن السلف تحتاج إلى فقه، أما إذا جاء الإنسان يأخذ عبارة بمجردها ويقول: هذا هو منهج السلف ويعمم هذا، ويحكم على الناس بناء على عبارة واحدة فمعناه أنه لا يُبقي ولا يذر، وينبغي أن يبدأ بنفسه فيجد نفسه متورطاً بمثل هذه الأشياء.

وهذا كما قال تعالى: أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ سورة الرعد:25.

وقال الضحاك عن ابن عباس -ا: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل "خاسر" فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب.

هذا ما يسمى بكليات التفسير، كل كذا في القرآن فمعناه كذا، كل آية يذكر فيها "يا أيها الناس" فهي مكية إلا الآية التي في سورة كذا، كل آية يذكر فيها "يا أيها الذين آمنوا" مثلاً أو كل آية يذكر فيها أهل الكتاب فهي مدنية إلا الآية المذكورة في سورة كذا، وهكذا يسمى كليات التفسير. 

طبعًا هذه بعضها لا يصح من جهة الرواية، وبعضها صحيح من جهة الرواية ولكن الاستقراء فيه ناقص، يعني تجد أشياء تقدح فيه كثيرًا بحيث إنه ما يصلح من الكليات، يعني لو دونتها وجمعتها تجد قدرًا صالحًا منها، كل كذا فهو كذا، ويدخل هذا أيضاً في قضية الحقيقة الشرعية، هنا المثال الذي أمامنا إذا ذكر الخسران في القرآن ما المراد به؟ إذا ذكر البر ما المراد به؟ وهكذا.

وقال ابن جرير في قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الخاسرون: جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم وحظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسِر الرجل يخسَر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا، كما قال جرير بن عطية:

إنّ سَلِيطًا في الخَسَارِ إنَّهْ أولادُ قَومٍ خُلقُوا أقِنَّهْ

هذا جرير يهجو رهطًا من قومه، جرير الشاعر المعروف يهجو رهطًا من قومه من بني يربوع، هذا رجل منهم هجا شخصًا، رجل من قوم جرير هجا شخصًا فهجا جرير ردًّا عليه هؤلاء الرهط الذين منهم هذا الذي قام بالهجاء، هجاهم بهذا البيت، وسليط هذا هم الرهط، يعني الفخذ من القبيلة أو البطن من القبيلة، البطن أكبر من الفخذ، فرع من قبيلة جرير، "خلقوا أقنة" الأقنة جمع قِنّ بالكسر، والقِنّ هو الشخص الذي ملك عبداً هو مع أبيه، يعني ما هو فقط، هو عبد وأبوه وأمه من العبيد، تعرفون الإنسان ما هو رقيق لكن يسترق في الحرب وأهله أحرار، وقد يكون رقيقًا مع أمه فقط؛ لأن الأب حر وتزوج بالأمة فصار الأولاد أرقاء، فهذا الذي يقال له: القن، هو من كان بهذه المثابة.

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ سورة البقرة:28.

يقول تعالى محتجًّا على وجوده وقدرته، وأنه الخالق المتصرف في عباده: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ أي: كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ أي: قد كنتم عدمًا فأخرجكم إلى الوجود؟

قضية كيف تنكرون وجوده؟ هذا عند من يجحد وجوده مثل الملاحدة، ولكن هذا لم يكن في المخاطبين من العرب لأول وهلة، وإنما يكفرون به بأن يجعلوا معه إلهًا آخر. 

وهنا في هذه الآية: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ لماذا عقب الأولى بالفاء والفاء تدل على التعقيب المباشر "ثم يميتكم" جاء بـ"ثم"؟ كنتم أمواتًا سواء قيل: في عالم العدم، أو قيل: النطفة والعلقة والمضغة كما سيأتي، فنفخ الروح يبعث إليه الملك حينما يكون له أربعة أشهر فتأتيه الحياة مباشرة كنتم أمواتًا فأحياكم، أما الموت بعد هذه الحياة فإنه يكون بعد ذلك يعيش خمسين، ستين سنة، عشرين سنة، أكثر، أقل، "ثم يميتكم ثم يحييكم" فإذا أماتهم بقي الإحياء الآخر وهو البعث كما هو المتبادر يميتكم فيبقون في عالم البرزخ في حياة قبل حياة الآخرة التي هي البعث من القبور -بعث الأجساد- "ثم يحييكم" فكانت بهذا الاعتبار للتراخي.

وقوله: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ الآن الموت عندنا كم موتة؟ في هذه الآية عندنا موتتان وإحياءتان، وذلك أيضاً صريح في قوله تعالى عنهم: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ سورة غافر:11 فما هي هذه الإماتات والإحياءات وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا؟ 

بعض أهل العلم يفسر الموت هنا حينما كانوا في عالم العدم، فالمعدوم يقال له: ميت، وبعضهم يقول: ليس المراد به حينما كانوا في عالم العدم، وإنما في عالم النطفة ثم العلقة ثم المضغة، وقد يقول بعضكم: كيف تكون هذه بحكم الموت والمعروف أن النطفة فيها الحيوانات المنوية وأنها تسبح؟

يقال: هذا ينبغي أن يفهم بناء على معهود المخاطبين، فالمخاطب بهذا القرآن العرب وهم يقولون عن كل ما لا روح فيه: ميت، ولذلك النطفة يعتبرونها ميتة، وهذا الذي دلت عليه لغة القرآن، لا يقولون: فيها حيوانات منوية حية، لا يعتبرون هذا الآن، هم ما ينكرون هذا لكن هي ليس فيها روح فتسمى عندهم: ميتة، متى تكون الحياة؟ بعد نفخ الروح، وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا يعني حينما كنتم في بطون أمهاتكم نطفًا، ثم كان علقة، ثم مضغة قبل أن تنفخ فيه الروح، فَأَحْيَاكُمْ بنفخ الروح، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثم الموتة المعروفة، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ البعث. 

وبعض أهل العلم يقول: الإحياء الثاني المذكور ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هو البرزخ، وعليه قال بعض أهل العلم: إن الإماتة والإحياء أكثر من هذا، وتتبعوا كل ما قيل ولو كان ذلك لا أصل له، فعد بعضهم كالقرطبي -رحمه الله: ست إماتات، وست مرات من الإحياء، فبدأ يعد يوم كانوا في ظهر آدم فاستخرجهم على هيئة الذر قال: كانوا في صلب آدم أمواتًا، ثم أحياهم، ثم أعادهم مرة ثانية، يعني أماتهم، وذكر أشياء ذمَّها هو، لا يعني أنه يقر بها لكن يقول: على قول من قال كذا، وعلى قول من قال كذا، فعدد ستًّا من الإماتات وستًّا من الإحياءات، عد قضية البرزخ واحدة، والجهنميون العصاة أنهم يحترقون في النار كما في صحيح مسلم [6] فيُخرجون من النار وهم قد صاروا حُمَمة فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبّة في حميل السيل، فقال: هذه إماتة، يموتون في هذه النار في النهاية أي المؤمنون العصاة ثم يخرجون فيحيون. 

لكن هل هذا معنى قوله: "وكنتم أمواتًا فأحياكم"؟ لا، ليس هذا هو المراد؛ فهذا كلام لعموم الخلق وليس لهؤلاء المعذبين من أهل الإيمان، فإن الكفار لا يموتون في النار ولا يحيون، كذلك أهل الإيمان الذين لا يدخلون النار، ولا تصير حالهم إلى هذا، فالمقصود أنها إماتتان وإحياءتان، ومن أراد أن يراجع كلام أهل العلم في هذا أو مجموع ذلك ينظر في مثل كلام القرطبي -رحمه الله.

كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ۝ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ سورة الطور:35-36.

هذا يذكّر الله به عباده مما يلزمهم به توحيده، كيف تكفرون وهو الذي خلقكم والذين من قبلكم كما سبق وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ فينبغي أن تكون العبادة فيمن خلق ولا تكون في أحد سواه.

وقال: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا سورة الإنسان:1 والآيات في هذا كثيرة.

وقال ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس: كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ أمواتًا في أصلاب آبائكم، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم، قال: وهي مثل قوله: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ سورة غافر:11.

حتى بعض أهل العلم يذكرون حينما صور الله لآدم الذرية ونظر إليهم يقولون: هذه إحياءة، ثم أماتهم مرة أخرى، وهكذا يعددون كل هذه الأشياء.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة البقرة:29، لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلاً آخر مما يشاهدونه من خلق السموات والأرض فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ أي: قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا تَضَمَّن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عُدي بـ "إلى" فَسَوَّاهُنَّ أي: فخلق السماء سبعًا، والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال: فَسَوَّاهُنَّ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

هنا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا هذه الآية يحتج بها الأصوليون في موضع معروف وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة -وكذلك الفقهاء- وليس التحريم هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا بخلاف من قال كبعض المعتزلة: الأصل في الأشياء المنع والتحريم لماذا؟ 

قالوا: لأن هذه الأشياء هي ملك لله ولا يجوز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه، فلابد من إذن خاص في كل شيء أنه يحل لنا خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وما ذُكر أولا هو قول أهل العلم من المعتبر بهم والمحتج بقولهم فكأنه إجماع. 

وكذلك يحتج بها بعض أصحاب الأهواء في العصر الحديث الذين يتتبعون الرخص، ويسهلون على الناس في الفتوى، ويقولون عنا: نحن ضيقنا على الناس، أو أنتم ضيقتم على الناس، والله يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فما لم يدل دليل واضح وصريح على تحريمه فينبغي أن لا نمنع الناس منه، فاستحلوا ألوان المعاملات المحرمة، والحيل على الربا، وأشياء كثيرة مما تعرفون، كل ذلك احتجاجًا بمثل هذه الآية خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا

هنا الظاهر العموم، نص "خلق لكم ما في الأرض" كل ما في الأرض فهو خلقه لكم، أي من أجل الانتفاع به وإن خفي عليكم وجه ذلك، يعني هناك أشياء يحصل بها التعادل في هذا الكون تظهر فيها حكمة الله في الخلق، وأشياء يعود نفعها إلى الإنسان ولو بوسائط لكن نحن قد لا ندرك هذا. 

يعني مثلاً تذكرون في الكلام على التفسير الذي كان بعد صلاة العشاء مباشرة أحيانًا تأتي بعض أسماء الله نتكلم عليها في آخر سورة الحشر هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ سورة الحشر:24 تذكرون أو من حضر منكم الكلام آنذاك على بعض القضايا المتعلقة بخلق الله ذكرت لكم مثالا قلت: في بعض المناطق في أمريكا يوجد نوع من الوعول كثير جدًّا يتغذى على نوع من الزهور في تلك النواحي والجبال، ويوجد نوع من السباع -نمور- تتغذى على هذه الوعول، فقاموا بقتل مجموعة كبيرة من هذه النمور فالذي حصل أن هذه الوعول كثرت جدًّا، فأكلت كل هذا النوع من النبات الذي تتغذى عليه عادة ولم تجد شيئًا تأكله، فمات كثير منها حتف أنفه. 

فهناك أشياء قد لا يدركها الإنسان يتدخل فيها ولكنها تعود عليه بالضرر بعد ذلك إما على حياته مباشرة أو بواسطة أو يختل فيها شيء من النظام الذي أودعه الله في هذا الكون، والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا. 

فقوله: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا لو قلت لي مثلاً: طيب الآن هذه الوزغ ما الفائدة منها هي مضرة؟ نقول لك: أما ترى أنها تأكل الحشرات البعوض والذباب وما إلى ذلك؟ الهرة تأكل الفأرة، وتأكل الحشرات تتغذى عليها، تقتلها حتى لو ما أكلتها، مع أن الإنسان إذا نظر إليها يقول ما الفائدة منها؟ يعني لو كانت أرانب ما كانت بهذه الكثرة. 

فالمقصود أن هناك أشياء يستفيد منها الإنسان بواسطة وأشياء يستفيد منها مباشرة، وهذا كثير جدًّا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا فسر "استوى" بمعنى قصد في هذا الموضع فقط، وهذا التفسير لم ينفرد به ابن كثير بل قال به غيره، ولكن المشهور عند عامة أهل العلم من أهل السنة خلاف ذلك في هذا الموضع وفي غيره، يقولون: استوى يأتي لمعنيين بمعنى علا وارتفع، وبعضهم يذكر أربعة معانٍ، فالمشهور علا وارتفع. 

وهذا الموضع حينما فسره ابن كثير بأن المراد به: قصَدَ غاية ما يقال فيه عند من خالفه من أهل السنة: إن هذا من قبيل الخطأ في التفسير وليس من قبيل الخطأ في العقيدة لماذا؟

لأن ابن كثير -رحمه الله- يثبت الاستواء على ما يليق بجلال الله وعظمته في المواضع الأخرى، وهذه قضية مهمة جدًّا: قد تفسر آية تتعلق بالعقيدة في ظنك أنت أو على المشهور عند أهل السنة ولكن قد يفسرها أحد من أهل العلم بغير ذلك، فلا يكون ذلك من قبيل الخطأ في الاعتقاد إذا كان يثبت الصفة مثل: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ سورة القلم:42، المشهور عن ابن عباس: يعني عن كرب. 

فإذا قال قائل: الساق هنا ليست صفة لله  وإنما المقصود به الكرب، كشفت الحرب عن ساق يعني عن شدة وكرب، وهو يثبت صفة الساق في الحديث: فيكشف عن ساقه [7]، فهنا هل هذا يكون خطأ في الاعتقاد أو خطأ في التفسير؟ خطأ في التفسير فقط، وإذا جاء معه بهذا الحديث وأوّله فهذا خطأ في الاعتقاد، الحديث ما يحتمل يكشف عن ساقه: عن شدته، فمن نفى صفة الساق أصلاً فعند ذلك يقال: خطأ في الاعتقاد. 

ولذلك تجد حتى في مثل قول الله : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ سورة القصص:88 في كلام شيخ الإسلام فيها أنه لا يعدها من الصفات، بينما ابن القيم يشتط في إثبات أنها من آيات الصفات، فغاية ما في الأمر أن هذا من قبيل الخطأ في التفسير، فإذا قلنا: من آيات الصفات فهو من الخطأ في التفسير فقط، وهكذا، فهذه قضية مهمة، فهنا "استوى" بمعنى قصد، بعض أهل العلم مثل ابن القيم أو مثل شيخ الإسلام لا يفسر "استوى" بمعنى قصد أبداً، ويقول: هذا لا يعرف في اللغة أصلاً، لا يوجد في كلام العرب استوى بمعنى قصد. 

فإذا قلنا بهذا فغاية ما في الأمر أن يقال: إن ابن كثير -رحمه الله- هنا فسرها بما لا يوافَق عليه، ولكن لا يقال: إن هذا من قبيل الخطأ في الاعتقاد، ابن كثير يثبت صفة الاستواء، فطالب العلم ينبغي أن يفرق في هذه المقامات ولا يستعجل في الحكم على الناس لاسيما أهل العلم، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ قال: قصد، بينما الأحسن أن تفسر بمعنى علا وارتفع، وهكذا فسرها جماعة من السلف، بمعنى علا إلى السماء علا وارتفع، وفسرها بذلك أيضاً إمام كبير من أئمة اللغة وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي -رحمه الله- علا وارتفع، نقول بالنسبة للآية: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ تحتمل المعنيين، والأقرب أنها تفسر بالحديث: عن ساقه.

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ سورة الملك:14.

الآن هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ يقول: فخلق السماء، والسماء هنا اسم جنس فلهذا قال: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، يعني كيف قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ثم جمع فقال: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ كيف ذكر واحدة ثم ذكر الجمع؟.

الجواب بكل سهولة هو أن السماء جنس يصدق على الواحد والكثير، ولهذا قال: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ سورة الملك:16، وإذا قلت: الله خلق السماء فالمقصود به السموات، والغالب أن السموات تذكر مجموعة والأرض تذكر مفردة، والأجوبة عن هذا متعددة ومعروفة تجد جملة منها في مثل كتاب الإتقان للسيوطي، والبرهان للزركشي وفي غيرها من الكتب، ومن أقربها أن الأرض جنس يصدق على الواحد والكثير فهي سبع من الأرضين.

وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ۝ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ۝ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ سورة فصلت:9-12.

يعني الآن آيات البقرة خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ يعني بالضرورة خلق الأرض وخلق ما فيها ثم استوى إلى السماء، فظاهر آية البقرة أن خلق السماء كان بعد الفراغ من خلق الأرض وما فيها. 

وكم كان قد استغرق خلق الأرض وما فيها؟ تدل عليه آية فصلت قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فخلق ذات الأرض في يومين، ثم قال: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، يعني خلقها في يومين، ودحاها في يومين أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا سورة النازعات:31، فظاهر آية البقرة أنه قد فرغ من ذلك جميعًا ثم خلق السماء، وآية فصلت قال بعدما ذكر هذا وهذا أربعة أيام قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ أي: أن خلق السماء كان بعد ذلك جميعًا.

ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السموات سبعًا، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا -إن شاء الله، فأما قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ۝ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ۝ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ۝ وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ۝ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ۝ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا سورة النازعات:27-32.

الآن في آية البقرة خلق السماء كان بعد خلق الأرض، وآية فصلت خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها أيضاً، وهذه الآية أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء، لاحظ ما قال: والأرض بعد ذلك خلقها قال: وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا بعد خلق السماء، بعد ذلك، فلاحظ في آية فصلت جاء بـثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، وفي آية البقرة ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ.

 فقد قيل: إن ثُمَّ هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر، لا لعطف الفعل على الفعل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس -ا.

هذا الكلام هو جواب عن هذا الإشكال لكن هناك أجوبة أقوى من هذا.

وقال مجاهد في قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا قال: خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين، يعني بعضهن تحت بعض.

وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة الماضية، فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وفي صحيح البخاري: أن ابن عباس -ا- سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات. 

وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ۝ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ۝ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحَى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، -والله أعلم.

الآن انظر إلى هذه الآيات مجتمعة خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا، إلى أن قال: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ۝ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، وفي الآية الأخرى: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ۝ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا

فبعض أهل العلم تخلص من هذا الإشكال، فقال: إن "ثم" بمعنى الواو، و"ثم" قد تأتي بمعنى بالواو يعني ليست للترتيب، المعنى المتبادر من "ثم" الترتيب مع التراخي فتخلصوا من هذا الإشكال فقالوا: إن "ثم" المقصود بها معنى الواو، فالله  يذكر أشياء مما خلق ولا يقصد به الترتيب، هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، قال: ثم بمعنى الواو فلا ترتيب، إذًا لا إشكال عندنا بأن هذه بعد هذه في بعض الآيات، وهذه بعد هذه بالعكس في بعض الآيات، نقول: "ثم" بمعنى الواو وانتهينا. 

وبعضهم لاحظ في "ثم" معنى الترتيب لكنه قال: ليس ذلك المراد به الترتيب الواقع في الخارج، وإنما هو الترتيب في الأخبار فقط، ترتيب خبر على خبر، وليس الترتيب هذا من قبيل الإخبار عن أشياء وقعت أولاً وثانيًا وثالثًًا في الخارج. 

فيكون قوله مثلاً: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ترتيب خبر على خبر، وإن كان لا يلزم من ذلك أن يكون قبله أو بعده في الواقع، ليس المقصود أنه هكذا وقع أولاً ثم هذا، لا، وإنما فقط من باب ترتيب خبر على خبر، تقول مثلاً: إن من ساد ثم ساد أبوه ثم ساد بعد ذاك جده، من ساد قبلُ أبوه وجده أو هو الذي ساد؟ جده ثم أبوه ثم هو ساد فيقولون: هذا بمعنى الواو، إن من ساد وساد أبوه وساد جده، أو بمعنى ترتيب خبر على خبر، هو يخبر عن أن هذا حصّل السيادة، وأن والده وجده حصلوا السيادة، فقال: إن من ساد ثم ساد أبوه ثم ساد بعد ذاك جده، فهذا ترتيب أخبار وليس ذلك معنيًّا به الترتيب في الخارج حيث وقوع الشيء، فهمتم هذا؟

تخصلوا من هذا الإشكال، فمن قال: إنها للترتيب لكن ترتيب خبر على خبر، ومن قال: هي تأتي بمعنى الواو، ويستدلون على هذا بأمثلة من القرآن فيها ذكر "ثم" ويقولون: هي ليست للترتيب في الخارج وإنما هي ترتيب خبر على خبر فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ سورة البلد:11-13 إلى أن قال: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا... سورة البلد:17

هل بعدما يتصدق ويفك رقبة إلى آخره يكون بعد ذلك في الواقع يكون مؤمنًا، الإيمان يعقب هذه الأشياء، أو الإيمان قبلها ولا تصح إلا به؟ هو كذلك، فليس هذا من باب ترتيب الأمور كما تحصل في الواقع، وإنما هو من باب ترتيب خبر على خبر، تقول مثلاً: أكرمت زيدًا ثم سافرت معه ثم جلست معه ثم قدمت له هدية، وقد تكون الهدية هي أول شيء أو الجلوس معه أول شيء، ثم أكرمته ثم سافرت معه، فأنت لا تقصد ذكر هذه الأشياء كما حصلت وإنما ترتب بـ "ثم" تقصد ترتيب خبر على خبر، أو تقصد بها معنى الواو، هكذا أجاب بعض أهل العلم. 

وأحسن ما يجاب به عن ذلك هو ما ذكره ابن عباس -ا- هنا: أن الله خلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فخلقها في يومين، ثم بعد ذلك دحى الأرض في يومين، والمراد بالدحو كما فسره بعده أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا هذا في يومين وذلك قوله -تبارك وتعالى: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ۝ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا يعني بعد خلق السماء، فخلق السماء أولاً، وما وجه قوله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ؟ فهذا يجاب عنه بأحد جوابين:

إما أن يقال: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أي: جعل ذلك بالقوة، يعني أنها صالحة لذلك لمنافعكم ثم كان ذلك بالفعل، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا بعد خلق السماء، معروف معنى بالقوة بالفعل، يعني الآن الأخ الساكت هذا يقال له: ناطق أو لا؟ يوصف بناطق مع أنه ساكت، لكنه ناطق بالقوة، يقال له: ناطق بالقوة وليس ناطقًا بالفعل، أنا الآن ناطق بالفعل، الآن تقول: صالح كاتب، هو جالس يكتب الآن؟ لا، مُوقف القلم لكنه كاتب بالقوة، ومن يكتب الآن يقال له: كاتب بالفعل، فالأرض حينما خلقها الله جعلها مهيأة للانتفاع، ثم أخرج ذلك بعد خلق السماء بإخراج المياه الكامنة فيها والنبات -المرعى- خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أي: بالقوة ثم كان ذلك بالفعل بعد خلق السماء، هذا جواب.

الجواب الثاني: أن يقال: إن الخلق بمعنى التقدير، خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ هو خلق الأرض أولاً، وأما ما فيها من المنافع فكان ذلك بعد خلق السماء، فذلك قوله تعالى: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فهذا هو التقدير، لاحظ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ فالخلق يأتي بمعنى الإيجاد، ويأتي بمعنى التقدير، ويأتي بمعنى التشكيل والتصوير، كم معنى؟ ثلاثة معانٍ:

الإيجاد من العدم اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سورة الزمر:62.

التقدير هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ سورة الحشر:24، الخالق هنا أحسن ما يفسر به المقدِّر؛ لأنه قال بعده: الْبَارِئُ والبارئ هو الموجد من العدم، برأه بمعنى أوجده ابتداء من العدم، المصور هو الذي أعطاه شكله وصورته وهيئته التي اختارها له، فهذا المعنى الثاني. 

والمعنى الثالث: بمعنى التصوير ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي [8]، فالمقصود به التصوير، تشكيل الأشياء وإعطاؤها هيئة تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ سورة المائدة:110 يعني يشكل الطين بصورة الطير بإذني فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي سورة المائدة:110 فالأول هو التصوير، فالمقصود أن خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أي: بمعنى قدر ذلك، والله تعالى أعلم.

  1. رواه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله ، برقم (2320)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم (4110)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (943)، وفي صحيح الجامع، برقم (5292).
  2. رواه أبو داود، كتاب الحمام، باب النهي عن التعري، برقم (4012)، والنسائي، كتاب الغسل والتيمم، باب الاستتار عند الاغتسال، برقم (406)، وأحمد في المسند، برقم (17970)، وقال محققوه: "إسناده حسن لأجل أبي بكر بن عياش، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1756).
  3. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، برقم (2572).
  4. انظر: معرفة الصحابة لأبي نعيم (3/1182)، والسيرة النبوية، لابن هشام (4/126).
  5. رواه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، برقم (1829)، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، برقم (1199).
  6. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم (182).
  7. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:23]، برقم (7439).
  8. رواه البخاري، كتاب اللباس، باب نقض الصور، برقم (5953).

مواد ذات صلة