بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمستمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة الممتحنة:1-3].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسورة الممتحنة يُذكر لها أربعة أسماء:
الأول: أنها سورة الممتحِنة بالكسر يعني المختبِرة، أُضيف الفعل إليها، هي التي تَمتحن؛ لأنه جاءت فيها آية امتحان النساء المهاجرات كما سيأتي.
الثاني: هي سورة الممتحَنة بالفتح، يعني المرأة الممتَحنة وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول امرأة هاجرت بعد كتب الصلح بعام الحديبية، فتكون "ال" بهذا الاعتبار عهدية، يعني المرأة الممتحَنة، فهي أضيفت إليها باعتبار أنها سبب النزول، وأم كلثوم هي امرأة عبد الرحمن بن عوف وكان قد تزوجها زيد بن حارثة مولى النبي ﷺ.
وأيضًا يمكن أن تكون "ال" في الممتحَنة جنسية، للجنس وليست عهدية، باعتبار النساء الممتحَنة، المجموع.
الثالث: يقال لها: سورة الامتحان لما فيها من امتحان النساء.
الرابع: يقال لها: سورة المودة تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ، هذه أربعة أسماء.
فالموضوع الذي تدور عليه هذه السورة هو موضوع واحد في الجملة وهو الولاء والبراء ومقتضياته.
صدر هذه السورة لا شك أنه نازل بسبب كتاب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله تعالى عنه، وحاطب -رضي الله تعالى عنه- كان رجلاً ملحقًا بقريش ولم يكن منهم، كان من أهل اليمن، ونزل مكة وله حلف في بني أسد بن عبد العزى رهط الزبير بن العوام -رضي الله تعالى عنه.
وبعضهم يقول: كان حليفًا للزبير ولا إشكال، لا منافاة، وبعضهم يقول: كان حليفًا لعثمان -رضي الله تعالى عنه.
ويُذكر أنه قال لهم في هذا الكتاب: "أما بعد: فإن رسول الله ﷺ قد بعث إليكم جيشًا كالليل، يسير كالسيل، وأنه أقسم أنه لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم"، كتب إليهم هذا الكتاب يخبرهم عن مسيرة رسول الله ﷺ، ومعلوم أن النبي ﷺ كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، وكان قد أخفى ذلك وأطلع عليه نفرًا من أصحابه منهم حاطب ، فكتب هذا الكتاب وبعثه مع هذه الظعينة -هذه المرأة- التي ذهبت على بعير إلى مكة واسمها سارة، وهي من موالي قريش، هي مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هشام بن عبد مناف، وهؤلاء مواليها بمكة قتلوا فاحتاجت وافتقرت فجاءت إلى المدينة يعني لمن هم من مواليها تريد المال، والإعانة والإحسان، جاءت لهذا الغرض.
الآن صدر هذه السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ كل هذا وما يتلوه من الآيات إلى الآية التاسعة إلى قوله: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة الممتحنة:9]، فهذه الآيات التسع من أول السورة هذه نازلة في قصة حاطب -رضي الله تعالى عنه، ومن الآية العاشرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [سورة الممتحنة:10] هذه نزلت بعد ذلك عندما جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة بعد صلح الحديبية.
فكتاب حاطب بن أبي بلتعة متى كان؟ هل كان عام فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، أو أنه كان قبل مسير النبي ﷺ إلى مكة في السنة السادسة التي جرى فيها صلح الحديبية؟
قولان معروفان لأهل العلم، فبعضهم يقول: إن هذا الخطاب كان في السنة السادسة، وهذا باعتبار أن هذه الآيات نازلة في السنة السادسة -يعني صدر السورة- كما يقول ابن عطية صاحب "المحرر الوجيز"، باعتبار أن هذا نزل في قصة الحديبية قبل الحديبية، قبل مسير النبي ﷺ إلى مكة بأي اعتبار؟ قالوا: أولاً باعتبار أن النبي ﷺ كان قد ورّى بخيبر، يعني هو يريد أن ينطلق جنوبًا إلى مكة وخيبر في الشمال فورى النبي ﷺ بخيبر، وخيبر فتحت في السنة السابعة للهجرة، يعني لو كان هذا في عام الفتح في السنة الثامنة فخيبر كانت قد فُتحت، فكيف يكون قد ورى بخيبر؟
قالوا: ولأن تلك المرأة قدمت إلى المدينة بعد بدر بسنتين، قالوا: تجلس من أجل أن تحصل على مساعدات إلى السنة الثامنة؟ هي جاءت لغرض فكونها تمشي في السنة السادسة هذا أوفق وأقرب من بقائها إلى السنة الثامنة، فهي ما أتت لتقيم في المدينة.
والقول الثاني: أن هذا كان حينما تجهز النبي ﷺ لفتح مكة، وهي التي سأل ربه -تبارك وتعالى- أن يعمِّي عنهم العيون بحيث لا يتمكنون من معرفة مسيره، قالوا: وأما في السنة السادسة فكان النبي ﷺ قد ذهب للعمرة، ولم يذهب لفتح مكة ولا لقتال، ولا يحتاج هذا إلى تورية، ذهبوا عُمّارًا فصدهم المشركون فوقع صلح الحديبية، وكانوا حينما صدهم المشركون محرمين قد قلدوا الهدي؛ لأن الهدي يقدم في العمرة أيضًا وليس في الحج فقط.
وهذا من السنن المهجورة، حتى إنه في قصة الصلح -كما هو معروف- لما جاء بعض من يفاوض النبي ﷺ وقد تكررت المفاوضة كما هو معلوم- ففي بعضها أن النبي ﷺ أمر أن تعرض في طريقهم الإبل المقلدة من لحاء الحرم، وكان الرجل ممن يعظمون الإبل فلما رأى ذلك قال: رأيت قومًا لا يجوز صدهم عن البيت.
فهذا له وجه قوي باعتبار أن التورية كانت في فتح مكة، وهذا الذي حصل من أخذ العيون بحيث إن المشركين ما علموا حتى قدم النبي ﷺ وقرب من مكة جدًا، لما بلغ النبي ﷺ مر الظهران ولقيه العباس وكان معه أبو سفيان، وينظر أبو سفيان في الليل إلى النيران الكثيرة ويقول: ما هذا؟ هو لا يعرف من هؤلاء، وهذا سيد قريش ما علم بمسيرهم، وينظر إلى النيران نيران الجيش لما نزلوا، ويتعجب من هؤلاء ولم يتوقع مجيء النبي ﷺ، كان بينهم عهد -كما هو معروف- فنقضت قريش العهد فأعانوا كنانة على خزاعة حلفاء النبي ﷺ، فجاء أهل خزاعة يستنصرون بالنبي ﷺ، فهذا له وجه قوي من النظر.
وإذا قيل: إنها نازلة في فتح مكة فمعنى ذلك أن صدر السورة إذا قلنا: فتح مكة في السنة الثامنة فيكون أولها نزل في السنة الثامنة، والنصف الثاني في السادسة، فيكون النصف الثاني نزل أولاً ثم نزل صدر السورة، يعني بينهما سنتان، نزل نصفها الثاني ثم نزل نصفها الأول، وعلى القول بأنها نازلة قبل الحديبية قبل السنة السادسة يكون صدر السورة نزل قبل الصلح حينما أراد النبي ﷺ المسير إلى مكة، والنصف الثاني نزل بعد الصلح، يعني ما بينهما إلا مدة يسيرة في السنة نفسها، هذه قبل الصلح وهذه بعد الصلح، ويكون صدر السورة نزل قبل آخرها، ففيها هذا الخلاف بناء على تاريخ الغزوة.
الظعينة المقصود بها المرأة التي على بعير.
فانطلقنا تَعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، قلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب، قال: فأخرجت الكتاب من عِقاصها، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله ﷺ فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ، فقال رسول اللهﷺ: يا حاطب ما هذا؟.
قال: لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصَقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان مَن معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.
فقال رسول الله ﷺ: إنه صدَقَكم، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله ﷺ: إنه قد شهد بدرًا، ما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم[1]، وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه من غير وجه عن سفيان بن عيينة به، وزاد البخاري في كتاب المغازي: فأنزل الله السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء[2].
هنا النبي ﷺ عندما سأله واعتذر إليه قال النبي ﷺ: إنه صدقكم، ولما قال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق قال رسول الله ﷺ: إنه قد شهد بدرًا، معنى ذلك أنه لم يكن بهذا الفعل مرتدًّا عن الإسلام؛ لأنه لو كان مرتدًّا عن الإسلام لبطل عمله، لبطل شهوده بدرًا، كما قال الله : وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88]، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر:65] فلا يُعتد بحضور وشهود بدر وما نشأ عن ذلك وترتب عليه اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فإن شهوده بدرًا غير نافعه لو كان ارتد بهذا الفعل، هذا الفعل بنص القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء هو صورة من صور موالاة المشركين العملية بلا شك، وهذا الموضع -هذا الحديث- يحتج به في الكلام على مسألة موالاة المشركين، وكذلك في الكلام على نواقض الإسلام، فلا تكاد تجد من يتحدث عن هذه القضايا إلا ويورد هذا الحديث.
ولكن هنا قدر واضح في هذه المسألة وهو أن حاطب -رضي الله تعالى عنه- لم يرتد بهذا الفعل، وهذه قضية متفق عليها بلا شك، ويؤخذ منها مسألة واضحة ينبغي أن لا يُختلف فيها، وهي أنه لا يقال بأن كل صور الموالاة للمشركين تكون ردة عن الإسلام، يعني هذه الصورة الواقعة الآن تعتبر بكل المقاييس خيانة عظمى إلى اليوم في الأعراف الدولية، يعني يفشي سر الجيش، وسر النبي ﷺ، ويكتب للعدو التقليدي -كما يقال- قريش بمسير النبي ﷺ إليهم، فهذه صورة من صور الموالاة العملية، وهي خيانة عظمى، ومع ذلك لم يكن ذلك بالنسبة إليه ردة عن الإسلام، فدل هذا القدر على أنه ليس كل صور الموالاة تعد ردة عن الإسلام، بل الموالاة تتفاوت منها ما يكون ردة، ومنها ما لا يكون ردة.
الموالاة بكل صورها محرمة سواء كان هؤلاء من المحاربين أو كانوا من غير المحاربين، لا تجوز موالاة المشركين، وهناك من يقيد الموالاة التي تكون ردة بأن يكون ذلك من أجل دينهم، أمّا إذا كان لأجل دنيا فيقولون: هذا لا يكون ردة مثل فعل حاطب -رضي الله تعالى عنه، فهو ما فعل ذلك موالاة لهم في دينهم، وإنما لأجل مصلحة دنيوية، هذا يقوله بعض أهل العلم، يقيدون بهذا القيد، هل هذا على إطلاقه أو ليس على إطلاقه؟
هذه المسائل من الصعب أن تجعل فيها حدودًا وأطرًا دقيقة بالمسطرة، يعني لو أردنا أن نناقش هذه القضية هذه الواقعة فقد جاء في بعض الروايات الصحيحة أن حاطبًا -رضي الله تعالى عنه- ذكر في اعتذاره للنبي ﷺ أنه يعلم أن الله ناصر نبيه ﷺ، يعني أن هذا الخطاب لن يقدم ولن يؤخر، ولن يغير موازين المعركة، هذه قضية معتبرة مهمة، إنما يحصل به مصلحة دنيوية له، هذا في تقديره هو، فإذا كان هذا الفعل من الموالاة يقلب موازين المعركة هل يكون مثل فعل حاطب ؟
هناك من يقول: إن الموالاة مطلقًا إذا كانت لأمر دنيوي لا يكفر بها مطلقًا، مهما كانت ما دامت لأمر دنيوي.
نقول: هل هذا على إطلاقه؟ هم يحتجون بحديث حاطب، وحديث حاطب فيه هذا الملحظ لو كان يقلب موازين المعركة هل يقال كذلك؟ لكن نحن نعلم أنه ليس كل صور الموالاة تكون ردة، الجيش الذي يغزو الكعبة قال النبي ﷺ فيه: يخسف بأولهم وآخرهم[3]، فعائشة -رضي الله عنها- سألت النبي ﷺ عمن يكون في هذا الجيش، يعني مِن الناس الذين يكونون تبعًا لهم وتجارًا ومن السوقة وما إلى ذلك مثل هؤلاء كيف يخسف بهم؟
فأخبر النبي ﷺ أنه يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم، كونهم يبعثون على نياتهم معناه أنهم جاءوا في هذا الجيش، ما يقال: المقاتل وغير المقاتل كلهم سواء، هذا التاجر والجمّال هو يحمل مؤن الجيش، الإمداد والدعم اللوجستي كما يقال وما أشبه ذلك، فهل هؤلاء في حكمهم؟
النبي ﷺ أخبر أنهم يبعثون على نياتهم، فدل على أن حكمهم ليس واحدًا، لاحظ مع أنهم في جيش واحد، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذين يتكلون في هذه المسائل تارة يوردون كلامًا قويًّا له مثل كلامه في التتر، قال: إذا رأيتموني في صفهم فاقتلوني ولو كان على رأسي المصحف، وقال: من جمز إليهم من التجار أو الأمراء أو الجند فهو مرتد عن الإسلام.
بينما تجد له كلامًا آخر في مواضع أخرى مثلاً في رسالته لما سئل عن أهل قبرص، جيش نصراني وفيهم من المسلمين ما حكمهم؟ جعلهم على أقسام ولم يعطهم حكمًا واحدًا، فهؤلاء الذين يذهبون أقصى اليمين في هذه المسألة يوردون كلامه في التتر، ويتركون الكلام الثاني.
والذين يذهبون إلى أقصى اليسار في هذه المسألة ويُوهنون من مسألة موالاة المشركين يأخذون كلامه في أهل قبرص، وهكذا في رسائل شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب -رحمه الله- ولأئمة الدعوة ولغيرهم من العلماء تجد هذا، يورد هذا بعض أقوالهم، وهذا يورد بعض أقوالهم، فالذي يقرأ وهو خالي الذهن يقرأ عبارات مثل الشمس في ردة من والى المشركين، والذي يقرأ للطائفة الثانية يقرأ عبارات صريحة وواضحة وقوية بأنه لا يكفر إلا في بعض الصور.
فهذه المسائل الدقيقة لا يمكن أن تؤخذ بهذه الطريقة من المعالجة، المفروض أن تضم النصوص إلى بعضها، وكلام العالم الواحد يجمع ويقارن بينه ويوضح في أي سياق ومناسبة قيل هذا الكلام، وفرق بين الكلام الذي يقال كفتوى بواقعة معينة لاسيما في مقام التحذير -وهذا كثير في رسائل أئمة الدعوة في الدرر السنية وغيرها بهذه الطريقة في سياقات معينة في فتاوى- وبين الكلام الذي يقال في مقام التحرير والتقرير، فتجد كلام العالم يختلف، فيأتي من يقرأ هذا النوع من الكلام أو من الفتوى له يقول: ما بعد هذا شيء، لكن هناك كلام آخر له، اجمع هذا وهذا إذا كنت تريد الوصول إلى نتائج صواب أو قريبة من الصواب، لا تأخذ قولاً له وتترك القول الثاني، لا تأخذ دليلاً وتترك الدليل الثاني.
أنا لا أريد أن أصل الآن إلى نتائج، وأقول: إن هذا يحصل به كذا وهذا لا يحصل به كذا، لا، لا أقصد هذا، أنا أريد أن أضع هنا معالم أو إشارات يسيرة، وهي أن نعلم أن هذه المسألة دقيقة، وأنها ليست بهذه السهولة التي يتعامل بها بعضنا فيأخذ دليلاً وينسى بقية الأدلة، أو يأخذ قولاً لعالم أو قولين أو ثلاثة أو عشرة وينسى بقية الأقوال للعالم نفسه، تريد أن تصل إلى نتائج صحيحة اجمع هذا مع هذا ثم بعد ذلك وازن بين هذه الأقوال، واعرف السياقات التي قيلت فيها.
فهذا الدليل عندنا واضح هذا مثال على موالاة عملية خيانة عظمى، ومع ذلك ما حكم فيها بالردة، وجيش يغزو الكعبة يبعثون على نياتهم، إذًا هذه الأمور لا يمكن أن تعالج وتحل على طريقتنا في التفكير، دائمًا نريد أن مثل هذه القضايا بمسطرة نأتي بأحكامها بدقة، فإن كان كذا فهو مرتد، إذا تقدم "سنتي" فهو غير مرتد، هناك ملابسات معينة، هناك شروط، هناك موانع.
لكن القدر الذي ينبغي أن يعرف هو أن موالاة المشركين محرمة بنص القرآن ونصوص السنة، وأن هذه قضية قطعية، وينبغي الحذر منها، وأن من وقع في ذلك فهو على خطر عظيم، لكن حينما ننظر في أفراد هذه المسائل والواقع هل هذا يكون ردة -هذا الفعل المعين- أو لا يكون ردة؟
ولذلك تجدون في نواقض الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله: من ظاهر المشركين على المسلمين، هل هذا بإطلاقه أو لا؟ لو أنه ظاهرَ كفارًا على مسلمين بينه وبينهم عداوة، بينهم حروب، بينهم مشاكل، وقد لا يتمكن من التغلب عليهم، فجاء كفار يحاربونهم، فجاء وأعانهم من أجل تحقيق مصلحة له مثلاً، بينه وبينهم عداوة، بينه وبينهم مشاكل، بينه وبينهم حروب فوجد كفارًا يحاربونهم فأعانهم هل يكفر بهذا الفعل هكذا بإطلاق؟
بعض العلماء يقول: إن كان لأمر دنيوي لا يكفر، أنا أقول: هذا القيد يحتاج إلى تأمل، لكن قصة حاطب هنا هي إعانة وما كفر، الجيش الذي يغزو الكعبة هذه إعانة قوية ومع ذلك يبعثون على نياتهم، نحن نتعامل مع هذه القضية بحساسية مفرطة، ويتكلم فيها أحيانًا بعض من لم يطلب العلم أصلاً، بضاعة قليلة وتجده يلقي الأحكام جزافًا، أحكام واسعة كبيرة يترتب عليها أشياء لا يستطيع هو أن يضبط حدودها وإلى أي مدى تنتهي.
وتجد هذا الشاب الذي يحتاج أن يطلب العلم يحتاج أنه يتبصر يسأل عن هذه القضايا ويلح عليها، وتقول له: الله سيسأله في القبر عن ثلاث مسائل من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ لن يُسأل عن كل تصرف من قبل الناس فلان هل هذا ردة أو ليس بردة؟ هل تحققت فيه الشروط وانتفت فيه الموانع، أو لم تتحقق الشروط وتنتفِ الموانع؟ لن يُسأل عن هذا.
فتجد الإنسان أحيانًا يضغط على نفسه ويعيش بكآبة والنفس تلح عليه في قضايا أحيانًا قد لا يستطيع طرحها، لا يثق بأحد، يخاف أن يناقش هذه القضايا، فتجد أنه يتآكل من الداخل، نقول: الله لن يسأل الإنسان عن زيد وعمرو هو بفعله هذا مرتد أو ليس مرتدًّا، لكن القدر الذي نعرفه أن هذا الأمر وهو موالاة المشركين خطير، وأن من وقع له ذلك فهو على خطر عظيم، وينبغي الحذر من هذا والتحذير منه؛ ولذلك السلف طريقتهم يحذرون من هذه الأمور الشنيعة العظيمة ويخوفون منها.
فمسألة خلق القرآن أفتى فيها خمسمائة من العلماء الأئمة الكبار بأن من قال بخلق القرآن فهو كافر، لكن السلف حينما قالوا مثل هذا وأفتوا به هل تحول ذلك عندهم إلى معركة يتبادلون فيها الاتهامات والتخوين حينما يناقشون هل زيد الذي يقول بخلق القرآن كافر أو ليس بكافر؟
ما اشتغلوا بهذا، ما تحول هذا عندهم إلى مشكلة وخلافات وردود ومناقشات واتهامات، وكذا هل فلان كفر أو لم يكفر؟ ما اشتغلوا بهذا كانوا يحذرون من القول بخلق القرآن، ويقولون: من قال بخلق القرآن فقد كفر، أما نحن فلا، الوضع يختلف عندنا.
والمشكلة أن هذا الخلاف لا يكون بين أئمة وعلماء وإنما يكون بين الذين ما درسوا مبادئ التجويد أحيانًا، يعني حتى الأشياء البسيطة، يمكن ما يحسن أن يقرأ الفاتحة، هذه قضية تقوم معه وتقعد وتأكل وتشرب، يريد أن يحقق هذه المسائل ويصدر فيها الأحكام، أئمة كبار ما اشتغلوا بتحقيق المناط على زيد وعمرو وفعله هذا ما الذي نتج عنه، ما اشتغلوا بهذا فسلموا من شر كثير، واستراحوا، لكن لما تتحول القضية إلى تنزيل هذه القضايا على الأفراد، ونعرف كل واحد ما حكمه، وليس فقط من قام بهذه الموالاة فهذا عنده مفروغ منه، بل ما ترتب على هذا بعد ذلك، فمن لم يكفر الكافر فهو كافر، فهذا بالنسبة إليه كافر، وهؤلاء أهل العلم أو طلاب العلم ما كفروه، هم أيضًا يكفرون بهذا، مصيبة ذات ذيول لا تنتهي، ولولا خشية الإطالة لذكرتُ لكم نماذج من الأدلة التي تتقابل.
فالمسألة لا يمكن لهؤلاء الذين يكتبون من هذه الناحية أو الذين يكتبون من تلك الناحية أنهم يأتون بها بحكم دقيق ينطبق على كل أحد، سيختلفون، فهذه القضية لو أخذنا هذا القدر فيها قلنا: إن هذه قضية محرمة بنص القرآن والسنة، وهي قضية عظيمة ينبغي التحذير منها، فالمؤمن يكون متجافيًا عنها تمامًا، ولا يتولى المشركين بحال من الأحوال، لكن هل بفعله المعين هذا يكفر أو لا يكفر؟ هذه مسائل تحتاج إلى جملة من الأمور هل هذا الفعل أصلاً يكفر به أو لا؟
وإذا كان هذا الفعل كفرًا مخرجًا من الملة -أو هذه الصورة- هذا يحتاج إلى تحقيق الشروط وانتفاء الموانع في المعين، أنا أظن هذا القدر لو بقينا معه لاسترحنا من كثير من العناء، والله أعلم.
مسألة قذف عرض النبي ﷺ أمر عظيم، ومن هؤلاء الذين قذفوا عرض النبي ﷺ مِسْطح، فلما قطع أبو بكر عنه النفقة هذه ما هي مسألة موالاة، هذه مسألة ثانية لما قطع عنه أبو بكر النفقة قال الله تعالى عنه: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورةالنور:22] مِسطح كان شهد بدرًا، وهو من المهاجرين، لاحظ "والمهاجرين" اعتبر له الهجرة ولو كان فعله ردة لبطلت هجرته.
ولهذا بعض العلماء يقول: هذه أرجى آية في كتاب الله، يعني أكثر آية ترجية لمغفرة الله وسعة رحمته أن هذا الذي قذف عرض النبي ﷺ الله يأمر بالإحسان إليه وصلته، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لاحظ هذه واقعة معينة ليست من الموالاة لكنها أمر عظيم، فما كان ردة من قِبَل هؤلاء، مع أنه مَن قذف عائشة -رضي الله عنها- بعد نزول القرآن فهو كافر بهذا؛ لأنه مكذب للقرآن، والله المستعان.
والناس في هذه المسألة بين طرفين طرف يطلق الأحكام على عواهنها هكذا بلا خطام ولا زمام، وهذا خطأ، وهناك قسم إرجائي يهون من هذه القضايا، وهذا خطأ، فالمقصود هنا ليس الخروج بنتيجة محددة في حكم الموالاة، وإنما هي تتفاوت، وأنواع ومراتب ودرجات، منها ما يكون ردة، ومنها ما يكون من الكبائر، ومنها ما يكون من الصغائر، والتوسط في هذا الباب هذا هو القدر الذي أريد أن أصل إليه أن المسألة ليست أقصى اليمين وليست أقصى اليسار، والكتابات منها ما ينحو هذا المنحى، ومنها ما ينحو هذا المنحى، والذين يتكلمون فيها ينبغي أن يكون هؤلاء من العلماء الذين يعرفون كيف يُنزِّلون الأدلة وكلام أهل العلم، ويجمعون بين هذا وهذا، والله المستعان.
قوله: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء "عدو" هنا لفظ مفرد مضاف إلى معرفة وهي ياء المتكلم، ومعلوم أن هذه الإضافة تكسبه العموم عَدُوِّي يعني أعدائي، لا تتخذوا أعدائي، عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ هنا أيضًا مضاف إلى معرفة، يعني وأعداءكم، عدو فعول من عدا، ولكونه على زنة المصدر أُوقع على الجماعة إيقاعه على الواحد، وهو يصدق على الواحد والجماعة لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ وذكرنا أمثلة في عدد من المناسبات على مثل هذا في أنه يفيد العموم.
لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء لاحظ بدأ بعدوه -تبارك وتعالى؛ لأنه الأهم فإن عداوة أهل الإيمان المعاداة بالنسبة إليهم هي تابعة لمعاداة الله ، فإن عدو الله -تبارك وتعالى- عدو لأهل الإيمان ولابدّ، فبدأ بعدوه عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ هو ينفرهم منهم، ويحذرهم من موالاتهم، فذكر جملة أمور:
أولها: أنهم أعداء لله، كيف تواليهم؟!
الثاني: أنهم أعداء لكم، كيف توالي عدوك؟!، أَوْلِيَاء جمع ولي، والموالاة تدور على معانٍ: منها: المودة، والمتابعة، والموافقة، والنصرة، كل هذا من الموالاة، فالموالاة أنواع كثيرة، ولها صور، وهي على مراتب كما قلنا: منها ما يكون ردة، ومنها ما يكون من الكبائر، ومنها ما يكون من الصغائر، فالموالاة قد تكون من الصغائر مثل ماذا؟ العلماء تكلموا في مسائل الموالاة تكلموا على بري القلم للكافر، وتعبئة دواة الحبر له، قالوا: هذه من صور الموالاة؛ لأنها إعانة له، فبري القلم هذا لا يعتبر ردة، ولا يعتبر من الكبائر، وإنما من الصغائر.
لاحظ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ الود هو خالص الحب، وهو ألطفه وأرقه، هو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة، الرأفة رحمة رقيقة، فالمودة هي خالص المحبة، هنا ذكر المودة تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ ما قال: تلقون إليهم بالمحبة، لا، بالمودة، فهذه المرتبة لا تصلح لأعداء الله ، لا يجوز للمؤمن أن يوادّ أعداء الله -تبارك وتعالى، وانظر في الآية قلنا: حذرهم منهم ونفرهم من موالاتهم باعتبار:
أولاً: أنهم أعداء لله.
ثانيًا: هم أعداء لكم.
ثالثًا: وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ هذا الثالث لأنهم يعتبرون النبي ﷺ كذابًا، يعتبرون كتابك هذا وهو القرآن أنه كذب مفترى، وأن دين الإسلام الذي تدين به أنه دين باطل، مثل هؤلاء تحبهم، تكرمهم، تقدمهم، تواليهم؟ كيف يكون هذا وهم يعتبرون أنك لست على شيء، وأنك على باطل؟ فهذه ثلاثة أمور الآن نفَّرهم بها، وسيأتي غيرها.
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [سورة المائدة:51] وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة المائدة:57].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:144]، وقال تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28]؛ ولهذا قبل رسول الله ﷺ عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.
مع أن قوله -تبارك وتعالى: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً فُسر بأن الاستثناء هنا منقطع، لكن إذا كان منقطعًا لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، ما هذه التقاة؟ فسر بأنها الملاينة في القول، والمصانعة فيه، والمداراة، يعني تتكلم معهم بكلام لطيف لتتقي شرهم، فهذا الكلام اللطيف معهم ليس من الموالاة، يعني ما استثنى شيئًا من الموالاة من أجل أن يتقي منهم تقاة، ولكن هي بمعنى: لكن يدفع شرهم بشيء من المصانعة بالقول.
عبر بالفعل المضارع لتصوير الحال كأنك تشاهدها، وهو يدل على استمرار هذا العمل، والفعل القبيح الصادر منهم يُخْرِجُونَ فإن الفعل المضارع يدل على الاستمرار، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ هذا الأمر الرابع الذي نفرهم به من موالاة المشركين، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ يعني كيف توالونهم وقد أخرجوا رسول الله ﷺ؟
والخامس: وَإِيَّاكُمْ يعني يخرجونكم، وقدم إخراج النبي ﷺ؛ لأنه أشد، ومضى الكلام على مثل هذا في كونهم أخرجوا النبي ﷺ، وأخرجوا المسلمين، قلنا: إن المسلمين خرجوا والنبي ﷺ مستخفين في الغالب، وكان المشركون لا يريدون خروج النبي ﷺ من مكة؛ لئلا تنتشر دعوته، فنسب الإخراج إلى المشركين باعتبار أنهم اضطروهم إلى ذلك بسبب التضييق عليهم، فكانوا بمنزلة من أخرجهم فأضيف ذلك إليهم، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ.
يعني قد يرد سؤال أنهم ما أخرجوا النبي ﷺ هم ما كانوا يريدونه أن يخرج، كانوا يريدون قتله فكيف أضيف الإخراج إليهم؟ والصحابة كانوا يخرجون من مكة مستخفين لو علم بهم المشركون لمنعوهم، فيقال في الجواب: إنهم تسببوا بإخراجهم عندما ضيقوا عليهم فكانوا بمنزلة من أخرجهم فأضيف الإخراج إليهم.
"أن" تعليلية، يعني هم لماذا يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ؟ ليس لكم ذنب سوى أنكم آمنتم بالله، وهنا الجمع بين هذين الاسمين الكريمين أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، فالله -تبارك وتعالى- هو المألوه المعبود، وهو الرب الذي يستحق العبادة، والملازمة بين التوحيدين معروفة، توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، فأنتم آمنتم بالله الذي هو ربكم وسيدكم وهو خالقكم، وهو الذي يربيكم بالنعم الظاهرة والباطنة، فهو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر النافع الضار إلى آخره، هذه معاني الربوبية، فإذا كان هو الذي يفعل ذلك جميعًا يخلق ويرزق ويعطي ويمنع فإذاً ينبغي أن يُعبد وحده لا شريك له، وصرف العبادة إلى غيره من أعظم بل هو أعظم الظلم، فأنتم ماذا فعلتم؟ ما هي الجريمة التي صدرت عنكم؟
إنهم يعادونكم ويخرجونكم ويؤذونكم لا لشيء إلا لكونكم آمنتم بالله ربكم خالقكم وسيدكم، وطبيعي أن الإنسان يعبد ربه -تبارك وتعالى- فجمع بين الاسمين يعني ما قال أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ يعني ذكر الرب كأنه بيان وإيضاح لكون هذا الفعل الذي فعلتموه -وهو إيمانكم- شيء واجب ولا يمكن العدول عنه؛ لأنكم آمنتم بهذا الرب، بهذا المعبود، بهذا الإله الذي هو السيد المدبر المتصرف الخالق الذي يرزق ويعطي ويمنع، فتُوجه العبادة له دون من سواه، ولا يسع المكلف غير هذا أصلاً، هذا ليس بجرم بل هذا هو أوجب الواجبات.
كقوله تعالى:وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة البروج:8]، وكقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [سورة الحج:40].
وقوله تعالى: إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي أي: إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء، إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقًا عليكم وسخطًا لدينكم.
وقوله تعالى: تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ أي: تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر،وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ.
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ أي: لو قدروا عليكم.
ما هي أجلى صور البراءة من المشركين؟
الجهاد والهجرة، يعني كونه يجاهدهم وينتقل من الأهل والوطن والعشيرة لله وفي الله، يعني يضحي بكل شيء، الجهاد تضحية بالنفس والمال، والهجرة تضحية بالأهل والوطن والعشيرة، وغالبًا المال؛ لأن الصحابة خرجوا وتركوا أموالهم في مكة، فهذه أجلى صور التضحية، وهي أجلى صور المعاداة والبراءة من المشركين، فالله -تبارك وتعالى- يقول لهم: إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي أنتم خرجتم تركتم الأهل والوطن والعشيرة لله وفي الله، وهذه أجلى صور البراءة منهم ثم بعد ذلك ترجعون وتوالونهم، فإن كان خرجوكم هذا لله وفي الله فينبغي أن تكونوا أبعد عن موالاتهم، قال: وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ هذا وعيد.
وبعضهم يقول: لما كانت محبة الله وعبادته لربما تورث شيئًا من الإدلال، يعني يظن أنه بإيمانه ومحبته لله لا يضره ما قد يقارف من الجنايات جاء هذا الوعيد وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ؛ لئلا يتوهم أحد أن مجرد الإيمان أو أن محبة الله لا تضر معها جنايات العبد، نحن مؤمنون إذًًا جاوزنا القنطرة، وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ سواء السبيل يعني السبيل المستوية المستقيمة، فهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، السبيل ما صفتها؟ المستوية، فقدم الوصف "سواء" على الموصوف وأضيف الأول إلى الثاني فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ فهذا يفهم بهذا الاعتبار.
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء الثَّقْف هو الإدراك، إدراك الشيء بحذق والتمكن منه، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء فهذا أصل هذه المادة، الثقْف تقول: رمح مُثقَّف يعني كأنه قد صنع بدقة ومهارة وحذق، وتقول: هذا رجل مثقَّف، فالثقْف هو إدراك الشيء بحذق والتمكن منه.
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء ما معنى هذا؟ هم أعداء أصلاً فكيف قال: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء؟ العداوة كامنة في صدورهم، وقلوبهم مليئة بالعداوة فكيف قال: إِن يَثْقَفُوكُمْ؟ "إنْ" شرطية، إن يتمكنوا منكم ويظفروا بكم يكونوا لكم أعداء، فهنا الثقْف تُجُوِّز به عن الظفر في إدراك الشيء، بمعنى أنهم إن تمكنوا منكم تُرجمت هذه العداوة الكامنة في النفوس إلى عداوة باليد واللسان.
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء يعني يفعلوا بكم فعل العدو بعدوه، مِن قَبل العداوة جمرة في قلوبهم، قلوبهم منطوية على هذا، العداوة كامنة في هذه النفوس، لكن يترجمون عنها لو تمكنوا منكم، لو حصل هذا لفعلوا بكم الأفاعيل، وأسمعوكم ما تكرهون، وهذا الذي يحصل من الأعداء في كل زمان ومكان.
يعني هؤلاء الباطنية مثلاً في بلاد الشام، أنا لا أتعجب مما يفعلون؛ لأن هذا هو دينهم، وهم أكثر الناس عداوة وحقدًا على المسلمين، هذا معروف في التاريخ، فأنا لا أتعجب، فهذا معدنهم، والشيء من معدنه لا يستغرب، لكن الشيء الذي أستغرب منه هو أن يظن أحد أو يتوهم أحد أن هؤلاء يمكن أن يكون عندهم بقية من مروءة أو عقل أو دين، وأنهم يمكن أن يراعوا المسلمين، أو يكون في قلبهم أدنى رحمة لهم، هذا الذي أستغرب منه خاصة في بدايات الأمر.
يعني أحيانًا تجد في ثنايا كلام بعض الناس في البدايات من يظن أن هؤلاء ممكن ألا تصل الأمور إلى ما وصلت، أنا كنت أستغرب من هذا الفهم، يعني هم معدن شر، ماذا ترجِّي منهم؟ لا يصدر منهم إلا كل قبيح من القول والفعل، لا يُنتظر إلا هذا، هؤلاء يمكن أن يمسحوا البلاد يسووها بالأرض على من فيها، بالنسبة إليهم هذا يعتبر إنجازًا كبيرًا؛ لأن عداواتهم عبر التاريخ يحاولون أن يتمكنوا من المسلمين، فكيف إذا وجدت لهم دولة وجيوش ويمدهم إخوانهم في العراق وإيران وحزب الشيطان؟ فرصتهم التاريخية، عندهم دولة، وعندهم جيوش فيفعلون الأفاعيل.
هل رأيتم مثل هذه الصور: الرجل وهو حي يطعن بالسكاكين ويتضاحكون ثم يضربونه ويفرغون رأسه بالطوب؟! واحد يرسل صواريخ سكود على شعبه إن صح أن نعبر ونقول: إنهم شعبه، هل يعقل هذا؟ فهم لا يتعاملون مع من يحاربونهم بل كل من يمر بهم من امرأة، من طفل قنص مباشرة، والذي يمر على الحواجز التي يضعونها في كل مكان إن كانت امرأة انتهكوا عرضها، وإن كان رجلًا قتلوه وجرجروه، وهؤلاء ناس عاديون ما يحاربونهم، الناس الذين يصطفون لطوابير الخبز، قصف، ويضربهم هذا.
قد يقال مثلاً: والله المفروض أنهم لا يستعدون الناس، المفروض أنهم يحتوون الناس، المفروض أنهم يقاتلون فقط من يقاتلونهم، ويقولون: نحن نقاتل فئة معينة، ويحسنون إلى الناس من أجل الاحتواء لا، هذا الكلام قله مع غيرهم، لكن هؤلاء لا يفهمون هذا، ولا يتعاملون بهذا، الجميع عندهم أعداء، وإبادة هؤلاء هي من المطالب العظيمة بالنسبة إليهم، دينهم هو هكذا.
نحن إلى الآن لم نفهم هؤلاء، ولم نعرف حقيقتهم إلى الآن في تعاملنا معهم، هؤلاء هل سمعتم بالسوء والشر؟ كلمة سوء وشر قليلة عليهم، هؤلاء أسوأ من السوء، وأشر من الشر، وأنجس من النجاسة، وأقذر من القذر، وألعن من الملاعين، يعني كل رزية وردية وبلاء هو موجود فيهم، لا تنتظر منهم نسبة واحد من المليون من خير أو يقظة إطلاقًا، فهم معدن الظلام والشر.
ففي العراق كانوا يأتون بالدريل ويخرقون الرءوس، بينما الأمريكان يضعون القيود في اليد، هؤلاء يخرقون اليد من هنا ومن هنا، يخرقونها ويدخلون القيد فيها القيد البلاستيك، ويأخذون الرجل ويدخلونه في التنور وهو حي، والدريل في السيقان وفي الجمجمة والإنسان حي، هذا ما سمعنا به ولا من الصرب، ويتضاحكون، يأتي الرجل إلى زواج إلى مناسبة ومعه شاب جامعي واضعه بشنطة السيارة ثم يفتحها ويعتذر إليهم يقول: ما وجدت والله شيئًا كرامتكم، لكن جبت لكم هذا، ويجره ودماؤه تنزف شاب لاقيه في الشارع وضاربه ثم واضعه في شنطة السيارة ويحضره وقدامهم بالسكين هذه كرامتكم، هذا في العراق، فماذا تنتظر منهم؟
اليهود أرحم بكثير من هؤلاء على شدة عداوة اليهود، والنصارى أرحم بكثير من هؤلاء على الأقل أولائك يراعون بعض الأشياء يراعون شعوبهم، يراعون جمعيات عندهم وعند غيرهم، أما هؤلاء فلا يراعون شيئًا أبدًا، إلى الآن لم نعرفهم، وكل هذا الذي يجري هو جزء مما تكنه صدورهم.
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ بسط اليد بالضرب الوجيع والقتل وأنواع العدوان العملي، وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِيسمعونكم ما تكرهون، اسمع المقاطع الصوتية التي تنشر هنا وهناك، انظر ماذا يقولون من سب الله وسب الدين إلى غير ذلك من أقبح العبارات، والقذف القبيح في أم هذا الإنسان المضروب وأخته وإلى آخره، عبارات في غاية السوء -نسأل الله العافية، فيسمعونهم هذا كله.
فالمقصود إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء يعني العداوة التي تترجم بالفعل، العداوة التي يترتب عليها ضرر وأذى عملي وقولي، وهؤلاء كما قال شيخ الإسلام: إنهم من أذل الناس إذا كانوا مقهورين، يعني بعض الناس يقول: طيبة، ويتعاملون مع الناس تعاملًا جيدًا، وتعاملًا طيبًا، وتعاملًا حسنًا، وإذا باع لك صرة نعناع أو صرة جرجير قال: بالعافية، طيبة، وتعامل جيد، ولطيف، هؤلاء كما قال شيخ الإسلام، وبعض الناس يقول: هؤلاء أحسن من السُّنة في التعامل، هؤلاء كذا، هؤلاء كما قال شيخ الإسلام: إن كانوا مقهورين فهم من أذل الناس لمن يقهرهم، وإذا تمكنوا فهم أسوأ الناس وأشرس الناس،نسأل الله العافية.
الآن ذكرنا عدة أمور من الآية كلها تنفير منهم وتحريض على ترك موالاتهم، ومنها هذا إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كيف توالي من كان بهذه المثابة؟ عداوته كامنة ولو تمكن منك لفعل الأفاعيل كيف تتولاه؟!
قوله -تبارك وتعالى: لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ باعتبار سبب النزول أن حاطب إنما كتب ذلك من أجل قرابته، فهذا ليس بمبرر لهذا الفعل.
وقوله -تبارك وتعالى: يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ فيه أربع قراءات متواترة، "يَفصِل بينكم"، و"يُفصَل بينكم"، و"يُفصِّل بينكم"، و"يُفصَّل بينكم" أربع قراءات يفصل بالبناء للمعلوم مخففة ومشددة، يفصل بالبناء للذي لم يسم فاعله مخففة ومشددة، وهنا في الوصل والوقف الآية تحتمل: لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يمكن أن يكون الوقف هنا تامًّا، يعني لن ينفعوكم يوم القيامة، ثم قال: ما الذي يحصل يوم القيامة كأن سائلاً سأل، قال: يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يعني كل أحد يوم القيامة مشغول بنفسه، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [سورة المدثر:38، 39] الآيات.
ويحتمل هنا أن يكون لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، فيكون يوم القيامة ظرفًا للفصل بينهم، وكلاهما صحيح، هي لن تنفع يوم القيامة، والنبي ﷺ أخبر أن كل نسب وسبب فهو مقطوع يوم القيامة، يعني غير الإيمان والعمل الصالح "إلا نسبي وسببي" أو كما قال -عليه الصلاة والسلام[6]، والله يقول: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [سورة عبس:34-36]، الآيات، فهذه لا تنفع يوم القيامة، وكذلك يوم القيامة يُفصل بين هؤلاء يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ.
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [سورة الممتحنة:4-6].
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي: وأتباعه الذين آمنوا معه.
الأسوة كالقدوة وهي الحالة التي يكون عليها الغير حسنة كانت أو سيئة، أسوة قال: أسوة حسنة وأسوة سيئة، فهي كالقدوة، فالأسوة اتباع الغير على الحالة التي هو فيها أو الحالة التي هو عليها حسنة كانت أو سيئة، قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ فهنا قدوة حسنة، لكن الأسوة تأتي لهذا وهذا، اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها أيًّا كان هذا الاتساء: أسوة، قدوة.
هنا قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- هاجر من قومه وما آمن به أحد منهم، وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [سورة العنكبوت:26]، والله قال: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وهو ابن أخيه، فالذين معه من هم؟ لم يؤمن قومه فهل يقال: لوط -عليه الصلاة والسلام- وزوجته؟ يحتمل.
ومن نظر إلى أن قومه لم يؤمنوا وأنه هاجر من بلده، وهجر قومه، وتبرأ منهم قالوا: وَالَّذِينَ مَعَهُ هم الأنبياء الذين كانوا قبله فهم معه على الطريق بهذا الاعتبار، يعني هذا الذي حمل طائفة من أهل العلم على تفسير هذا الموضع وَالَّذِينَ مَعَهُ قالوا: الأنبياء باعتبار أنه لم يؤمن قومه به فمن الذين معه؟
وبعض أهل العلم قال: إن الذين معه هم من آمن به بعد ذلك، ويدخل في هؤلاء، أيضًا لوط -عليه الصلاة والسلام- وزوجته، ومن آمن به بعد ذلك في مهاجره كان موقفهم كموقفه، أنهم تبرءوا من أعداء الله -تبارك وتعالى، هذا توجيه لهذه الأقوال، الآن هذه الأسوة أسوة في ماذا في هذا المقام فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هنا الأسوة في ثلاثة أمور بهذه المقام:
الأول: البراءة منهم إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ تبرءوا منهم ومن عبادتهم أو معبوداتهم.
الأمر الثاني: الكفر بهم كَفَرْنَا بِكُمْ.
الأمر الثالث: أنهم أظهروا لهم العداوة، أظهروا لهم ذلك، إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ هذا واضح، ومما تعبدون من دون الله هذا واضح، كَفَرْنَا بِكُمْ الكفر لا يتعلق بالذوات، والأحكام لا تتعلق بالذوات، يعني في قوله تعالى مثلاً: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [سورة النساء:23]، ليس المقصود ذات الأم، وإنما نكاح أمهاتكم، أو الاستمتاع بأمهاتكم، الآيات في النكاح الآية في الزواج.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ محرمات في النكاح، فهنا فيه مقدر حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أي: نكاح أمهاتكم، لكن في غير القرآن لو قيل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ في الاستمتاع، جميع صور الاستمتاع، لكن في الآية هنا النكاح، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ يعني نكاح أخواتكم، فالأحكام لا تتعلق بالذوات، "حرمت عليكم الميتة" يعني أكل الميتة، الأحكام لا تتعلق بالذوات، فهنا "كفرنا بكم" يعني بدينكم، هذا معناه والله -تبارك وتعالى- أعلم، كَفَرْنَا بِكُمْ بما آمنتم به من الأوثان، أو كفرنا بأفعالكم، وما يصدر عنكم من الأباطيل، فهذا أعم من الذي قبله، هنا يقول: أي: بدينكم وطريقتكم.
وقوله: وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا أي: ظهر، هنا قالوا لهم هذا الكلام فهل من شرط إظهار الدين والبراءة من المشركين أن يبدي لهم العداوة أو لا؟
بعض العلماء يقول: إن إظهار الدين يتوقف على هذا، لابدّ منه، أن يقول لهم: أنتم أعدائي، وبعضهم يجعل الشروط في السفر إلى بلاد الكفر تحت القدرة على إظهار الدين، يقولون: إن مقتضى الإظهار أن يقول لهم: أنتم أعدائي وأنا عدوكم، هكذا قال بعض العلماء.
والأقرب أنه ليس بشرط، وليس بلازم في البراءة من المشركين أن يعلمهم بهذا ويقول لهم ذلك، وإنما لا يواليهم بحال من الأحوال، هذا هو القدر الواجب، لكن الله يقول: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ المقصود هو البراءة فهل المراد أن يقول لهم ذلك بلسانه، ليس بالضرورة، قد لا يقتضيه المقام، وقد لا تكون المصلحة فيه، قد يحصل عليه ضرر، وإنما يكفي في إظهار الدين في شرط السفر إلى بلاد المشركين أن يقال: إن المرأة تلبس حجابها كاملاً كما تلبس هنا، فإذا كانت تريد أن تغير، أن تستخفي، تنزع الحجاب بالكلية أو تغير بالحجاب بصور معينة تقول: ألبس ثوبًا واسعًا وأضع شيئًا على شعري ونحو هذا نقول: لا، هذا أول الضعف والهزيمة، مثلكم لا يصلح للسفر إلى بلاد المشركين، أنتم غير مؤهلين لهذا.
تجد أول ما يطير بالطائرة، الطائرة تطير ساعات، أربع عشرة ساعة أحيانًا من صلاة الفجر تأتي وتنظر في هذه الأمّة في هذه الطائرة أكثر من ثلاثمائة شخص تقوم وتؤذن وتصلي قد لا يقوم معك ويصلي إلا اثنان أو ثلاثة، الوقت يخرج وهؤلاء في عاشر نومه، لهم غطيط، تُطفأ الأنوار وينامون وصلاة الفجر الشمس تطلع هنا ما يصلون، ما أدري يجمعونها مع العشاء أو أنهم لا يصلون أصلاً، هذا كثير بل ينظرون إليك باستغراب أنك تقوم وتؤذن، هم ما يجترئون أن يصلوا ولو على المقاعد، هذه هزيمة هؤلاء يسافرون؟ هذا غير التي تطوي عباءتها وتضعها في الحقيبة منذ أن تركب في الطائرة، هؤلاء لا يجوز أن يسافروا إلى بلاد الكفار ولا البلاد التي يظهر فيها الفسق والفجور.
فأقول: المحافظة على الحجاب هذا إظهار الدين، إذا جاء وقت الصلاة أذنَ وصلَّى في المطار في أي مكان، هذا الذي يظهر دينه، أما إذا كان يقول: لا، والله أنا أحرج، إحراج، لا أستطيع أن أصلي في المطار، أنا أحرج لا أستطيع أن أصلي في الجامعة، أنا لا أستطيع أن أصلي في الأماكن العامة، أريد أن أجمع الصلوات فإذا رجع بالليل صلى صلوات الظهر والعصر والمغرب، هذا لا يجوز أن يسافر، هذا ضعيف، فإظهار الدين أنه يقوم ويعتز بدينه وإيمانه ويؤذن ويصلي، والمرأة بحجابها الكامل، وتعتز بهذا، لكنها الهزيمة والضعف والخور.
هذا الذي يذهب بهذه النفس هذا يكون عرضة لكل آسر وكاسر، ممكن أن يرتد، ممكن أن يتخلى عن إيمانه ودينه، ممكن أن يفعل أي شيء، أما التشبه بهم فحدث ولا حرج للأسف، وما رأيناهم إذا جاءوا إلى بلادنا أو وهم في بلادهم يتذوقون طعامنا ويستحلونه ويلبسون لباسنا ويتزينون بزينا إطلاقًا، ولا يسألون عن هذا ولا يرفعون به رأسًا، رأيتم هذا؟ هؤلاء إذا جاءوا يلبسون الشماغ والثوب وحريمهم تلبس الحجاب؟ أبدًا، فما بالنا نحن إذا ذهبنا نذهب مهزومين؟!
إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ أي: تبرأنا منكم، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ أي: بدينكم وطريقكم، وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًايعني: وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم، فنحن أبدا نتبرأ منكم، ونبغضكم حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أي: إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأنداد والأوثان.
وقوله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أي: لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [سورة التوبة:114]، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم، ويقولون: إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة:113، 114].
هنا قوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يقول ابن كثير: فيه أسوة إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، هذا باعتبار أن الاستثناء متصل، والاستثناء المتصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، يعني لقد كان لكم فيهم أسوة في كل شيء إلا في شيء واحد وهو استغفار إبراهيم لأبيه، بهذا الاعتبار يكون متصلاً، أسوة في كل شيء إلا في شيء واحد وهو استغفار إبراهيم لأبيه، فهذا لا يجوز لكم الاتساء به فيه كما سيأتي.
وعلى هذا أنه أسوة إلا في شيء واحد، يعني أسوة فيها استثناء، والله لما ذكر في سورة الأحزاب الاتساء بالنبي ﷺ قال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [سورة الأحزاب:21] فما استثنى شيئًا، فأخذ منه بعض أهل العلم بهذا الاعتبار تفضيل النبي ﷺ، والأدلة على تفضيل النبي ﷺ معروفة أنا سيد ولد آدم[7]، والشفاعة العظمى، وغير ذلك، لكن هذا أحد الأدلة في أن النبي ﷺ أفضل من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، أن الله لما ذكر الاتساء بإبراهيم استثنى منه، ولما ذكر الاتساء بالنبي ﷺ لم يستثنِ، هذا على أحد الاعتبارين أن الاستثناء متصل، أسوة إلا في كذا، يعني إلا في استغفاره؛ لأنه كان عن موعدة وعدها إياه، أو في أن إبراهيم ﷺ هجر قومه إلا في الاستغفار، هذا باعتبار أن الاستثناء متصل.
ويحتمل أن يكون الاستثناء منفصلاً فيكون بمعنى لكن، قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، لكن قوله لأبيه لأستغفرن لك كان عن موعدة، يكون بمعنى لكن، يعني تكون الأسوة كاملة، وهنا تكون إلا بمعنى لكن، يعني يبين لهم أمرًا خفي عليهم، ما يكون من قبيل الاستثناء المتصل، وعلى هذا فيكون القول السابق بالاستدلال بهذه الآية على تفضيل النبي ﷺ على إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ما يتأتى على القول بأن الاستثناء منقطع، وإن كان النبي ﷺ أفضل من إبراهيم بأدلة أخرى.
رأيتم كيف أن الأدلة يمكن أن يستدل بها على أمر على أحد الاحتمالين على أحد المعنيين، وهذا كثير، على كل حال قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك إنما جرى لأنه ظن أنه يسلم، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [سورة التوبة:114] أنه يموت على الكفر تَبَرَّأَ مِنْهُ، وهنا لم يبين سبب هذا الاستثناء، وهل هو خاص بإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أو لا، ولكن الله -تبارك وتعالى- بين ذلك في مواضع أخرى.
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ هذا يبين السبب لماذا استغفر إبراهيم لأبيه؛ لأنه وعده لما قال: أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [سورة مريم:46، 47] فهذا وعد بالاستغفار، فهذه هي الموعدة التي أشار الله إليها، وقال الله : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [سورة التوبة:113]، فبيّن أن القضية لا تختص بإبراهيم -عليه الصلاة والسلام.
ونوح ﷺ عندما قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [سورة هود:45، 46]، ثم بعد ذلك نوح -عليه الصلاة والسلام- استعاذ بالله من أن يسأله ما ليس له به علم: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [سورة هود:47]، هذا نوح -عليه الصلاة والسلام.
ونوح ولوط في أزواجهما كما قال الله : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [سورة التحريم:10]، فالبراءة من المشركين ليست خاصة بإبراهيم -عليه الصلاة والسلام، وإنما هي عامة، يجب أن يتبرأ منهم ولو كانوا أقرب قريب.
وهنا على القول بأن الاستثناء منقطع احتج به الصحابة باستغفار إبراهيم ﷺ لأبيه وقالوا: استغفر إبراهيم لأبيه لنستغفرن لآبائنا الذين ماتوا على الشرك، فأنزل الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى هذا أحد أسباب النزول الصحيحة الواردة في هذه الآية: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ.
وكذلك نزلت في استغفار النبي ﷺ لعمه أبي طالب، فنهاهم الله عن ذلك، وكذلك النبي ﷺ لما مر بقبر أمه بطريقه إلى مكة ونزل عند القبر طويلاً، وأخبر أصحابه أنه استأذن ربه في أن يزور قبرها فأذن له، واستأذنه في أن يستغفر لها فلم يأذن له[8]، فالاستغفار للمشركين لا يجوز بحال من الأحوال.
ومن الآية يؤخذ هنا مسألة: شرع من قبلنا فكون الصحابة احتجوا بفعل إبراهيم ﷺ ثم نهاهم الله عن ذلك، من أهل العلم من يقول: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا النهي عنه، يعني أنه نسخ في شرعنا.
وبعضهم يقول: شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا إلا ما جاء في شرعنا ما يقرره، فإذا جاء في شرعنا ما يقرره انتهى، معناه أنه ليس بشرع لنا، إنما نعمل بمقتضى ما جاء في شرعنا، فيؤخذ من الآية أن وشائج القربى لا تنفع مع اختلاف الدين لا أب ولا ابن ولا قريب، وأن الرابطة المعتبرة هي رابطة الإيمان وليست رابطة القرابة والعشيرة.
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إلى قوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ أي: ليس لكم في ذلك أسوة أي: في الاستغفار للمشركين هكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وغير واحد.
ثم قال تعالى مخبرًا عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم فلجئوا إلى الله وتضرعوا إليه فقالوا: رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي: توكلنا عليك في جميع الأمور وسلمنا أمورنا إليك، وفوضناها إليك، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي: المعاد في الدار الآخرة.
رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا يحتمل أن يكون هذا متصلاً بما قبل الاستثناء، وأنه من جملة الأسوة الحسنة يعني الله -تبارك وتعالى- يقول: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ يعني هذا من جملة الأسوة، فاستثنى في ثنايا ذلك استغفار إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لأبيه، فيكون هذا من جملة كلام إبراهيم ﷺ والذين معه، في جملة ما قالوا رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أن هذا من قولهم، فيكون من قبيل الكلام المتصل الذي يرتبط بما قبله، يعني من قول قائل واحد.
ويحتمل أن يكون من الموصول لفظًا المفصول معنى، يعني أن يكون هذا من كلام الله تعليمًا لعباده المؤمنين كيف يقولون، لأنه يُتوقع إذا فاصلوا قومهم وحصلت البراءة منهم أن يكون ذلك لربما سببًا لمحاربتهم، أو يكون ذلك سببًا لوحشة تقع في قلوبهم، لربما يقع في وهمهم أو في وهم بعضهم أنهم ينفردون بأمورهم وحاجاتهم، ومواجهة الحياة، وتكاليف الحياة وما إلى ذلك، وليس لهم أعوان ولا ناصر بعد الله ، قاطعوا الأهل والعشيرة، والناس كانت حياتهم في السابق العشيرة هي التي تحمي الرجل، والقبيلة ونحو ذلك، فسيبقون بعيدًا عن أهلهم وقراباتهم وعشيرتهم فيكونون لربما عرضة للمخاوف والأخطار كما أنهم أيضًا عرضة لأذى هؤلاء ولابدّ فعلّمهم كيف يقولون.
رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا رجعنا إليك، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ مصيرنا إليك، فنواصي الخلق بيده -تبارك وتعالى، فيفوضون أمرهم إليه، ويتكلون عليه ويثقون به فهو ناصرهم، وأزمّة الأمور بيده -تبارك وتعالى.
هذا يحتمل أن يكون من قبيل التعليم من الله -تبارك وتعالى:رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، ويمكن أن يكون من جملة كلامهم وما قالوه لقومهم.
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، برقم (4274)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أهل بدر -رضي الله عنهم- وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم (2494).
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، برقم (4274).
- رواه البخاري، كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، برقم (2118).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [سورة الممتحنة:1]، برقم (4890).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين، برقم (203)، وأبو داود، كتاب السنة، باب في ذراري المشركين، برقم (4718).
- رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (13174)، عن المسور بن مخرمة قال: قال رسول الله ﷺ: ينقطع كل نسب إلا نسبي وسببي وصهري، والحاكم في المستدرك، برقم (4684)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4564)، وقال في سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 58): "وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح، والله أعلم".
- رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا ﷺ على جميع الخلائق، برقم (2278).
- رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي ﷺ ربه في زيارة قبر أمه، برقم (976).