بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا وللمستمعين وللمسلمين أجمعين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ [سورة الشورى:47، 48].
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حَذَّر منه، وأمر بالاستعداد له، ف قال: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي: إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون، وليس له دافع ولا مانع.
وقوله: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي: ليس لكم حصن تتحصنون فيه، ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه، فتغيبون عن بصره -تبارك وتعالى، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته، فلا ملجأ منه إلا إليه: يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [سورة القيامة:10-12].
وقوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا يعني: المشركين.
فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا أي: لست عليهم بمصيطر.
وقال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:272].
وقال تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40].
وقال هاهنا: إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ [سورة الشورى:48] أي: إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍتلتجئون إليه، وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ قال: ولا مكان يستركم، وتتنكرون فيه، فتغيبون عن بصره -تبارك وتعالى، هكذا فسره الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
وبعض المفسرين يقول: وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ أي إنكار، فإن "فعيل" يأتي بمعنى: فاعل، ويأتي بمعنى: مفعول، فهنا: وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ بعضهم يقول: يراد به معنى المصدر، يعني ما يستطيع أحد منكم أن ينكر ما يوجه إليه عند الحساب، وإنما يقر ويعترف، والله -تبارك وتعالى- قد أحصى الأعمال، وأحاط بخلقه، وأحصى أعمالهم، يعني لا يستطيع منكم أحد أن ينكر أو يكابر.
وبعضهم يقول: وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ يعني ما لكم من أحد ينكر ما يحل بكم، وينزل بكم، حينما يحاسبكم الله ، ويؤاخذكم ويعاقبكم، يعني لن تجدوا أحدًا يعترض، أو يقول: لماذا؟ أو يقول: هذا ما يستحق، أو نحو ذلك، وإنما الكل خاضع في ذلك اليوم، يطلب الخلاص لنفسه، والنجاة لها: مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ.
باعتبار أنه لا يوجد أحد يصدر منه الإنكار، إما على الذي قبله من المحاسَب، والمكلَّف نفسه، أو يكون ذلك صادرًا من غيره استنكارًا لما يقع، ويحل، وينزل به، يعني لا تجد أحدًا يعترض، أو يستنكر ما يقع بكم، فهذه صارت الآن ثلاثة معانٍ.
والمعنى المناسب للسياق: مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ هو المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ليس هناك مكان تلتجئون إليه، وتعتصمون، وتحتمون به، أو مكان تختفون وتتنكرون، فلا يوقف لكم على أثر، فإن الإنسان إما أن يعتصم بمكان يحتمي به، أو يختفي.
وقوله -تبارك وتعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.
"حفيظ" هنا بمعنى: الحافظ، يعني تحفظ أعمالهم، وتحصيها عليهم؛ لأن مهمته ﷺ هي البلاغ، والله -تبارك وتعالى- يتولى عباده، فيحصي أعمالهم، ويجازيهم عليها، وهذا خبر: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا هو خبر، ولكنه مضمن معنى التهديد والوعيد، يعني في ضمنه أننا سنتولى حسابهم وعذابهم، وذلك ليس إليك.
ثم قال تعالى: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا أي: إذا أصابه رخاء، ونعمة فرح بذلك.
وَإِنْ تُصِبْهُمْ يعني الناس.
سَيِّئَةٌ أي: جدب ونقمة، وبلاء وشدة.
تأمل هنا: سيئة: وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ هذه السيئة من أين تأتيهم؟
مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79]، هذا باعتبار السبب، ولكن الحسنات والسيئات كلها من الله، السيئات بمعنى المكاره والمصائب، فالله خالق كل شيء، لكن الشر لا ينسب إليه، تأدبًا معه، وإلا فالله هو خالق الخير، وخالق الشر.
فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ أي: يجحد ما تقدم من النعمة، ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة أشرَ وبطرَ، وإن أصابته محنة يئس وقنط، كما قال رسول الله ﷺ للنساء: يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: لأنكن تُكثرن الشكاية، وتكفرن العشير، لو أحسنتََ إلى إحداهن الدهر، ثم تركتَ يومًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط[1].
وهذا حال أكثر الناس إلا من هداه الله وألهمه رشده، وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمؤمن كما قال رسول الله ﷺ: إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن[2].
قوله -تبارك وتعالى: وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ، الإنسان هنا المقصود به جنس الإنسان، ولا حاجة لتقييده بالكافر؛ لأن جنس الإنسان فيه هذه الطباع، كما قال الله : كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7].
وذلك أنه ما لم يروض بالإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، فإن هذا هو ديدنه وعادته، إذا أصابته النعمة يحصل له الطغيان، والبطر والأشر، وإذا أصابته الشدة حصل له اليأس والقنوط، كما قال الله : إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [سورة المعارج:19-21].
يعني هذه طبيعته، قال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [سورة المعارج:22-24] إلى آخر الأوصاف.
فمن وجد فيه هذه الأوصاف التي هي من شعب الإيمان فإن هذا يخلصه، ويهذب نفسه من هذه الطباع السيئة، فهكذا في المواضع التي ترد فيها مثل هذه الأوصاف التي يذكرها الله للإنسان، من أهل العلم من يحمل ذلك على الكافر.
والصحيح -والله أعلم- أن ذلك يقال فيه مثلما ذكر هنا: أن هذا أصل حال الإنسان، فإذا روضت نفسه على الطاعة، وقومت وهذبت استقامت، وإلا بقي في هذه الأمور والأوصاف.
الحافظ ابن القيم -رحمه الله- له كلام في هذا، يقول -رحمه الله: "قوله تعالى: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ.
كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة إصابتها من الله تعالى بـ"إذا" وأتى "في إصابة السيئة بـ"إن"[3].
تأمل: المقصود من هذا المقطع لفت النظر إلى جانب، وهو مثال لما يستخرج من الآية من اللطائف، والنكات البلاغية، ذات الدلالات على معانٍ قد يغفل عنها القارئ، وإن لم يكن ذلك من عادتنا في مثل هذه التعليقات، لكن آتي أحيانًا ببعض الأمثلة الجميلة اللطيفة.
انظر هذه الحروف، وما دلالتها في المعاني، هذا مقطع قصير ذكر فيه ابن القيم -رحمه الله- جملة من هذه الدلالات والإشارات، فلو يُقرأ القرآن بهذه الطريقة لرأيت المعاني الكثيرة التي تستخرج، والهدايات منه، تأمل هذه الألفاظ بدقة، هو يتكلم الآن بالمناقيش، لا يفسر تفسيرًا عامًّا.
يقول -رحمه الله: "كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة إصابتها من الله تعالى بـ"إذا".
هنا يتكلم عن: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني في الرحمة قال: إِذَا أَذَقْنَا وفي المصيبة قال: وَإِن ما الفرق بين "إذا" هناك، وفي المصيبة "إن"؟
"وأتى في إصابة السيئة بـ "إن"، فإن ما يعفو الله عنه أكثر".
من أي ناحية يقول هذا الكلام؟
هنا معلق على شرط، لكن هنا عبر بـ"إذا" وعبر هناك بـ "إن".
يقول ابن القيم: "إذا" كثير الوقوع: إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً تقول: إذا جاء زيد فأكرمه، إذا أنعم الله عليك فاشكره، لكن في الشيء الذي يقل وقوعه تقول: "إنْ" إنْ جاء زيد فأكرمه، إن وقعت لك مصيبة فاصبر".
فـإِذَا لكثير الوقوع وَإِن لقليل الوقوع.
فتأمل هنا في السراء: إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً.
إِذَا هذه كثيرة الوقوع، كما يقال: أيام العافية أكثر، فالإنسان لا يتذكر إلا اللحظة التي يعيش فيها، فإذا أصابه مرض ظن أن هذا نهاية المطاف، وأظلمت الدنيا في عينه، ونسي أيام العافية الطويلة.
فالفرق: في السيئة جاء بـ إِن وفي الحسنة إِذَا هذه تسمى لطائف بلاغية، حينما نقول: التدبر، هذا من التدبر، ولكن حينما يوجه التدبر للعامة ي قال: على كل إنسان أن يتدبر، من الخطأ أن يتوجه التدبر للدقائق، والمعاني التي تستخرج بطرق الاستنباط، وتحتاج إلى معرفة في اللغة، الفرق بين: إِن وفي الحسنة: إِذَا تأمل هذا يحتاج إلى معرفة بهذه القضايا، فكثير من العامة أصبحوا إذا خوطبوا بالتدبر صاروا يبحثون عن أشياء من هذا القبيل، ويقعون في أخطاء، وأشياء غريبة، فهذه هي المشكلة التي لربما تسبب ردود أفعال، ويأتي من يقول من طلاب العلم: أنتم تفتحون على الناس باب القول على الله بلا علم، والجرأة على كلامه وكتابه، وينبغي أن التدبر يكون لأهل العلم، هذا غير صحيح، لكن حينما يخاطب الناس بالتدبر يقال لهم: تدبر، اعرض نفسك على صفات المؤمنين، إذا مرت صفات الكافرين، إذا جاء ذكر الجنة، إذا جاء ذكر النار، اعتبر اتعظ، انظر في خبر الماضين وما قص الله من خبر الأمم المعذبة، وما إلى ذلك، خبر الرسل مع أقوامهم، وهو يذهب إلى هذه المعاني التي تستخرج بالمناقيش، ثم بعد ذلك يقع في إشكالات وأخطاء، وغرائب وعجائب في الفهم.
وقال -رحمه الله: "وأتى في الرحمة بالفعل الماضي الدال على تحقق الوقوع، وفي حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق ولابدّ"[4].
يعني هنا الآن الفرق الثاني، الأول: في الحرف إِن وإِذَا، الفرق الثاني أو الفائدة الثانية: في الرحمة: فتأمل هنا في السراء: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْعبر بالمضارع في السيئة، فالفعل الماضي يدل على تحقق الوقوع، فالحسنة متحققة، والسيئة إن حصلت فهي سحابة صيف، هي أمور عارضة، أيام الرخاء والنعمة والعطاء أكثر من أيام الابتلاء: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [سورة الشرح:6-5] فذكر يسرين، وذكر عسرًا واحدًا.
وقال -رحمه الله: "وفي حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق ولابدّ، وكيف أتى في وصول الرحمة بفعل الإذاقة الدال على مباشرة الرحمة لهم، وإنها مذوقة لهم، والذوق هو أخص أنواع الملابسة وأشدها"[5].
"أخص" تأمل، الأصل الذوق يكون باللسان، لكنه يقال في غيره: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:49].
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا [سورة الطلاق:9] القرية المعذبة.
لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [سورة المائدة:95] فأصل الذوق باللسان، ولكن صار ذلك يقال لملابسة الشيء، ليدل على أن هذه الملابسة متمكنة قوية متحققة، وقد مضى الكلام على شيء من هذا، ولهذا يقول النبي ﷺ: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيا[6].
قال ابن القيم -رحمه الله: "وكيف أتى في الرحمة بحرف ابتداء الغاية مضافًا إليه، ف قال: مِنَّا رَحْمَةً وأتى في السيئة بـ"باء" السببية مضافة إلى كسب أيديهم، وكيف أكد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف "إنّ" دون الجملة الثانية، وأسرار القرآن أكثر وأعظم من أن يحيط بها عقول البشر"[7].
وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ "إنّ" هذه للتوكيد؛ هل هذا هو الغالب عليه؟
هذه عادته وديدنه.
وهذه نحو فروقات خمسة بين الجملتين، هنا يعني هذه جمل قصيرة استخرج منها هذه الفروقات في كل لفظة.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [سورة الشورى:49، 50].
يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء، ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا أي: يرزقه البنات فقط، قال البغوي: ومنهم لوط .
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أي: يرزقه البنين فقط، قال البغوي: كإبراهيم الخليل لم يولد له أنثى.
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا أي: ويعطي من يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى، أي: هذا وهذا، قال البغوي: كمحمد -عليه الصلاة والسلام.
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا أي: لا يولد له، قال البغوي: كيحيى وعيسى -عليهما السلام.
فجعل الناس أربعة أقسام، منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورًا وإناثًا، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيمًا لا نسل له ولا يولد له.
إِنَّهُ عَلِيمٌ أي: بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام.
قَدِيرٌ أي: على من يشاء مِن تفاوت الناس في ذلك.
وهذا المقام شبيه بقوله تعالى عن عيسى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [سورة مريم:21] أي: دلالة لهم على قدرته -تعالى وتقدس، حيث خلق الخلق على أربعة أقسام، فآدم ، مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى، وحواء -عليها السلام- مخلوقة من ذكر بلا أنثى، وسائر الخلق سوى عيسى من ذكر وأنثى، وعيسى، ، من أنثى بلا ذكر، فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم، -عليهما السلام؛ ولهذا قال: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ فهذا المقام في الآباء، والمقام الأول في الأبناء، وكل منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير.
قوله -تبارك وتعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ما ذكره هنا نقلاً عن البغوي -رحمه الله- من أن مَن رزقه الله البنات، كـ"لوط" -عليه الصلاة والسلام، هو كأنه فهم ذلك من قول لوط ﷺ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [سورة هود:78] ولم يرد ذكر للأبناء، لكن هذا لا يعني أنه لم يكن له أبناء، فالعلم عند الله ، والخليل -عليه الصلاة والسلام- يقول: لم يولد أنثى، ما عندنا دليل على هذا، يعني الله ذكر البشارة له بالولد: إسحاق وإسماعيل -صلى الله عليهما وسلم- وأيضًا من وراء إسحاق يعقوب وهو الحفيد، لكن هل لم يولد له أنثى؟ الله أعلم.
أما قوله -تبارك وتعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا فما ذكره الحافظ ابن كثير هو الراجح في تفسيرها.
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ يعني يرزقه البنين والبنات، بصرف النظر عن كون هؤلاء تعاقبون بطريقة منتظمة، يعني كما يقول مجاهد: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا تارة تلد ذكرًا، ثم أنثى، ثم تلد ذكرًا ثم أنثى، وهكذا هذا ليس بلازم.
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا المقصود أنه يزرق بالبنين والبنات، أو قول محمد ابن الحنفية: إن المقصود: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا أنها تلد توأمًا في البطن الواحد ذكرًا وأنثى، وهذا بعيد، يعني ليس هذا هو المراد بالآية.
الحافظ ابن القيم -رحمه الله- له كلام في هذا، لكن هنا هذه الآية: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ.
فهذا من مقتضيات ملكه، والملك هو التصرف التام المطلق، فليس لأحد أن يعترض على هذا، ومن لم يرضَ بعطاء الله وقسمه له من الذكور أو البنات فإنه يكون منازعًا لله في ملكه، وعقب الله هذه الآية بقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ يعني أنه حينما يعطي هذا البنات مثلاً، فهذا عن علم، أو يعطي هذا الذكور فهذا عن علم مع قدرة، قادر على أن يرزقه البنين، وقادر على أن لا يجعله عقيمًا، ولكن حينما صار عقيمًا فهذا عن علم، وعن قدرة على أن يرزقه، وأن يعطيه، ولكن الله اختار له هذا، وهذا من مقتضيات ملكه -تبارك وتعالى، وهو من مظاهر وآثار هذا الملك، أنْ وُجد هذا التنويع في الخلق، وظهرت فيه معاني أسمائه وصفاته، فإذا أعطى الله العبد هذا العطاء، أو أن الله -تبارك وتعالى- حرمه ومنعه فينبغي أن يعلم ويدرك أن ذلك صادر عن علم منه وقدرة، فيرضى ويسلم، العبد لا يدري، ولا يعرف الخير أين هو، هل هو في أن يرزق البنات، أو يرزق البنين، أو لا يولد له، والله المستعان.
قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، قال ابن القيم -رحمه الله: "فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود، وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه، وكفى بالعبد تعرضًا لمقته أن يتسخط ما وهبه، وبدأ سبحانه بذكر الإناث، فقيل: جبرًا لهن، لأجل استثقال الوالدين لمكانهما"[8].
هنا لماذا بدأ بذكر الإناث؟ يعني هنا: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ هذا مثال على التكلفات التي تقال في التقديم والتأخير، ولهذا نذكر عادة أن مثل ذلك قد يكون من قبيل القول على الله بلا علم، فهنا لو بدأ بالذكور، لو قال: يهب لمن يشاء ذكورًا ويهب لمن يشاء إناثًا، لقيل: بدأ بالأشرف.
طيب هنا: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ما العلة؟!
بعض العلماء قال: باعتبار أن الإناث أكثر، فبدأ بالأكثر، وهل هذا صحيح أن البنات أكثر؟!
ليس بلازم، إنما ذلك في آخر الزمان.
وبعضهم يقول: ابتدأ بالبنات؛ لأن الناس يفضلون الذكور، فجبر كسرهن، فكان البداية بهن، هكذا قال بعضهم، من أجل أن الناس يرغبون عن البنات، ويرغبون في الذكور، قال: وبدأ بهن، تنويهًا بشأنهن.
ابن القيم يقول هنا: "بدأ بالبنات، تنويهًا بشأنهن" لأنه كثير من الناس قد لا يرغب في البنات.
طيب، وأخر الذكور وهم الأفضل والأشرف، قال: لما أخر الذكور أدخل على اللفظ "أل" يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًامن غير "أل" وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَفدخلت "أل"، فهذا يكون فيه زيادة في الحروف، وزيادة في المبنى لزيادة المعنى، فجاء بالتعريف في الذكور، والتنكير في الإناث، قال: لمّا أخرهم جبر هذا التأخير بهذه الزيادة، يعني هذا مثال على التقديم والتأخير، يعني احتمالات -والله أعلم، قد ي قال: من أجل الفاصلة، يعني ختم الآية، لو قال: يهب لمن يشاء ذكورًا، ويهب لمن يشاء البنات، فإن الأول أبلغ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ يعني: لماذا بدأ بهن؟!
هؤلاء لا يريدون البنات، ولا يرغبون بالبنات، يزدرون البنات، يظل وجه الواحد منهم مسودًّا، فبدأ بهن، تنويهًا بشأنهن، لكن هل نجزم بهذا؟
لا نجزم بهذا إطلاقًا.
وقال ابن القيم: "وبدأ سبحانه بذكر الإناث، فقيل: جبرًا لهن، لأجل استثقال الوالدين لمكانهن، وقيل وهو أحسن: إنما قدمهن؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان، فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء، ولا يريده الأبوان"[9].
تأمل هذا معنى غير ما ذكر: له الملك والتصرف التام، يرزق ما يشاء، الأبوان يريدان الذكور، فبدأ بالإناث أي أن الأمر ليس على رغبتكم.
قال ابن القيم: "وعندي وجه آخر، وهو: أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات، حتى كانوا يئدوهن، أي هذا النوع المؤخر عندكم مقدم عندي في الذكر، وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث، وعرف الذكور، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص التأخير بالتعريف، فإن التعريف تنويه كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم.
ثم لما ذكر الصنفين معًا قدم الذكور، إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير، والله أعلم بما أراد من ذلك[10].
المقصود أن هذه الأوجه التي ذكرها بسبب التقديم تدل على معنى، وهو أنه لا يقطع بشيء من ذلك، فهذه مجرد احتمالات، لكنك قد تجد أحيانًا قد يذكر لك المتكلم، أو المفسر، أو نحو ذلك، وجهًا واحدًا يروق لك، وتعجب به، والواقع أنه لا يجزم بهذا، يعني لو جاء أحد وأنت لأول مرة يطرق سمعك، وقال لك: انظر بدأ هنا بالإناث؛ لأن الأمر لا يرجع إلى رغبة الأبوين، فهم عادة يرغبون بالبنات، فبدأ بالإناث، وإنما ذلك يرجع إلى إرادته، وليس إلى إرادتهما، وأخر الذكور، ثم انظر لما أخر الذكور كيف عوض هذا التأخير مع أن الذَّكَر أفضل بدخول "أل" عليه جبرًا لتأخيره، قد تسمع هذا الكلام ويعجبك، لكن ينبغي أن تعلم: أن هذا يبقى واحدًا من هذه الاحتمالات، ولذلك تجد أهل العلم في مثل هذه القضايا، أو في الفقه، أو في غيره، تجد أن نظرهم يتردد بين أشياء متعددة ويتوقف، وكذا، لكن تجد العامة مثلاً، أو نحو هذا يسبق ذهنه إلى معنى، أو إلى حكم، أو إلى كذا، ويبادر بالجواب، في أن هذا يجوز، أو هذا لا يجوز، أو نحو ذلك، ولهذا الصحابة -رضي الله عنهم- قد يتوقفون في أشياء مسائل يبادر بها العامة، ويسارعون في الجواب عنها، فالمقصود أن الاحتمالات تتطرق إلى كثير من هذه القضايا.
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [سورة الشورى:51-53].
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله ، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي ﷺ شيئًا لا يتمارى فيه أنه من الله ؛ كما جاء في صحيح ابن حبان، عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن رُوح القُدُس نفث في رُوعي: أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب[11].
وقوله: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كما كلم موسى ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم، فحجب عنها.
وفي الصحيح: أن رسول الله ﷺ قال لجابر بن عبد الله: ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحًا[12]، كذا جاء في الحديث.
وكان قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا.
هذه الآية: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا هي أجمع آية في القرآن في الوحي، يعني في ذكر أنواع الوحي.
قوله: وَحْيًا هنا يدخل فيه الرؤيا الصالحة.
إِلا وَحْيًاإن لم يكن ذلك بواسطة الملك.
ويدخل فيه الإلهام، عند من فرق بين الإلهام والإلقاء في الروع، يعني قالوا: إن الإلقاء في الروع: إن روح القدس نفث في روعي... الإلقاء في الروع إلهام عن طريق الملك، والإلهام من الله مباشرة.
إِلا وَحْيًافيلقي المعنى في قلبه.
أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ هذا بالتكليم المباشر، كما كلم الله موسى -عليه الصلاة والسلام، وكلم محمدًا ﷺ ليلة المعراج.
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًاملائكيًّا إلى الرسول البشري، فيدخل في هذا صور مجيء الملك إلى الرسول، تارة بصورته الحقيقية كما رآه النبي ﷺ على كرسي بين السماء والأرض، له ستمائة جناح، ورآه أيضًا عند سدرة المنتهى، وتارة يسمع صلصلة، ولا يرى الملك.
وبعضهم أرجع دوي النحل إلى هذا، قالوا: الناس يسمعون مثل صوت دوي النحل، والنبي ﷺ يسمع صلصلة.
وكذلك يدخل فيه: مجيء الملك بالمعنى الذي هو الإلقاء في الروع.
ويدخل فيه أيضًا: مجيء الملك بصورة رجل، كما كان يأتي بصورة دحية الكلبي، وحديث عمر: رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، فقد يأتي بصورة رجل.
فهذه صور الوحي جميعًا دخلت في هذه الآية: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء.
وليس المقصود القرآن هنا فقط، وإنما الوحي عمومًا، وإلا فكما سبق في بعض المناسبات أنه لم ينزل شيء من القرآن على النبي ﷺ برؤيا، لم ينزل عليه شيء منامًا، وإنما كان ذلك جميعًا في اليقظة، لكن هنا أنواع الوحي، سواء القرآن أو غير القرآن، وهذا الذي يسمونه الوحي بالمعنى الخاص، يعني الوحي إلى الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- واحد من أنواع الوحي بالمعنى العام، وهو أنواع: وحي إلى الأنبياء والرسل، هذا الوحي بالمعنى الخاص، المعنى العام يدخل فيه الوحي إلى الأنبياء، ويدخل فيه أيضًا الوحي إلى بعض الأنبياء قبل النبوة: وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا [سورة يوسف:15] هذا أوحى إلى يوسف ﷺ، وإلى بعض البشر، غير الأنبياء: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [سورة القصص:7].
ومريم: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [سورة مريم:17] وكلمها الملك.
وكذلك أيضًا يدخل فيه ما يسمى بـ"الإلهام التسخيري" لبعض المخلوقات: وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا [سورة فصلت:12].
ويدخل فيه الإلهام لبعض الكائنات فيما يتصل بمعاشها وهدايتها إلى ما تقوم به حياتها ومصالحها، وما إلى ذلك، مثل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [سورة النحل:68].
هذا الوحي بالمعنى العام.
وقوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ كما ينزل جبريل وغيره من الملائكة على الأنبياء -عليهم السلام.
إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌفهو علي عليم خبير حكيم.
وقوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا يعني: القرآن.
مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ أي: على التفصيل الذي شرع لك في القرآن.
تأمل: على التفصيل، يعني هنا يرد سؤال: قوله: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُهل كان النبي ﷺ قبل النبوة لا يعرف الإيمان؟ هو لا يعرف الكتاب، نعم، حتى أوحاه الله إليه، لكن هل كان ما يعرف الإيمان؟
وهنا مسألة معروفة، وهي: هل كان الأنبياء على دين قومهم قبل النبوة، أو لا؟
هذان قولان لأهل العلم، منهم من يقول: كانوا على دين قومهم، ويحتجون على هذا بمثل قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة إبراهيم:13] قالوا: العود إلى ما كانوا عليه أي ترجعون إلى ملتنا التي كنتم عليها، عاد إلى حاله الأولى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاوما أشبه ذلك، فيقولون: إن الأنبياء كانوا على دين قومهم.
ويحتجون أيضًا بقول إبراهيم ﷺ لما ناظر قومه، ولما: رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] إلى آخر ما قص الله في سورة الأنعام، قالوا: كان ناظرًا لا مناظرًا، يعني قاله معتقدًا ربوبية الكوكب.
والقول الثاني: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما كانوا على دين قومهم، وإنما كانوا على الفطرة والإيمان والتوحيد.
وأما إبراهيم ﷺ فحينما قال ذلك كان مناظرًا لا ناظرًا، يعني قاله على سبيل التنزل مع الخصم في المناظرة، ليبين لهم بطلان ما كانوا يعتقدون من ربوبية الكواكب؛ لأنه كان يناظر قومًا يعبدون الكواكب، وهذا هو الراجح، والله قال عن خليله -عليه الصلاة والسلام: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:161] فنفْيُ الكون في الماضي يشمل الماضي والحاضر والمستقبل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [سورة مريم:64].
وأما ما يتعلق بقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَافإن لفظ العود من الأضداد، فهو يأتي بمعنى: رجوع الشيء إلى الحال التي كان عليها، تقول: عاد زيد إلى داره، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، رجع إلى الحال التي كان عليها.
والمعنى الثاني: مطلق الصيرورة، تقول: عاد الماء ثلجًا، هو لم يكن ثلجًا، وعاد الصبي شيخًا، هو لم يكن شيخًا، وعاد الطين خزفًا، ولم يكن خزفًا، بمعنى صار، وهذا هو الأقرب في تفسير الآية: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا يعني تصيرون إلى ديننا.
فالأرجح: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما كانوا على دين قومهم.
هنا الله يقول: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُفما الجواب؟.
ابن كثير هنا يقول: يعني على سبيل التفصيل، يعني يعرف الإيمان إجمالاً، لكن ما كان يعرف التفصيل، بمعنى أن الله شرع شرائع الإيمان، كما جاء في أثر ابن عباس -رضي الله عنهما: أن الله أوحى إلى رسوله ﷺ فشرع لهم الصلاة، فزادهم إيمانًا، فلما أقروا بذلك شرع لهم الزكاة، فزادهم إيمانًا، إلى آخره.
فهذه شرائع الدين.
ولهذا كان الإيمان بضعًا وسبعين، أو بضعًا وستين شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[13].
مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ يعني على هذا التفصيل، فهذه شعب الإيمان، وهذه الصلاة إيمان: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] يعني صلاتكم إلى بيت المقدس.
الزكاة إيمان، استقبال القبلة إيمان، الصوم إيمان، الحج إيمان، الجهاد إيمان، الذكر والاستغفار وقراءة القرآن، وصلة الرحم، والإحسان إلى الجار كل هذا من الإيمان.
فهذا هو المراد -والله تعالى أعلم- أن الإيمان قول وعمل، ولا حاجة إلى حمل ذلك على محامل أخرى لا يوجد ما يدل عليها في السياق، يعني كقول بعض السلف، وذهب إليه بعض الأئمة، كابن خزيمة إمام الأئمة: إن المراد بذلك الصلاة: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ يعني الصلاة، لماذا حملوه على الصلاة؟
قالوا: لأن الله قال: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، لما حولت القبلة، قالوا: فسماها إيمانًا، لكن هنا في هذه الآية هذا خلاف الظاهر المتبادر.
وبعضهم يقول: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ أي: كيف تدعو إلى الإيمان، لكن هل هذا هو المتبادر؟
الجواب: لا، وهذا يحتاج إلى تقدير، والأصل عدم التقدير.
وبعضهم يقول: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ يعني قبل سن التكليف، في زمن المهد والطفولة، ما كنت تعرف ذلك؛ لأنك غير مدرك، وهذا وإن كان أقرب من بعض هذه الأقوال السابقة، أو أقرب من القولين قبله، ولكن ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- أقرب: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ يعني على سبيل التفصيل، ومعرفة شرائع الدين، لكن إذا قرأت مثل هذا في كتب التفسير هذه التوجيهات منشؤها هو هذه القضية، هل كان الأنبياء على دين قومهم أو لا؟
الذين يقولون: كان الأنبياء على دين قومهم، ثم اجتباهم الله ، وهداهم، ما عندهم مشكلة، هم يحتجون أصلاً بمثل هذا، يقولون: نعم، ما كان يعرف الإيمان أصلاً، ولا يحتاجون هذه المحامل، وهذه التفسيرات، وهكذا في قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [سورة الضحى:7] ضالاً عن ماذا؟ تجدون محامل منشؤها هذه القضية، فمن يقول: إنهم لم يكونوا على دين قومهم، فيكون ضالاً عن ماذا؟
والأقرب هناك أنه يفسر أيضًا: وَوَجَدَكَ ضَالًّا يعني عن الوحي، الضلال هنا ليس الضلال بالمعنى الشرعي الذي هو الذهاب عن الحق، وإنما بالمعنى اللغوي، وهو الذهاب عن حقيقة الشيء، كما قال إخوة يوسف لأبيهم يعقوب ﷺ: تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] لو كانوا يقصدون الضلال عن الحق لكانوا كفارًا بهذا، كيف يقولون لنبي يوحى إليه: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ؟!.
وإنما يقصدون: في ذهاب عن الحق في حقيقة ما جرى ليوسف -عليه الصلاة والسلام، يقصدون هذا، وهكذا: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ [سورة السجدة:10] يعني غبنا فيها، وانمحت آثارنا، وذهبت شخوصنا، وذابت أجسادنا، وتحللت في الأرض: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ.
ولهذا يقال لمن دُفن وقبر: إنه ضل في الأرض.
فآبَ مُضلُّوهُ بعينٍ جليّةٍ | وغُودر بالجولانِ حزمٌ ونائلُ |
فآب مضلوه بعين جلية يعني الذين قبروه ودفنوه.
وهذا عبر به عن الدفن.
قال: ضل الماء في اللبن يعني اختلط به، وما عاد يميز هذا من هذا.
وَوَجَدَكَ ضَالًّا يعني ذاهبًا عن حقيقة الوحي، وليس عن حقيقة الإيمان بالكلية، والله أعلم.
مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ أي: على التفصيل الذي شرع لك في القرآن،
وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ أي: القرآن، نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا.
تأمل: مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا هنا قال: أي القرآن.
أيضًا ابن القيم يقول: وَلَكِن جَعَلْنَاهُيعود إلى قوله: رُوحًا.
وكلام ابن كثير لا يعارض كلام ابن القيم، ابن كثير يقول: القرآن، وهو المقصود بقوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا فالقرآن يقال له: روح؛ لأن الحياة الحقيقية لا تكون إلا بالعمل بالقرآن، وبالاهتداء به، فالله سماه: روحًا، لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه: نورًا، وغير ذلك.
كلام ابن كثير لا يعارض كلام ابن القيم، ابن كثير يقول: القرآن، وهو المقصود بقوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا فالقرآن يقال له: روح؛ لأن الحياة الحقيقية لا تكون إلا بالعمل بالقرآن، وبالاهتداء به، فالله سماه: روحًا، لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه: نورًا، وغير ذلك.
وهذه أوصاف للقرآن، ولكن من باب التجوز نقول: أسماء، فسماه: روحًا، سماه: نورًا، سماه: هدى، وَلَكِن جَعَلْنَاهُ يعني هذا الروح، هذا القرآن.
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يقول: وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا أي: القرآن، مثل عبارة ابن كثير، فهذا نفس الشيء، يعني المقصود الروح الذي ذكر قبله، يعني ليس هذا بقول آخر.
وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ أي: القرآن نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا؛ كقوله: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:44].
وقوله: وَإِنَّكَ أي: يا محمد.
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الخلق القويم.
ثم فسره بقوله تعالى: صِرَاطِ اللَّهِ أي: شرعه الذي أمر به الله.
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أي: ربهما ومالكهما، والمتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقب لحكمه.
أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ أي: ترجع الأمور، فيفصلها ويحكم فيها عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا.
يعني: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ الهداية هنا المقصود بها: هداية الإرشاد، فهي المثبتة للنبي ﷺ.
أما المنفية فهي هداية التوفيق: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة القصص:56] فنفى عنه الهداية وأثبتها، فالمنفي هي هداية التوفيق، والمثبت هي هداية الإرشاد.
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِفهذا الصراط المستقيم هو الطريق التي رسمها الله -تبارك وتعالى- لعباده من أجل سلوكها.
ومُّسْتَقِيمٍهنا تعتبر صفة كاشفة باعتبار أن الصراط أصلاً من صفاته: الاستقامة، فإذا قال: "صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" مثلما تقول: رجلٌ ذكر، امرأةٌ أنثى.
"صراط مستقيم" فالصراط لا يكون إلا مستقيمًا.
ولا ي قال: "خُلُق"، وقد تعجبت من هذا، وهو الحق القويم، وليس الخُلق القويم.
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍهي الطريق التي رسمها الله وشرعها، وبين تفاصيلها، وأمر عباده بسلوكها.
- رواه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، رقم (304)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، رقم (79، 80).
- رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، رقم (2999).
- بدائع الفوائد (1/ 47).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، رقم (34).
- بدائع الفوائد (1/ 47).
- تحفة المودود بأحكام المولود، ص (20).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق ص (20، 21).
- رواه ابن حبان، رقم (3239)، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، (2144)، وقال الألباني: "صحيح لغيره"، كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (1698).
- رواه الترمذي، كتاب أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة آل عمران، رقم (3010)، وابن ماجه، كتاب افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فيما أنكرت الجهمية رقم (190).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، رقم (35)، بلفظ: الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.